مبدأ وحدة الوجود عند ابن عربي
فئة : مقالات
مبدأ وحدة الوجود عند ابن عربي ([1])
محمد بنطاهر
تمهيد:
لا يمكن لأيّ قارئ كيفما كان نوعه حسبما أعتقد، وبحسب كثير من الشهادات، إلا أن يستشعر قوة متن ابن عربي وأسلوبه، وهو يطالع كتابا من كتبه، فقد وجدت نفسي وأنا أشتغل على كتاب "فصوص الحكم" أمام سيل من الدلالات والمعاني العميقة والمركبة، احتجت معها إلى كثير من التركيز والبحث وإلى الاستناد على مراجع أخرى شارحة له، فيما استغلق علي الفهم واستعصى، حتى أتمكن بحسب ما بلغته من استجلاء غموضه، ومن إدراك السياق الذي ينظمه، ولعل ما استجمعته من مضامين إزاءه لا أعده سوى محاولة ليس إلا، أرجو أن تكون مصيبة فيما تسعى إلى الكشف عنه. وتجدر الإشارة هاهنا أولا قبل المضي في عملنا هذا، أن كتاب فصوص الحكم يعد من طرف كثير من الشراح والمحققين له، أحد أهم كتب ابن عربي، إن لم يكن أرفعها وأسماها بعد "الفتوحات المكية"، هذا فضلا عن المكانة الاعتبارية التي يخصه بها صاحبه، إذ يقول في مقدمته، إنه، أي الكتاب، كان نتيجة رؤيا ربانية[2]، شاهد فيها الرسول محمد يأمره بأخذ هذا الكتاب وإخراجه للناس حتى ينتفعون منه، فكان جوابه السمع والطاعة، وهو ما يوضح قيمته وما يعول عليه من خلاله صاحبه. فاختصاصه بهذه الهبة دون غيره، مفاده أن له مكانة فضلى بينهم، ولعل هذا ما يسعى الكتاب إلى إثباته، حيث في معرض توضيحه لمقام الولاية والخلافة، اعتبر نفسه وليّا وارثا لرسول الله في أحكامه وشرائعه بلا واسطة. أضف إلى هذا، أن هذا الكشف الرسولي لابن عربي يبين نوعية المعرفة التي يناصرها وسبيل بلوغها، فحصوله عليها كما بين كان نتيجة كشف رباني وليس عبر اكتساب، كما أشار إلى ذلك حين حديثه عن مراتب الأنبياء والأولياء. انطلاقا من هذا الفهم، نستشف مدى قيمة الكتاب الذي نشتغل عليه، ودوره في بسط تصوره الصوفي القائم على "مبدأ وحدة الوجود" الذي نعمل على تبيانه هاهنا، من خلال فصوص مخصوصة: "فص حكمة إلهية في كلمة آدمية" و "فص حكمة نفثية في كلمة شيثية" و "فص حكمة وجودية في كلمة داودية" ثم "فص حكمة فردية في كلمة محمدية".
المحور الأول: الله والعالم
ينطلق ابن عربي من تصور مفاده أن العالم وجد نتيجة مشيئة إلهية مطلقة، انتقل بموجبها الوجود من حالة العدم إلى حالة الوجود، عن طريق حركة معقولة[3]، أراد من خلالها الله أن يرى تجليه، أن يرى شهوده العيني؛ أي يرى نفسه في كون يتمتع بالوجود يكون له كالمرآة، فألقى على إثره كلمته "كن" في العدم فأضحى وجودا عينيا، يقابله ويشابهه بشكل لا يحصى في الصفات والأسماء[4]، فظهر الله بصورته التي هي مجموع صفاته وأسمائه، ولهذا يقول الله داخل هذا المقام، في غير ما آية: "قل انظروا ماذا في السموات والأرض" "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" ....[5] فالله الغيب الباطن، أراد أن يرى نفسه في مرآة الشهود والظهور، فكان أمره كذلك، تم شهود الله وانعكاسه بجميع ما فيه من غيب وظاهر، بباطنه الروحاني وظاهر صفاته وأسمائه المشهودة عيانيا وجسمانيا[6]، ما جعل الوجود وجودين، وجود مطلق غيبي لم يحتج إلى غيره في الوجود، واجب الوجود بذاته، ووجود مقيد تال تم بفضل الأول، وجود محدث يتميز بالمادية والظهور، فكان بذلك وجود معدم في مبدئه ووجوده؛ لأنه وجد بفضل الحق، الذي جعله عينيا بعدما كان في حكم المعدم، وبما أنه كذلك فهو في مرتبة الوجود الممكن، قابل لأن يكون أو لا يكون، فهو حامل للوجود والعدم، لذلك يقبل البداية والنهاية، كان عدما فصار وجودا، ثم يعود عدما، وأمره هذا عائد لخالقه، بخلاف الحق فهو لا أول له ولا نهاية له، لأنه الأزل والأبد[7]، وفي هذا تقول الآية كما يستدل بذلك ابن عربي؛ "هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم"، ومنه نستشف بعد الكثرة والتعدد المميزين للحق، فهو نفسه الباطن والظاهر والأول والآخر، وهو ما يستخلص منه ابن عربي أن الكثرة والتعدد هاهنا، ليس في الذات، بل في الصفات والأسماء والحضرات، فكلها تعود لواحد أحد متحد في ذاته غير مجزأ فيها، فهو الباطن في ذاته، والظاهر من خلال أسمائه وصفاته في خلقه، وهو الأول لأن لا أحد قبله، وبه يكون القديم الأزل، والخالد غير الفاني وبه يكون الآخر.[8]
لقد أنشأ الله حسب ابن عربي حقائق العالم من صورته الظاهرة، فجسمه من جسم العالم، ونفسه من نفوس العالم، وصورته صورة العالم كله، سماواته وأراضيه وأفلاكه وأملاكه، كما أنشأ صورته الباطنة، وهي حقيقة روحه، وعقله التابع للروح، ومعلوماته المرسومة في وجوده، على صورته[9]، وهو ما يفيد أن التقابل القائم بين الباطن والظاهر؛ أي بين وجود مطلق الله، ووجود مقيد العالم، يضعنا أمام تقابل آخر، فالعالم مادام انعكاس لله، فيجب أن يكون انعكاسه على التمام والكمال، لذلك فالعالم هو الآخر جاء مقسما بين عالم علوي يعبر عن روحانية الله وباطنه، وعالم سفلي يعبر عن صفات الله وشهوده وظهوره العيني، الذي تجلى في الكون بعدما قررت مشيئة الله ذلك، يقول الجامي في هذا الشأن، وهو يشرح كتاب الفصوص: "إن الذات الإلهية ليس لها في نفسها صورة متعينة لتظهر بها، وهي مرآة الأعيان، لذلك تظهر صورة المتجلي له فيها بقدر استعداده، كما أن الحق يظهر في مرايا الأعيان بحسب استعداداتها وقابليتها لظهور أحكامه".[10]
لعل المستفاد من هذا أن مبدأ التجلي والانعكاس المعبر عنهما في فعل المرآة، يجب أن يفهم انطلاقا مما أشرنا إليه سابقا حين الحديث عن الحضرتين؛ أي وجب تناول هذه المسألة انطلاقا من مبدأ التمييز بين الوجود المطلق والوجود المقيد، فأن يكون الله متجلّيا في الكون، معناه أن يكون كذلك بالصفات والأسماء، وليس بالذات، فيكون العالم بذلك صورته العينية المتفرقة والمتكثرة في الموجودات، ويكون هو الواحد بالذات والصفات، فلا يغدو هو العالم ولا العالم هو، ولا يحل فيه ولا يكون شبيها به؛ لأنه منزه عنه، فالعالم ليس إلا انعكاس لله من جانب التقييد والوجود بغير، في حين الله هو العالم من جانب الإطلاق، وبذلك فهو فاعل، والعالم منفعل، وعلى هذا الأساس كما يقول ابن عربي يجب فهم معنى أن يكون الله في الخلق والخلق في الله.
ضمن هذا المقام كذلك، يقول ابن عربي في موضع الرحمة، من "فص حكمة نفثية في كلمة شيثية": إن الوجود الحق من حيث ذاته واجب، ومن حيث تعينه في الحضرة العلمية ممكن، تتساوى هيبة هذه التعينات العلمية إلى الظهور في العين وعدم الظهور فيه، وهذه التعيينات يغاير بعضها بعضا من حيث خصوصياتها، وإن اتحد الكل بالكل، فهي مغايرة للوجود الحق من حيث إنها تعين مخصوص للوجود الواحد، والوجود الحق لا يغاير الكل، ولا يغاير البعض لكونه كلية الكل، وجزئية الجزء، فهو لا ينحصر في الجزء ولا في الكل مع أنه فيهما معا[11]، وخلاصته ما عبر عنه الجنيد في حديثه عن المعرفة والعارف إذ قال: "لون الماء بلون الإناء"[12]، فتعين الله كان بحسب الوجود المقيد واستعداداته، وليس بحسب وجوده المطلق، فلا العالم هو الله ولا الله هو العالم، لكنه تجل له، أي انعكاس مقيد، يعبر عن صورة الحق في عظمتها وحقيقتها، بشكل متكثر ومتعدد، مادام أن العالم لا يمكنه أن يكون صفات الله وأسمائه، إلا في كثرته، لأن ذات الحق الوحدية متعذرة عن الشمل في كليتها ضمن قالب واحد، فكان العالم بذلك المتكثر المتضمن للواحد الأحد، بشكل متعدد، والله هو الواحد المعبر عن ذاتيته بصفاته وأسمائه، المتعددة في أحكامها وقدراتها دون إحصاء.
وما يفسر به ابن عربي هذا الانتقال من الواحد بذاته إلى الموجود المتكثر والمتشخص العيني، أن مشيئة الله الفاعلة في أمر التجلي بإرادته المطلقة، تمت بعدما نظر الحق إلى نفسه، ورأى عين أسمائه وصفاته، فتجلت عنها الموجودات في صور كلية، أو ما يسميها في تعبيره بالأمور الكلية، لكونها حقائق معقولة مجردة غير متعينة، لا وجود لها إلا في الحقائق الجزئية العينية، حيث إن إدراكها غير متاح إلا في الحقائق الجزئية المعبر عنها، كالنفس الكلية مثلا فهي غير ظاهرة، لكنها متعينة في النفوس الجزئية فهي الحاوية لها، فإن غابت وانتفت، انتفت الحقائق الجزئية المتكثرة والمتشخصة، فمنها تولدت ونشأت.[13]
إن الأمور الكلية حسب ابن عربي هي جزئيات متشخصة في الذهن، محكوم عليها بالعموم، فهي باطنة وظاهرة من خلال الوجود العيني، تتحكم فيه وتؤثر فيه، وعبره تظهر وتتكشف، وإن كانت معقولة في نفسها، فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات، كما هي الباطنة من حيث معقوليتها، كما أنها معدومة العين موجودة الحكم، لكن دون أن تقبل التفصيل والتجزيء بتعدد الأشخاص، لذلك فوجودها في العقل، فهي مجرد نسب موجودة بالنسبة إلى غيرها كالقدام والوراء بالنسبة إلى المستقبل[14]، ومن ثم فإن انقطع غيرها انقطعت هي الأخرى عن الوجود، ومنه نستشف مدى الارتباط الشرطي بين العالم العلوي والعالم السفلي، دون أن يمس هذا طبعا واجب الوجود بذاته، فالشرط هنا لا يبلغه، وإن كان يمسه من جهة تجليه بالصفات والأسماء بحسب ما أشرنا إليه من قبل، وهذا كما يقول ابن عربي هو ما يفسر ارتباط الموجودات القديمة بالحادثة، وارتباط المخلوقات بصفات الله، فالموجودات موجودة وجودا عينيا، وإن كانت بحسب الموصوف به، فالظل مثلا موجود وجودا عينيا يليق به، كما الشمس كذلك، ووجودهما ليس وجودا متطابقا بالنسبة إلى الآخر، وإن كان هناك ارتباط بينهما كما أشير إلى ذلك[15]، وليس هناك من عبارة أدل في متن الفصوص عن علاقة الترابط والتلاحم بين الله ومكونات الوجود، مثل عبارة "الالتحام النكاحي" التي شرح من خلالها العلاقة القائمة بين وجوه عالم الأرواح النورانية، الذات الأحدية والأسماء الإلهية والطبيعة الكلية، وهذا النكاح هو الساري في هذه الوجوه الثلاثة، فحينما يتعلق أمر إلهي بشيء ما، يصدر ويظهر، وبين العالم الذي سرت فيه النفخة وكذا رحمة الخالق كذلك.[16]
أمر مهم يجب أن ننتهي إليه في هذا المحور، له ارتباط بما سبقه، ولا يمكن أن يدرك إلا به، وهو أن الله خلق هذا العالم عن حب، كما يقول ابن عربي، لذلك جعله أساس وأصل الوجود، لأن داع الله إلى خلقه كما أشرنا سابقا، هو رغبته في رؤية نفسه رؤية تجليه، وهو جميل كما يقول عن نفسه، وتجليه لن يكون إلى جميلا مثله، لأنه ليس إلا ذاته الصفاتية والاسمائية المتعينة، لذلك كان وجود العالم فيض من حب الله لنفسه، ولذات السبب فالله يشتاق للقاء خلقه المخلوق على صورته ومن روحه، لأنه نفسه الظاهرة، فما حنينه إليه إلا حنينه في الحقيقة لذاته الصفاتية والاسمائية المتخارجة عنه.[17]
المحور الثاني: الله والإنسان
العلاقة بين الله والإنسان لا يمكن أن تفهم إلا في إطار العلاقة السابقة القائمة بين الوجود المطلق والوجود المقيد، وهو ما حاولنا تبيانه في المحور الأول، إذ إن فهم الغاية من خلق الإنسان، لا يمكن أن تدرك إلا من خلال هذين الوجودين، وهذا ما نستشفه من كل الفصول التي اشتغلنا عليها، حيث يقول ابن عربي، إن الله بعد أن خلق العالم الذي كان بمثابة وجود شبح لا روح فيه، كمرآة مجلوة فارغة، وبعد أن نفخ فيه من روحه عبر قبول تلك الصورة واستعدادها لفيض الله القدس، تم بذلك جلاء مرآة العالم، وآدم كان عين جلاء تلك المرآة، وروح تلك الصورة، والملائكة كذلك من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم[18]، من هنا نفهم أن آدم الإنسان معبر كما الملائكة عن تك القوة الروحية الفائضة من الله، فضلا عن كونه جزءا لا يتجزأ من هذا العالم السفلي، وبذلك يكون جامعا للطبيعة الكلية، الجامعة لقوابل العالم كله أعلاه وأسفله[19]، ولذلك سمي إنسانا وخليفة حسب ابن عربي، وإنسانيته عائدة لعموم نشأته وحصره الحقائق كلها؛ لأن به ينظر الحق إلى الخلق فيرحمهم[20]، الأثر الذي يكشف أن وجود العالم من وجود الإنسان، إذ لو لم يكن ما كان العالم ليكون، حتى وإن كان سابقا عليه في الزمن، لكنه أرفع منه شأنا ومرتبة، وأجدر منه بالوجود، فوجوده ما تم إلا ليكون محلا للإنسان[21]، لذلك يكون الإنسان هو الحادث الأزلي والشيء الأبدي والكلمة الفاصلة الجامعة، ومنه استمد الخلافة واستحقها، وأوكلت له مهمة حفظ العالم، والعالم كذلك محفوظ من الله مادام فيه هذا الإنسان الكامل، المشتمل على القوى المادية والروحية، وبانتقاله إلى عالم الآخرة يختم الله على الدنيا ختما أبديا.[22]
لقد حاز الإنسان في نشأته كما يوضح ابن عربي كل ما في الصور الإلهية من التجليات الصفاتية والأسمائية، فهو المضاهي كما يقول النابلسي في شرحه للفصوص، بباطنه للحضرة الإلهية وبظاهره للحضرة الكونية، فيستمد من الله ويمد الكون، فهو البرزخ بين الحق والخلق[23]، وبفضل هذا المقام علا شأنه ورفع قدره على كل الخلق لجمعية كماله، فقد جمع كل ما تفرق عند الخلق، ولهذه الخصوصية يعتبر ابن عربي أن الملائكة أخطأوا في تقديرهم لآدم، بسبب إغفالهم لجمعيته، فلم يقدروا الله بذلك حق قدره، الذي له تجليات متعددة ومتنوعة، فنظرت فقط لنفسها، وقدرت تجليا واحدا منه، ولم تضطلع على جميع الأسماء الإلهية التي كشفها الله لآدم، ولذلك لم تقدس الله كما قدسه آدم، وقد كان هذا حجة من الله على الملائكة.[24]
بعد أن اطلعنا على سر وجود آدم، يمكننا أن نشرع بحسب قول ابن عربي في معرفة الغاية من إنشاء جسده وروحه، وهذا أمر لا يمكن أن نفهمه هو الآخر إلا بحسب ما سبقأ وأن تطرقنا إليه في موضع الأمور الكلية، ونقول كما يقول صاحب الفصوص، إنه إذا كان المحدث محتاجا إلى محدث أحدثه لذلك، فهو يقبل الوجود والعدم، إذن فارتباطه به هو ارتباط افتقار، إذ بدونه ما كان ليكون ويصير موجودا، غير أن هذا الافتقار ليس من جانب الذات، بل من جانب الصفات والأسماء، فالافتقار هاهنا متبادل كما يشرح النابلسي، فلولا الرب ما وجد العبد، ولولا العبد ما وصف الرب بالأوصاف؛ فالوجود من الرب والأوصاف من العبد[25]، فلذلك اقتضى الله لهذا الحادث، أن يكون ويخرج من الأزل ويتصف بالأوصاف التي تحمل عليه، وبما أن وجود هذا الحادث منسوب ظهوره لواجب الوجود، اقتضى الأمر بالضرورة أن يكون هذا الإنسان على صورته فيما نسب إليه من كل شيء، من اسم وصفة ما عدا الوجوب الذاتي[26]، فالكل بالكل مربوط ربط عبد برب، وربا بعبد وخالق بمخلوق ومخلوق بخالق[27]، لذلك لما كان تجلي الله في الحادث بصورته الاسمية والصفاتية، كان لابد أن يدعونا للعلم به إلى النظر والتأمل والتدبر في هذا الحادث.
ومنه كما يقول ابن عربي، كل وصف مطلق نصف الله به، إلا وكنا نحن ذلك الوصف الذي وصفنا الله به، لأننا على صورته، فوصفنا له وصف لنا والصورة واحدة، فقط له قديمة ولنا حادثة[28]، وعلى هذا الأساس نسبنا إليه كل ما نسبنا إلينا، طبعا بما يليق بحقيقته القديمة وذاته العظيمة، وعلى حد ما هو ظاهر لنا حسا وعقلا، فنحن لا نعلمه إلا بنا ومن خلالنا، فقد وصف الله نفسه لنا بنا، فكنا نحن أوصافه وأسماؤه على حسب علمنا بنا، لا بحسب علمه بنفسه[29]، لتبعيته للحضرة الأولى.
هكذا إذن، وانطلاقا مما سبق، تتجلى هذه الوحدة الوجودية المدافع عنها من طرف ابن عربي في شق الله والإنسان، مع الاحتفاظ طبعا في الفهم، بكل ما يليق بالمقامين والحضرتين، حتى لا يخلط بينهما، فنسقط فيما يتهم فيه ابن عربي من الحلول والاتحاد، وهو ما تجانبه شروحاته في الفصوص، من حفظ لمقام الحضرة الإلهية لإطلاقيتها وعظمتها وحقيقتها، وللحضرة الكونية وما يستتبعها من حضرة إنسانية في التقيد والانعكاس والتجلي[30]، فضلا عن أن الافتقار بين الله والعبد واضح ومتمايز؛ فالأول افتقار في الوجود والثاني افتقار في الأوصاف والأسماء، كما أن الأول قابل للوجود والعدم، والثاني واجب الوجود بذاته.
إن اشتمال الوجود الإنساني على جمعية الأرواح وشهادة الأجسام عند ابن عربي، راجع إلى طبيعة الحضرة الإلهية نفسها، المشكلة مما هو ظاهر وباطن، لذلك فتجليه أوجد عالما به باطن وظاهر، عالم أرواح وعالم شهود[31]، وأوجد أيضا بالمقابل إنسانا جامعا لحضرته، مشتملا على غيب الأرواح وشهادة الأجسام، حتى يدرك الباطن من العالم بروحه، والظاهر منه بحسه وجسمه، ولعل هذا التقابل بين العالم والإنسان في ثنائية كل واحد منهما، هو ما يجعل ابن عربي حين يصف العالم في أول صفحة من فص الكلمة الآدمية بـ "الإنسان الكبير"[32]، المشتمل هو الآخر على عالم علوي وعالم سفلي؛ أي عالم الأرواح الباطن وعالم الشهود الظاهر، في مقابل الإنسان الصغير المشتمل على الروح والجسد.
يرى ابن عربي أن الله خلق آدم بيديه معا، ومن هنا اكتسب الشرف، فلذلك جمع الصورتين صورة العالم وصورة الحق، وحصل الجمعية، باعتبار أن يدي الحق اليمين والشمال، كل منهما اختصت بأحد من خلقه، فاليمنى خلق بها عالم الأرواح والثانية عالم الشهود، والإنسان خلق بهما معا، ولهذا كان آدم خليفة الله حتى تكون فيه ما تطلبه الرعايا من الأمور الروحانية والجسمانية، فلا يكون مفتقرا من هذا الجانب[33]، وما كان الخليفة خليفة إلا لكونه حاز المجموع دون غيره من العالم.
ينتهي ابن عربي في ختام فص الكلمة الآدمية، إلى أن آدم هو جمع بين صورة الحق بباطنه، وصورة العالم بظاهره، الحق من حيث الباطن على التنزيه، والخلق من حيث الظاهرعلى التشبيه، فآدم هو النفس الكلية المتفردة بالكمال الإلهي[34]، وعلى ذات النحو أطلع الله آدم بالجمعية الكبرى، فكان من قبضتيه الإلهيتين الشمال التي خلق بها العالم، وكانت منها الأجساد الآدمية، واليمين ومنها خلقت الأرواح الآدمية، وفيها بيّن الله لآدم مراتب بنيه الكاملين والقاصرين والمؤمنين والكافرين... أي بالمختصر السعداء والأشقياء منهم.[35] هاهنا يتضح مدى القرب القائم بين الله والعبد، حتى لا نقول الاتحاد والحلول، ونكون أوفياء لعبارات صاحب الفصوص، وهو يصف في الفص الثاني، سبيل المعرفة بالذوق، فقد حدده باعتباره معرفة ذات الشيء مخالطة لا امتزاجا، والممتزجان كما يقول شيئان لا شيء واحد، لكنهما قريبان وليس متحدان، والعبد والرب لا يفترقان لافتقار أحدهما للآخر، لذلك إذا زالت الوسائط الوهمية بينهما، وتحقق العبد بكمال القرب تحقق الامتزاج، فتغدو لهما صورة مخصوصة، فالعبد معدوم والرب موجود، ولكن إذا اقترن بالموجود اكتسب منه الوجود المناسب.[36] وفي موضع آخر من الكتاب، وهو يتحدث عن الإنسان محمد في الفص الأخير، يقول، إن وصفه له بالفردية راجع؛ لأنه يتفرد بالأكملية، لأنه أكمل موجود في النوع الإنساني، وما سبقه من الأنبياء هم مظهر لاسم كلي مكمنه في اسم الله، ومحمد مظهره، فهو أكمل هؤلاء الأكملين، فكان هو الآخر الجامع للروح والجسم والحقيقة الكلية[37]، وبأوليته التثليثية، كان أدل دليل على ربه، لأنه أوتي جوامع الكلم التي هي ذات الأسماء التي علمها لآدم، وكان محمد من حيث نفسه أوضح دليل على جلاء مرآته وصقالتها وأشملها لجامعية الكمالات كلها على ربه، فإنه أحدية جميع أجزاء العالم ودليل على جميع الأسماء الإلهية التي هي أصول أجزاء العالم.[38] وعلى هذا الأساس، يرى ابن عربي أن العالم وجد على صورة الحق والإنسان، وجد على الصورتين؛ صورة الحق وصورة الخلق، لذلك فهو موجود على صورة الخالق؛ لأنه من روحه وروحه من نار، إذ إنه بعد أن نفخ فيه فاضت الروح على البدن، وعبر هذا النفس الرحماني ظهر عينه؛ أي عين الروح في الخارج، وباستعداد المنفوخ فيه، كان الاشتعال نارا لا نورا، فظهر الإنسان بما هو إنسان واستتر النفس الرحماني.[39]
المحور الثالث: الأنثى والتأنيث ضمن مبدأ وحدة الوجود
إن اختيارنا لهذا العنوان، وتضمينه ضمن هذا العرض وموضوعه، راجع إلى أن مكانة الأنثى والتأنيث عند ابن عربي ترتبط بشكل وثيق بمبدأ وحدة الوجود، بل يمكننا القول إنه لا يمكن فهمه إلا من خلالها، إذ إن مبدأ الانعكاس والتجلي الإلهي، وما ترتب عنه من تعدد في الأحكام والموجودات والأضداد، وعلاقة التثليث المميزة له، فضلا عن السريان النكاحي الموجد للوجود، وأساس الحب الطابع لإرادة الله في خلق الوجود والعلاقة التي تربطه به، لا يمكن أن تدرك إلا من خلالهما؛ لأن عنصر التدبر والاعتبار في الوجود الذي بفضله يتكشف الخالق ويدرك، لا يمكن أن يبلغ كماله وتمامه كما يقول ابن عربي إلا في ارتباطه بهما؛ أي حين النظر إلى الأنثى ونسج علاقة وصل بها كما يقول ابن عربي[40]، وقس عليه في كل ما هو مؤنث، كما سنوضحه من خلال الفص الأخير "فص حكمة فردية لكلمة محمدية" من كتاب فصوص الحكم.
نسمع الكثير عن ابن عربي فيما يخص إعلاؤه من شأن "الأنثى والتأنيث"، حتى إن هناك عبارة شهيرة له تقول: "كل ما لا يؤنث لا يعول عليه". ولعل قيمة هذا الطرح تتجلى بقوة في الفص الأخير من كتاب الفصوص، إذ يقول في أحد متونه، إنه ولما كانت المحبة هي أصل الوجود، فإنه لذات السبب حبب الله لرسوله محمد من الدنيا ثلاثة أشياء النساء والطيب والصلاة، وكما هو ملاحظ، فقد قدمت النساء على الطيب والصلاة نفسها، وهذا راجع حسب ابن عربي إلى أن المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها، ومعرفة الجزء الذي هو المرأة، مقدم على معرفة الكل الذي هو الرجل من أفراد الإنسان، ومعرفة الإنسان مقدمة على معرفة ربه؛ لأن معرفته بربه ناتجة عن معرفته بنفسه، لذلك يقول الحديث: "من عرف نفسه فقد عرف ربه".[41]
في الحقيقة، فإن هذه العلاقة لها ما يسندها منطقيا؛ لأنه وأخذا بتصور ابن عربي، إذا تحققت المعرفة بالرب، لابد أن يستتبعها شروع في الصلاة، باعتبار الصلاة هذا الفهم ليست مجرد فريضة، بل هي إدراك لحقيقة الوجود وخالقه، لذلك فهي بهذه النسبة شكر وتقدير، ولهذا السبب تم تقديم النساء في هذا الحب الرسولي؛ لأن في حنينه إليهن حنين الكل إلى الجزء، فهو الرجل ومنه خرجت، وكذلك الله في علاقة بعبده يحن إليه حنين الكل إلى الجزء، فأدرك محمد أن أصل اشتياقه هو ذات اشتياق الخالق النافخ فيه من روحه، فأثبت الله بذلك بينه وبين عبده نسبة الكلية والجزئية، "يا داود إني أشد شوقا إليهم"[42]، من ثم فاشتياق العبد وحنينه إلى ربه، ليس في حقيقته إلا اشتياق الله إلى نفسه، باعتبار الروح المودوعة في العبد ليست إلا النفس الرحماني المنفوخ فيه، لذلك كان تعبير الرسول عن هذه الوضعية العشقية الإلهية، كما يقول ابن عربي بعبارة "حُبِّب" ولم يقل "أحببتُ"؛ لأن الحب هانا ليس من نفسه، بل من ربه، ولتعلق هذا الحب به الذي هو على صورته في كل صفة، وليس بغيره، لذلك فحبه للأنثى كان على صورته، فأحبها بحسب حب الله إياه.[43]
وكما أن الوصل بين الوجود المطلق والوجود المقيد قائم فيما سبق أن عبرنا عليه بالسريان النكاحي، فإن الرجل هو الآخر كما يقول ابن عربي لما أحب المرأة طلب الوصلة التي تكون في المحبة، فلم يكن في النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح[44]، فنكاح الرجل للمرأة كان شبيها بالوصل الإلهي، وهذا طبعا أمر مطلوب مادام الإنسان مخلوق على صورته، ومنه فإن فعل النكاح الممارس هاهنا ليس تلذذا بالغير كما يقول ابن عربي، بل بالحق الظاهر، إذ عبره يشاهد عظمة الحق وكنهه من خلال منفعل الذي هو المرأة، ولذات السبب العبد مأمور بالاغتسال عند انتهاء هذا الوصل، حتى يتحلل من هذا الاعتقاد ويعود إلى ربه[45]، فالشهود شهودان هاهنا، إما بنظر الرجل لنفسه، فيكون انكشاف الله في منفعل للإنسان دون واسطة، وانكشاف في منفعل عبر واسطة، فالأول تكون المرآة هي ذات الرجل، والثاني تكون المرآة هي المرأة، وهذا كما هو ملاحظ شبيه بما حدث مع الحضرة الإلهية، إذ إن الله شاهد تجليه في مرآة العدم، وشاهد نفسه مرة أخرى في مرآة خلقه، حينما نظر إلى نفسه، فكان الظاهر في الحقيقة الخالق وليس المخلوق.
ذات الشيء يجري مع الإنسان، الذي أضحى هاهنا هو الآخر فاعلا، لكن بالنسبة طبعا كما يقول ابن عربي، أي فاعلا ثانيا، فالإنسان الرجل تأمل في ذاته فشاهد الله من غير استحضار صورة، فكان هنا منفعلا، وفي المرأة كان شهودا في منفعل كذلك لكن بواسطة، وعن هذين شاهد الرجل الإنسان نفسه باعتباره فاعلا؛ أي عنه ظهرت المرأة، فكان هذا شهودا ثالثا نتج عن وجود المرأة، فكان للحضرة الإلهية شهودا ينضاف لربوبيتها، وللعبد شهودا ينضاف لعبوديته، ولهذا يعتبر كما يقول ابن عربي شهود الحق في المرأة أتم وأكمل؛ لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل، ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة، ولهذا السبب أحب الرسول النساء لكمال شهود الحق فيهن.[46]
ولعل ما يزكي هذا الفهم المشار إليه أعلاه، هو أن الله في غير ما آية كما يقول ابن عربي دعا إلى التأمل في الموجودات، حتى تدرك عظمته وقد أشرنا إلى هذه الآيات سابقا، وبما أن الإنسان الرجل حسب فهم ابن عربي هو أتم أنواع الموجودات، فإن صدور المرأة عنه كان دليلا للتأمل في نفسه بشكل عيني، فالمجردات لا تدرك وجوديا إلا في صورها العينية، والمرأة صورة عينية لذات الرجل المتأملة في نفسها وإحالة إليها فهذه من تلك، وبهذا يكون حب الرسول للنساء من هذه المرتبة لتأخرهن عن الرجل، ولأنهن محل انفعال، لذلك من أحب المرأة على هذا النحو فهو حب إلهي، ومن أحبها على جهة الشهوة الطبيعية والالتذاذ، فحبه صورة بلا روح، وفي هذا الصدد يقول صاحب الفصوص: "صح عند الناس أني عاشق غير أن لن يعرفوا عشقي لمن"[47]، ومن تم يكون حب محمد للنساء عن تحبب إلهي لا عن محبة نفسانية شهوانية.
يضيف ابن عربي إلى ما سبق، وعبره نكتشف مقام التأنيث عنده، أن تقدم النساء في الحديث يوافقه كذلك في القيمة والشأن تأخير آخر، أو قل ختم آخر، فبه افتتح وانتهى، فالنساء مؤنث والصلاة كذلك، فكان الطيب بذلك ذكر بين مؤنثين، وهذا القياس له ما يوافقه في مواضع أخرى، فالرجل الإنسان يتوسط عنده مؤنثين، مؤنث الذات التي منها وجد، ومؤنث المرأة التي ظهرت عنه، ويلفت الانتباه ابن عربي هاهنا إلى أن جميع المذاهب رفعت التأنيث وقدمته، فأصحاب مذهب العلة كذلك، كما يقول، جعلوا الحق علة في وجود العالم، والعلة مؤنث.[48] ويقول ابن عربي في حكمة جعل الطيب بعد النساء في الحديث، إن النساء من روائح التكوين، فقد كون الله المرأة في نفسها ومنها وفيها كون الأولاد[49]، ولذلك كان أطيب الطيب كما يقول ابن عربي عناق الحبيب، والمرأة من الطيب؛ فهي من روائح التكوين كما أشرنا آنفا، فلذلك تكون من المحببين.
خلاصات وملاحظات:
لعل المستفاد من هذه المحاور الثلاثة، أن هناك علاقة ترابطية بين الله والعالم والإنسان، لا يمكن فهمها إلا من خلال مبدأ وحدة الوجود الذي يدافع عنه ابن عربي، إذ إن الله الخالق حسبه ما أوجد العالم، إلا لأنه أراد أن يرى تجليه؛ أي أن يرى نفسه، فكان العالم بمثابة صورته الاسمية والصفاتية الفائضة عنه، فيما سبق أن أشرنا إليه بالنفس الرحماني؛ أي الطبيعة الكلية التي عبر النفخ نشأت، وعنها نشأت الأمور الكلية المعقولة والمجردة، ومنها تكونت الأمور العينية المتشخصة، فكان الله الغيب الباطن والعالم الظاهر المشهود عن هذا الواجد، لذلك جاء على شاكلته، وإن لم يكن هو، فهو منزه عن التجسيد والتمثل والظهور والتشبيه، متضمنا لعالم علوي روحاني غيبي، وعالم مادي جسماني ظاهر، فكانت وحدته الذاتية غير مجزأة ومتكثرة، لكنها كذلك من جانب صفاته وأسمائه التي لا تحصى أحكامها، من حيث أعيانها وأشخاصها وجزئياتها، ومنه نتج عالمين عالم مطلق يعبر عن واجب الوجود بذاته الحق، وعالم مقيد يعبر عن واجب الوجود بغيره الكون، فكان لابد لهما من رابط يصلهما ويجمع بينهما، حتى يحق للحق تجليه ويدركه فيمن يعبر عنه، فيستحق بذلك ربوبيته، ويكون الخلق بالمقابل مدركا لكينونته، فيعترف بعبوديته وربوبية الرب، ثم حتى تتحقق الغاية من الخلق، كان لابد من مستخلف في هذا العالم، يحفظ خلق الله، فكان هذا الشرف للإنسان الذي جمع ما في الحق والخلق، فكانت له الصورتان، وبهما استحق العلو والمقام الرفيع أمام كل الموجودات، فهو من جهة تعبير عن باطن الله من حيث روحه، وعن ظاهره من حيث جسمه وماديته، لذلك كان وحده المدرك لعظمة الله والمقدس بالتمام له؛ لأنه الوحيد الجامع لأسمائه وصفاته، وبهذه المكانة سمي بالموجود الكامل، واستحق بفضلها أن يكون كلمة الله وخليفته على خلقه، وبما أن الحب كان هو المحرك في هذا الوجود؛ أي لأجله كان الوجود، باعتباره حب الحق لذاته، كان لابد لهذا الحب أن يكون عنوان العلاقة الجامعة للعبد بربه، في رغبة الاشتياق والحنين للقاء ربه، وهذا كان يتم عبر تأمل في ذاته التي كانت تكشف في الحقيقة عن حضرة الله. لذلك، فعمق هذه المحبة كان لابد له أن يعبر هو الآخر عن علاقة الوصل القائمة بين الله والخلق، فظهرت من الرجل المرأة، فصارت له محلا للوصل والتفكر الإلهي، باعتبارها شبيهة للرجل ووجودا عينيا له.
هكذا إذن، يتبين أن الوحدة هاهنا لا يمسها في حضرة الله لا تكثر ولا تعدد، فهي ما هي عليه بما يحفظ مكانتها وعظمتها، وهي متعددة متكثرة حينما تخارجت من نفسها وذاتها الأحادية، وهذا ما يجعلها وحدة ضدية تتراوح بين التثنية والتثليث، إذ لو حاولنا جرد مجموع الثنائيات القائمة في الفصوص المشتغل عليها سنجد أنها دائما ما كان يتم الوصل بينها بثالث: ففي مراتب الوجود كان الوصل بين الوجود الحق والوجود المعدوم هو الوجود الممكن، وخلال تجلي الحق كان الانتقال من العدم إلى الوجود بالنسبة للموجودات عبر وصل النفس الرحماني، كما كان وصل الحق بالخلق عبر الانسان فبه كانت الربوبية لله والعبودية للعبد، كما أن الحق كان هو الباطن وما تجلى عنه هو الظاهر والانسان كان الوصل بين الظاهر والباطن، إذ هو الجامع بينهما في النشأة التى كانت عن يدي الله يمينه وشماله، يمين الروح وشمال العالم المادي، كذلك علاقة التثليث المميزة لآدم ومحمد الروح والجسد ورابطة الحقيقة الكلية، وكذا رابطة آدم بين الذات وحواء، ورابطة النساء والطيب والصلاة، وغيرها من الثنائيات الضدية الأخرى التي تذوب في صلة تربطهما، تكون هي مبدأ الوحدة المدبر لفكر ابن عربي، فلا هي اتحاد أو حلول، ولا هي تشبيه أو ذوبان، لكنها امتزاج واختلاط يحفظ للضدين وجودهما في علاقة تراتبية متناسبة، يحكمها التفاضل والتضاد، من تم تكون وحدة ضدية تقع بين التقابل والتداخل، تنفصل بالتناسب، وتتصل بالافتقار، حيث لا يمكن إدراك أي أثر وجودي إلا في وجود آخر.
من بين الملاحظات التي يمكن أن أختم بها في هذا الشأن، والتي أثارت انتباهي بشكل كبير داخل الفصوص التي اشتغلت عليها، هو اعتماد ابن عربي بشكل كبير جدا، لاسم الحق عوضا عن اسم الله أو الإله أو الرب في إطار حديثه عن الخالق، وهذا راجع حسب ما تمكنت من استخلاصه إلى أن الحق دلالة هنا على الوجود الحق والحقيقي والدائم والأزلي والأبدي، في مقابل الوجود الناتج عنه المناقض له في الخصائص والصفات، وما يستحيل عليه ما حمل على الوجود الأول، ومنه يستتبع طريق الخلاص والمعرفة والارتقاء والموضع الحق، وهذا يتناسب مرة أخرى مع ما سبق أن أشرنا إليه في إطار حديثنا عن مبدأ وحدة الوجود وخاصيته الضدية والوصلية.
المصادر والمراجع:
1- محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، تعليق أبو العلا العريفي، دار الكتاب العربي.
2- جامي عبد الرحمان، شرح الجامي على فصوص الحكم، تحقيق عاصم إبراهيم الكيالي، دار الكتاب العلمية.
3- عبد الغني بن اسماعيل النابلسي اسماعيل، جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص، الجزء الأول، ضبط وتعليق عاصم إبراهيم الكيالي، دار الكتب العلمية.
[1] هو الإمام محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي، ويشتهر بلقب "الشيخ الأكبر"، كما أنه له مذهبا خاصا يسمى بـ "الأكبرية". وقد ولد ابن عربي في مرسية بالأندلس، عام 558 هـ، ما يوافق 1164 م، وهو أحد أكبر المتصوفين في التاريخ وأشهرهم أيضا، كان والد محيي الدين بن عربي عالما من علماء الحديث والفقه، زاهدا تقيا ورعا متصوفا، وجده عالما وقاضيا من قضاة الأندلس، فكانت نشأته نشأة بارزة، وقد تتلمذ وهو في سن صغيرة على يد أبي بكر بن خلف، أحد أكبر الفقهاء في عصره، فأخذ منه القرآن، وأتقن معه القراءات السبع، بعد بعثه والده ليتعلم الحديث والفقه، ومنها ابتدأ مسيرة تجواله، فسافر في بقاع كثير إلى أن استقر به الحال في دمشق، فبقي بها وأصبح أحد أعظم علمائها حتى آخر حياته.
[2] محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، تعليق أبو العلا العريفي، دار الكتاب العربي، ص 47
[3] عبد الغني بن إسماعيل النابلسي اسماعيل، جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص، الجزء الأول، ضبط وتعليق عاصم إبراهيم الكيالي، دار الكتب العلمية، ص 224
[4] المرجع نفسه: ص 86
[5] محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، م، م، ص 54
[6] المرجع نفسه: ص 54
[7] المرجع نفسه: ص 54
[8] المرجع نفسه: ص 54
[9] المرجع نفسه: ص 55
[10] جامي عبد الرحمان، شرح الجامي على فصوص الحكم، تحقيق عاصم إبراهيم الكيالي، دار الكتاب العلمية، ص 95
[11] المرجع نفسه: ص 116
[12] محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، م، م، ص 226
[13] عبد الغني بن إسماعيل النابلسي اسماعيل، جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص، م، م، ج. 1، ص 82
[14] محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، م، م، ص 52
[15] عبد الغني بن إسماعيل النابلسي اسماعيل، جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص، م، م، ج.1، ص 82
[16] محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، م، م، ص 218 / 221
[17] المرجع نفسه: ص 216
[18] محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، م، م، ص 49
[19] المرجع نفسه: ص 50
[20] المرجع نفسه: ص 50
[21] المرجع نفسه: ص 50
[22] المرجع نفسه: ص 50
[23] عبد الغني بن اسماعيل النابلسي اسماعيل، جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص، م، م، ج.1، ص 70
[24] المرجع نفسه: ص 50
[25] عبد الغني بن اسماعيل النابلسي اسماعيل، جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص، م، م، ج.1، ص 83
[26] محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، م، م، ص 53
[27] عبد الغني بن اسماعيل النابلسي اسماعيل، جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص، م، م، ج.1، ص 104
[28] المرجع نفسه: ص 87
[29] محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، م، م، ص 56
[30] المرجع نفسه: ص 58
[31] المرجع نفسه: ص 49
[32] المرجع نفسه: ص 49
[33] المرجع نفسه: ص 49
[34] عبد الغني بن إسماعيل النابلسي إسماعيل، جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص، م، م، ج.1، ص 99
[35] محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، م، م، ص 57
[36] عبد الغني بن إسماعيل النابلسي إسماعيل، جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص، م، م، ج.1، ص 121
[37] محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، م، م، ص 215
[38] المرجع نفسه: 215
[39] المرجع نفسه: 216
[40] المرجع نفسه: ص 217
[41] المرجع نفسه: ص 215
[42] جامي عبد الرحمان، شرح الجامي على فصوص الحكم، م، م، ص 511
[43] محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، م، م، ص 217
[44] المرجع نفسه: ص 218
[45] المرجع نفسه: ص 217
[46] المرجع نفسه: ص 218
[47] المرجع نفسه: ص 218
[48] المرجع نفسه: ص 220
[49] جامي عبد الرحمان، شرح الجامي على فصوص الحكم، م، م، ص 521