محمد إقبال و"الإنسِيَّة" القرآنية
فئة : مقالات
1- ظلّ عموم فكر محمد إقبال (1357/1938) مهجوراً في الحراك العربي الإسلامي الحديث لعقود متوالية، خلافاً لما أنتجه من شعر، وكان أشد ما لقيه هذا الفكر من إعراض متعيناً في مقاربات إقبال القرآنية. أفضل نموذج يمكن تقديمه في هذا الصدد قراءته لقصّة "هبوط" آدم الواردة في القرآن الكريم. لقد اتجه بهذا "الهبوط" وجهة مغايرة لما ساد لدى عموم المفسرين المسلمين، ولما تواتر من شروح لسفر التكوين في نصوص العهد القديم الخاصة بهذا "الخروج". لم يعتبر إقبال أنّ الموضوع متعلق بطرد أو انتقال مكاني خرج به الآدمي من عالَم إلى عالم آخر بقدر ما رأى فيه تحوّلاً في الذات الإنسانية وفي وعيها. هذا التحوّل عند إقبال بدايةُ نشوء الذّات الحرّة عن رغبة ورضا، وهو تجسيد للفعل الإنساني القائم على حرّية الاختيار. إنّه الإعلان عن بروز ذات متناهية لها القدرة على أن تختار.
2- كانت هذه القراءة نموذجاً دالّاً عمّا عمل على إطلاقه محمد إقبال في محاضراته الشهيرة - ثلاثينات القرن الماضي - ضمن مشروع تجديد الفكر الإسلامي المؤسِّسَ لفهم معاصر للدين. بذلك حقق إقبال أول خطوة لإرساء تطوّر نوعيّ في فكر المسلمين الديني الحديث. تمثلت إضافته في المستوى المفاهيمي بما تميّز به خطابه من إكسابه دلالة تفصله نهائياً عن مفهومين سائدين كثيراً ما اعتُبرا مرادفين للتجديد هما: الاجتهاد والإصلاح. أهمية التجديد عند إقبال كامنةٌ من جهة أولى في الدائرة التي رسمها له، والتي تتجاوز المجال الفقهي الذي ينكبّ عليه المجتهد والمجال المؤسسي السياسي الذي اعتنت به المدرسة الإصلاحية. ما اقتضاه مجال التجديد عند محمد إقبال تحدد في دائرة إعادة بناء الفكر الديني وفق قواعد الحركة العقلية الإنسانية بما تقتضيه من مراجعات فكرية وعقدية تعيد النظر في مسائل كبرى كالوحي والنبوّة والدين والزمان والمعرفة والإنسان.
3- من جهة أخرى كان التجديد عند إقبال ممنهجاً بطريقة يعسر اعتبارها مقطوعةً عن جذورها الإسلامية، رغم أنّ همّها الأساسي بقي الإجابة عن متطلبات الفكر وكشوفات المعرفة الإنسانية في لحظتها الحديثة. من ثم كان التجديد أفقاً مغايراً أثراه التفاعل مع الآخر، لكن غايته كانت حفز المسلم على الوعي بذاته.
اللاّفت للنظر في مسعى إقبال التجديدي هو أنه في حرصه على التمايز عن القراءتين الفقهية والإصلاحية في مستوى المفاهيم والمنهج ما كان له أن يتجنّب مجالَ تفسير بعض آي القرآن مقتحماً بذلك مجالاً لم يخضه المجتهد والمصلح. لكن إقبال في مباشرته للنص القرآني لم ينظر إلى الآيات القرآنية التي تناولها بشكل مستقل عن الفكر الذي يؤسس له في كليته بناء على "الروح الجديدة في الإسلام" التي يسعى إلى بعثها. في هذا كان مخالفاً للفقيه والإصلاحي اللذين كانا في علاقتهما بالنص المؤسس يتوخيان المحافظة منهجاً وغاية، فالمسعى الاجتهادي يرمي إلى الإبقاء على التماسك الاجتماعي مهما تغيّرت الأوضاع، بينما يهدف الإصلاح إلى مراجعة أوضاع المؤسسات الكبرى، بما يقلِّص الفجوة الحضارية بين العالم الإسلامي في حاضره وبين ما ينبغي أن يكون عليه. القراءة التي قدّمها إقبال لبعض المواضيع القرآنية كانت مغايرة في جوهرها لاعتمادها على مبدأ التطوّر وإقرارها بأنه في مجال المعرفة الدينية لا يمكن للمفكر أن يستقلّ تمام الاستقلال عن الواقع المتحقق في عالم التجربة.
4- ما نعثر عليه في مدونة إقبال من مقاطع تفسيرية جاء مختلفاً منهجاً ونظاماً معرفيّاً عمّا اعتاده عموم المفسرين، هو لم يَدَّعِ فيها أنه "يتدبّر" أفهام آيات القرآن، بل كان يعمل على أن يقدّم الأفهام القادرة على التجاوز. نجد ذلك جليّاً في حديثه عن مسائل مثل الخَلْق والشريعة والنبوّة وهبوط آدم والمعاد والحساب. وهذا ما جعل محمد إقبال في مشروعه التجديدي يركّز على نماذج من التأويل عدّها مدخلاً لوعي ذاتي بديل.
هو في ذلك كان يوحي بأنّ التفسير ليس علماً مُنْجَزًاً بقدر ما هو جهدٌ معرفيّ مفتوح يتمثّل عدداً من الآيات على أساس جدل بين المعرفة الحديثة والتجربة الدينية الذاتية.
جاء تصوّر إقبال التجديدي في عبارة محدّدة حين قال: "هناك حاجة إلى وضع المعرفة الدينية في صورة علمية...[لذلك] حاولتُ بناء فلسفة إسلامية باعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، وباعتبار ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطوّر". لكنّ هذا المسلك الحداثي الذي يعيد بناء الفكر الديني في الإسلام عموماً والفهم القرآني خصوصاً ظلّ محدود الانتشار.
5- عند التعاطي مع هذا المسلك الحداثي يتبيّن الموقع الذي يحتلّه الإنسان في البناء القرآني، ويظهر أننا إزاء مسألة إشكالية تعرض للإنسان بوصفه هويّةً مركَّبة يضيئها النص القرآني من زوايا مختلفة تتكامل بما يحقّق تغييراً دلالياً للإنسان وللعالَم.
من خلال هويّة الإنسان القرآنية تتحدّد جملةُ مسائل ترتبط بتلك الهويّة ارتباطاً قوياً، ممّا يجعلها من قبيل التعابير المفتاحية ذات الوظيفة الرئيسية في إبراز ما يميّز النظرة القرآنية.
هناك من ناحية أولى علاقة الإنسان بالعالَم، ثم علاقته بالتاريخ. هذان البعدان يرتبطان ببعد أنتولوجي للإنسان ينكشف به كائناً ذا وجود مطلق مجرّد من كل تعيين وتحديد.
من خلال هذه المستويات الثلاثة يظهر الإنسان في هويته القرآنية وقد انتصب سيّداً للعالَم ومحرّكاً للتاريخ، بفضل تلك الكينونة المفارقة التي تجعله في علاقة استخلاف لله تعالى بعيداً عن كل سياقِ تناظرٍ ضديٍّ معه أو عبوديّة ساذجة له. بهذه الهويّة القرآنية يتحقق مبدأ خلافة الإنسان لله في الأرض، وهو المبدأ الذي تجسّده مسيرة الإنسان الحضارية والتاريخية.
هما الوجهان اللّذان يتجادلان: الوجه المفارق المتعالي الذي يكون فيه الإنسان أمام الله الخالق المستخلِف، والوجه الإنسيّ للإنسان باعتباره صانعاً للمعنى ومحققاً له من خلال الشروط التاريخية والفكرية الموضوعية.
6- مقابل هذا فإنّ التصور القرآني للكون يجعله في زيادة مطّردة. هو دحض لما كان معتمداً لدى طائفة من العرب كانت لا ترى سبباً لوجود هذا العالَم إلا "الطبع المحيي والدهر المفني"، أو ما يسميه مؤرخو العقائد "معطِّلة العرب".
بناء على هذا الدحض القرآني لتلك العقلية الثبوتية والقارّة جاء رفض إقبال أن يكون الفكر الديني التجديدي خصماً للتطور دون القول إنّ الوجود تطوّر صرف. ذلك ما عزّز رؤيةً مغايرة تقوم على خَـلْق لا يتوقف للعالَم ومسيرة منفتحة لا تفتأ تنمو وتزيد.
ضمن هذه الصيرورة الشاملة تتحدد غائية العالَم، وتتعيّن "الإنسِيَّة" القرآنية التي تجعل للإنسان مكانة جديدة في حركية العالَم التي لا تتوقف؛ فمن التأسيس الضروري للتسخير المتيح للتمكين من موقع الخلافة في عالَم تمسك به القدرة الإلهية الواحدة يحتلّ الإنسان موقع الاستخلاف، فتتجاوز علاقته بالعالَم الحدود الضيقة والمهينة التي انساقت فيها بعض الأوضاع القديمة من خلال نظرتها إلى العالَم المادي. عبر هذه البنية التي تتيح سيادة على عالَم حيّ يشرف الإنسان على أفق طالما حالت دونه الحواجز: أفق الكونية.
هو أفق يجعل علاقة جديدة للإنسان بالتاريخ أساسها قيمة "الحرية" التي تتأسس عليها منزلة الآدمي الوجودية. الهويّة القرآنية للإنسان تجعله كائناً تاريخياً، بمعنى أنّه يفهم نفسه ليس من خلال التأمّل العقليّ بل من خلال التجارب المتجدّدة والموضوعيّة للحياة التي يكتسبها.
7- لا أدلَّ على هذا المعنى من الآية الكريمة التي تقرن بين حرية الإنسان وما يتصدى له من عوائق يجسّد الشيطان جانباً منها حين يقول: "وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسَكم".
بناء على هذا لا يمكن عدّ هويّة الإنسان وإرادته ووعيه أشياء محدّدة سلفاً، بل الأدقّ القول إنّ الإنسان وهويّته في حالة تخَلُّق، وإنّه لا يفهم نفسه إلاّ بطريق غير مباشر. بذلك يكون الخطاب القرآني في المستوى التاريخي للإنسان إنما هو تأسيس لحرية الآدمي قيمةً مركزية لمشروع استخلافه في الأرض.
هذا ما حدا بمحمد إقبال أن يفهم قصة نزول آدم في ضوء أحد أبرز محددات إنسانية الإنسان وهي الحرية. إنه يرى أنّ الأهمّ في تلك القصّة هو إبرازها لأبعاد ذاتيّة الإنسان في نموّها من حالة بدائية إلى مرحلة أكثر تطوّراً، نموٍّ ينقله من وضع يكون فيه مرتكِزاً على الشهوة الغريزّية ومقطوعاً عن البيئة التي يعيش فيها إلى آخر يعي فيه أنَّ له نفساً استيقظت لتدرك أنّها صاحبة إرادة. على هذا يكون هبوط آدم هو ارتقاء لأنه يحقّق للإنسان شعوراً بأنّه ذو صلة عِليِّة وشخصيّة بوجوده. في خطوة أخيرة يقرّر إقبال أنّ قصّة "هبوط" آدم هي بداية نشوء الذّات الحرّة عن رغبة ورضا. ذلك أنّ الهبوط هو تجسيد للفعل الإنساني القائم على حرّية الاختيار. إنّه الإعلان عن بروز ذات متناهية لها القدرة على أن تختار. ثمّ لإتمام جوانب القصّة القرآنية يرى إقبال أنّ ما ورد من أكل من الشجرة ينبغي أن يؤوَّل ضمن هذه الحركيّة. فالإنسان الذّي أكل من الشجرة (رمز المعرفة) أخطأ من حيث أراد أن يصل إلى ثمرها من أقرب طريق ودون أيّ كدح. لذلك كان تصحيح الخطأ عبر انتقاله إلى البيئة الملائمة لإبراز قواه العاقلة عن طريق الكّد وصناعة التاريخ. تلك البيئة التّي تحقّق خصوصياته باعتباره كائناً متميزاً بالمعرفة والحريّة لا يمكنه أن يفتِّق ذاتَه إلاّ عبر الصراع والرضا بالتناهي.