محمّد الرّحموني: في ضرورة الوعي المركّب بمفهوم الجهاد
فئة : حوارات
التعريف بالأستاذ محمّد الرّحموني:
أستاذ الحضارة بالمعهد العالي للعلوم الإنسانيَّة بتونس. متحصّل على الدكتوراه في اللغة والآداب والحضارة العربيّة وعلى الماجستير في الفلسفة. له إسهامات عديدة في البحث والتأليف والترجمة. من أهمّ مؤلفاته: "الجهاد من الهجرة إلى الدعوة إلى الدولة" (دار الطليعة، بيروت 2002)، الدين والإيديولوجيا (دار الطليعة 2005)، دولة البوليس: قراءة في طبيعة الدولة الحديثة من خلال هوبز (دار سحر للنشر، تونس 2015). ومن أهمّ ترجماته: "ما الثورة الدينيَّة؟ الحضارات التقليديَّة في مواجهة الحداثة" (دار الساقي، بيروت 2004 ط1 و2011 ط2)، "السرعة والسياسة" (الشبكة العربيَّة للأبحاث والنشر، بيروت 2017).
أنس الطريقي: لو بدأنا من الوضع الرّاهن لمفهوم الجهاد في الإسلام، أي وجوده في قلب ظاهرة قتاليّة كونيّة تجري باسم الإسلام والمسلمين، يطلق عليها الإرهاب الإسلامويّ، لوجدنا هذا المفهوم يقدّم لهذه الظاهرة سندها النظريّ، ومنهجها العمليّ. فجلّ التنظيمات الجهاديّة الموجودة راهناً تعتمد على كتابات منظرّين معروفين لمفهوم الجهاد، من بينهم أبو محمّد المقدسي (كتابه: ملّة إبراهيم...)، وأبو قتادة الفلسطيني (كتابه: الجهاد والاجتهاد...)، وسيّد عبد العزيز إمام شريف المكنّى دكتور فضل (كتابه: العمدة في إعداد العدّة للجهاد...)، وأبو بكر ناجي (كتابه: إدارة التوحّش)، وغير هؤلاء كثير. وهذه الكتب تستند إلى مرجعيّة قرآنيّة هي أساساً سورة التوبة المسمّاة منذ القرن السابع الهجري سورة السيف، وإلى مرجعيّة تأويليّة هي خصوصاً تأويليّة ابن تيميّة وابن القيّم لمفهوم الجهاد. معنى هذا أنَّ هذه الظاهرة الجهاديّة الإسلامويّة ظاهرة إسلاميّة أصيلة. كيف تردّون على دعاوى تأصيل هذه الظاهرة الجهاديّة في الإسلام، والتي تذهب إلى حدّ اتهام الإسلام بأنَّه دين دمويّ؟
د. رحموني: لهذا السؤال أجوبة عديدة وليس جواباً واحداً:
ـ ليس الإشكال في وجود تنظيمات جهاديّة ولا في رفع شعار الجهاد، فأغلب حركات التحرّر العربيّة الحديثة والمعاصرة رفعت شعار الجهاد أو هي استلهمته في نضالها، وإنَّما الإشكال في أنَّ هؤلاء "المنظّرين" الذين ذكرتهم لم يكتفوا باستعادة محرّفة لمفهوم الجهاد التقليدي (الفقهي)، بل استعادوا معه كلّ الإبستيميّة القديمة وكلّ رؤية العالم القديمة، وكأنَّ الزمن توقّف في القرن السابع أو الثامن للهجرة. وهذا واضح من خلال هيئاتهم ولغتهم ومصطلحاتهم وأخلاقهم. لقد استعادوا القديم برمّته، لذلك بدوا للعالم وكأنّهم كائنات غريبة.
- إلى أيّ مدى نعتبر هؤلاء منظّرين؟ فهم لم يكتفوا باستعادة المفهوم التقليدي للجهاد حرفيّاً، بل تصرّفوا فيه بشكل جعل منهم مجرمي حرب (قتل الأسرى والتنكيل بهم، والفساد في الأرض وقتل الأبرياء ...إلخ)، وكلّ ذلك منافٍ لآداب الحرب كما نظّر لها القدماء.
- ينبغي ألّا ننزعج من كون هؤلاء "المنظّرين" يستندون إلى مرجعيّة قرآنيّة، فكلّ النصوص الكبرى، إلهيّة وبشريّة، تخضع بطبعها إلى تأويلات مختلفة بل متناقضة أحياناً. لنُمثّل لذلك بالماركسيّة التي أنتجت فرقاً ومذاهب يفوق عددها ما أنتجته النصوص الدينيّة الكبرى طوال تاريخها.
أنس الطريقي: تبيّن متابعة اتّجاه الخطّ التأويليّ لمفهوم الجهاد من النصوص الثواني (كتب الحديث، والفقه، والتاريخ) أو التي تُجمع تحت تسمية علوم القرآن، أنَّ مفهوم الجهاد حمل مفهوماً حربيّاً قتاليّاً منذ البداية، وإن توسّع راهناً ليطال المسلمين من غير المذهب، هل يمكن لكم أن تذكّرونا بأهمّ المراحل التنظيريّة الكبرى في الثقافة الإسلاميّة لمفهوم الجهاد؟
د. رحموني: مرّ الجهاد، كما نظّر له جمهور الفقهاء، بثلاث مراحل كبرى، فقد كان في البداية يعني الهجرة إلى يثرب للمساهمة في بناء دولة النبي والمسلمين، ثمَّ ارتبط في مرحلة ثانية بالقتال في سبيل نشر الإسلام. وفي مرحلة ثالثة أي بداية من القرن الرابع الهجري أصبح الجهاد يعني بالأساس قتال الخارجين عن سلطة الدولة والفرق التي اعتبرت ضالّة. وبذلك انتقل الجهاد من الهجرة لتأسيس الدولة، إلى الدعوة أي نشر الإسلام وفرض سلطة المسلمين على العالمين، إلى الدفاع عن الدولة، أي الجهاد في سبيل الحفاظ على دولة الإسلام التي أنهكتها الصراعات المذهبيّة والنزعات الانفصاليّة منذ القرن الرابع للهجرة.
أنس الطريقي: هل تجدون لهذا الخطّ التأويليّ معقوليّة ما؟ نقصد هل لهذا الاتجاه التأويليّ ما يبرّره تاريخيّاً، أو نصوصيّاً، أي في النصّ القرآنيّ تحديداً، وربّما في الحديث؟
د. رحموني: معقوليّة هذا التأويل ارتبطت بأمرين: أوّلهما الإمكانيّات التأويليّة التي يختزنها النص القرآني (وكلّ نصّ لغوي)، وثانيهما التطوّرات التاريخيّة التي عرفها المسلمون.
- بالنسبة إلى الأمر الأوّل، فقد ورد الجذر (ج هـ د) ومشتقّاته في القرآن في سياقات دلاليّة وتاريخيّة (أسباب النزول) تسمح بفهمه بمعنى القتال، وورد في سياقات أخرى مقترناً ببذل الجهد والمشقّة في الفعل. هذا يعني أنَّ كلّ فهم للجهاد لا يتجاوز السياج التأويليّ هو تأويل معقول وقابل للنقاش. أمَّا ما يخصّ الأمر الثاني، فمن المؤكد أنَّ التطوّرات التاريخيَّة قد لعبت دوراً أساسيّاً في سيادة هذا الخطّ التأويلي وانتشاره وتهميش بقيّة التأويلات. ويمكننا إجمال هذه التطوّرات في النقاط الآتية:
1- الارتباط الوثيق (بل التداخل الكبير) بين الدين والدولة منذ بداية الإسلام، الذي لم يسمح للفقهاء وغيرهم بالتمييز بين ما هو ديني وما هو سياسيّ. ولنا مثالان تاريخيّان ساطعان هما حروب الردّة، والفتوحات الكبرى. فرغم أنَّ كلّ المصادر القديمة تذكر أنَّ المرتدّين كانوا يشهدون أن لا إله إلّا الله وأنَّ محمّداً رسول الله، وأنَّ مطلبهم الأساسيّ هو إعفاؤهم من دفع الزكاة، أي من الخضوع للدولة، فقد اعتُبروا مرتدّين عن الإسلام. وبخصوص الفتوحات الكبرى فرغم أنَّ المؤرّخين لم يثبتوا حالة واحدة، ولا نصّاً واحداً طلب فيه الفاتحون من الشعوب المفتوحة اعتناق الإسلام أو سعَوا فيه إلى فرضه عليهم، فقد اعتبروا تلك الفتوحات جهاداً في سبيل الله. في حين كانت هذه الفتوحات في الحقيقة توسّعاً إمبراطوريّاً، هدفه بسط سلطة المسلمين على غيرهم. ونجد أثر هذه الحقيقة في تعريف الفقهاء لدار الحرب ودار الإسلام، فدار الإسلام هي الدار التي يحكمها المسلمون، وإن كان سكّانها كفّاراً والعكس بالعكس. ومن ثمَّ فإنَّ اعتبار القتال جهاداً في سبيل الله، إنَّما هو سحب صفة دينيّة على حروب ذات أهداف سياسيّة.
2- أثر الفتنة الكبرى: كانت الفتنة الكبرى شرخاً كبيراً في وعي المسلمين، فقد حدث فيها ما لا يمكن لمسلم آنذاك تصوّره، فقد تقاتل المسلمون وقتّلوا بعضهم بعضاً، ونجم عن ذلك تفتّت وحدتهم، وتشتّت شملهم، لذلك كان هناك على الدوام خوف مستبطن من إمكانيّة تكرّر الأمر. فاعتُبر كلّ اختلاف فقهيّ أو كلاميّ أو سياسيّ مقدّمة للفتنة والانقسام. ومن ثمّ تمَّت دخلنة الجهاد، فالعدوّ لم يبقَ خارجيّاً، بل أصبح العدوّ داخليّاً.
أنس الطريقي: تجمع أغلب المراجع الدارسة للفكر الجهاديّ على أنَّ مراجعه الأساسيّة هي كتب ابن تيميّة، لا سيّما كتابه فقه الجهاد، وابن قيّم الجوزيّة (زاد المعاد في هدي خير العباد)، ومحمّد بن عبد الوهاب. لمَ يقع التركيز على هذه المراجع بالذات، خصوصاً ونحن نعلم أنَّ تفسير مفهوم الجهاد جرى منذ عهود الإسلام الأولى، وفي كتب مستقلّة منذ عبد اللّه بن مبارك (ت181هـ)، مروراً بابن عساكر (ت571هـ)؟
د. رحموني: الفكر الجهادي الكلاسيكي لم يرتبط بابن تيميّة وابن القيّم، بل له مراجع أخرى كثيرة. والحقيقة أنَّنا لا نجد اختلافات بيّنة بين هذه المراجع، فليس هناك فرق جوهري بين ما كتبه الشافعي والغزالي وابن تيميّة. وإذا كانت هناك فروق، فهي جزئيّة ارتبطت بالظروف التاريخيّة التي مرّ بها هؤلاء الفقهاء. ومن هنا فإنَّ إجماع الدراسات الحديثة على جعل كتابات ابن تيميّة وابن القيّم مرجعاً أساسيّاً للفكر الجهادي الحديث والمعاصر يحتاج إلى تصويب:
- بنت هذه الدراسات استنتاجاتها على أفكار شائعة عن ابن تيميّة، هي من قبيل الأفكار المسبّقة، فابن تيميّة واسع المعرفة غزير التأليف، ولذا وجب تقييمه من خلال جملة مؤلّفاته، وليس من خلال ما كتبه عن الجهاد فقط. ولابن تيميّة كتابات تنقض جذريّاً ما يشاع عن تشدّده الجهاديّ، وأعني بذلك تحديدا كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم". وأخيراً فإنَّ كتابات ابن تيميّة عن الجهاد ينبغي أن تقرأ في علاقتها بالمرحلة السياسيّة والتاريخيّة التي كان يمرّ بها المسلمون آنذاك.
- انطلاقاً ممَّا سبق أقول إنَّ الفكر الجهادي الحديث والمعاصر، لم ينطلق من ابن تيميّة باتجاه محمّد بن عبد الوهّاب، وإنَّما العكس هو الصحيح، فالفكر التكفيري الوهّابيّ، هو منطلق أغلب هذه الحركات الجهاديّة، ومن ثمَّ قرأت ابن تيميّة على ضوء فكر ابن عبد الوهّاب.
أنس الطريقي: أين تجدون الإشكال في التأويل العنيف الرّاهن لمفهوم الجهاد؟ هل هو في آليّات التأويل التي تقوم على مبادئ منها مبدأ الفرقة الناجية، أو مبدأ النسخ، حيث تقرّ الجماعات الجهاديّة بأنَّ سورة التوبة، ولاسيّما آياتها الخمس التي تُسمّى آيات السّيف، ناسخة لما جاء قبلها في القرآن من حديث عن الصّفح والرّحمة وحريّة المعتقد، كما تقوم على مبدأ الانتقائيّة، أم أنَّه إشكال بنيويّ في القراءة الحرفيّة، أم هو إشكال إيديولوجيّ في الذهنيّة الإسلاميّة؟
د. رحموني: كلّ ما ذكرتَه صائب إلى حدّ كبير. ولكن كان يمكن لسؤالك أن يكون كافياً وشافياً لو أضفتَ إليه فرضيّة أخرى، وهي العامل الخارجي. فهذه الحركات إنَّما قامت لمواجهة حكومات وأوضاع محليّة وإقليميّة ودوليّة وتاريخيّة. فحركة الإخوان المسلمين مثلاً لم ترفع شعار الجهاد في مصر وسورية إلّا في الخمسينات والستّينات، و"القاعدة" ارتبط ظهورها بالغزو السوفياتي لأفغانستان، و"داعش" هي النتاج المباشر للغزو الأمريكي للعراق...إلخ.
في الخمسينات ومع ظهور الدولة الوطنيّة الحديثة أو "المحدّثة"، كما ينعتها هشام شرابي، فإنَّ ممارساتها هي التي ساهمت بقسط وافر في ظهور الحركات الأصوليّة الدينيّة ذات الفكر الشمولي والعقيدة الجهاديّة. ففكرة شموليّة الإسلام إنَّما هي ردّ على شموليّة الأنظمة العربيّة، وفكرة الحاكميّة إنَّما هي ردّ على السلطات المطلقة للحكام العرب، وشعار حتميّة الحلّ الإسلامي إنَّما هو ردّ على شعار مماثل هو "حتميّة الحلّ الاشتراكي". أمَّا الجهاد، فهو ردّ على شعار "حرب الشعب طويلة الأمد".
من جهة ثانية ساهمت الإمبرياليّة بممارساتها الإذلاليّة للشعوب الإسلاميّة (وغيرها من الشعوب) في بروز الفكر الرافض للغرب جملةً وتفصيلاً، والدّاعي إلى جهاده. في كلمة، إنَّ تطرّف هذه الحركات لا يفسّر فقط بقصورها الذاتي في التعامل مع النصّ القرآني وغيره من النصوص التأسيسيّة، وإنَّما يفسّر كذلك بقصور الأنظمة والنخب والمجتمعات العربيّة عن التحديث الحقيقي والفاعل وبممارسات الإمبرياليّة، والاستعمار عموماً. إنَّهم ضحايا التحديث المشوّه قبل أن يكونوا أعداءه.
أنس الطريقي: من كتاباتكم المعروفة كتاب الجهاد من الهجرة إلى الدعوة إلى الدولة، لو حدّثتمونا عن محتوى هذا الكتاب، وأهمّ الخلاصات التي توصّلتم إليها فيه.
د. رحموني: هذا الكتاب هو في الأصل أطروحة دكتوراه أنجزناها بإشراف الأستاذ عبد المجيد الشرفي. عنوانها الأصلي: "مواقف العلماء المسلمين من الجهاد في القرنين الرابع والخامس للهجرة". وقد عرضنا فيه بالوصف والتحليل مواقف علماء الإسلام السّنَّة والشيعة (الفقهاء، والمتكلّمون، والصوفيّة) من الجهاد في الفترة المذكورة. ولم يكن هدفنا الوحيد استجلاء هذه المواقف، بل تعدّاه إلى محاولة تبيّن مكانة الجهاد لدى عموم المسلمين آنذاك (موقف رجال السياسة والأدباء والعامَّة).
وخلصنا فيه إلى النتائج الآتية:
ـ الجهاد في الإسلام مفهوم متطوّر.
ـ الظروف التاريخيّة التي مرَّ بها المسلمون هي التي سوَّغت هذا التطوّر.
ـ الجهاد في القرنين الرابع والخامس للهجرة كان يعني بالأساس مقاومة الفرق الضالّة والخارجين عن سلطة الدولة.
ـ منذ توقُف الفتوحات الكبرى حصل صراع بين رؤيتين للجهاد: واحدة ترى ضرورة مواصلة الفتح لنشر الإسلام أو الدفاع عنه مهما كانت ظروف المسلمين وأحوالهم، وأخرى ترى أنَّ الأولويّة للحفاظ على دولة الإسلام التي نخرتها الصراعات المذهبيّة والنزعات الانفصاليّة وبالتالي ضرورة دخلنة الجهاد.
ـ هذا الصراع هو مظهر من مظاهر صراع أكبر هو صراع "الديني والسياسي".
ـ كان الجهاد في الإسلام معركة متعدّدة الأوجه (جهاد مسلّح - جهاد نفسيّ - جهاد جماعيّ - جهاد فرديّ - جهاد الكفّار - جهاد أهل البغي - جهاد دفاعيّ - جهاد سلميّ ...إلخ)، دفعت التاريخ الإسلامي في مختلف فتراته.
ـ الجهاد في الإسلام لم يكن محكوماً بنظريّة مسبّقة كما يدّعي الفقهاء، بل إنَّ جملة من العوامل التاريخيّة هي التي ساهمت في بلورة هذه النظريّة، وكيّفت في كلّ مرَّة قراءة المسلمين لنصّهم التأسيسيّ.
أنس الطريقي: هل يتعيّن علينا التخلّي عن مفهوم الجهاد، حتّى بدلالته الحربيّة القتاليّة، ونحن نعلم أنَّ هذه الدلالة كالدلالة النفسيّة على الصبر ومجاهدة النفس، كانت في فترات تاريخيّة معيّنة من وسائل ضمان الوجود في مواجهة قمع الدعوة المحمّديّة في بدايتها، وفي فترة تأسيسها لنواة دولة، ثمَّ في فترات التهديد المغولي للوجود الإسلاميّ، ولاحقاً في فترات المقاومة الوطنيّة؟
د. رحموني: الجهاد بدلالاته الحضاريّة هو مخزون استراتيجيّ لا غنى للمسلمين عنه. فالمشكل لا يكمن في تضمّن النصّ التأسيسيّ أو النصوص الفقهيّة لمفهوم الجهاد بدلالته الحربيّة القتاليّة، بل في أمرين متلازمين: أوّلهما إدراك المعنى "الحقيقيّ" لهذا الجهاد، وثانيهما إدراك اللّحظة التاريخيّة التي نعيشها. فلو أنَّ الدواعش أو غيرهم واجهوا الاحتلال الأمريكي في العراق مواجهة مسلّحة تحترم آداب الجهاد والحروب عامّة (عدم تعذيب الأسرى وقتلهم، عدم قتل المدنيّين أو أخذهم رهائن أو دروعاً بشريّة، عدم الفساد في الأرض... إلخ)، كما فعل المهديّ في السودان، أو الأمير عبد القادر في الجزائر، أو عمر المختار في ليبيا ...إلخ، لكانوا مناط فخر شباب المسلمين في ما يقومون به. ولو أنَّهم أدركوا أنَّ العالم قد تغيّر، وأنَّ الإبستيميّة القديمة التي نشأ فيها الجهاد قد انتهت (تقسيم المعمورة إلى دار إسلام ودار حرب، وتكفير المخالفين في الدين وفي المذهب...إلخ)، لما كانوا عرضة للاتّهام بالتعصّب والتكفير والإرهاب.
أنس الطريقي: أين ترون الحلول للخروج من معضلة الجهاد الإرهابيّ؟ هل هي في القراءة، أم في الذهنيّة الإسلاميّة، أم في الوضع التاريخي العالمي، خاصّة في مستواه الجيوسياسيّ؟
د. رحموني: يتعلّق الأمر مبدئيّاً، بكيفيّة التعامل مع التراث. ما زلنا لم نستنفد كلّ إمكانيّات تراثنا. لقد غلبت الخطابات المتسرّعة الداعية إلى القطيعة مع التراث، والتي تحمّله مسؤوليّة تخلّف المسلمين...وهي لا تختلف عن الخطابات التقليديّة الكسولة والتمجيديّة. في الحالتين هناك بحث عن إشباع نفسيّ. وهذا ما نسمّيه غلبة الإيديولوجيّ على المعرفيّ. لذا فإنَّ المطلوب هو عدم الركون إلى السائد من الأفكار التراثيّة، فما ساد وانتشر هو مجرَّد فكرة من جملة أفكار أخرى كثيرة يختزنها التراث. وإذا ما أحسنّا قراءة تراثنا، فإنَّ ذلك سيكون دافعاً قويّاً نحو تحديث مجتمعاتنا وإخراجها من التخلّف، فالمجتمعات المتخلّفة، كما يقول جاك بيرك، هي المجتمعات غير المدروسة. وعندها سنكفّ عن أن نكون ضحايا للأوضاع التاريخيّة العالميّة.
أنس الطريقي: هل نحتاج إلى نظريّة في الجهاد في الوقت الرّاهن؟ كيف تتصوّرون مبادئها الكبرى في ظلّ المساعي الإسلاميّة والكونيّة لتأسيس السلم الكونيّ؟ وكيف يمكن أن تكون آليّات تحقيقها على أرض الواقع؟ هل هي تربويّة، أم أخلاقيّة، أم سياسيّة...؟
د. رحموني: بالتأكيد نحن في حاجة إلى نظريّة في الجهاد، نسترجع بها المعنى الأصيل لهذه "الفريضة الغائبة". وأعني بالمعنى الأصيل المعنى الأوّل الذي تضمّنته أوَّل آية دعت إلى الجهاد، وهي الآية الثانية والخمسون من سورة الفرقان: "فَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً". في هذه الآية دعوة للرسول بأن يجاهد الكفار بالقرآن، فبعد أن طالب المشركون الرسول بمعجزات ماديّة لتصديقه (الآيات 6-7-8)، اشتكى الرسول إلى ربّه "وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يٰارَبِّ إِنَّ قَوْمِي ٱتَّخَذُواْ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ مَهْجُوراً" (الآية 30)، فكانت الإجابة واضحة: لن نهبك يا محمّد معجزات ماديّة، ولن نرسل معك وزيراً كما فعلنا مع موسى (الآية 35)، ولن نرسل معك رسلاً أخرى لمؤازرتك (الآية 51)، لذا عليك بذل كلّ ما في وسعك وطاقتك، لإقناع الناس بتعاليم القرآن، فهو معجزتك الخالدة. لذا فإنَّ قراءة جديدة ومتجدّدة للقرآن كفيلة بجعل المسلمين عنصراً فاعلاً في بناء السلم الكوني.