محمد المزوغي: الفكر الفلسفي لا يعرف حدوداً ولا قوميات


فئة :  حوارات

محمد المزوغي: الفكر الفلسفي لا يعرف حدوداً ولا قوميات

محمد المزوغي: الفكر الفلسفي لا يعرف حدوداً ولا قوميات(*)


يُعَدّ محمد المزوغي من بين الأسماء البارزة التي أغنت المشهد الثقافي العربي ككل بدراساتها الفلسفية التي تدلّ على كفاءة على مستوى البحث الأكاديمي والإنجاز النظري. درس في روما ـ جامعة غريغوريانا (Università Gregoriana)، وحصل على شهادة التبريز في الفلسفة بأطروحة عنوانها: ميتافيزيقا السببيّة بين ابن رشد وتوماس الأكويني، وعلى شهادة التخصص في الفلسفة المسيحية (فترة القرون الوسطى)، وعلى الدكتوراه بأطروحة عنوانها: نهاية الميتافيزيقا وإحياء الخطاب الديني في فكر جياني فاتيمو. يعمل أستاذاً للفلسفة الإسلامية منذ سنة 1999 بالمعهد البابوي للدراسات العربية الإسلامية، روما، إيطاليا (Pontificio Istituto di Studi arabi e d’Islamistica).

من بين مؤلفاته:

* نيتشه، هايدغر، فوكو. تفكيك ونقد، دار المعرفة للنشر، تونس، 2004 (ركّز فيه على أطروحات نيتشه الواردة في مولد التراجيديا، وهو أول كتاب عرض فيه نيتشه أفكاره حول التراجيديا ومهمة الفيللولوجيا وموسيقى فاغنر، وسقراط الذي اعتبره قاتل الفن التراجيدي. لكن المزوغي وضع أطروحات نيتشه تحت مشرحة النقد ودمّرها من الجذور؛ الفصل الثاني تناول فيه المسألة الهايدغارية وركّز على إيديولوجيا الحرب التي تخللت أعماله؛ الفصل الأخير خصصه لدراسة تاريخ الجنون لميشيل فوكو، وهنا أيضاً أثبت أنّ فوكو لم يلتزم الحياد المنهجي، وأنّ تاريخه مملوء إيديولوجيا وعداء للعقل).

* الإيمان والعقل في الإسلام. موازنة تاريخية نقدية، حرر باللغة الإيطالية 2004. (يخطّ فيه المؤلف تاريخ الصراع بين العقل الفلسفي والعقل اللاهوتي في الإسلام).

* عمانويل كانط. الدين في حدود العقل أو التنوير الناقص، دار الساقي، 2007. (فيه فحصٌ نقدي لكتاب كانط: الدين في حدود مجرد العقل وربطه بمؤلفاته السابقة: نقد العقل الخالص، ونقد العقل العملي، مع تعريج نقدي على موقف كانط من التنوير وانعكاساته على تصوّره للدين عموماً، والدين المسيحي خصوصاً).

* العقل بين التاريخ والوحي: حول العدمية النظرية في إسلاميات محمد أركون، منشورات الجمل، 2007. (فيه جولة ضافية مُعمقة في مجمل مؤلفات أركون الرئيسة، ونظرة نقدية لإنتاجاته الفكرية واستتباعاتها العملية، أثبت فيها المزوغي أنّ إسلاميات أركون التطبيقية هي الوجه الآخر للعدمية، بجميع أشكالها: النظرية والأخلاقية والسياسية).

* منطق المؤرخ. هشام جعيط: الدولة المدنية والصحوة الإسلامية، منشورات الجمل، 2014. (دراسة نقدية لأعمال المؤرخ التونسي هشام جعيط، مع التركيز على مواقفه السياسية ومصادراته الإيديولوجية التي وجد فيها المزوغي تقارباً كبيراً بينها وبين أفكار الإسلاميين).

* تحقيق ما للإلحاد من مقولة، منشورات الجمل، 2014. (فيه صراع دامٍ مع الدين وتصوّره للإله، ونقد موضوعي وعميق لمنظومته العقائدية، مع التركيز دائماً على فكرة الله، وقد ختمه المزوغي بانتصار للإلحاد كبديل عقلاني ضد اللاعقل الديني، وكدافع مركزي في سبيل تحرير الإنسان من أسر الأسطورة والعنف الديني).

* الاستشراق والمستشرقون في فكر هشام جعيّط، منشورات الجمل، 2016 (تناول فيه علاقة بعض المؤرخين العرب مع المستشرقين وموقفهم من البحوث الاستشراقية عموماً، وحلل الانتقادات التي قدمها جعيط والاعتراضات ضد أعمالهم وضد فكرة الاستشراق ذاتها، وذلك من وجهة نظره كمؤرخ للسيرة ودارس للتاريخ الإسلامي. النتيجة التي استخلصها المزوغي هي أنّ انتقادات جعيط للمستشرقين غير موضوعية، تنقصها الدقة والكفاءة والعدّة المفهومية، وتطغى عليها المسلمات الإيديولوجية الإسلاموية، وبالتالي فهي قصر من ورق).

المهدي مستقيم: كيف تقدّم نفسك للقارئ العربي؟

محمد المزوغي: مُثقف تونسي مقيم بإيطاليا، وُلد وعاش وسَيَموت، له بعض الهموم المعرفية عبّر عنها من خلال كُتبه ومقالاته، عرَضَها على القرّاء العرب، البعض منهم ارتاح لها وثمّنها إيجابياً، البعض الآخر رفضها وانتقدها، وهذه هي دورة الفكر وسُنّة الثقافة.

المهدي مستقيم: مَكّنتك إقامتك الطويلة في إيطاليا من الاحتكاك بالفكر الغربي والتواصل المباشر مع ألمع أسمائه. هل لك أن تحدّثنا عن هذه التجربة؟

محمد المزوغي: لا أريد الخوض في الأمور الشخصية، ولكن بما أنّ الأمر يتعلّق بتكويني الفكري فلا بأس من التعريج سريعاً على هذه النقطة. ربما كنت محظوظاً نوعاً ما لأنني صادفتُ في تلك الفترة أساتذة ذوي كفاءة علمية عالية، فانتهزتُ الفرصة لكي أنهل منهم وأحتكّ عن قرب بأفكارهم وأتعمّق في المسائل الفكرية منوّعاً من مصادري الفلسفية. لقد درستُ شيلّينغ (Schelling) مثلاً على أيدي أكبر متخصص في فلسفته: الفرنسي كسافيي تيليات (Xavier Tilliette)، صاحب المؤلف الضخم (في جزأين) بعنوان "شيلينغ: فلسفة في تحوّل" (Schelling. Une philosophie en devenir, t. I, Le Système vivant, 1794-1821, t. II, La Dernière Philosophie, 1821-1854,)، أذكر كيف كان هذا الرجل الثّمانيني يختم السيمينار بالكلمة الفصل، ويقوم بحوصلة دقيقة للمقاطع التي هي موضوع الدرس من نصّ شيلينغ الشهير "جوهر الحرية الإنسانية". ومن بين أساتذتي المؤطِّرين هناك الفيلسوف البلجيكي بول جيلبار (Paul Gilbert)، الذي كان يُبهرنا بتحاليله الثاقبة خلال كل درس من دروسه؛ استمتعتُ أيضاً بالتعمّق في فلسفة هايدغر على أيدي فلاسفة ألمان متخصصين مثل كارل هوبر (Karl Huber)، وآرمين شفيباخ (Armin Schwibach)، حيث قرأنا مع هذا الأخير، لمدّة سُداسي كامل، "الوجود والزمان"، وتناولنا هذا العمل بالشرح والتحليل في مباريات تأويليّة شائقة بين الطلبة والأستاذ. فضلاً عن الفلسفة اليونانية القديمة التي كنتُ شغوفاً بها، وكان أستاذي في تلك المادة الأمريكي كيفين فلانيري (Kevin Flannery) من جامعة أكسفورد الذي له دراية عميقة بالفلسفة الكلاسيكية، وخصوصاً أرسطو، وكان يُتقن اللغتين اليونانية واللاتينية بصورة مذهلة، وقد تتلمذ هو بدوره في أكسفورد على أيدي واحد من أكبر المتخصصين في الفلسفة القديمة، جونتان بارنس (Jonathan Barnes). كنا نتناول كتاباً من كتب أرسطو، ونقوم بشرحه فقرة فقرة، وجملة جملة، كانت تمارين فكرية ممتعة وبنّاءة. وبالجملة الاحتكاك بهذه العقول كان له تأثير على مساري الفكري، ومَنحني حافزاً لكي أنهل منهم أكبر قدر من المعارف والخبرات، والغوص في الفكر الفلسفي بكل ما أوتيت من جهد.

المهدي مستقيم: أين وصلت العلاقة الصراعية بين العقل والدين في الثقافة العربية الإسلامية؟

محمد المزوغي: ليس هناك صراع بين العقل والدين، هذه الثنائية مُفتعلة كمثيلاتها من الثنائيات الأخرى عقل/ إيمان، قانون موحى/ قانون بشري وضعي، حقيقة/ضلال، صواب/ خطأ، خير/ شرّ، معنى مجازي/ معنى حقيقي، وهذه الثنائيات هي الآن في طريقها للامّحاء والتجاوز. هذه أطروحة أركون ومدرسته، وقد تمسّك بها في مجمل كتاباته وسرّبها إلى أتباعه. لكنها وإن كانت فعالة من الجانب الخطابي العاطفي فهي غير مُقنعة فكرياً، وفاقدة لأيّ معنى من الجانب الفلسفي. إنها أطروحة عدمية كسولة، لأنها تُقصّر الطريق على الباحث وتُغنيه عن التحقيق الجدّي في المسائل الفكريّة الهامّة. الحقيقة هي أنّ الثنائيات موجودة وثابتة ولا يمكن الاستهانة بها. هناك صراع حادّ بين العقل والدين: أن تكتشف قانوناً طبيعياً ليس كما تؤمن بالخوارق والجن والعفاريت والحصان المجنّح الذي يسبح بين النجوم، الشريعة والقانون الوضعي في تضارب تامّ: بين بتر عضو شخص ما أو جلده في الساحة العامة أو تعنيفه لأنه لم يؤدّ فريضة دينية، وبين قانون وضعي مُتعالٍ عن الهموم العقائدية يحفظ كرامة الإنسان ولا يمسّ من صحّة أعضائه، هناك بون شاسع بين الصواب والخطأ، هناك حاجز لا يمكن تجاوزه: أن تقول إنّ الشمس هي التي تدور حول الأرض، كما يزعم أحد الأئمة الوهابيين، فهذا خطأ فاقع، أمّا العكس، أي أنّ الأرض هي التي تدور حول نفسها وحول الشمس فهذا صواب لا يمكن أن يبدّله أي كتاب دين أو شيخ؛ كذلك الأمر بين الخير والشرّ، أن يفجّر أحدهم نفسه لكي يقتل أكبر عدد من الأبرياء فهذا عمل شرّير في أقصى مراتب الشرّ، لكن أن تُشفي شخصاً من مرض عضال أو تخترع دواء ينفع البشرية فهذا عمل خيّر في ذاته ولذاته. هناك خدعة في عملية تعويم الثنائيات، من حيث إنّ القائلين بها لكي يُنقذوا الدين من براثن النقد العقلاني التهديمي فهم مستعدّون لأن يتخلوا عن أبسط قوانين المنطق والعلوم الصحيحة.

المهدي مستقيم: هل تعتقد أنّ مجتمعاتنا في حاجة إلى حوارات عميقة بين العقل الإيماني والعقل العلماني، مثل تلك التي جمعت الفيلسوف هابرماز بالبابا راتسنغير، وأمبيرتو إيكو بالكاردينال كالرو ماريا مارتيني؟

محمد المزوغي: حوارات جيّدة لو أنها ساهمت مساهمة فعالة في إجلاء الالتباس النظري، أو أثمرت شيئاً ملموساً ونافعاً للطرفين؛ لكنها أحدثت بلبلة في أذهان المتابعين للشأن الديني، واستياء بين الفلاسفة العقلانيين. فعلاً لقد تساءلتُ عشرين مرّة: كيف يمكن لفيلسوف مثل يورغن هابرماز، سليل مدرسة فرانكفورت اليسارية، أن يتخذ في المدة الأخيرة مواقف فكرية ذات منحى لا عقلاني رجعي؟ أن يشهد تفكيره منعرجاً دينياً خطيراً، الأمر الذي ولّد لدى جلّ متابعيه العقلانيين نوعاً من الذهول والاستياء، وعلى العكس من ذلك أثار موجة فرح وابتهاج وترحيب وتطبيل بين مؤمني الأديان، خصوصاً من المسلمين والمسيحيين. لكنني بالعودة إلى أعمال هابرماز اكتشفت أنّ هذه المواقف ليست جديدة كلّ الجدّة، وإنما كان قد عبّر عنها، على شكل جُرعات طفيفة وعابرة، في بعض مؤلفاته السابقة. وقد أعلن منذ التسعينات من القرن المنصرم عن موقف مبدئي، خرج في مؤلفاته الأخيرة إلى العلن بصيغة أكثر حدّة. قال في مداخلته التعالي من الداخل (1988): "أعيد وأكرّر: "ما دامت اللغة الدينية تحمل في ذاتها مضامين دلالية مُوحِيَة لا بل حاسمة، والتي (إلى حد اللحظة) تَتمنّع عن الخضوع للقوّة المعبّرة للغة فلسفية، وتنتظر ترجمتها إلى خطابات مؤسِّسة حتى في شكلها ما بعد الحداثي، فإنّ الفلسفة لا يمكنها لا تعويض، ولا حتى إزالة الدين". الرسالة واضحة جداً: الفلاسفة العقلانيون مهما فعلوا لا يمكنهم إنتاج بديل للدين ولا الإطاحة به كليّاً. ليس هذا فقط، بل في مجموعة المقالات التي نشرها تحت عنوان "التفكير ما بعد الميتافيزيقي" على عكس ما قاله (باحتشام) في كتاب "نظرية الفعل التواصلي" من محاولة استبدال الدين بأخلاق تواصلية، قام هنا بخطوة غير متوقّعة وتحدّث عن ضرورة تمثّل الخطاب الديني، لا بل إنه يصرّح بشيء مدهش، استبق به أطروحات اليمين الديني الذي يركز على مسيحية أوروبا وارتباطها بالإرث اليهودي المسيحي. قال: "إننا نحن الأوروبّيين لا يمكننا حقاً أن نتقبّل مفاهيم من قبيل الأخلاق والإيثيقا، الشخصيّة والفرديّة، الحرية والتحرّر ...، من دون تمثّل جوهر فكر تاريخ الخلاص المشتقّ من اليهودية ـ المسيحية". ودائماً على المنوال نفسه وفي الكتاب نفسه يرى أنه دون وساطة اجتماعية وأيضاً دون تحوير فلسفي من طرف دين عالمي كبير، ربما في يوم ما هذه الطاقة الدلالية ستبقى مغلقة عنّا. الفلسفة لا تستطيع أن تُغطّي على الدين أو تزحزحه من مكانته، وهذه فكرة رجعيّة تحريفية، يكرّرها المُتديّنون في جميع الملل. لكن أن تصدر من فيلسوف "عقلاني" "تنويري" فهذا أمر يثير تساؤلات عن مدى جدّية ومصداقية قائلها. حتى لغة الدين بالنسبة لهابرماز تحمل في ذاتها قوة بيانية كبيرة وتحافظ على حقها الذاتي، وسيبقى الأمر كذلك ما دمنا غير قادرين على إيجاد لغة أكثر إقناعاً للتعبير عن التجارب والتجديدات المخزّنة فيه. إنّ ثقة هابرماز في قدرة الدين على إضفاء معنى للحياة لم تخبُ منذ تسعينات القرن الماضي، ورغم استخدامه لمصطلحات مُمعنة في التجريد فإنّ ماهية أفكاره يمكن إدراكها إن نَقّيناها من قشرتها التجريدية. إنه موقف غريب جداً، فيه خنوع للدين بصورة رجعية، وتملّص حتى من إرث التنوير. والدليل على ذلك أنه بعد أن قدّم للمجتمع الفلسفي نسقاً متكاملاً إلى حد ما عن نظريته الفلسفية لفعل التواصل، فهو يصحّح معلومات نقاده، أو بالأحرى يحذر كل من اعتبره، من قرّائه الماركسيين الملحدين، علمانياً مناهضاً للرجعية الدينية، أنّ العقل التواصلي لا يعني معارضة الدين ولا سحب البساط من تحت أقدام اللاهوتيين والإكليروس. هابرماز يحدّد بدقة صلوحيات فلسفته: "العقل التواصلي لا يتحقق في نظرية إستيتقية، مثل صفيحة اللون السلبي للأديان المُعزّية. فهو لا ينشد العزاء لعالم تخلى عنه الله، ولا يعطي لنفسه الحق لكي يكون بطريقة أو بأخرى عزائياً. فهو يتخلى حتى عن وضعيته الاستثنائية. وبما أنّ العقل التواصلي، في وسط الخطابات التأسيسية، لا يقدر على إيجاد عبارات أفضل مما يستطيع أن يقوله الدين، فهو بالتالي سيتعايش معه، متخذاً موقفاً محايداً، دون مساندته أو محاربته". لقد أعجبت هذه التخريجة اللاهوتيين وارتكزوا عليها للذهاب أبعد من خيار هابرماز مقترحين عليه تضامناً بل عملاً مشتركاً. هل توجد كلمات أفضل من هذه؟ يتساءل إيدموند آرنس أحد اللاهوتيين الألمان بعد أن قرأ عبارات هابرماز هذه. "السؤال مفتوح وموجّه إلى هابرماز أيضاً. العقل التواصلي يتعايش مع الدين بل وحتى مع اللاهوت. هل بالإمكان التّعاون؟ هناك مجموعة من اللاهوتيّين المستعدين لذلك". وفعلاً، حوار هابرماز مع راتسينغر، ومن قبله مع اللاهوتي مِيتْز، جاء كتتويج لهذا المنحى الملتبس في فكر هابرماز: نصف لاهوتي ونصف فلسفي، لا مع ولا ضدّ، وكلنا نعلم أنّ الفلسفة لا تتعايش مع الدين، وليست محايدة إزاءه، بل مهمتها هي تدميره والقضاء عليه باعتباره آخر معقل من معاقل الرجعية والتخلّف والجهل والعنف.

المهدي مستقيم: هل يمكن نعت مقاربتك للظاهرة الدينية بالعلمانية أو اللا إيمانية أو الإلحادية؟

محمد المزوغي: مقاربة عقلانية مَبنيّة على معطيات موضوعية وعلى فحص نظري في هذه الظاهرة وملابساتها. لمعرفة هذه الظاهرة الدينية يجب الإلمام، قدر الإمكان والطاقة، بمختلف جوانبها التاريخية وتشكلاتها الأسطورية والتغيرات التي طرأت عليها والاستعارات التعاليمية التي استقاها كل دين من الآخر، وأقصد بالتحديد الأديان التوحيدية الثلاثة. وهذا ليس من باب الترف الفكري وإنما وقاية للمفكر في جهده النظري كي لا يقع في تعميمات متسرّعة وتبسيطات مخلّة، أو يصدر أحكاماً قيمية غير مُدعّمة بما يكفي من الوقائع التاريخية والتحليلات النظرية المناسبة.

المهدي مستقيم: كيف يتم التعامل الآن مع مثل هذه المقاربة للظاهرة الدينية في الثقافة العربية الإسلامية؟

محمد المزوغي: أظن أنّ هناك عدداً قليلاً من المفكرين العرب الذين تجرّؤوا على القيام بمقاربة نقدية للدين الإسلامي، كان ذلك في فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي (نذكر مثلاً "الثالوث المحرّم" لبوعلي ياسين)، لكنْ إثرها بقليل بدأ الخطاب يتغيّر ويأخذ ملمحاً إسلاموياً مُتخفّياً، خصوصاً مع الجابري وأركون وأتباعهما، وتحوّل من خطاب عقلاني علماني ومن مطلب تحقيق مبادئ التنوير لخلق مجتمع متحرّر من أسر الدين، إلى كيفية التعامل مع التراث الإسلامي، ووفق أيّة شروط يمكن أن نتحدّث عن عقل إسلامي، وما هي خاصياته ومحدداته؟ وما العناصر التي يمكن أن نقبلها من تراثنا والتي يجب أن ننبذها ونستبعدها؟ وهكذا رجعنا إلى نقطة الصفر، ولمدة أربعين سنة سقطنا في دوامة إشكالات لم نخرج منها أبداً. زد على ذلك أنّه في اللحظة التاريخية الراهنة، ومع عودة الإسلاميين إلى الصدارة، نلاحظ تراخياً فكرياً مذهلاً من طرف المثقفين الذين من المفروض أن يدافعوا عن العقل ضد التجليات الأسطورية، وأصبح المشهد سورياليّاً حقاً، إذ أننا نرى مفكرين علمانيين لم يكن لهم حتى عهد قريب أية علاقة باستيهامات الأديان، (البعض، لكي لا أعمّم)، وإذا بهم قد ركبوا ركاب المنافحة وأصبحوا من أكبر المدافعين عن الدين، وأشرس من يذبّ عنه في كل المحافل ويُحسّن من صورته مُقلّلاً من شأن التعارض بينه وبين متطلبات العقلانية الحقة، لا عقلانية، "نعم ولكن". منعرج في رأيي لا ينبئ بخير.

المهدي مستقيم: ما العوامل الفكرية والتيارات الفلسفية؟ ومن هم الفلاسفة الغربيون الذين ساهموا حسب رأيك في هذا المنعرج؟

محمد المزوغي: ربّما الثنائي نيتشه ـ هايدغر قد ساهما بقسط كبير في هذا الشأن. ولا ننسى البعد اللاعقلاني لفلسفة نيتشه، وهو بيّن منذ كتاباته الأولى، وأقصد مولد التراجيديا، حيث عبّر هناك عن موقفٍ معادٍ للعلم الوضعي وللعقلانية بصورة جلية، قائلاً إنّ التفكير السّببي الذي يدّعي الوصول إلى أغوار الوجود وأعماقه، والقدرة، ليس فقط على معرفة الأشياء بل على تقويمها والتأثير فيها، هو وهم ميتافيزيقي. أمّا هايدغر فالجميع يذكر قولته الشهيرة إنّ العلم لا يفكر، حتى وإن خفف من حدّتها قائلاً إنّ العلم لا يفكر في مبادئه ومعطياته الأولى لأنه يقبلها كمسلمات. ولكنّ مفعول هذه القولة مدمّر جداً، وصداها لم يخفت بعد، فهي استفزازية محبطة، تلعب على الكلمات وتنتهج الغموض للتحقير من العلم، ومعه كل مكونات الحداثة، من تنوير وعقلانية وفيلولوجيا نقدية... إلخ. والدليل على ذلك أنّ الرجل لم يتزحزح عن موقفه هذا، بل ذهب أبعد من ذلك وضرب العلماء في أشخاصهم قائلاً بالحرف: إنّ العلم هو "نفي لكل معرفة، ولذلك فإنّه لا أحد من الحكماء يَكنّ مشاعر الحسد تجاه العلماء ـ أحقر عبيد العصر الحاضر (die erbärmlichsten Sklaven der neuesten Zeit)"، وقد جاء هذا الكلام في دروسه بعنوان (المسائل الأساسية للفلسفة، ج. 45، من أعماله الكاملة، الصفحة 4). لماذا يصبّ فيلسوف ألماني جام غضبه على العلماء في تلك الفترة بالذات حيث اكتشف آينشتاين نظرية النسبية المذهلة، وأخذت تتمتّن النظرية الذرية عن طريق تجارب مخبرية حاسمة وتتوسع معارف الإنسان بالكون ومكوّناته الكبرى والصغرى؟ لأنّ هايدغر لاهوتي، وهو نفسه الذي يقرّ بذلك "أنا لاهوتي مسيحي" (ich bin ein christlicher Theologe)، ومن لاهوتي مسيحي أو إسلامي أو يهودي لا يمكن أن تنتظر تثميناً للعلم أو إشادة باكتشافات العلماء. إذا كان العلم هو نفي للفكر فما هي البدائل أمام هذا الخراب؟ الأسطورة والدين. الأسطورة لا تُنافي العقل، هكذا في رأي هايدغر، وهي ليست تصوّراً خاطئاً للعالم ولا تأويلاً يمكن الكشف عن زيفه باستخدام المفاهيم الفيلولوجية النقدية، بل إنّ الاعتقاد في أنّ الأسطورة (μυθος) وقع تحطيمها من طرف العقل (λογος)، هذا الاعتقاد هو مجرّد فكرة مسبقة اعتمدها التاريخ النقدي والفيلولوجيا، كلها مستمدة من عقلانية التنوير الحديثة. الأسطورة، بما أنها انفتاحُ عالمٍ ما، هي دائماً في الصواب. وفي هذه الحال، وطبقاً لمنطق هايدغر، ليس لدينا الحق في الحديث عن زيف الأسطورة، وإنما عن صيغة مختلفة لتجربة الحقيقة، التي تتشكل في الأسطورة بحسب جدلية المقدّس والمدنّس. ليس الأسطورة فقط وإنما الدين أيضاً يبقى صامداً أمام أي فكر علمي وأي منطق، ذلك أنّ "ما هو ديني لا يمكن القضاء عليه بالمنطق"، فهو آلة ضعيفة لا تفلّ في الدين أبداً. وهكذا مع هايدغر انتصر الدين والأسطورة على المنطق والعقل، لا أبالغ وإنما كلّ هذا نقرأه في كتبه ودروسه، والكلمات الأخيرة نجدها في كتاب (مجموعة محاضرات: ما معنى التفكير؟).

في الثلاثينات من القرن الماضي وفي أحد دروسه ذهب أبعد من ضرب العلم، تصدّى لكل من يقول في الأسطورة كلمة سوء. قال مستنكراً: "بأيّ حق نُقرّر هكذا بكل تسرّع أنّ الأسطورة هي خرافة؟ (mit welchem Recht dekretieren wir einfach, der Mythos sei Aberglaube?)". فهو لا يرضى حتى بأن نصف الأسطورة بأنها خرافة، لأنّ في ذهنه ليس هناك من فارق نوعي بين العلم والأسطورة، والعلم لا يسمو على الأسطورة من حيث قدرته التفسيرية: "إذا سلمنا، أو بالأحرى، إذا فهمنا في العمق أنه حتى في الأسطورة تكمن حقيقة أصيلة، إذن بكل وضوح، لن يبقى هناك أي فارق بنيوي بين حقيقة ما قبل علمية (يعني أسطورية) وحقيقة علمية، ولكن بينهما يوجد فقط اختلاف في الدرجة ـ اختلاف راجع إلى واقع أنّ في المعرفة العلمية، هناك أكبر عدد من المفاهيم والعناصر الفردية محددة بطريقة أكثر دقة، فضلاً عن أنها في مجموعها، مفسرة بأكثر فعالية".

لكن في نظر هايدغر كلّ هذه الخصائص الفائقة وكلّ القدرة التفسيرية والتنظيمية لا تشفع للعلم ولا تُعلي من شأنه، لأنّ العلم لا يحدد الموضع الذي تبدأ منه الحقيقة العلمية والتي تنتهي فيه ما قبل العلمية. ذلك أنّ حقيقة الأسطورة أيضاً لها ميزة الوحدة التنظيمية، وقوّتها تنبع من أنّ كل عناصرها موحدة في نسق محكم، بينما في العديد من المعارف العلمية وَفْرَة المعطيات تجعلنا نغفل عن حقيقة الكائنات.

وبالجملة، في عرف هايدغر، وأستشهد بكلامه حرفياً من خلال درسه (مدخل إلى الفلسفة 1928) "الحقيقة العلمية ليست هي الوحيدة ولا الأعلى (die wissenschaftliches Wahrheit weder die einzige noch die höchste)". تصوّروا الكارثة الفكرية التي نحن بصددها، تصوّروا كم هو خطير هذا الكلام، وكم سيسعد به كل عقل مهووس بالدين وناكر لأفضلية العلم على الأسطورة، بل أكثر من ذلك كم كان سيسعد به أركون ومَن والاه؟ فعلاً، ألم يقل أركون إنّ الأسطورة لها مشروعيتها، وإنّ المقدّس لا يُمسّ؟ لكنّ أركون اتّبع أنثربولوجيا ليفي شتراوس المنحدرة من لاعقلانية نيتشه وهايدغر والتي صُدّرت للفكر الفرنسي في السبعينات وهبّ ريحها على شمال إفريقيا، حيث شهدت هناك رواجاً كبيراً بين المثقفين. وهكذا نرى كيف أنّ الدائرة أغلقت، وعُدنا إلى نقطة البداية: نيتشه ـ هايدغر ـ ليفي شتراوس (فوكو، دريدا، دولوز)، محمد أركون، محمد عابد الجابري، وصولاً إلى المفكرين المحدثين، وأخيراً الالتقاء في بؤرة الوهابية، أي النزول إلى قاع الجحيم دون الأمل في الخروج منه بتاتاً. لا تظنوا أني أبالغ، بخصوص الأسطورة هناك موقف واضح وصريح من طرف أركون عبّر عنه في مُجمل كتبه، ونجده حرفياً في كتابه "الفكر الاسلامي قراءة علمية"، حيث يقول ما معناه "إنّ إعادة الاعتبار للفكر الأسطوري، في الغرب، تمثل ردّ فعل على مرحلة الانتصار المتطرّف للعقل التكنيكي، المركزي ـ المنطقي، والوضعي (في القرن التاسع عشر وحتى منتصف هذا القرن). هكذا يبدو أنّ زمننا الراهن يمتاز بأنه يعترف، وللمرّة الأولى، بالأسطورة كأسطورة، وإدخالها مع كل قيمها الإيجابية (الواقعية) ضمن إطار معرفة تعدّدية. يسمح لنا هذا الوضع المعرفي الجديد، بأن نفهم كيفية اشتغال الفكر الديني، دون أن نضطر إلى معاكسته بالرفض الاعتباطي للعقل المنطقي ـ المركزي". وهكذا مع أركون أيضاً فإنّ أعزّ ما يملكه الانسان: العقل المنطقي خرج خاسئاً أمام الأسطورة.

المهدي مستقيم: سجلت في بعض كتاباتك مجموعة من الفراغات والبياضات في مشروع محمد عابد الجابري ومحمد أركون وهشام جعيط سواء على مستوى المنهج أو على مستوى المادة المدروسة. هل لك أن تذكر لنا بعضها؟

محمد المزوغي: على ما استقيته من مؤلفاتهم، حاولت أن أناقش كتابات هؤلاء المفكرين بحكم انتمائهم إلى تيارات فكرية غير إسلاموية يعني أنها تتّسم، أو هكذا يُزعَم، بالعقلانية التنويرية والعلمانية، اخترتهم دون غيرهم لأنّ الجِهة المقابلة، يعني الإسلاميين ليس لهم فكر ولا عقل، يردّدون ويلفقون أفكارهم من هنا وهناك وغرضهم ليس علمياً وإنما إيديولوجي ظلامي. لقد تربّينا على كتابات هؤلاء المفكرين وكانوا لنا قدوة في فترة تاريخية ما، ولكن بعد مراجعة عميقة لما كنت قد قرأته، تبيّن لي أنّ الأمر ليس كما كنت أعتقد، وتبخّرت كل الآمال التي علقتها بهؤلاء. محمد عابد الجابري مثلاً يتحدث في كتابه: تكوين العقل العربي عن "المعقول" الديني مقابل "اللامعقول" العقلي، وهو فصل عقده تحت هذا العنوان بالذات في كتاب "تكوين العقل العربي". أين يتجلّى هذا المعقول الديني؟ في التوحيد القرآني على عكس التعدد الوثني، ولو تابعت هذا الفصل بعين ناقدة لرأيت كيف تسري أمامك كل المكوّنات الأسطورية الدينية وإلصاقها صفة العقلانية. أنا أرى أنّ هذا تسويق للوهابية، لأنّ خطاب الوهابية مبنيّ كله على إشكالية التوحيد، وعلى تكفير الأديان الأخرى، خصوصاً اليهودية والمسيحية، وصولاً إلى الفرق الإسلامية ذاتها من شيعة ومتصوّفة، وفعلاً الجابري في ثنايا خطابه، يدين هو أيضاً، وراء ثوب التحليل العلمي، التصوف والتشيع. أركون أيضاً لم أرَ أنه يساعد على فهم دقيق للتنوير والعقلانية أو حتى العلمانية، لم يتخذ موقفاً واضحاً وصريحاً من الحركات الإسلامية التي كانت في فترة تعيث في البلاد فساداً، بل إنه أبدى في بعض الأحيان تعاطفاً معها، حيث قال بكل أريحية في إحدى حواراته: "أنا لا أسمحُ لنفسي أن أجدّف بِدِينيّة جماعات، في حقيقة أمرها، هي قوى اجتماعية تريد أن تنال حقوقها الاقتصادية والسياسية في المجتمع". رغم نهر الدماء ورغم الخراب الذي سبّبته تلك الجماعات في العشريّة الدموية بالجزائر، فإنّ الرجل يملك الجرأة للقول إنها قوى اجتماعية ترغب في نيل حقوقها الاجتماعية.

أمّا جعيّط فاعتراضاتي تخص ليس فقط الجانب النظري من تفكيره، فهو نفسه يرى أنّ العقلانية والإنسانوية أصبحتا أضحوكة، وهذا بالنسبة إليه عنوان تقدمية في التفكير حتى في الغرب ذاته، حيث يقول إنّ "المثقف التقدّمي يضحك من كلمة "عقلانية"، كما غدت كلمة "نزعة إنسانية" في الفكر تعني بالكاد السخافة لا أكثر"، ليس هذا فقط، بل إنه منذ الثمانينات أشاد بالثورة الإيرانية، وحديثاً أيضاً أشاد بالإسلاميين، وآخر أطروحاته هي أنّ الإرهابيين الإسلاميين لهم قضية يدافعون عنها، أمّا المهاجرون الذين يرمون بأنفسهم في البحر للوصول إلى أوروبا فهم تعساء مغيّبون، لا قضية لهم ولا مبادئ. وهذا الأمر مكتوب أبيض على أسود في حوار أخير نشر بجريدة العربي الجديد. أنا لا أدري هل هذا تَجميلٌ للإرهاب أم تحبيب فيه أم دعوة للالتحاق بصفوفه؟

المهدي مستقيم: إلى أي حد يمكن الحديث عن فلسفة عربية؟

محمد المزوغي: نعم يمكن التحدث عن فلسفة عربية، وعن فلاسفة عرب محدثين، ويمكن حتى تصنيف مواردها واستعاراتها: فلاسفة شمال إفريقيا، بحكم التراكمات التاريخية والثقافية، أغلبهم ملتصقون بالمدارس الفرنسية (تفكيكية دريدا، أركيولوجيا فوكو، دولوز، تاريخ الحوليات)، وحتى إن توجّهوا إلى فلاسفة ألمان (نيتشه، هايدغر، هابرماز) أو إيطاليين (جياني فاتيمو، ماوريسيو فيراريس، إمبيرتو إيكو) فالأغلب أنّ ذلك يتم من خلال ترجمات فرنسية وتأويلات فرنسية. لا أقول إنّ الفلاسفة العرب يُردّدون أطروحات الفلاسفة الغربيين دون تروّ أو نقد، فهذا تجنّ على أجيال من المفكرين الصاعدين. الفكر الفلسفي لا يعرف حدوداً ولا قوميات، فهو كلّي وشامل، وبالتالي لا نعيب على أيّ مفكر الالتجاء إلى أنظمة فكرية غربيّة واستمداد موارده ومناهجه سواء لقراءة نصوص التراث أو لتفعيلها في واقعنا العربي.

المهدي مستقيم: هل تحرّر المثقف العربي مادياً حتى يتحرر فكرياً في النظر إلى الظاهرة الدينية، وبالتالي إعمال العقل بكل مصداقية؟

محمد المزوغي: أكثر ما يضرّ بالمفكّر، ليس في العالم العربي فقط، بل في كل ثقافة وفي كل قوميّة، هو ركوبه على الأحداث وانسياقه مع التيار الجارف سواء لأسباب مصلحية أو سياسية أو إيديولوجية، بالمعنى الماركسي للكلمة. هذا يعتبر استقالة عن التفكير، بعبارة لائقة، أمّا بعبارة مباشرة فهو خيانة لدور المثقف المهموم ليس فقط بإنتاج خطاب عقلاني علمي على المستوى المعرفي البحت، بل أيضاً على مستوى الواقع الراهن لتنوير الأجيال الجديدة، والحثّ على التفكير النقدي وعدم الركون إلى المسلمات السائدة.

المهدي مستقيم: ما هي في نظرك الأسباب التي أدّت إلى تفشي السلفية بهذا الشكل المهول في المجتمعات العربية المعاصرة؟

محمد المزوغي: التيارات الإسلامية عموماً (الإخوان المسلمون؛ السلفية ومُشتقّاتها) نعرف جيداً تاريخها، وحياة مؤسسيها، ونملك شهادات قيّمة ممّن كانوا ينشطون داخلها، ولدينا اعترافات موثقة، آخرها لواحد من مؤسسي تنظيم القاعدة سابقاً، نبيل نعيم، الذي أثبت بأدلة قاهرة أنّ هذه المنظمة تستقبل أموالاً من الخارج، وأنها تُقدّم خدمات جليلة للغرب (الكافر في العلن، ولكنه الصّديق الحميم في السرّ). منظمة إرهابية ذات نظرة قروسطية، مُخاتلة، رجعية، إقصائية، ولكن الأخطر من ذلك أنها عَمِيلة، وتتآمر مع المخابرات الغربية، علناً أو في الخفاء، لديها مشروع ثابت: تجزئة العالم العربي، تدمير بناه التحتية، تشويه تركيبته الاجتماعية، خلق نعرات طائفية، والانتهاء بحرب أهلية طاحنة تأكل الأخضر واليابس. إنها كارثة إنثربولوجية بأتمّ معنى الكلمة، أينما حلّ الإسلاميون وفي أي بلد، فكن متيقّناً من أنّ الدمار سيحلّ فيه لا محالة، وأنّ العنف سيستفحل، وسيَستشري في أوساط المجتمع النفاق والكذب والأمراض النفسية والجنون، وسيدبّ الانقسام في كلّ مفاصله. ونحن نرى هذا الأمر يعتمل أمام أعيننا في تونس، البلد المُسالم الجميل الذي ما إن حلّ فيه الإسلاميون، ودون انتظار طويل ودون مسبّقات، حتى دبّت فيه البلبلة واشتغلت آلة الخراب: فإذا بالخطاب الاجتماعي تغيّر إلى خطاب عقائدي، وأصبح المجتمع التونسي منقسماً إلى مؤمنين وكافرين، مصلّين وتاركي الصلاة، صائمين ومفطرين؛ النقاش المحموم حول إدراج بند الشريعة كمصدر للتشريع في الدستور، بعد أن كانت تونس دولة علمانية (نسبيّاً)، لا ذكر في دستورها صراحة للشريعة. الإسلاميون وفي أي بلد دخلوه لا يرضون إلا بالشريعة، لا يرضون إلا بالجهاد في كل بقاع الأرض، ما عدا في إسرائيل. وليس من سبيل المصادفة أنه مع الإسلاميين أُسْدِلَ ستارٌ سميك على الصراع العربي الإسرائيلي، لن تسمع أبداً في خطاباتهم كلمة عن الفلسطينيين وعن معاناتهم اليومية تحت نير الاحتلال الصهيوني. إنّ أكبر خطر يهدد المجتمعات العربية الحالية مصدره الأول والمباشر هو الإسلاميون، هو برنامجهم القروسطي، هو عَمَالتهم الواضحة الصريحة، دون أن ننسى تأييدهم ودعمهم اللامشروط من طرف السياسة الغربية الانتهازية. المفكر العربي الواعي يجب أن يصارع على جبهتين: جبهة الداخل بفضح عمالة الإسلاميين ومشروعهم التجهيلي التدميري، وجبهة الخارج، بتعرية وفضح مكيافلية السياسة الغربية التي ترعى الإرهابيين الإسلاميين في كل أقطار الأرض وترسل الشبّان العرب، بعد أن يتمّ غسل أدمغتهم عن طريق الدّعاة الوهابيين وإغرائهم بالنكاح في الدنيا (جهاد النكاح) والنكاح في الآخرة (الحور العين)، للقتال من أجل مشاريعها الإمبريالية. لقد رأينا ذلك في أفغانستان، حينما كان قاطعو الرؤوس يُسمّون "محاربين من أجل الحرية"، وفي الشيشان، وفي يوغسلافيا، وأخيراً في سوريا والعراق.

المهدي مستقيم: يبدو أنّ الفكر العربي ينشطر إلى قسمين: الأول علماني والثاني إيماني، ألا يمكن أن نتحدث عن فكر تنويري معتدل ذي هويّة عربية إسلامية؟

محمد المزوغي: المنطقة الوسطى في العلم لا وجود لها: إمّا أن تعلم أو أن تجهل، كذلك من الجانب الإيديولوجي، إمّا إسلاموية إخوانية أو علمانية مكتملة واضحة المعالم، صريحة ومباشرة. المبادئ الأولى لا تُقتطع إرباً إرباً ولا تُجزّأ، أو تُوزّع هنا وهناك. أن تكون نصف إسلاموي ونصف علماني فهذا جنون، هذا تشويه للعقيدة وللعلمانية في الوقت نفسه. لكن من المؤسف أن ترى الآن بعض المفكرين ينحون هذا المنحى ويَبثونه في نشرياتهم ومؤلفاتهم وحواراتهم المكتوبة والمرئية، وهكذا فإنهم قد أحدثوا بلبلة في عقول الشباب، وقوّوا من مواقع الإسلاميين، لأنه معلوم وثابت أنّ الإسلاميين، بحكم انتهازيّتهم الدائمة، يقتلعون أيّ كلمة أو إشارة من طرف المفكرين العلمانيين لكي يُوظّفوها لصالحهم. أنا أقول إنّ هذه الفكرة التي تتردد الآن على مسامعنا، وغالباً ما يستخدمها الإسلاميون، من أنّ هناك تطرّفاً علمانياً في مقابل تطرّف ديني، هي فكرة متهافتة، ومموّهة، خاطئة بل مضللة، غايتها تبريرية، أي المحافظة على الواقع كما هو، أكثر منها وصفاً للواقع. العلمانية هي التي أتاحت للإسلاميين أن يتحركّوا بحرية في كلّ أصقاع الأرض، أن يثبّتوا أقدامهم في الدول الغربية التي يعتمد فيها النظام السياسي مبدأ فصل الدين عن الدولة، أن يَبنوا مساجدهم في كل ركن، وأن يستقدموا دعاة وهابيين من بلدان الخليج لدمْغجة الشباب وحثه على الجهاد (في سوريا وليس في إسرائيل)، أن يُبرزوا شعاراتهم ومعالمهم الطائفية، والبعض منهم ذهب أبعد من ذلك، وأصبح يطالب علناً بتطبيق الحدود الإسلامية، من قطع وبتر وجلد في العواصم الغربية التي تحتضنهم. مَن المتطرّف إذن؟ العلماني أو الإسلامي؟ هل سمعت عن علماني فجّر نفسه في سوق شعبية أو ذبح شخصاً منادياً الله أكبر؟

المهدي مستقيم: حتى الدول العربية التي أعلنت انفتاحها السياسي على بعض مبادئ الحداثة لم تسلم من شرارة الانتفاضات إذ سرعان ما ثارت عليها شعوبها وأطاحت بها، فهل المشكل في الحداثة أم في الدول العربية أم في الشعوب؟

محمد المزوغي: أن تثور الشعوب ضد أنظمتها الاستبدادية فهذا أمر عادي في سيرورة المجتمعات، ونقرأه في كلّ كتب التاريخ. إذا تدهورت الحالة الاجتماعية وضُيّق الخناق على الحريات الفكرية والسياسية، وفُقّر المواطنون فإنّ التّململ الاجتماعي غالباً ما يقود إلى ثورة شعبية، تبغي الحصول بالقوة على حقوقها التي حُرمت منها. لكنّ الحاكم المتبصّر قد يستبق الأحداث ويُصلح الأضرار في وقت سريع وبقرارات جريئة. المشكلة ليست في الحداثة أو في تبنّي مقولاتها، بل في عدم اكتمال الحداثة سواء من حيث التشريع أو من جانب الفكر الذي من المفروض أن يساوق تطلّعات المجتمع، الحداثة تدعو إلى تحرير المرأة، تدعو إلى المساواة بين المواطنين بغض النظر عن عقيدتهم، الحداثة الفكرية تعني مناصرة العقلانية، هي نقد الدين (لا التطرّف الديني فحسب) كمنظومة عقائدية وكرؤية للعالم، متخلّفة رجعية، مُدمرة للعقل وماحقة لإنسانية الإنسان. أين الحداثة في العالم العربي ولدينا تشريعات دينية تضطهد المخالفين وتطبّق أحكام شريعة قروسطية، وتترك المجال واسعاً للإسلاميين كي يبثوا سمومهم في وسائل الإعلام بكل حرية؟ العالم العربي فعلاً قام بثورة، إن صحّ تسميتها هكذا، ابتدأت من تونس، والسبب الذي خرج من أجله الشباب هو تحقيق مطالب الحرية والكرامة والتشغيل، لكن ماذا كانت النتيجة؟ هجوم عدد مهول من الإسلاميين (بعضهم إرهابيون لم يتملّصوا من ماضيهم الإرهابي) افتكّوا من الجماهير ثورتهم وتلاعبوا بمطالبهم، وإذا بالمسألة المُلحّة أصبحت الإسلام في خطر، وشريعة يجب تطبيقها وعلمانية المطلوب العاجل هو القضاء عليها، ثم تقديم خدمة جليلة للسياسة الإمبريالية الغربية بتسفير أكبر عدد من الشبان الذين كانوا يريدون العيش في وطنهم والمساهمة في تقدّمه، تسفيرهم إلى سوريا للجهاد من أجل الناتو. إنه لمن المؤسف جداً، أقول: إنه لمدعاة للأسى والغبن أنّ البلد الذي كان سبّاقاً لما يُسمى بالثورة أصبح أكبر مصدّر للإرهاب في العالم. الآن اكتشفنا، بعد أن خفتت فورة النشوة الأولى، أنهم كانوا يلعبون بنا، وأنّ كلّ ما حدث كان مبرمجاً بإحكام وإتقان، وأنّ القوى الغربية ساهمت في تدمير العالم العربي، وأنها تحالفت في الخفاء مع الإسلاميين (ليس من سبيل المصادفة أنّ أغلب قادتها هم من ذوي الجنسية المزدوجة) وهيّأتهم منذ زمان للحكم. إنّ تنصيب الإسلاميين في الحكم يعني القضاء على مؤسسات الدولة، فتحها كسوق للبضاعة الغربية، تدمير مقدراتها البشرية والاقتصادية، انسحاب الدولة من إدارة وترشيد الاقتصاد، وفي المقابل هيمنة المحسوبية والسرقة ومكافئة الإرهابيين على إرهابهم بأموال منهوبة من عرق المواطنين، أمّا من الجانب السياسي فلا ديمقراطية ولا يحزنون، بل الحسبة وشريعة البتر والجلد والرجم، ونبش القبور وأكل لحوم البشر. إنه مشهد سوريالي فظيع، ما كنّا لنتوقّع حدوثه بهذه الصيغة الفجّة العنيفة، لكنه يتحقق أمامنا كلّ يوم، ونراه بالصوت والصورة في تونس وليبيا وسوريا والعراق.


(*) نشر هذا الحوار في مجلة يتفكرون عدد 9