محمّد عادل زكي: الأسس النظرية للاقتصاد السياسي ومقاييس تخلّف العالم الإسلامي
فئة : حوارات
د. محمد عادل زكي، من مواليد الإسكندرية 1972، وهو مفكّر مصري متخصّص في الاقتصاد السياسي.
من أهمّ مؤلّفاته:
- الاقتصاد السياسي للتخلّف، إصدار مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2013
- نقد الاقتصاد السياسي، الطبعة الخامسة، 2015
- مباديء الاقتصاد السياسي (2 مجلد)، الطبعة الثانية، 2007
- التبعية مقياس التخلّف، الطبعة الثانية، 2016
له العديد من الأبحاث المنشورة في دوريات علمية محكّمة باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية.
يوسف هريمة: قبل أن نتقاسم معكم مجموعة من الأفكار، أودّ أن أستوضح منكم مصطلحاً رائجاً لدى المشتغلين بالحقل الاقتصادي المعاصر، ألا وهو مصطلح "الاقتصاد السياسي". فماذا يعني هذا الأخير؟. وبماذا يتميّز عن غيره من المفاهيم الاقتصادية الرائجة كمفهوم "الاقتصاد" دون إضافة؟
د. محمّد عادل زكي: من المعروف تاريخياً أنّ أوّل مَن استخدم اصطلاح "الاقتصاد السياسي" هو الفرنسي أنطوان دي مونكريتيان (1575-1621)، في القرن السابع عشر، والذي دفع مونكريتيان إلى هذه التسمية، حينما عنون به كتابه، أمران: أولهما: رغبته في تمييز موضوع بحثه عن الموضوعات التي كان اليونانيون القدامى، مثل أرسطو، يدرسونها تحت اسم الاقتصاد فحسب، أي مجرداً من أي وصف، وكانت جميعها تعالج مسائل قواعد إدارة المنزل، ومن ثم يكون وصف "السياسي" بمثابة إشارة إلى أنّ موضوعه هو دراسة الظواهر المتعلّقة بثروة الدولة، لا بثروة الأسرة ولا بقواعد بتدبير اقتصاد المنزل. وثانيهما: إنّ الغرض، من تأليف الكتاب نفسه، كان سياسياً؛ إذ إنّ معظم موضوعات الكتاب تدور حول البحث عن الوسائل التي تستطيع بفضلها الدولة التي لا تملك المعدن النفيس أن تحصل على كميات وفيرة من هذا المعدن، فتحفظ بذلك منزلتها في مجال التجارة الخارجية. هكذا تبلور المصطلح تاريخياً على يد أنطوان دي مونكريتيان، ولكن شومبيتر رأى أنّ الفضل الوحيد لأنطوان دي مونكرتيان أنّه ابتكر المصطلح، أما هو فقد قال عنه أنّه كاتب مغمور من كتّاب القرن السابع عشر، وقد أكسبه عمله هذا خلوداً لا يستحقّه. ومستوى الكتاب عاديّ وفاقد للأصالة بصورة كاملة؛ والرأي عندي أنّ نقد شومبيتر يحوي قدراً لا بأس به من التجنّي.
على كل حال، أخذ الاقتصاد السياسي في التطور رويداً رويداً على يد عظماء العصر الكلاسيكي، ليكتسب المصطلح خصوصية تتبدى في البحث في جميع ظواهر نمط الإنتاج الرأسمالي، الناشيء آنذاك، ابتداءً من قانون القيمة. وحينما أتى ماركس تأكدت تلك الخصوصية، ومن المعروف أنّ المصطلح يكتسب دلالته بما تبلور فعلاً على أرض الواقع لا بما نخلعه نحن عليه من معان. وبالتالي أصبح علم الاقتصاد السياسي، وفقاً للواقع، هو العلم المنشغل بدراسة ظواهر نمط الإنتاج الرأسمالي. الظواهر المتمفصلة حول قانون القيمة. القيمة التي تخلقها الشغيلة في صراعها مع الرأسمال. وهكذا تبلور موضوع علم الاقتصاد السياسي الذي سيؤرّق المؤسسة السياسية.
ولذا، فمع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ظهر ما يسمى (علم!) الاقتصاد. حينما تبلورت مجموعة من الأفكار المضادّة التي حاولت تصفية علم الاقتصاد السياسي من محتواه الاجتماعي، بل ولا ضير كذلك من عزله عن العلوم الاجتماعية الأخرى، فـ (علم!) الاقتصاد بالنسبة إلى هذا لتيار المضاد، والذي سيطلق عليه المذهب النيوكلاسيكي، هو علم معملي، والعلاقات الاقتصادية المتمثلة في الإنتاج والتداول والتوزيع، بين أفراد المجتمع، إنما هي علاقات بين الأشياء المادية، وليست اجتماعية! وعلى ذلك، يؤسس هذا التيار الفكري، الَّذي سيكون تياراً جارفاً في المؤسسة التعليمية الرسمية وهي، بالمناسبة، الخادم الأمين دوماً للمؤسسة السياسية، فكرة المنفعة كمركز تدور في فلكه جُلّ العلاقات الاقتصادية بمفهومها الَّذي لا يرى سوى علاقات بين الأشياء المادية، الَّتي ستخضع بعد ذلك للمعادلات الرياضية والدوال الخطية والرسوم البيانية. وبتلك المثابة يكون التيار الفكري النيوكلاسيكي قد قام بتقديم موضوعاً غير مسبوق للعلم، علم الاقتصاد السياسي، يعتمد على تفسير هزلي للقيمة؛ إذ المبدأ الأساسي عند النيوكلاسيك هو أنّ المنفعة مقياس القيمة، وهو المبدأ الَّذي يناهض ما قال به الكلاسيك، ودفيد ريكاردو بوجه خاص. فالقيمة عند النيوكلاسيك تتعلق بنفسية المستهلك؛ فهي نقطة البدء الَّتي على أساسها لا تتحدّد قيمة السلعة فحسب، وإنما يتحدد التوزيع ذاته؛ بعد أن تم تعميم مبدأ المنفعة أيضاً على عناصر الإنتاج. لاحظ أنني أقول: "عناصر الإنتاج"، ولم أقل قوى الإنتاج؛ إذ تعطي كلمة "عناصر" دلالة على انفصال (الأرض) عن (قوة العمل) عن (الرأسمال) عن (التنظيم). ومن ثم انفصال (الريع) عن (الأجر) عن (الفائدة) عن (الربح) وبالتبع نفي التناقض بين قوى (عناصر) الإنتاج، ومن ثم نفي الصراع بين دخول الطبقات الاجتماعية المختلفة المشاركة، وغير المشاركة، في عملية الإنتاج الاجتماعي!
القيمة إذاً، وفقاً للنيوكلاسيك، ثم لدى كينز والكينزيين، ولدى النقديّين من بعدهم، لم تعد تكمن فيما بذل من عرق في سبيل إنتاجها، إنّما هي فقط في عقول الأفراد. تكمن القيمة في عقل المشتري! ومن ثم، فالشيء نفسه تتباين قيمته في نظر مختلف الأشخاص؛ فالقيمة صارت مسألة متعلقة بالتقدير الشخصي! صارت من قبيل الأمور الوجدانية/النفسية! صارت مسخاً. الخلط إذاً واضح تماماً بين قيمة الشيء ومنفعته. ربما تتباين المنفعة من شخص إلى آخر. وذلك من طبائع الأمور. ولكن القيمة لا يمكن أن تتباين إلا إذا تم تمييع مفهومها وتمّ خلطه بالمنفعة مسخاً لمذهب الآباء المؤسسين.
وعليه، يمكنني القول بأنّ النيوكلاسيك لم تكن لديهم أبداً نظرية في القيمة، إنما هي نظرية في المنفعة، تحاول تمييع مفهوم القيمة. ولم تكن أبداً لهم نظرية في قيمة المبادلة، إنما هي نظرية في ثمن السوق. ومن هنا لا أُخفي استخفافي بانشغال الأساتذة، أساتذة النظرية الرسمية، بحشو دماغ الطلاّب بكلام مرسل سَيّال عن "نظرية القيمة عند النيوكلاسيك"!
وابتداءً من النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، طرأت على مذهب النيوكلاسيك تغيرات واضحة وحاسمة؛ جاء هذا التبدّل كبلورة لما أسهم به "المهندس" ليون فالراس (1834-1910) في استخدام تحليل التوازن العام/الشامل بكيفية لم تكن معهودة من قبل، وبطريقة خاصة في التحليل باستخدام مجموعة من المعادلات الرياضية البحتة في محاولته للبحث عن التوازن الاقتصادي العام على الصعيد القومي بدراسة جميع العوامل الَّتي تتضافر معاً لتحديد سلوك المنتج والمستهلك في السوق. وهو يدرس، رياضياً، أثر كل هذه العوامل في نفس الوقت.
وفي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وعلى الصعيد السياسي كان مذهب جون مينارد كينز يشهد قمة انتصاراته وطغيانه الفكري، واضعاً ما عداه من مذاهب وأفكار في الزوايا المعتمة، فحتّى نشوب الحرب العالمية الأولى، كان مذهب الحرية الاقتصادية سائداً إلى حدّ بعيد في الأوجه المختلفة للنشاط الاقتصادي. ولكن ما أن اندلعت نيران الحرب، حتى تبدّلت الأحوال وتغيّرت التصوّرات؛ وأعلن تاريخياً عجز النظرية الرسمية عن تفسير ذلك، وبالتالي فشلها في حل الأزمة. ولذلك، فخلال الفترة الممتدّة ما بين الحربين العالميتين (1919-1939)، وهي الفترة الَّتي زاد فيها تركّز الرأسمال وتمركزه، وتبلورت الاحتكارات الصناعية الضخمة، إيذاناً ببداية سيادة المشروع الرأسمالي في شكله الدولي، وحيث تعرّض النظام الرأسمالي للعديد من التوترات، بدءًا بثورة العمال في ألمانيا عام 1918، ثم أزمة الديون والتعويضات الَّتي فرضتها معاهدة فرساي عام 1919، ثم أزمة الكساد الكبير عام 1929، وبروز الحرب النقدية والتكتلات الاقتصادية، ثم انهيار قاعدة الصرف بالذهب... إلخ. فقد كان طبيعياً ظهور الكينزية، إنما كمبرر نظري، في زمن الأزمة في شكلها الدوري، وتصوراتها الَّتي تعتمد على وجوب التدخل الحكومي، (الَّذي تم فعلاً على أرض الواقع قبل كتابة النظرية العامة) بوصفه عاملاً مساعداً في تحريك الاقتصاد الَّذي كف عن السير.
في ظل هذه الهيمنة الكينزية، كان هناك تيار فكري عنيف يتكوّن في أحضان التيار النيوكلاسيكي، هو تيار النقديين بقيادة مِلتون فريدمان (1912-2006)، الَّذي سيلقى تطبيقاً رسمياً في الفترة من 1979 حتى 1984، وبصفة خاصة في المملكة المتحدة بقيادة مارجريت تاتشر (1925-2013) والولايات المتحدة الأمريكية برئاسة رونالد ريجان (1911-2004)، ولم تكن النتائج سارّة على الإطلاق، كما نعرف جميعاً؛ فلقد تعمّق الكساد، واستفحلت البطالة، وانخفض الميل الاستثماري، وازدادت الضغوط التضخمية نتيجة للزيادة الواضحة في عرض النقود، بالإضافة إلى إضعاف المركز التنافسي للاقتصاد داخل السوق الرأسمالية العالمية، وهو الأمر الَّذي قاد إلى تبلور وظهور وإحياء تيارات فكرية ونظرية رافضة على الصعيد النظري، وهو الَّذي تزامن مع التحوّل التاريخي الثالث في مركز الثقل العِلمي: من الفيزيوقراط في فرنسا، مروراً بالكلاسيك في إنجلترا، وانتهاءً بالليبراليين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، مع هيمنة ما يسمّى علم الاقتصاد على السياسات الرسمية والنظرية التعليمية.
الاقتصاد السياسي إذاً، هو علم دراسة ظواهر نمط الإنتاج الرأسمالي المتمفصلة حول قانون القيمة. القيمة التي يخلقها الشغيلة في صراعهم الوجودي مع الرأسمال. أما الاقتصاد، أو ما يسمّونه علم الاقتصاد فهو تصفية متعمدة لعلم الاقتصاد السياسي من محتواه الاجتماعي والإنساني، بل والثوري. تصفية جعلت منه فناً تجريبياً لا علماً اجتماعياً.
يوسف هريمة: هواة أسلمة المعرفة، أو من يتبنّون نظرية السبق المعرفي للعلماء المسلمين، يرون أنّ ابن خلدون كان سبّاقا لوضع اللَبِنات الأولى لعلم الاقتصاد السياسي، كما وضع غيرها من النظريات. فهل تتوافقون مع هذا الرأي، وأين تكمن مواضع الخلل بالنسبة إليكم في مثل هذه الاتجاهات المعرفية؟.
د. محمّد عادل زكي: واقع الأمر هو أنني لا استطيع أبداً أن أخفي انبهاري بالإنجاز الحضاري لعلماء المسلمين في العصر الذهبي، ومن دواعي فخري أنني ابن هذه الحضارة بشكل أو آخر، ولكن دعنا نتدبر الأمر ببعض الرَويّة. ولنبدأ بما يسمّى (الظاهرة). فالكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة لظاهرة أو لطائفة معينة من الظواهر، هو المحرّك المركزي لنشأة العلم وتطوره. ولكي ينشأ العلم الاجتماعي، ابتداءً من وجود الظاهرة الاجتماعية، يتعيّن أن تصبح الظاهرةُ:
أوّلاً: على درجة من الهيمنة، بما تتضمّنه من تكرارية وانتظام، تستنهض هذا العلم، وفي الوقت نفسه، وهذا هو الشرط الأهم،
ثانياً: يكون الذهن الجمعي مهيئاً للكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة لآداء الظاهرة على الصعيد الاجتماعي.
فالظاهرة الاجتماعية بوصفها (شيئا) (مهيمنا) اجتماعياً، بوصفها شيئا يملك قوة خارجية ونفوذا مستقلاّ عن أفراد المجتمع، إنما تجبر هؤلاء الأفراد على الانصياع لقواعدها، وكل سلوك بالمخالفة لها يقابل بالصدام والمقاومة، مادياً/ معنوياً، على الصعيد الاجتماعي. هذا الصدام قد يسفر عن العقوبة أو الاستهجان أو الخسران. فالأصل أنّ التشريع، كظاهرة، يصدر كي يحترم، ومَن يخرق أحكامه يقابل سلوكه بالعقاب. والأصل أن لكل جماعة قواعد سلوك معيّنة في الزي والطعام، ... إلخ، ومَن يخرج عن هذه القواعد بأي شكل أو وسيلة يقابل سلوكه بالاستهجان. ومع النظام الرأسمالي فالأصل هو أنّ النشاط الاقتصادي والإنتاجي يكون بدافع الرّبح، ومَن يقوم بنشاط اقتصادي بالمخالفة لهذا القانون، الَّذي يمثل القوة والنفوذ الاجتماعي الَّذي يمارسه النظام الاقتصادي في المجتمع، سوف يقابل سلوكه هذا بميل عام نحو الخسارة التجارية والخروج من السوق.
فإذ ما أخذنا في اعتبارنا شرطيْ الظاهرة، لأمكنا معرفة سبب ظهور الاقتصاد السياسي منذ بضعة قرون فحسب، بصفة خاصة جداً على يد عظماء الكلاسيك، على الرغم من أنّ جلّ الظواهر الَّتي استنهضته كانت موجودة، بل ومهيمنة منذ آلاف السنين من عمر البشر.
فبالنسبة إلى الشرط الأول، وهو هيمنة الظاهرة؛ فلقد كان أمام الرأسمالي، الَّذي يملك نقوداً يهدف إلى إنمائها، سواء كان في أورشليم في القرن الأول، أو في روما في القرن الثالث، أو في بغداد في القرن العاشر، على الأقل ثلاثة اختيارات:
الاختيار الأول: أن يشتري سلعة بسعر منخفض ويعيد بيعها بسعر مرتفع ويحصل على الربح من الفارق بين هذين السعرين. وقد تتم هذه العملية في داخل البلد الواحد، أو عبر عدة بلدان في العالم القديم أو الوسيط. ويمكننا أن نلحق بهذا الاختيار المضاربات، مثل شراء الأراضي وإعادة بيعها، على الرغم من ندرة هذه العملية في تلك الفترة التاريخية.
الاختيار الثاني: أن ينتج السلعة بدلاً من أن شرائها مصنَّعة. وحينئذ يأتي الرأسمالي، هو في الواقع سمسار، بمواد العمل إلى الحرفي أو الصانع في بيته أو حانوته، ويحتكر إنتاجه من السلع الَّتي سوف ينتجها هذا الحرفي أو الصانع مقابل الأجر اليومي الَّذي يدفعه له. نلاحظ هنا أنّ المنتج المباشر يستخدم، في الغالب، أدوات عمل مملوكة له، وليس للرأسمالي. ولكن العبرة في التحليل النهائي تكون بأنّ المنتج النهائي ليس ملكاً له.
أمّا الاختيار الثالث، فهو: أن يقوم بإقراض نقوده إلى شخص آخر لأجل محدّد وحين حلول الأجل يحصل على نقوده مضافاً إليها فائدة. أو يشتري ويبيع في النقود والقيام بشتى أعمال الصيرافة ويربح من وراء تفاوت واختلاف أسعار العملات.
ويمكننا أن نرى هذه الاختيارات الثلاثة بوضوح عبر تاريخ النشاط الاقتصادي للبشر في مراحل التاريخ كافة كخيارات مطروحة وممكنة أمام الرأسماليين سواء كانوا، كما ذكرنا، في أورشليم أو روما أو بغداد أو في أي مكان في العالم القديم أو الوسيط.
ومعنى تكرار هذه الاختيارات، الظواهر، وبانتظام، هو أنّنا، ومباشرة، أمام أشياء تستدعي التفسير وتحديد القوانين الموضوعية الَّتي تحكم آليات آدائها. فنحن أمام ظواهر: الشراء من أجل البيع، والربح، والإقراض، والفائدة، ... إلخ. والأهم هو أنّنا أمام عدّة ألغاز تتطلب الحلّ فنحن لا نعرف على أي أساس تحدد ربح الرأسمالي في أي اختيار من اختياراته. وعلى الرغم من ذلك، لا نجد الاهتمام من قبل مفكّري العالم القديم، أو المتأخّرين من مفكري العالم الوسيط، بتحليل هذه الأمور أو تقديم الإجابات على مثل هذه الأسئلة، لأنّ المراد من تفسيره أنّه لم تقع إضافة الهيمنة إلى موجوديته، أو أنّه مهيمن ولكن الذهن الجمعي لم يكن مهيئاً للانشغال به.
فلا شك في أنّ الحد الأدنى المفترض يؤكد أنّ معدَّلات الأرباح في أي من الاختيارات الثلاثة في أورشليم أو في روما أو في بغداد، أو في أي مكان في العالم القديم أو الوسيط، لم تكن تتم بشكل عشوائي، وكان من المؤكد أيضاً أن ثمة قوانين موضوعية تحكم هذه المعدلات. ولكن الانشغال الفكري على الصعيد الاجتماعي كان موجهاً في اتجاه آخر غير الكشف عن هذه القوانين الموضوعية. كان موجهاً في اتجاه ظواهر أكثر هيمنة وأبلغ وضوحاً وتأثيراً. هنا يتبدى لنا الشرط الثاني من شروط الظاهرة القادرة على إنضاج العلم، وهو المتعلق بالذهن الجمعي، إذ لا يكفي أن يكون الشيء/ الظاهرة مهيمناً، بل يجب أيضاً أن يكون هذا الذهن مهيّئاً للسعي نحو الكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة للشيء/ الظاهرة. فوفقاً لما ذكرناه أعلاه يمكن القول بأنّ الذهن الجمعي في فينيقيا وآثينا وروما وبغداد وقرطبة لم يكن منشغلاً بالكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة للظواهر المتعلقة بالنشاط الإنتاجي، على الرغم من هيمنتها اجتماعياً.
فعلى سبيل المثال، إذا توجهّنا إلى سواحل فينيقيا قبل الميلاد، فسنجد تجّاراً مهرة وتجارة دولية رائجة، ومن ثم ربحاً تجارياً، ومع ذلك لا يوجد بأي حال أدنى انشغال بتحليل ربح التاجر مثلاً، وما يتعلق بهذا الربح من أشياء تخص النشاط الاقتصادي والإنتاجي على الصعيد الاجتماعي، ولكننا، في الوقت نفسه، نجد غزارة في التصوّرات الميثولوجية على صعيد الإنتاج الفكري.
وإذ ما انتقلنا إلى مصر القديمة؛ فلن يختلف الأمر كثيراً، حيث نجد تجارة وتجّاراً وربحاً تجارياً. ولكن لن نجد، على صعيد الانشغال الفكري، إلاّ الإنتاج الذهني المتعلق بالعالم الآخروي والحياة بعد الموت...، إلخ. قد نجد مجموعة من البرديات عن المهن المختلفة في المجتمع، أو مجموعة من النقوش لبعض أنواع التبادل في السوق، أو مجموعة التماسات من قبل الفلاح الفصيح يشكو فيها سوء الأحوال الاجتماعية، ولكن يظل الانشغال الفكري الأساسي في هذه المرحلة متعلّقاً بالحياة الخالدة بعد الموت.
وفي آثينا أو روما أو بيزنطة أو غرب أوروبا في القرون الوسطى، وعلى الرغم من انتشار التجارة العالمية على سواحل البحر الأبيض المتوسط، إلاّ أنّ أهم ما وصل إلينا من إنتاج فكري وتحليلات نظرية سيكون متعلقاً، في مجموعه، بعلوم الفلسفة والسياسة والقانون وأدب الملاحم، دون أن نلمس انشغالاً علمياً بتحليل أيّة ظاهرة تتعلق بالرأسمال، فقد هيمنت أشياء اجتماعية أخرى على مجمل المسرح الاجتماعي، كالعبودية وعلوم الجدل والفلك والفتوحات العسكرية والحروب المفتوحة، أو الدوغما الكنَسَية وصراعات الأباطرة والباباوات، والإقطاع وترسيخ التراتبية الاجتماعية الَّتي تدور حول ملكية الأرض.
وفي بغداد أو قرطبة أو القيروان، وعلى الرغم من انشغال علماء ومفكّري وفنّاني هذا العصر الذهبي بشتّى الظواهر الاجتماعية وتحليل أدق تفاصيل الوجود الإنساني، والسعي الدؤوب من أجل الكشف عن أسرار الكون، إلاّ أنّ ظواهر الرأسمال لم تستحوذ على اهتمام من قبلهم. وحتى الَّذين تماسّ انشغالُهم مع تحليل التجارة والصناعة، وأوجه النشاط الاقتصادي والإنتاجي في المجتمع بوجه عام، مثلاً إخوان الصفا أو العلاّمة ابن خلدون، فحتى هؤلاء لم يتقدم تحليلهم إلى أبعد من وصف تجريدي للأشياء الموجودة. على أن نأخذ في اعتبارنا انشغال الفقهاء المسلمين في القرنين السابع والثامن بشتى مظاهر النشاط الاقتصادي والإنتاجي إنما جاء انطلاقاً من الانشغال الفقهي، فقد عالجوا مسائل الأرباح والأجور والصرف... إلخ. وهو مالم يكن ممكنا إلاّ ابتداءً من تبلور جميع هذه الأشياء/ الظواهر على أرض الواقع بوصفها أشياء مهيمنة. بيد أنّ الانشغال كان موجّهاً نحو مسائل الفقه وقضايا الشريعة، ولذا تمّت معالجة الأشياء/ الظواهر المتعلقة بالنشاط الاقتصادي والإنتاجي ابتداءً من الفقه. ومن ثم حال الاهتمام بتاريخ الأمم وسير الملوك وتراجم الرجال، وقبل كل ذلك الاهتمام بعلوم الشريعة (المتضمّنة أوجه النشاط الاقتصادي) والصراع الفكري، الَّذي كان له الأهمية المركزية، بين النص المقدس والتأويل، من جهة، ومحاولة التحرر من سلطة النص الوضعي وسطوة الفقيه من جهة ثانية، واكتشاف الكون بواسطة العقل، والعقل وحده، من جهة ثالثة، وما يتعلق بكل هذا من علوم الكلام، وما صاحب ذلك أيضاً من حركة ترجمة واسعة لعلوم فارس واليونان. نقول حال الاهتمامُ بذلك دون تكوّن الانشغال الفكري بأساس ربح التاجر/ الرأسمالي (وبالتالي فائدة المرابي، وربح الصانع) والكشف عن القانون الموضوعي الَّذي يحكمه.
إنّ السبب الوحيد الَّذي منع نشأة (علم) اقتصادي في القرن العاشر، في بغداد أو قرطبة، على الرغم من توافر جُلّ الأشياء/ الظواهر الَّتي أنضجت العلم الاقتصادي، هو هيمنة الفقه.
وابتداءً من القرن الثامن، وحينما همّت التجارة بالتأهّب لبسط هيمنتها؛ كي تصبح الظاهرة الأكثر سيطرة على باقي الأشياء الاجتماعية، أو على الأقل تحتلّ مكانة مرموقة بين هذه الأشياء، وقد تلاقت هذه الهيمنة مع ذهنية جمعية صارت مهيئة، لتكوين الوعي بطبيعة التجارة والسلع وخصائصهما، وصفات التجار وقوانينهم، أمكننا قراءة الاجتهادات الأوليّة:
- للجاحظ (776-868) والدمشقي (القرن الحادي عشر) وابن خلدون؛
- وماجنوس(1200-1280) والأكويني (1225-1274) وأوريزم (1320-1382).
كإرهاصات، محاولات، مجرد محاولات أولية بطبيعة الحال، للانشغال الفكري بتحليل التجارة وما يتعلق بها من ظواهر كالسلع والأثمان والأسواق والأرباح... إلخ.
وحينما تتفجر الثورة الصناعية في أوروبا الغربية، وتتبلور معها العشرات من الأشياء/ الظواهر الجديدة وغير المألوفة (بالنسبة إلى غرب أوروبا)، وفي الوقت نفسه كان الذهن الجمعي مهيئاً تماماً، بعد التحرر من سلطان الوصاية الفكرية الَّتي ضربت على القارة طيلة قرون من الظلام، للكشف عن جميع القوانين الموضوعية الَّتي تحكم آداء جميع الأشياء/ الظواهر الَّتي تبلورت على سطح الحياة الاجتماعية. ولذا ظهر الاقتصاد السياسي كعلم هدفه البحث عن القوانين الموضوعية الَّتي تحكم الإنتاج والتوزيع ونمو الاقتصاد وتطور قوى الإنتاج في المجتمع الجديد. وجاءت الأثمان في مقدّمة الظواهر. فجميع قرارات الإنتاج. وجميع وسائل الإنتاج. وجميع قوى الإنتاج. وجميع قرارات التوزيع. وجميع الدخول، إنما تتخذ ابتداءً من الأثمان. ولكن الأثمان هي المظهر النقدي للقيمة. فكانت القيمة، كما أسلفت، هي نقطة البدء. نقطة البدء لجميع مساهمات الآباء المؤسسين لعلم الاقتصاد السياسي.
في إطار هذا التصور العام للظاهرة وشروط إنضاجها للعلم الذي يفسرها، لا يمكن القول، بمثل هذا الإطلاق الذي نسمعه، أنّ العرب هم الذين قاموا بتأسيس الاقتصاد السياسي، أو أنهم روّاد علم الاقتصاد... إلخ. فتلك الأقوال السيّالة من شأنها الانتقاص من قدر هؤلاء الفحول الذين كان لجهودهم الأثر الحاسم لا في تطور الحضارة الإسلامية فحسب، بل تطوّر الفكر الإنساني بأسره.
يوسف هريمة: تاريخ الفكر الاقتصادي قديم قدم التاريخ، وقد اشتغلتم على بعض جوانبه، لكن المحطّة البارزة في هذا التاريخ، هو ظهور ماركس وكتابه الرأسمال. هل بالفعل ظهور الماركسية هو تحوّل جذريّ في التاريخ الفكر الاقتصادي؟ أم الأمر فيه مبالغة وجب توضيحها؟.
د. محمّد عادل زكي: إنّ الاقتصادي الوحيد الذي عامله ماركس كأستاذ هو ريكاردو، والأهم، أنّ ماركس، وتلك حقيقة موضوعية، قام باستخدام أدوات التحليل الريكاردية، بل إنّ الإشكاليات التي كانت مطروحة أمام ماركس كانت نفسها مطروحة بنفس الشكل الذي طرحه ريكاردو. ومن المؤكد أنّ ماركس عالج تلك الإشكاليات وتوصّل إلى استنتاجات مختلفة إلى حد بعيد، بيد أنه فعل ذلك من خلال الانطلاق من نظريات ريكاردو وانتقادها. لقد تقبّل ماركس نظرية القيمة الريكاردية، ودافع عنها بحجج ريكاردية، بل لقد طور ماركس نظريته في الاستغلال ابتداءً من البناء الريكاردي.
والماركسيون للأسف، ولنقل البعض منهم على الأقل، يتعاملون مع ماركس وجهازه الفكري كنبت شيطاني. فهو الأوّل وهو الآخر، وربما كان لدى البعض أيضاً هو الظاهر والباطن. ماركس أيقونة لا وثن. فلقد حدّد ماركس لنفسه هدفاً، هو الكشف عن القوانين الموضوعية الَّتي تحكم عمل النظام الرأسمالي. وإذ يحدّد ماركس هدفه على هذا النحو، يشرع في مراجعة الفكر السابق عليه، أي الفكر الاقتصادي للفيزيوقراط، وفرنسوا كينيه بصفة خاصة، والفكر الاقتصادي للكلاسيك، وبخاصة آدم سميث ودفيد ريكاردو باعتبارهما تنظيراً رأسمالياً للرأسمالية الناشئة نفسها، وبالأخص ريكاردو الَّذي اعتنق ماركس أهم أفكاره وتصوراته في أهم المواقع الفكرية وأكثرها خطورة في مجمل مذهبه في رأس المال. وقد تبدَّى بهذا التأثر على مستوى المنهج؛ إذ استخدم ماركس أعلى درجات التجريد مثلما فعل ريكاردو. كما ظهر على مستوى الموضوع؛ إذ مثلت نظرية القيمة، كما صاغها ريكاردو، اعتمادا على آدم سميث، العمود الفقري في البناء النظري لمعظم كتابات ماركس الاقتصادية، وبوجه خاص في كتاب رأس المال.
وعليه، يتعين الوعي بأنّ ماركس يستبدل اقتصاد سياسي قديم، باقتصاد سياسي جديد. اقتصاد سياسي ماركسي. إنّما هو النقد لعلم الاقتصاد السياسي كما تبلور على يد الكلاسيك، ومحاولة استكماله ابتداءً من قانون القيمة (أيضاً).
يوسف هريمة: كان لظهور مدرسة فرانكفورت أثرٌ كبيرٌ في توجيه النظرية الماركسية. كيف ظهرت هذه المدرسة؟ وما هي أهمّ معالمها؟ وهل يمكن اعتبارها حركة تصحيحية؟.
د. محمّد عادل زكي: لقد نشأ تيار مدرسة فرانكفورت عن معهد العلوم الاجتماعية كردّ فعل للصنمية المفرطة التي تسربلت بها الفلسفة الماركسية. وقد ضمت مجموعة من المفكرين مثل هوركهايمر، وبنجامين، وماركوز وهابرماس. وفي تصوّري أنّ تتبع مسار هذا التيار الفكري ورصد بدايته الطموحة، ثم اتجاهه التشاؤمي الذي تبدّى في كتابات هوكهايمر وأدرنو، فالانتهاء بالتخلي عن المشروع المركزي وهو البحث في الشروط الموضوعية للثورة، يجعلنا نقول إنّ هذا التيار، وباختصار شديد، كان بإمكانه فعلاً أن يصبح حركة تصحيحية بقدر اقترابه من تحليل قوانين حركة النظام الرأسمالي.
يوسف هريمة: يتساءل الكثيرون عن معالم النظام الرأسمالي، وأسباب قوّته وضعفه. حبّذا لو تضعنا أمام تحقيب كرنولوجي لهذا النظام وروّاده، والأسباب القويّة لاستمراريته عكس باقي الأنظمة؟.
د. محمّد عادل زكي: كي نفهم معالم النظام المبنيّ على هيمنة الرأسمال كظاهرة اجتماعية، يتعيّن أن نكون على الوعي بطبيعة الفكر الاقتصادي الذي ساد المرحلة التاريخية التي شهدت تبلور جنين الرأسمالية في غرب أوروبا بصفة خاصة. وهو وعي يتحدّد ابتداء من التعرف إلى السياسات التجارية التي فرضها الواقع الجديد. على كل حال: لقد شرعت الدولة/الروح القومية، الناشئة، في تأكيد استقلالها في مواجهة السلطة العالمية (ممثلة في الأباطرة والباباوات) الآخذة في التأكل. وتدهورَ تنظّم الإقطاع (فلقد مات عدد كبير من أمراء الإقطاع، ومات العدد الأكبر من الأقنان في الحروب الصليبية، وانصرف الكثير من كبار الإقطاعيين إلى ممارسة التجارة، بالتساوق مع تحوّل الريع من الشكل العيني إلى شكله النقدي، ومَن بقي من الإقطاعيين لم يصمد كثيراً في مواجهة مدّ النهضة) وظهرت المدن، وتواطأ الرأسمال التجاري مع السلطة (فلقد ساندت الطبقة الوسطى الملوك في تصفية الإقطاع). وأتاح الغزو الاستعماري لأمريكا اللاتينية تدفّق سيل جارف من المعادن الثمينة. في هذه المرحلة التاريخية نقابل مجموعة من الكتّاب. نعم وجدوا في عديد من البلدان ذات مستويات مختلفة من التطور الاجتماعي والاقتصادي، ولكن ربطهم الانشغال بأسس التجارة (الخارجية بوجه خاص، وهو الأمر الذي لم يمنع أنطونيو سيرا من تمجيد الصناعة، كما لم يمنع ديمون كرتيان من الإشادة بالزراعة والتجارة الداخلية، بل وتقديمهما على التجارة الخارجية نفسها)، نقول ربط هؤلاء الكتاب الانشغال بالتجارة الخارجية وما يتعلق بها من أدوات فنية تتمثل في ميزاني التجارة والمدفوعات (على الرغم من عدم استعمال المصطلح الأخير صراحة من قبل كتّاب التجّار) ابتداءً من مناقشة مشكلات العملة المعدنية وما يرتبط بها من سياسات تهدف إلى السيطرة على الصرف وإحكام الرقابة على منع خروج المعدن النفيس، ومن ثمّ تمّ الانشغال بحقل التبادل على الصعيد الدولي، إنّما ابتداءً من حقل الإنتاج في الداخل، وهو الأمر الذي قاد، ابتداءً من التركيز على الثروة في مظهرها النقدي، إلى مجموعة من الأفكار المستقاة من الواقع: فتمّ حظر خروج الذهب والفضّة، المسكوكين وغير المسكوكين، ابتداءً من تدخّل الدولة (المعبرة عن فكرة القومية) في النشاط الاقتصادي، والتي يتعين عليها أن تتّخذ جميع الإجراءات اللازمة ذلك بالتضافر مع التزامها بتوفير المواد الأولية للصناعات المختلفة مع التزام موازي بتسويق المنتجات عن طريق قيامها نفسها بالشراء من المنتجين المباشرين. وابتداء ً من منع استخدام السلع الأجنبية، إلاّ بما هو ضروري جداً في الصناعة المحلية، فقد تمّ العمل على الحدّ من الاستيراد في مقابل المزيد من التصدير، بالتزام منع فرض القيود الجمركية والإجراءات الحمائية أمام السلع الأجنبية بقصد حماية الإنتاج المحلي. أضف إلى ذلك التوجّه نحو تشجيع النمو في السكان وما صاحب ذلك من إجراءات تخص ذلك ابتداءً من الإعفاءات الضريبية لمن يتزوّج مبكراً، وانتهاءً بمنع خروج اليد العاملة والترحيب بقدوم واستقدام العمالة الماهرة. ويمكننا التمييز في داخل كتابات التجاريين بين تيارين: ساد أولهما في بدايات تبلور فكر التجاريين، وهو الذي ذهب إلى أن الميزة المركزية للتجارة الخارجية تتمثل في اجتذاب المعادن النفيسة، وهو ما قاد إلى الاهتمام بالإنتاج لأنه سبب الحصول على تلك المعادن ومنع خروجها من أجل شراء السلع الأجنبية. أما بالنسبة لكتابات التيار الثاني فلم يعد المعدن النفيس يؤدي دوراً يتعدى قياس النشاط التجاري بعدما تم التحول نحو الانشغال الأكبر والأوضح بالأرض والصناعة والعمل.
وفي الوقت الَّذي بدأ فيه التراكم الرأسمالي، بدأت الاكتشافات المعرفية والمخترعات العلمية. فعلى سبيل المثال: في حقل صناعة الغزل والنسيج، توصل جونكاي إلى ابتكار المكّوك الذي ساعد على زيادة الإنتاج، كما تمكّن جيمس هارجريفز من تطوير اختراع كاي مخترعا النول الآلي الذي مكّن من مضاعفة الإنتاج. وفي الوقت نفسه طور إدموند كارترايت اختراع هارجريفز على نحو ساهم في التقليص من كلفة اليد العاملة. وفي حقل التعدين: توصّل أبراهام داربي إلى صهر الحديد باستخدام فحم الكوك بدلاً من الفحم النباتي، ومن ثم تمكن من تحويل الحديد إلى معدن أقل صلابة. واستطاع هنريكورت صنع قضبان حديدية أكثر صلابة. وفي حقل الطاقة: توصل توماس نيوكمان إلى اختراع أول محرك بخاري يعمل على ضخ المياه، وحينما وقع اختراع نيوكمانفييد جيمس واط عمل على تطويره محولاً الحركة الخطية إلى حركة دائرية، الأمر الذي جعل المحرّك البخاري آلة حاسمة في التطور الاقتصاد. ومع المزيد من التطور، أصبحت النقود تلعب دوراً تعدى الاكتناز إلى الرأسمال. الرأسمال الَّذي يستخدم من أجل الإنتاج. وهو الأمر الَّذي تطلب البحث عن قوى الإنتاج الأخرى. فالرأسمال موجود بكثافة عالية، وأدوات العمل يجري اختراع المزيد منها وتطويرها بوتيرة متسارعة. يتبقى إذاً مواد العمل أي المواد الخام. حينئذ تكون المستعمرات المورد الرئيس لهذه المواد مثل السكّر والمطاط والبنّ والموز... إلخ.
يجب إذن الوعي بطبيعة التراكم الرأسمالي على الصعيد العالمي وحقيقة التكون التاريخي لاقتصاد المبادلة النقدية المعممة في أوروبا في القرن الخامس عشر، هذا التكون التاريخي الَّذي تم من خلال التواطؤ بين الرأسمال التجاري (عقب تبلوره الطبقي) وبين السلطة المعبّرة عن فكرة الدولة القومية الساعية إلى تحطيم الاصطفائية الَّتي نهض عليها نمط الإنتاج الإقطاعي الآخذ في التحلل (مع ظاهرة تنقيد/تأجير الأرض)، والمتجهة نحو الانسلاخ عن الجسد اللاتيني وذلك حتى أواخر القرن السابع عشر، ثم توسّع الرأسمال الصناعي، حتى أوائل القرن الثامن عشر، الَّذي تزامن مع هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي في طريقه إلى خلق السوق العالمية وتدويل الإنتاج من خلال أنماط مختلفة للتقسيم الدولي للعمل والتغلغل في هياكل المجتمعات المتخلّفة مشكلّاً بذلك أجزاء للاقتصاد الدولي بمستويات مختلفة من التطور. فأضحت أجزاء متقدّمة، وأمست أخرى متخلّفة.
يجب هنا الوعي بالكيفية التاريخية الَّتي تبلور من خلالها التاريخ النقدي للهيمنة الأمريكية في القرن التاسع عشر، بعد سلسلة متصلة من العلاقات الجدلية بين القوى الأوروبية المتصارعة (هولندا، وإنجلترا، وفرنسا، وروسيا، والنمسا، وألمانيا، وإيطاليا، وبروسيا، والدولة العثمانية) وانتهاءً بالحرب العالمية الأولى الَّتي خرج منها الاقتصاد الأوروبي حطاماً، بينما خرجت الولايات المتحدة الأمريكية كأغنى وأقوى دولة رأسمالية في العالم، يزيد مجموع أرصدتها الذهبية عن مجموع الأرصدة الذهبية الَّتي تملكها روسيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، وكأنّ الحرب لم تفعل شيئاً سوى تحريك التراكم، أي نقل ثروات أمريكا اللاتينية (وخيرات المستعمرات بوجه عام) من أوروبا إلى الولايات المتحدة. هنا ينبغي الوعي بالظرف التاريخي الَّذي تمكّن الذهب من خلاله من إرساء منظومة الأثمان المعبّر عنها بعملات وطنية مختلفة نظير سلع تم إنتاجها في أماكن متفرقة من العالم وفي ظلّ ظروف إنتاجية يميزها التغيرُّ المستمر.
ولم يكن من الممكن للذهب أن يؤدّي هذه الوظيفة إلاّ ابتداءً من تداوله كنقود في داخل الاقتصاد الرأسمالي القومي الأكثر تطوراً، والَّذي كان في سبيله للسيطرة على الجزء الأكبر من المعاملات الدولية: الاقتصاد البريطاني. وتمكّنت قاعدة الذهب الدولية بدورها الرأسمال البريطاني من تأكيد هيمنته داخل الاقتصاد العالمي، وهي هيمنة استمدها من تفوّق الإنتاجية النسبية للعمل، عمقاً ومدى، وبفضل هذه الهيمنة يصبح الجنيه الإسترليني، العملة الوطنية البريطانية، سيّد العملات دولياً، ويمكن أن يحلّ محلّ الذهب لعملات بلدان أخرى تخضع لهيمنة الرأسمال البريطاني.
وهكذا تحلّ هيمنة رأسمال أحد البلدان على الصعيد الدولي محل سلطة الدولة على الصعيد القومي، وتمكن هذه الهيمنة عملة الرأسمال المهيمن من القيام في المعاملات الدولية بدور النقود الدولية، سواء كانت هذه العملة تستند إلى الذهب أو لا تستند، وإن يكن من الضروري أن تبدأ فترة سيطرتها التاريخية، بحكم تاريخية النقود، بالاستناد إلى الذهب.
ويكون من الطبيعي عند انتقال الهيمنة من رأسمال قومي إلى رأسمال قومي آخر أن ترث عملة المهيمن الجديد وظيفة النقود الدولية حالة بذلك محل عملة الرأسمال الَّذي فقد هيمنته على الاقتصاد الرأسمالي الدولي. وذلك هو ما حدث في فترة الحربين العالميتين عندما فقد الرأسمال البريطاني هيمنته على الاقتصاد الدولي (تاركاً الاقتصاد الدولي كي يقسم عدة كتل نقدية)؛ فقد ظهر الرأسمال الأمريكي كي يفرض هيمنته (وارثاً التركة الاستعمارية من أوروبا)، ولكي تأتي الحرب العالمية الثانية لتؤكد الهيمنة الجديدة الَّتي تفرض جميع تبعاتها في الفترة التالية للحرب. وهكذا تبلور التاريخ الحديث للرأسمالية. وهي بحكم تكوّنها التاريخي لا تعيش إلاّ من خلال الأزمات، فالأزمات بالنسبة للرأسمالية هي كما قيل كثيراً بمثابة الدش البارد المنعش! في جميع الأحوال يصعب أن نخفي قناعاتنا بأنّ سبب انحطاط العالم المعاصر ليس فشل الرأسمالية، بل نجاحها.
يوسف هريمة: يعتبر أصحاب الدين الأكثري بتعبير عبد الكريم سروش بأنّ الدين يتضمّن كلّ المجالات المعرفية، بما في ذلك المجال الاقتصادي، ويضربون على ذلك مجموعة من الأمثلة، كتشريع مؤسّسة الزكاة وغيرها. هل بالفعل هناك نظرية اقتصادية إسلامية؟ وإذا كان الجواب نافيا، فما هي أهمّ المغالطات التي تحملها مثل هذه التصوّرات؟.
د. محمّد عادل زكي: الدين لا يحتوي أبداً على قواعد موضوعية تفسّر الظواهر تفسيراً علمياً، ربما فسّر (الفقيه) الفقر بالابتعاد عن طريق الله، والإفلاس والكساد والركود بغضب الله... إلخ، ولكنه لا يملك الأدوات الفكرية، بل يرفضها، التي تمكنه من تفسير الظاهرة تفسيراً علمياً بالكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة لها.
ولنلق النظرة ولو العابرة على ما يطلقون عليه الاقتصاد الإسلامي. فالواقع أنّ هذا الاقتصاد، إذ ما أخضعناه للتحليل العلمي، ليس إلا النظرية النيوكلاسيكية، حتى المصطلحات نيوكلاسيكية، التبويب. تبويب الموضوعات نيوكلاسيكية. ولكنها زخرفت بالآيات والأحاديث وأقوال الفقهاء. فبدت وكأنها من عند الله سبحانه وتعالى. وما هي أبداً كذلك، ولا يمكن أن تكون هكذا. ربما كان للدين، أيا ما كان هذا الدين، دور المصلح الاجتماعي حال ممارسة المجتمع للنشاط الاقتصادي. أي أنه يضع قواعد سلوك، هذه القواعد كما تنظم السلوك على الصعيد السياسي تنظمه على الصعيد الاجتماعي وكذلك الاقتصادي، ولكن، ألا تتفق معي في أنّ هذه القواعد تصبح حيئذ أقرب إلى القواعد الأخلاقية التي تُستقى من المباديء العامة لجميع الأديان التي تحضّ على مجموعة من القيم كالعدالة وعدم الغش والإخلاص في العمل...إلخ؟.
يوسف هريمة: ختاما كيف يمكننا أن نفهم جذور تخلّف مجتمعاتنا العربية الإسلامية؟ هل الأمر متعلّق بفشل سياسات اقتصادية لم تنتج إلاّ المزيد من الفوارق الاجتماعية؟ أم هو فشل في بنية ثقافية يعتبر الاقتصاد جزءا منها؟. وما السبيل للخروج من ربقة هذه الأزمات المتتالية؟.
د. محمّد عادل زكي: السؤال الأهم، وغالباً ما لا تتم الإجابة عليه، هو: لماذا، بعد أن خرج الاستعمار الَّذي شوّه الهيكل الاقتصادي وسبب التخلّف، لم تزل بلدان العالم العربي متخلّفة؟ هذا السؤال من المعتاد تجاهله من قبل النظرية الرسمية، والواقع أنّ اقتصادات عالمنا العربي والإسلامي تجدّد إنتاج تخلفها، مع كل عملية تسرب في القيمة التي أنتجتها سواعد الشغيلة تسرب القيمة الزائدة المنتجة بفضل سواعد الشغيلة في الاقتصاد القومي المتخلّف إلى خارجه صوب الأجزاء المتقدّمة من أجل شراء وسائل الإنتاج اللازمة لتجديد الإنتاج الاجتماعي. ولسوف تظلّ هذه العملية الجهنمية قائمة، وسوف يظل المجتمع العربي في حالة تخلف مزمن بقدر هيمنة هذه العملية الجهنمية من تسرب القيمة المنتجة من داخله إلى خارجه بدلاً من إعادة ضخّها في عروق الاقتصاد المنتج لها من أجل تنمية مستقلة معتمدة على الذات.