محمّد عادل مطيمط: الحداثة والديمقراطية في مواجهة ثقافة الجماعة
فئة : حوارات
د. محمّد عادل مطيمط هو أستاذ في الفلسفة وتاريخ الأفكار في المعهد العالي للعلوم الإنسانية في جامعة قابس في تونس، وهو حاصلٌ على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة باريس 8، عام 2007، عن أطروحةٍ بعنوان: الأسس الفيزيائية للفلسفة السياسية الحديثة (هوبز وسبينوزا)، Les Fondements physiques de la philosophie politique moderne: Hobbes et Spinoza
تتركز أبحاثة ودروسه حول تاريخ الفكر السياسي (الأنوار، اللائكية، معاداة الأنوار...) وقد صدر له العديد من المنشورات بالعربية والفرنسية والألمانية ومن بينها "حوارات ذكيةDialogische Intelligenz، من قفص المعتقد إلى الفكر الكوني المشترك" باللغة الألمانية (مشاركة في التأليف)، و"ترجمة عربية لكتاب الإيروسية L’érotisme للكاتب الفرنسي جورج باطاي Georges Bataille (عن دار التنوير) باللغة العربية، وعدّة مقالات في الفلسفة والفلسفة السياسية منها: "المفترضات الفلسفية للكليانية" (مجلّة "بحوث جامعية"، كلّية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس)، أو "الأمّة والفئة المفارقية" (العنوان بالفرنسية Umma et Classe pradoxale)، وهو يشتغل حاليا على ترجمة كتاب المؤرّخ الفرنسي بيار دوهام P; Duhem "نسق العالم، تاريخ التصوّرات الكوسمولوجية من أفلاطون إلى كوبرنيك" (المجلد الثامن) Le Système du monde, Histoire des doctrines cosmologiques de Platon à Copernic، وهو أيضا عضو في مجموعة الأبحاث التونسية-الألمانية حول النوع الاجتماعي "الجندر" في جامعة لونيبورج، حيث يشتغل على مسألة النقد الفلسفي المعاصر للذكورية.
أماني الصيفي: لم يغب النقاش عن الحداثة وإشكالية تحديث المجتمعات عن الواقع الثقافي في المجتمعات العربية منذ حركات الاستقلال السياسي حتّى يومنا هذا، وقد اشتدّ ذلك الجدل بعد الثورات العربية والظهور الملحوظ للجماعات الدينية في المجال العام "السياسي"، فلم يعد هذا النقاش يشغل بال المثقّفين فقط، ولكن أيضا المواطن العادي في الشارع العربي؛ أوّلا أودّ أن أسالك عن مفهومك للحداثة اليوم؟
د. محمّد عادل مطيمط: لا يمكن للمرء أن يدّعي القدرة على تقديم مفهوم خاص للحداثة، صحيح أنّ مفهوم الحداثة مفهوم فلسفي وأدبي وعلمي يرتكز على تحليلات متنوّعة، ولكنها تقود في النهاية إلى اتفاق بين الكتّاب والفلاسفة والمفكّرين والنقّاد في مختلف السجلات على تحديدات عامة يمكننا رصدها. هناك نقاط مشتركة بين مختلف السجلاّت التي تتعرّض لمسألة الحداثة، والإشكال لا يتعلّق بذلك، بل بالغموض الذي تتّسم به الكتابات والخطابات العربية المعاصرة في هذا الشأن. وهنا أعتقد أنّ المسألة تقتضي أن يتوقف المرء للتدقيق ومحاولة تقديم معنى دقيق للمفهوم، وألاّ يقع في هذا الخطاب الغامض الذي نسمعه هنا وهناك خاصّة على الصعيد الصحفي.
يمكننا القول أوّلا، إنّ الحداثة modernité هي كلّ ما هو معاصر Contemporain لزمنه؛ أي أنّ الحداثة ليست حكرا على تلك المرحلة التاريخية التي نسمّيها "حداثة" Modernité. فلكلّ عصر حداثته، ثقافته وإبداعه وأدبه. وبذلك، فإنّ الشخص الذي يكون في ذلك العصر متماشياً مع ذلك الفكر ومع ذلك الأدب وذلك الخطاب؛ أي يكون ابن عصره، يعتبر حديثا moderne. نستطيع القول بهذا المعنى، إنّ الحداثة تعني التجديد والإبداع أو القطيعة مع الماضي، فإنّ جدّدتَ وأبدعت ولم تكن مجرّد مُستعيد لما هو قديم، فأنت إذن حديث moderne.
أمّا مفهوم الحداثة التاريخي المرتبط بما يُعرف بالحداثة الغربية، فيتعلق بحقبة أو بعصرEpoque تعود بدايته إلى القرن السابع عشر. والمرحلة التاريخية التي سبقته هي ما يسمّى بعصر النهضةRenaissance الذي مثّل استعادة لنموذج إبداعي قديم شهدته إحدى المراحل السابقة في الحضارة الغربية (أعني القدامة الإغريقية الرومانية L’Antiquité greco-romaine). لقد كان عصر النهضة استعادة لحداثة غربية قديمة بهدف تخليص المجتمع والثقافة من حالة انحطاط Décadence دامت قرونا عديدة سببها تحالف السلطة السياسية والدين (Le Césaropapisme) واحتكار الكنيسة المطلق للحقيقة والفضاء العام. وعلى العكس من ذلك، تقوم الحداثة الغربية أساساً على الاتجاه العقلاني "التنويري" الذي سعى إلى القطيعة في الوقت نفسه مع الماضي اللاهوتي القروسطي ومع سلطة التقليد (Le principe d’autorité) التي كرّستها مرحلة النهضة نفسها. هنا مثلا يتنزّل دور منهج الشكّ لدى الفيلسوف الفرنسي ديكارت، والذي يُعتبر مؤسّسا للحداثة أو أب الحداثة مثلما يقال. نستطيع أن نقول على أساس ذلك، إنّ الفارق بين النهضة والحداثة هو فارق جوهري من حيث إنّ الأولى تقوم على التقليد، في حين تقوم الثانية على الحرية والإبداع. ولكن كلتا المرحلتين تشتركان من جانب آخر في سمة أساسية تكمن في أنّهما تنتميان معا إلى التيار الإنسانوي Humaniste للثقافة؛ أي أنّ المرجعية الأولى والأساسية والمحور الرئيس للفكر فيهما معا هي الإنسان وليس حقيقة أخرى، مثل حقيقة الله في الفكر اللاهوتي الوسيط مثلا. ورغم ظهور تيارات معادية للحداثة "العقلانية" أو "التنويرية" فيما بعد منذ مطلع القرن الثامن عشر، إلاّ أنّ تلك التيارات المعادية للأنوار، والتي قاومت الأنوار دون أن تنتصر عليها، تتفق مع الحداثة التنويرية على الجوهر "الإنسانوي" للحداثة بوجه عام. وهنا تتنزل خطابات ما بعد الحداثة Post-Modernité الفلسفية والأدبية والسياسية، باعتبارها عودة نقدية معاصرة على الإرث الإنسانوي للنهضة والحداثة بوجهيها. غير أنّ هذا النقد لا يمكنه أن يكون تبريرا للعودة إلى "ثقافة" العصور المظلمة كما يذهب في ظن البعض ممن يبحث عن موقع للإسلام السياسي اليوم في نقد الحداثة وجوهرها الإنسانوي. لقد سمعنا بعضا من هذا الكلام الغريب في السنوات الأخيرة، وللعلم فإنّه يستحيل تنزيل الإسلام السياسي ضمن أية مقولة من المقولات سابقة الذكر. فلا هو بالنهضة، ولا هو بالحداثة بوجهيها التنويري والهووي، ولا هو كذلك بالخطاب ما بعد الحداثي: إنّه يقع خارج كلّ هذه السياقات.
أماني الصيفي: كيف تقيّم الخطاب الحداثي في تونس الآن؟
د. محمّد عادل مطيمط: ما وقع في تونس وغيرها من مجتمعات العالم العربي كانت محاولات لتحديث المجتمع وفق نمط الحداثة التنويرية الغربية. فالمحاولة البورقيبية مثلا، التي تمثل امتدادا لخطاب الإصلاح التونسي هي محاولة لخلق حداثة تشبه الحداثة الغربية. لقد سعى بورقيبة إلى استعادة نفس المسار الذي قاد في الغرب من الإصلاح Reforme إلى الحداثة استنادا إلى توفّر مكاسب إصلاحية مهمة سابقة في تونس منذ القرن التاسع عشر(أحمد بن أبي الضياف، خير الدين باشا، المشير أحمد باي). فتونس التي كانت سبّاقة إلى إلغاء الرّق زمن المشير أحمد باي، تمكّنت من تفعيل أفكار "الطاهر الحداد" (كتابه: امرأتنا في الشريعة والمجتمع، 1930) في مجلّة الأحوال الشخصية (1956) بمجرّد وصول الحبيب بورقيبة إلى السلطة (الوزارة الأولى آنذاك). أعني بعبارة أخرى، إنّه لا شيء في تجربة التحديث التونسية غريب عن الخصوصية التاريخية لهذا البلد.
وإزاء المستجدّات الأخيرة التي فتحت للتيار الديني مجال العمل السياسي، لا نستطيع القول إنّ تجربة التحديث في تونس قد باءت بالفشل، ولكن يجب القول إنّها لا زالت في مواجهة مع تصوّر آخر لا عقلاني ولا إنسانوي للثقافة والمجتمع، بل يجب أن نقول إنّ محاولة الإسلاميين أسلمة المجتمع والثقافة في تونس قد باءت بالفشل، رغم كل الدعم العالمي شرقا وغربا للإسلام السياسي، ورغم محاولتهم استثمار اعتزاز المواطن التونسي بانتمائه إلى الإسلام؛ فحتّى الإسلام مثلما يعيشه ويتمثّله الإنسان التونسي يأبى أن يتحوّل إلى إسلام الإسلاميين السياسي، وبات من الضروري في النهاية لا على التونسيين أن يتأسلموا بل على الإسلاميين أن "يَتَتَوْنَسُوا" نظرا لعمق أثر الإصلاح والأثر الثقافي للجمهورية الأولى ولإرث الإصلاح في وعي الشعب التونسي.
على صعيد العالم العربي، يمكننا القول إنّ تجربة بورقيبة في تونس وكذلك التجارب البعثية في سوريا والعراق مثّلت كلّها تجارب تحديثية متقدمة. لقد حاولت جميعها استعارة نموذج الحداثة الغربية وتطبيقه في الواقع العربي، وعملت في نفس الوقت على استلهام الروح العقلانية والتنويرية في تاريخ الثقافة العربية. ولكن الاختلاف هو أنّ البورقيبيّة كانت أكثر انفتاحاً على الخطاب الحداثي التنويري، في حين أنّ التجربة البعثية ارتبطت أكثر بالخطاب الحداثي الرومانسي وبتمجيد الأمّة وتمجيد الهوية والذاتية العربية المبدعة... لقد مثّل كلاهما خطابا إنسانويا تحديثيا، ولكنّهما يختلفان في تصوّر كلّ منهما للحداثة. لقد أراد كلاهما تأسيس نموذج تعليمي حديث، وعمل كل منهما على تحديث منزلة المرأة في المجتمع، ولكن يجب أن نظلّ حذرين إزاء ذلك؛ فالحركات القومية انتهت إلى التقاطع المبرّر تاريخيا مع الدين، ولم تستطع الذهاب إلى أبعد ممّا ذهبت إليه البورقيبية التي تفوّقت عليها في هذا الاتجاه (وهو ما يظهر مثلا في ذلك التضارب في صلب التجربة الناصرية التي كانت اشتراكية تحديثية من جهة ولكنها بوّأت السلطة الدينية للأزهر مكانة لم يكن يحظى بها حتّى في عهد الملك فاروق). نستطيع القول، إنّ مشروع التحديث القومي العربي قد انهزم بسبب التقاطع مع المؤسسة الدينية والتركيز على الدين كمقوّم للهوية القومية. أمّا مشروع التحديث الليبرالي (وليس النيو- ليبرالي)، فإنّه لا يزال يقاوم تيّار الارتداد نحو النموذج ما قبل الإنسانوي الذي تبشّر به التيارات الدينية في تحالف عالمي نيوليبرالي إسلامي غير مسبوق.
وهنا يطرح السؤال حول هذا التيار الديني وحول موقعه من المشهد الثقافي والسياسي الحالي؛ فمثلا عندما تتحدّث الحركة الإسلامية في تونس عن "النهضة"، وتسمّي نفسها "نهضة"، فإنّ ذلك يفترض أن يكون خطاب النهضة بمثابة استعادة لنموذج ازدهار سابق تلته مرحلة انحطاط حضاري، بمعنى استعادة لنموذج إبداعي عاشته الأمّة أو الحضارة في مرحلة ما سابقة. ولكن المتأمّل في ذلك يستطيع أن يردّ بالقول إنّ صورة المجتمع والحضارة التي تطرحها تلك الحركات بديلا عن الحداثة الغربية بوجهيها القومي أو الليبرالي هي صورة لا مرادف لها في تاريخنا سوى في تلك المراحل المظلمة منه. نهضة ماذا هذه التي نراها اليوم في غزّة أو السودان مثلا؟ لماذا نسمّيها نهضة والحال أنّها لا تستدعي لا نموذج الثقافة الغربية القديمة، ولا كذلك نموذج المرحلة المضيئة من التاريخ العربي التي هي حالة تواصل أيضا مع نموذج الثقافة الغربية القديمة المزدهرة؟ لو بُعث فلاسفتُنا وشعراؤنا إلى الحياة من جديد لكانوا أوّل من تكفّرهم حركات الإسلام السياسي. يقال إنهم حطّموا تمثال أبي نواس في بغداد وتمثال المعرّي في سوريا. يصعب هنا الحديث عن نهضة اللهمّ إلاّ إذا أخذنا كلمة نهضة على أنها تدلّ على استعادة حالة السقوط والانحسار الفكري والثقافي الظلامية، مثلما حصل بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية في الغرب، أو تكرار حالة شبيهة بالقرون الستّة للإمبراطورية العثمانية التي لم تساهم ولو باسم واحد في حركة الأفكار العلمية التي مهّدت طيلة القرون الوسطى المتأخّرة وطيلة مرحلة النهضة الأوروبية في الإعداد للثورة العلمية الحديثة التي شهدها القرن السابع عشر.
أماني الصيفي: سعى بورقيبة إلى إقامة نظام عقلاني يؤكّد الحداثة التي ترتكز على "الإنسان" لتحقيق القيمة الأخلاقية للديمقراطية، فإلي أيّ حدّ أثمر ذلك النموذج اليوم؟ ولماذا لم نر مجتمعا تونسيا حديثا وديمقراطيا يضاهي مجتمعات أوروبا الغربية مثلا؟
د. محمّد عادل مطيمط: المشكلة هنا تكمن في معرفة ما إذا كان هذا النموذج يقتضي الانطلاق من الواقع الاجتماعي، أم أن يتمّ فرضه فرضا عبر سلطة سياسية ما؟ فالحداثة في تونس وغيرها من الدول العربية كانت في جانب كبير منها تعبّر عن عملية قسرية. ولكن لا يجب أن نحكم على الأسلوب القسري بأنّه أسلوب سلبي دائما. هناك موقف مشهور لبورقيبة يقول فيه: "سأقوم بفرض المساواة بين الرجل والمرأة بقوّة القانون"؛ فهو هنا لا يهمّه إذا كانت الغالبية ترفض تحقيق تلك الغاية أو توافق عليها، ولكن ما يهمّه هو تجسيد المبدأ الأخلاقي عبر قيامه بفرض هذا المبدأ، باعتباره متفقا مع مقتضيات الوجود الأخلاقي للبشر. لقد كانت الحداثة في هذه المجتمعات مشروعا تتبنّاه الدولة. صحيح أنّها كانت بذلك مشروعا استبداديا، ولكن هذا المشروع هو مشروع استبدادي تنويري يختلف عن الاستبداد الظلامي الذي يمنع التنوير ويرفض المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق، ويغلق المسار التاريخي نحو الديمقراطية.
ومع ذلك لم تكن التجربة التونسية قسرية بشكل تام نظراً لوجود موروث ثقافي واجتماعي تونسي منسجم في جانب كبير مع الخطاب البورقيبي التنويري. هذا الموروث هو نتيجة لعمق أثر الخطاب الإصلاحي لخير الدين باشا والطاهر الحدّاد وغيرهما من المصلحين، ثم إنّ السمات الثقافية للشعب التونسي المتنوّع والمنفتح جدّا منذ القدم على التأثيرات التاريخية المتوسطية ساهمت إلى حدّ كبير في نجاح بورقيبة في نشر التعليم وفرض المساواة بين الرجل والمرأة وتركيز أسس الثقافة الحديثة، حتى أنّ من يسمّون ب "علماء" الزيتونة كانوا قد وافقوا هم أنفسهم في فترة بداية الاستقلال على ما أقرّه المشروع الحداثي البورقيبي في مجلّة الأحوال الشخصية ... فالمسألة في تونس كانت أسهل من غيرها من الدول المجاورة بسبب تلك الحالة من الانفتاح الاجتماعي ومشاريع الإصلاح السياسي والديني التي عرفتها تونس منذ القرن التاسع عشر.
ولكن السمة القسرية لهذا المشروع في جانب كبير منه، هي التي جعلت اتهامه بالتغريب والهجوم عليه من الخارج بواسطة تيّار ديني معاد للحداثة ومدجّج بالمال أمرا سهلا إلى حدّ ما، وهو ما يفسّر التراجع النسبي الذي نشهده اليوم. غير أنّه تراجع متردّد ومرتبك أمام قوّة الإرث التحديثي البورقيبي الذي يبدو أنّه لا يزال قادرا على المقاومة الشرسة وتحقيق الانتصار طال الزمن أم قصر. قوّة هذا الإرث جعلت أحد قادة الإسلام السياسي في تونس يصرّح بضرورة فرض نموذج الدولة الإسلامية بقوة الدولة القاهرة! قاهرة لمن إذا كانت قوة الدولة التي فرضت التحديث قد تراجعت نسبيا مقارنة بمراحلها الأولى؟ هل يقصد أن تكون قاهرة للشعب؟ ومن مفارقات المرحلة أنّه كلّما أراد الإسلاميون في تونس فرض شيء من الأشياء مما يتصوّرون من رؤيتهم للمجتمع والدولة إلاّ وكان ردّ الفعل الحداثي - على نخبويّته - قويّا بفرض مكسب تحديثي آخر مما لم يكن ممكنا تخيّل إمكان تحقيقه حتّى في زمن بورقيبة نفسه. مثال ذلك، أنّ تونس أصبحت بعد محاولة الإسلاميين أسلمتها هي البلد العربي والمسلم الوحيد الذي ينصّ دستوره على حرّية الضمير، وتونس هي البلد المسلم الأوّل الذي انطلق فيه النقاش حول المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة... هل من دليل أقوى من ذلك على استمرار جذوة التحديث في هذا البلد، رغم الهجمة الخارجية القوية ضدّه عبر محاولة عالمية مكشوفة لفرض الإسلام السياسي عليه؟
وهنا يأتي السؤال الذي يجب أن يطرحه العرب على أنفسهم: إذا لم تتوفّر الشروط الاجتماعية الموضوعية الكافية لتقبّل المبادئ الأخلاقية الكونيّة الحديثة للعقلانية والديمقراطية أو المساواة بين الرجل والمرأة، فهل يجب أن نقبل فكرة أنظمة تفرض النموذج الحداثي بالقوّة؟ هنا، دعيني أذكّر بالنموذج الفرنسي مثلا. فما نعتبره حداثة في المجتمعات الغربية مثل فرنسا لم تنشأ في إطار سياسي ديمقراطي بعد الثورة الفرنسية ولكنّه نشأ في الفكر والثقافة في مرحلة ما قبل الثورة الفرنسية منذ القرن السابع عشر وربّما قبل ذلك. ولقد نشأ في سياق سياسي من الاستبداد المستنير Despotisme éclairé كان يعمل على نشر المعرفة ونشر الوعي النقدي. أعني أنّه رغم نضج الظروف الموضوعية للتقدّم، فإنّ المجتمعات بحاجة دائمة إلى التأطير حتّى لا تنتصر فيها قوى التراجع على قوى الحياة... إذا كنّا نرفض وضعيّة الانحطاط التي شهدتها أوروبا وتشهدها بعض المجتمعات العربية اليوم، وإذا كنّا نرى في صورة المجتمعات الغربية الديمقراطية والمتقدّمة اليوم الصورة المثلى التي يجب أن نستلهم جانبا كبيرا منها(رغم الانتكاسات الناتجة عن تغلغل النسق النيوليبرالي)، فعلينا أن نقبل بمنطق التأطير والدفاع ولو بالقوة عن القيم الأخلاقية الإنسانية، والحال أنّ القوة الوحيدة المشروعة والشرعية هي قوّة الدولة. من الضروري أن يدرك المرء هنا أنّ هناك فرقا بين السلطة المستبِدّة Despotique الوطنية الراعية لمواطنيها والسلطة الطغيانية Tyrannique التي تبطش بالشعب ولا تعمّر إلاّ بتخلفه وضعفه وجهله.
أماني الصيفي: وما هي تلك الشروط الموضوعية التي تتصادم مع تحقيق الديمقراطية في رأيك؟
د. محمّد عادل مطيمط: تعطّل تحقّق شرط الاستقلالية الفردية، باعتبارها المقولة المحورية أو الحقيقة المركزية التي يرتكز عليها مفهوم المجتمع الحديث، باعتباره مجتمعا إنسانيا تعاقديا يتشارك الأفراد في إقامته من أجل المصلحة المشتركة، وفي إطار علاقات من الاحترام المتبادل بينهم دون حاجة لسلطة ما ورائية. إنّه غياب العقد الأفقي الذي يجعل البشر وجها لوجه بعضهم أمام بعض واستمرار اقتصارهم على عقد عمودي وأحادي مع العالم الآخر. ما ينقصنا إذن، هو ولادة الإنسان بالمعنى السياسي والأخلاقي، ومن المؤسف أن يذهب الجهل ببعض "المثقفين" إلى اعتبار ذلك حكرا على الثقافة الغربية وحدها، وكأنّه قد كُتب على مجتمعاتنا أن تشقى أبد الدهر، وأن لا تكون لها هي الأخرى إنسانويتها وخلاصها الدنيوي. هذا الشرط الموضوعي هو شرط ثقافي واجتماعي. ويبدو بالنسبة إلى وضعنا العربي الراهن أنّ هناك الكثير من العوامل الداخلية والخارجية تقف عائقا يحول دون إدراك تلك الحالة من الوعي؛ نحن نشهد اليوم تحالفا بين قوة الانحطاط والنكوص الداخلية والقوى العالمية ذات المصلحة في انحطاطنا: لقد بات الأمر مفضوحا للجميع. ولذلك هناك الكثير ممّن بات يفضّل حلّ الدولة الوطنية حتى وإن كانت ديكتاتورية (وليس طغيانية) على افتراض أنّ ذلك سوف يكون حماية للتطوّر الاجتماعي والسياسي الطبيعي من التدخّل الأجنبي الذي يعرقل نضج الحالة الاجتماعية والسياسية، حتى تكون قادرة على التحديث. ما يتمّ فرضه اليوم فيما يسمّى بالربيع العربي ليس هو الديمقراطية الحقيقة بل هو حالة من الانحلال السياسي والاقتصادي والمجتمعي المنذرة بخراب كبير. والمشكل أنّ حالة الانحلال التي تبدو مقدّمة للديمقراطية في نظر البعض (وَهْم الفوضى الخلاّقة) لا يمكنها إلاّ أن تكون مقدّمة، إمّا للاستعمار التقليدي - وهذا مستبعد - أو إلى نشأة أنظمة طغيانية (وليس دكتاتورية أو استبدادية وطنية) تعطّل التطوّر الطبيعي للمجتمعات لعقود أو حتّى لقرون.
أماني الصيفي: على الرغم من المعوقات الثقافية التي ذكرتها، والتي تقف حائلا أمام تحقيق الديمقراطية في تونس إلا ّ أنّ أغلب المثقّفين والأكاديميين من العرب والغرب، يرون أنّ النموذج التونسي كان بارقة أمل في الوطن العربي، باعتباره نموذجا قابلا للديمقراطية، فقد أثّر التعليم العلماني في الشخصيّة التونسية؛ فهي لم تعد تلك الشخصية الجمعاوية التي ترفض كل استقلالية للفرد. فإلى أيّ مدى أثّرت التجربة البورقيبيّة في تطوّر الفكر السياسي عند الأحزاب السياسية الإسلامية؟
د. محمّد عادل مطيمط: إذا كانت الظروف غير ناضجة في الواقع الاجتماعي والثقافي، فلابدّ من تدخّل سلطة تقوم بتوجيه وتربية الفرد لإعداده لذلك. وهنا يكمن سرّ النجاح النسبي للتجربة التونسية. ولكننا لا نستطيع أن نضمن مجتمعا ديمقراطيا مستقبليا بـ"ديمقراطية" تسمح بانتشار المدارس الدينية على نطاق واسع أو بالسكوت على توظيف الدين في السياسة.. لقد مهّدت البورقيبية لجعل المشهد السياسي الحالي ممكنا، ولكنّه مشهد هشّ نظرا لاستمرار التوظيف السياسي للدين وللتردّد في تطبيق مبادئ الدستور بشكل تامّ. صحيح أنّه لولا المراكمة المعرفية والإدارية للبورقيبية لانزلقت بلادنا فيما لا تحمد عقباه ولكن لا بدّ من تقوية شوكة الدولة لا من أجل البطش بالشعب، بل من أجل تجسيم مبادئ الدستور في صيغ قانونية محكمة وفي ممارسة بنّاءة، ومن أجل حماية مدرسة الجمهورية وفرض البرامج التي تقود الأجيال القادمة نحو حداثة متكاملة وقادرة على الاستمرار. أنا لست متشائما من هذه الناحية، ولكنّني "متشائل" لأنّ تونس ليست وحدها، بل هي في مهبّ تقاطعات وتأثيرات دولية يصعب اليوم على دولة أن لا تتعرّض لآثارها، وهو ما يؤكّد أهمّية العمل العربي المشترك بين القوى الحداثية لحماية مجتمعاتنا من الانهيار والعدمية.
أماني الصيفي: ألا ترى معي أنّ الموروث الثقافي وتأثيره على الفرد في حال دائمة من التغيّر، ومثالا على ذلك ردّ فعل المجتمع التونسي على المقترحات الأخيرة بخصوص تغيير قوانين الميراث بين الرجل والمرأة، والتي تُعدّ أكثر القوانين تحرّرا؟ لم نجد مثلا المجتمع بأكمله بموروثه الثقافي يرفض تلك القيم للمساواة بين الجنسين؟
د. محمّد عادل مطيمط: فعلا، هذه المبادرة تاريخية لرئيس الدولة وسيسجّلها له التاريخ، غير أنّ هناك اختلافا في وجهات النظر، فهناك من يمدح تلك الخطوة الجريئة والتي آن أوانها فعلا، وهناك من يرى أنّه لم يحن الوقت بَعدُ، وقد يكون معنى ذلك أنّ هناك أطرافا سياسية لا تريد طرح المسألة حالياً أو معناه بشكل أعمق أنّ الظروف الموضوعية في المجتمع لم تنضج بَعدُ ويجب أن ننتظر حتى يقبل المجتمع بذلك، وهناك طرف ثالث يرفض تلك الأفكار من أساسها. ولكن يجب الإشارة إلى أنّ النقاش هنا مفيد في حدّ ذاته، ليس فقط في تونس ولكن في الدول العربية عامة، وهو ما قد يكون له أثر كبير في تحريك الأمور نحو الأفضل في المستقبل. فلقد بلغ الركود بالوعي الاجتماعي في المنطقة حالة منذرة بالاندثار.
أماني الصيفي: إذا كانت التجربة العقلانية التنويرية هي الوحيدة القادرة على تحقيق تقدّم الإنسان ورفاهيته وما دونها لا يمكن تسميته حداثة، فإنّ ذلك يعني أنّ الأحزاب الليبرالية هي فقط ما يجدر أن نطلق عليها مصطلح حداثة فما موقع الأحزاب الدينية الاسلامية في بلد مثل تونس أو تركيا مثلا؟
د. محمّد عادل مطيمط: أنا لا أرى الأحزاب الإسلامية بصيغتها الحالية (أي الصيغة الإسلامية أو الإسلاميوية) أحزابا حداثية؛ فهي ترتكز على فكر منقوص من الشروط الأساسية للفكر الحداثي؛ فجميعها يرتكز على فكرة "الجماعة"، الجماعة الإسلامية أو الجماعة الدينية، وهي لا تقبل بفكرة الفرد التي يرتكز عليها التنوير الذي يدعو إلى استقلالية الفرد بالمعنى الأخلاقي وإلى استقلالية المواطن بالمعنى السياسي. بإمكانك أن تحاوري أيّ منتم لهذه الحركات حتّى تدركي ذلك من الوهلة الأولى. فكيف لحركات لا تقبل بذلك الشرط الأساسي أن تكون حركات حديثة بالمعنى الذي تحدّثنا عنه؟ هل هي حديثة مثلا بالمعنى الذي يتبنّاه التنوير؟ أم تراها تتبنّى مفهوم الحداثة الهووية؟ من خلال بحثي، يتبيّن لي أنّ مفهوم الجماعة Communauté الذي تتبنّاه تلك الحركات لا يلتقي مع مفهوم الجماعة العضويةCommunauté organique الذي نادت به الحركات الرومانسية في أوروبا القرن الثامن عشر... أجد أنّ مفهوم الجماعة الذي تفرضه الجماعات الإسلامية مفهوم "هلامي" ينطبق على جماعة مجرّدة لا يجمع بينها سوى الإيمان الديني، ولكنّ الإيمان الديني وحده لا يصنع لا جماعة عضوية بالمعنى التاريخي ولا مجتمعا مواطنيا بالمعنى التنويري. فما هي هذه الجماعة التي لا يمكن حدّها؟. ثم إنّ الأهمّ في ذلك هو أنّها تتناقض جوهريا مع مفهوم المجتمع الذي يتشكل من مواطنين أحرار في أن يشاركوا في لعبة سياسية حقيقية تكون في حالتها الأكثر نضجا لعبة ديمقراطية. أنا لا أفهم كيف يمكننا في ضوء ذلك أن نطلق على الحركات الإسلامية تسمية الأحزاب السياسية...
أماني الصيفي: ألا نستطيع أن نصنّف تلك الأحزاب الإسلامية على ضوء مفهوم "يورجن هبراماس" "مجتمع ما بعد علماني"، والذي يؤكّد فيه على عدم إمكانية تغييب تلك الأحزاب في المجتمع العلماني الحديث كجزء لا يتجزّأ من المجتمع المعاصر؟
د. محمّد عادل مطيمط: يتحدّث هابرماس من منطلق الواقع الألماني والأوروبي الذي يشهد تواجد أحزاب ديمقراطية مسيحيّة La Démocratie chrétienne والأمر الذي ينساه أو يتناساه الكثيرون في الغرب وفي بلداننا أيضا هو أنّ تلك الأحزاب التي تستلهم مبادئها من تلك المرجعية الدينية المسيحية ترتكز على مرجعية دينية شهدت عملية إصلاح كبرى منذ حركات الإصلاح الديني في أوروبا وصولا إلى الفصل بين الدين والدولة (قانون 1905 في فرنسا)، لا بل إنّه يصعب فهم الديمقراطية الغربية الحديثة بأكملها دون حساب أثر حركة الإصلاح الديني في تطوّر الفكر السياسي هناك. لقد أنهت تلك الحركات المشكلة بشكل قانوني، فأصبحت تتعامل مع الدين على أنّه تجربة روحية ومكوّن روحي من مكوّنات الثقافة وعنصر مندمج ومتصالح مع بقية مقوّمات الثقافة الاجتماعية. لا ننتظر من الديمقراطية المسيحية أن تعمل على تقويض مبادئ اللائكية، مثلما يعمل على ذلك حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا: الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا هي أحزاب علمانية في حين أنّ الأحزاب الإسلامية في بلداننا مناهضة للعلمانية ولا زالت تحلم ببناء دولة الخلافة. ما حصل من مراجعة للائكية في فرنسا في العقود الأخيرة لم يكن الهدف منه هو التخلّي عنها أو السماح للدين بأن يكون أساسا للنشاط السياسي، بل هو إجراء يهدف إلى جعل اللائكية أكثر تسامحا بمعنى أكثر انفتاحا على مقوّمات المجتمع الثقافية. أمّا العالم العربي الذي لم يكتمل فيه بَعدُ مشروع الإصلاح الديني، فإنّه لا يزال متشبّثاً بمبدأ الوصل بين الدين والدولة. فمن يستطيع أن يغفل عن دور الإفتاء في السياسة العربية اليوم؟ وبعبارة أخرى، فإنّه إذا كنّا لم نمرّ بعدُ إلى حالة المصالحة بين الدين والتجربة السياسية بصيغة الفصل بين الدين والسياسة وإخراج الدين من المجال السياسي، فكيف ندّعي أنّ الحركات الدينية يمكنها أن تكون ديمقراطية؟ كل اللغط الدائر حول دمقرطة الإسلام السياسي هو مجرّد تمويه أو مضيعة للوقت ومسيحيّة الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا اليوم ليست مسيحية سياسية، لأنّ المسيحية انفصلت عن السلطة منذ القرن السادس عشر انفصالا مضاعفا روحيا (إصلاحيا) ولائكيّا.
... من هنا أقول، إنّ تلك الحركات إذا أرادت أن تستوعب شروط العملية السياسية يجب عليها أن تتحوّل إلى حالة فكرية من النقاش والبحث ومن أجل الإصلاح والتقدم على صعيد الخطاب، حتّى يأتي الحين الذي تكون فيه قادرة على دخول المجال السياسي و"الديمقراطي". ما لم تفعل ذلك، فإنّها ستبقى بمثابة عنصر عدم توازن مستمرّ في المشهد السياسي.