محمد عثمان الخشت: الإسلام الحر بين تأصيل المعنى وأحادية الرؤية
فئة : حوارات
المفكر الكبير محمد عثمان الخشت أستاذ فلسفة الدين والفلسفة الحديثة والمعاصرة، المستشار الثقافي المصري بالسعودية، يُعدّ أحد القامات الفكرية العربية التي آلت على نفسها الجمع بين النظرة العقلية الغربية والتراث الإسلامي في معالجة القضايا الفكرية، وهي تلك النظرة التي كشفت عن العديد من الأفكار المهجورة في الفكر الإسلامي، وفي علاقة الإسلام بالآخر والقضايا الفكرية الآنية، ويحسب له أنه موسوعي الثقافة مستنير الفكر. له العديد من المؤلفات التي تدرّس في عدد من الجامعات، وتعالج العديد من فروع العلم: كأصول الدين والفقه ومقارنة الأديان، وعلم السياسة، والمجتمع المدني، وفلسفة المواطنة، وغيرها من فروع العلم التي تحاول أن ترسي فهماً جديداً للعديد من الإشكاليات المعاصرة، مستندة في ذلك إلى منهج وسطي عقلاني يصطبغ بصبغة منطقية، وتعمق في العلوم الإنسانية والعلوم الشرعية. له ما يربو على الخمسين كتاباً، من أهمها: العقلانية والتعصب، الحد الأدنى المشترك، العقائد الكبرى، فلسفة المواطنة في عصر التنوير، المجتمع المدني، المعقول واللامعقول في الأديان.
وقد استضفنا الدكتور محمد عثمان الخشت في حوار جريء وثري، تحدثنا فيه عن جوانب مهملة في الفكر الإسلامي أهملتها أقلام المفكرين طوال العقود الماضية، وهي قضايا تكشف بجلاء عن الإسلام الحر في علاقته بمختلف الإشكاليات المعاصرة، فتحدثنا عن العقد الاجتماعي الإسلامي، وموقف الإسلام من أحادية الرؤية والتوجه، وقيم المواطنة التي تضمنتها وثيقة المدينة، وموقف الإسلام من السينما وحرية الإبداع، وقضايا المرأة، وما هو الإسلام الحر الذي نريد أن نكشف عنه؟ وموقفه من حرمة الحياة الخاصة، وكيف يقضي على إشكالية الفوضى؟ كلّ هذه القضايا وغيرها تناولها هذا الحوار.
محمود كيشانه: الأستاذ الدكتور محمد عثمان الخشت، ظهرت في الآونة الأخيرة بعض التيارات الدينية المتشددة التي لا تراعي حقوقاً للآخر، وتنسف قيم العقد الاجتماعي الذي يكفل للجميع العيش تحت مظلة السلام والتسامح، فهل في الإسلام عقد اجتماعي؟
ـ الدكتور محمد عثمان الخشت: من المؤكد لدينا أنّ المجتمع المدني لا بدّ أن يقوم على عقد اجتماعي، فهل عرف الإسلام مفهوم العقد الاجتماعي؟ من اللافت للنظر أنه رغم عدم ورود هذا المصطلح في الدين الإسلامي، إلا أنّ مضمونه قد تحقق عملياً في العقد الذي وقعه الرسول في المدينة مع أطراف المجتمع المدني: قبائله، وطوائفه، وأديانه، وملله. ونحن لا نقول هذا من قبيل الإسقاط، أو التأويل، أو حتى التلوين، أعني تلوين المفاهيم الإسلامية بمفاهيم غربية. فعقد أو صحيفة المدينة التي تشتمل على نص الاتفاق تنطق بهذا مباشرة، وسأقدمها للقارئ دون تأويل، وسوف يقتصر دوري على مجرد الشرح اللفظي إمعاناً في الموضوعية واتقاء للاتهام بالتأويل.
ولننظر الآن في طبيعة العقد الاجتماعي في صحيفة المدينة. إذا نظرنا في هذه الصحيفة نجد "الأمّة" (المجتمع المدني) في الإسلام قامت أول ما قامت في المدينة، على عقد اجتماعي، تمّ عقده بين جميع طوائف المدينة، والعقد الاجتماعي هو أحد أسس المجتمع المدني (الأمّة). ومن المعروف أنّ المدينة تنوع بشري غير متجانس على العكس من القرية التي هي تجمع بشري متجانس. ومن ثمّ فإنّ التعايش في المدينة يقتضي تنظيماً اجتماعياً يخضع لقواعد تحدد طبيعة العلاقات بين الأطراف غير المتجانسة على أساس من التعاقد أو القهر. وفي المدينة المنورة لم تتحدد العلاقات على أساس القهر كما هو سائد في المجتمعات القبلية أو الأبوية أو الطبقية، وإنما تحددت العلاقات على أساس عقد اجتماعي. ويمثل هذا العقد شكلاً متقدماً من أشكال المدنية وأنماط التعايش القائم على التعددية والتنوع في إطار من المساواة والعدالة وحق المواطنة الكاملة لأهل الطوائف غير الإسلامية الذين يعيشون في إطار المجتمع الإسلامي دون أي نوع من التمييز.
فقد نصت صحيفة المدينة على ذلك؛ إذ اعتبرت أنّ المسلمين وغيرهم من أهل المدينة يشكلون "أمّة واحدة". وفي إطار هذه الأمّة الواحدة لكلّ طائفة حرية الاعتقاد، وحق الملكية، وحق الحماية وواجب الدفاع المشترك، والاشتراك في الجيش، وحق المراقبة، والمساءلة، وإبداء الرأي. وفيما يلي النص الكامل لأول عقد اجتماعي في التاريخ "صحيفة المدينة" كما جاء في السيرة النبوية، قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله كتاباً بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم:
"بسم الله الرحمن الرحيم. هذا الكتاب من محمّد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمّة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمر بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وإنّ المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإنّ المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإنّ أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن، وإنّ ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود فإنّ له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإنّ سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم، وإنّ كلّ غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً، وإنّ المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وإنّ المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن، وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول، وإنّ المؤمنين عليه كافة، ولا يحلّ لهم إلا قيام عليه. وإنه لا يحلّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثاً ولا يؤويه، وإنه من نصره أو آواه، فإنّ عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإنّ مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم. وإنّ اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإنّ يهود بني عوف أمّة من المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأهل بيته، وإنّ ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإنّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وإنّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وإنّ ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وإنّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وإنّ ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وإنّ جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وإنّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإنّ البر دون الإثم، وإنّ موالي ثعلبة كأنفسهم، وإنّ بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم، وإنه لا ينحجز على ثار جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم، وإنّ الله على أبر هذا، وإنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفتهم، وإنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإنّ بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإنّ النصر للمظلوم، وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإنّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة، من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإنّ مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّ الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإنّ من بينها النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وإنّ يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر الحسن من أهل هذه الصحيفة. قال ابن هشام: ويقال: مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة. قال ابن إسحاق: وإنّ البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإنّ الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإنّ الله جار لمن برّ واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
إذن فهذه الصحيفة تنطوي على عقد اجتماعي يكفل التعددية ويتضمن المواطنة التامة للجميع دون أي تمييز على أي مستوى.
محمود كيشانه: ما أهم بنود أو قيم هذا العقد الاجتماعي الإسلامي التي أرستها صحيفة المدينة، خاصة وأنّ إغفالها يُعدّ إغفالاً لجزء أصيل من الدين يجب إبرازه والتأكيد على مضامينه؟
ـ الدكتور محمد عثمان الخشت: هكذا نرى أنّ القيم التي يقوم عليها المجتمع المدني في "صحيفة المدينة" هي التعددية، وحرية العقيدة، والمواطنة، والمساواة، والإدارة السلمية للاختلافات، وهي لا تتعارض مع الانتماء إلى أمّة واحدة أو مجتمع مدني واحد.
أولاً: التعددية والتعايش والانتماء:
لم يضع الإسلام الدين معياراً للانتماء، بل جعل المعيار هو الالتزام بشروط العقد الاجتماعي، ولعل أهمها عنصر "تحقيق الأمن"، وهذا ما أكده علماء الإسلام على نحو حاسم، قال محمد بن حسن الشيباني: "إنّ المسلمين حين أعطوهم ذمتهم، فقد التزموا دفع الظلم عنهم، وهم صاروا من أهل دار الإسلام". فـ"ليس مناط الاختلاف الإسلام وعدمه، وإنما مناطه الأمن والفزع"؛ لأنّ الإسلام "لم يميز بين المسلمين وغير المسلمين على اعتبار اختلاف الدين، كما لم يميز بين المواطنين والأجانب على أساس جنسيتهم أو تبعيتهم. فلذا من الخطأ، الناتج عن الجهل والتضليل، زعم بعض الكتاب أنّ صفة المواطن كانت للمسلمين وحدهم، وأنّ غير المسلمين كانوا جميعاً من الأجانب".
إذن فالانتماء أو المواطنة ليست تصنيفاً على أساس الدين، وإنما على أساس المسالمة والمحاربة، لأنّ الإسلام اعتبر أهل الأديان الأخرى المسالمين من أهل دار الإسلام؛ أي أنّ لهم حق المواطنة الكاملة. ومن مظاهر المواطنة المساواة بين الجميع ـ كما يقول أبو عبيد القاسم- في الدم والدية وتحريم غيبة غير المسلم مثل تحريم غيبة المسلم. وقد أفتى الليث بن سعد فقيه مصر أنهم إذا وقعوا في الأسر وجب افتداؤهم من بيت المال. وقاعدة القواعد في الاعتراف بالتعددية والتنوع والمساواة في الحقوق والواجبات، تلك القاعدة العظيمة التي استقرت في التشريع الإسلامي والتي تنص على أنّ: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا".
ومن جهة أخرى فإنّ آيات تكريم الإنسان بما هو إنسان في القرآن الكريم تنطبق على كلّ إنسان وتعطيه كلّ حقوق الإنسانية، ومن أهمها حق المواطنة. وأمر القرآن للمسلمين بالبر والعدل في التعامل مع غير المسلمين يعني أنّ من واجبهم إقامة العدل بكل أنواعه، ومنها: العدل الاجتماعي والعدل السياسي. وجاء التاريخ الاجتماعي مشتملاً على وقائع تثبت تلك المواطنة للأقليات، وقد احترمت الدولة هذا في التاريخ الإسلامي غالباً؛ حيث كان أهل الذمة يتولون كثيراً من المناصب المهمة والحساسة؛ فقد تولت أسرة مسيحية في العصر الأموي الإدارة المالية لمدة قرن كامل، ومن أشهر أعضاء هذه الأسرة يوحنا الدمشقي المؤرخ المشهور. كما عيّن معاوية بن أبي سفيان كاتباً مسيحياً له، وهو سرجون. وولى معاوية جباية خراج حمص لطبيبه ابن آثال، وهي وظيفة حساسة. وقد ولى عبد الملك بن مروان أثناسيوس وهو عالم مسيحي تربية أخيه عبد العزيز. وعندما تولى عبد العزيز ولاية مصر أعطى له وظائف مهمة ومن بينها رئاسة دواوين الإسكندرية، كما شغل منصب "متولي الخراج" على مصر كلها.
وفي العصر العباسي نجد المعتصم ولى مسيحياً يدعى إبراهيم الخزانة العامة للخلافة، وحفظ خاتم الخليفة، كما ولى أخاه سلمويه منصب أمين الوثائق الملكية. وفي هذا العصر نفسه تولى مسيحي واسمه إسرائيل تنظيم الجيش العباسي. وفي خلافة المقتدر تولى مسيحي "ديوان الجيش".
ثانياً: حرية الاعتقاد
ينصّ القرآن بشكل قاطع على الحرية الكاملة في الاعتقاد؛ حيث يقول: ﴿لا إكراه في الدين﴾. وقد أقر القرآن بوضوح تعددية الأديان في قوله: ﴿لكم دينكم ولي دين﴾، بل اعتبر الاختلاف بين الناس أمراً طبيعياً وسنة من السنن الكونية، يقول تعالى: ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾.
ولم تكن هذه النصوص بمعزل عن الواقع؛ بل تجلت فيه على أنحاء شتى، سواء على مستوى حركة المجتمع أو على مستوى ممارسات الدولة، وقد أيّدت تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم هذه النصوص بوصفها مبدأ عاماً وقاعدة لا يمكن خرقها؛ بل جاءت بعض هذه النصوص مؤيدة لموقف حر اتخذه الرسول نفسه، حيث يروي الطبري عن ابن عباس: أنّ رجلاً من بني سالم بن عوف يقال له "الحصين"، كان له ولدان مسيحيان وهو مسلم، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرغم ولديه على الإسلام، بعد أن أصرا على التمسك بالمسيحية، فنهاه الرسول عن ذلك، ونزلت آية: ﴿لا إكراه في الدين﴾. وفي رواية أخرى للطبري: أنه كان من عادة نساء قبيلة الأوس اللاتي ينجبن أولاداً قصار العمر في الجاهلية أن تنذر الواحدة منهن إذا جاءها ولد أن تهوده حتى يطول عمره. وكانت النساء يرسلن أولادهن إلى قبيلة بني النضير اليهودية. وعندما جاء الإسلام، وأمر الرسول بإجلاء بني النضير بعد ما قاموا به من مؤامرات ضد الإسلام ومحاولتهم قتل الرسول مرتين.. وقتئذ كان بعض أبناء الأوس الذين تهودوا بين القبيلة، فأراد آباؤهم أن يجبروهم على الإسلام، فنزلت الآية مقررة لمبدأ حرية الاعتقاد.
ومن الثابت تاريخياً أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر، وجد بين الغنائم نسخاً من التوراة؛ فأمر بردّها إلى اليهود. وهذا عمر بن الخطاب تأتيه امرأة مشركة تطلب حاجة لها، فدعاها للإسلام، لكنها رفضت، فقضى لها حاجتها، وشعر أنه ربما يكون تصرف بشكل فيه نوع من الإكراه لها على الإسلام تحت ضغط الحاجة؛ فاستغفر الله على ما فعل، وقال: "اللهم إني أرشدت ولم أكره".
وكان لهذا المبدأ انعكاس مثالي على بعض الفقهاء، لدرجة أنّ الشافعي اختلف مع أبي حنيفة حول مدى جواز مفاتحة الزوج المسلم لزوجته غير المسلمة في مسألة اعتناق الإسلام؛ فقد رأى أبو حنيفة جواز ذلك بشرط عدم الإكراه، بينما رأى الشافعي أنه لا يجوز أن يعرض الزوج الإسلام على زوجته "لأنّ فيه تعرضاً لهم، وقد ضمنا بعقد الذمة ألا نتعرض لهم". وهذا يؤكد نزوع الفقهاء الكبار نحو احترام حرية الاعتقاد.
ثالثاً: حق إقامة المعابد وحرية ممارسة الشعائر
من مظاهر حرية الاعتقاد حق إقامة المعابد وممارسة الشعائر، ولا شك في أنّ هذا مظهر من مظاهر المساواة في الحقوق والواجبات. ولا يوجد في القرآن والسنة النبوية أيّ نص يقيد حرية غير المسلمين في إقامة معابدهم الخاصة أو يحول دون حقهم في أداء طقوسهم وشعائرهم. والقاعدة العامة التي تحكم موقف الإسلام في هذه المسألة وغيرها هي "لهم ما لنا وعليهم ما علينا". ثم إنّ القرآن يحث أتباعه على التعامل بالبر والعدل مع أهل الديانات الأخرى: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين﴾. ولا ريب أنّ من البر: العدل، والمساواة في الحقوق ؛ ومن بينها حق إقامة المعابد وأداء الشعائر.
وهذا الأساس النظري كانت له تجليات في الممارسة. ومن الوقائع التي تدلّ على هذا "صحيفة المدينة"، ومعاهدة القدس بين المسلمين والمسيحيين التي وقّع عليها عمر بن الخطاب والبطريرك سوفروينوس عام 15 هـ، ونصها كما أورده الطبري:
"بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضام أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم على نفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم. ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، لمن شاء منهم سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله. وإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في عهد هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية".
وقد أعطى المسلمون هذه الحقوق نفسها لكل البلاد التي دخلت تحت سيطرتهم. وإذا كان بعض الفقهاء قد تشدد في وضع بعض القيود على بناء المعابد والكنائس، فإنّ هذا لم يكن مؤثراً كثيراً في الواقع الفعلي، يقول السير توماس أرنولد: "ربما اتفق أصحاب المذاهب لسبب أو لآخر على أنّ الذميين لا يسمح لهم أن يبنوا دوراً للعبادة في المدن التي أسسها المسلمون، ولكنّ السلطة المدنية (بفتوى من فقيه مصر الليث بن سعد) أباحت للقبط أن يبنوا كنائس في القاهرة، العاصمة الجديدة. كما سمح للمسيحيين أن يؤسسوا في بعض المدن الأخرى كنائس وأديرة جديدة".
رابعاً: الاستقلال الذاتي التشريعي والقضائي للأقليات
أعطت الأمّة الإسلامية للأقليات حق اتباع وتنفيذ قوانينهم الخاصة المتعلقة بالأحكام الشخصية وإدارة أمورهم الدينية وفقاً لتشريعاتهم الدينية حتى لو كانت متعارضة تعارضاً تاماً مع الشريعة الإسلامية. وكانت الرابطة التي تربط كلّ الطوائف ببعضها بعضاً، من حيث علاقة كلّ منها بالأخرى، هي الرابطة المدنية القائمة على أساس من العقد الاجتماعي بين المسلمين وغيرهم. وبمقتضى هذا العقد كان لكل طائفة وضعها القانوني المتفرد، وكانت الطوائف مجتمعات مدنية مصغرة لها استقلالها الذاتي داخل المجتمع المدني الكبير الخاضع للسلطة الإسلامية التي كانت لا تتدخل في شؤون الطوائف الخاصة.
وفي العصر الأموي كان لكل كنيسة حق الحكم الذاتي، ووقع الأمويون عقوداً تثبت سلطة البطاركة؛ الأمر الذي ساهم في إعطاء القوة لكل الطوائف الكنسية التي كانت تخضع للاضطهاد (مثل اليعاقبة، والنساطرة) من قبل الطائفة المسيحية المسيطرة التي كانت تعتبر عباداتها من البدع؛ إذ كانت السلطة البيزنطية تضطهد أتباعها وتصادر أموال كنائسها. وحتى نهاية العصر الأموي لم تكن السلطة الإسلامية تتدخل في تعيين البطاركة. وكانت هذه السياسة متبعة مع كل الطوائف الأخرى.
وفي العصر العباسي كانت الخلافات الداخلية في الطوائف المسيحية تشتد أحياناً حول تعيين البطريرك، وكان يتم اللجوء للخلفاء للتحكيم. الأمر الذي فتح الباب في مرحلة تالية أمام الخلفاء لكي يكون لهم مرشحوهم المفضلون. ويلاحظ في العصر العباسي أنّ بطريرك النساطرة جمع بين السلطتين الروحية والمدنية في رئاسة الطوائف المسيحية (النساطرة، اليعاقبة، الروم، الملكيين). أمّا الكنيسة المصرية فكانت دوماً تحت سيطرة بطريركها الخاص، وكذلك الكنيسة الأرمنية. وتمتعت الكنيسة المارونية دوماً باستقلالها التام، حتى عندما ساد نظام براءة التولية في فترة من العصر العباسي، كما كان الموارنة غير خاضعين لنظام استشارة الخليفة عند تولية البطريرك.
وإذا نظرنا في نظام براءة التولية لبطاركة مصر والروم والنساطرة والأرمن، فسوف نجد أنه بالغ الأهمية لمعرفة العقد السياسي الذي يبين العلاقة المدنية بين النظام السياسي والطائفة الدينية. ففي هذا النظام تعترف السلطة السياسية بالحكم الذاتي القانوني لكل طائفة، ويعطي البطريرك السلطة على طائفته، فهو في وضع الوالي المنتخب بشرط المصادقة على ذلك من الخليفة. وبعد المصادقة على وضعه والياً على طائفته، تتمتع قراراته بقوة التنفيذ دون انتظار مصادقة الخليفة عليها. وليس من حق الخليفة خلعه، وأصحاب ذلك هم فقط أبناء الطائفة. وبشكل عام أعطيت الطوائف حق الإدارة الكاملة لشؤونها المدنية والدينية. يدل على هذا الوثائق التي كان يصدرها الخلفاء العباسيون في هذا الصدد. وفيما يلي بعض أهم ما جاء في البراءة التي أعطاها المكتفي الخليفة العباسي (1136-1160) إلى عبد يشوع بطريرك النساطرة (1139-1147)، حيث سجل كاتم سر الخليفة الآتي:
"كان عندي وفد من النصارى، وكانوا على علم واسع بأصول تلك الوظيفة، وقد أكدوا أنهم توصلوا، بعد طول مداولة وبحث وتمحيص لطلباتك، إلى ما مؤداه أنّ حاجتهم إلى جاثليق يرعى شؤونهم ويقوم على أمر حاجتهم المشتركة، وأنهم وافقوا بقرار جماعي وإجماعي على رفعك إلى سُدَّة دينهم كيما ترعى شؤونهم وتلبي حاجاتهم وتحكم بالعدل بينهم، أقويائهم وضعفائهم على حد سواء. وقد طلبوا تثبيت ترفيعك بموجب براءة تكفل له أساساً متيناً وركائز لا تتزعزع. بناء عليه، أمر أمير المؤمنين بأن يكون لهم ما أرادوا. وها هي إمامة الإسلام العليا ـ فلتكلل أوامرها على الدوام بالفلاح ـ تمنحك براءتها لتكون جاثليق النصارى النساطرة المقيمين في الإسلام وفي جميع أمصار الإسلام: فأنت معتمد للتصرف لهم وكرئيس أيضاً للروم واليعاقبة والملكيين، الممثلين هنا وغير الممثلين على حد سواء، ممّن قد يناصبونهم العداء في أي ولاية من الولايات. وأنت بين أبناء دينك الوحيد الذي يحمل سمات الجاثليق في كنائسكم وأماكن اجتماعكم لأداء فرائض عبادتكم، وليس لأسقف أو مطران أو شماس أن يقاسمك إياها، فهي الشاهد على تبعيتهم لمقام المنصب السامي الذي رفعت إليه. وإذا اعترض عليك رجل من رجال الدين المشار إليهم، أو شهر راية عصيان أوامرك أو أنكر قراراتك أو عكر عليك صفوك، فسيلاحق ويعاقب على سلوكه إلى أن يتراجع ويتحطم عناده، وبذلك يرتدع الآخرون عن الاقتداء به في سلوكه، وتضمن أن تطبق شرائع كنيستك بحرفها".
وقد سجل التاريخ كثيراً من الوقائع التي تثبت ممارسة هذا الحق -أي اتباع التشريعات الخاصة بالملة- على أرض الواقع. ومن ذلك ما ذكره ابن قدامة في كتابه المغني: "إنّ مجوسياً تزوج ابنته، فولدها بنتاً، ثم مات عنها؛ فكان لها الثلثان مما ترك". وذكر أبو عبيد القاسم في الأموال: "أنّ الخليفة عمر بن عبد العزيز استغرب إعطاء الحق للمجوس في الزواج من بناتهم وأمهاتهم، فأرسل إلى الحسن البصري يسأله: ما بال أقوام من الأئمة قبلنا، أقروا المجوس على نكاح الأمهات والبنات؟ فكتب إليه الحسن قائلاً: أمّا بعد، فإنما أنت متبع ولست بمبتدع". يعني عليك الالتزام بما درج عليه الرسول ومن تلاه من إعطائهم حق اتباع قوانينهم الخاصة.
وسجل التاريخ أنّ الأقليات كانت لها محاكمها المذهبية، بل كان لها سلطات تنفيذية تتعلق بتنفيذ الأحكام؛ فقد كان للبطريق في دمشق سجن متصل بالكنيسة يحبس فيه من يقع في مخالفات من المسيحيين، وذات مرة حبس الأخطل شاعر بني أمية، وقيده بسبب كثرة سكره، ولم يطلقه حتى شفع فيه الخليفة نفسه. وقد جعل الخلفاء للأقليات هيئات خاصة ترعى شؤونها؛ فأنشأ خلفاء الأندلس هيئة لهذا الشأن تحت رئاسة ما كان يُسمّى "كاتب الذمم" الذي كان مكلفاً برعاية الأقليات غير المسلمة. كما خصّص خلفاء بغداد ديواناً خاصاً بهم يرعى شؤونهم ومصالحهم وأموالهم، ولقب رئيس هذا الديوان "كاتب الجهبذة".
وإذا كانت بعض الفترات أثناء التاريخ الإسلامي في بعض البلدان قد شهدت بعض التضييق على هذه الحقوق، فإنّ هذا يرجع إلى عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية؛ لأنّ الظروف الاقتصادية الاجتماعية المتردية التي كان يعيشها جمهور الناس من المسلمين في مقابل تمتع بعض أبناء الأقليات بأوضاع اجتماعية اقتصادية مترفة، وممارساتهم المهنية بحكم وظائفهم الإدارية العليا التي كانت تنطوي على قدر من التعسف أحياناً في جمع الضرائب والاحتكار للمهن المالية لقرون طويلة، كان لها علاقة مباشرة غالباً بما حدث من توترات طائفية. وفي عصر الاستعمار سلك المستعمرون الأجانب سلوكاً محابياً لأبناء الأقليات. وهذه ظاهرة نلاحظها في سورية مثلا حيث "أظهرت أبحاث جب وبولياك أثر هيمنة الأقليات في المجال الاقتصادي في إثارة قلاقل دينية خطيرة بين النصارى والمسلمين في دمشق سنة 1860، وبين الموارنة والدروز في جبل لبنان في 1840 و1860".
ومن جهة أخرى، فقد كان الطابع الشخصي القاسي لبعض الخلفاء مسؤولاً في بعض الأحيان عن حدوث قلاقل طائفية واضطهاد للأقليات، وهذا يتضح لنا من عصر المتوكل العباسي الذي لم يضطهد فقط غير المسلمين، وإنما اضطهد أيضاً الفرق الإسلامية المعارضة لأهل السنة والجماعة. والأمر نفسه تقريباً نجده مع الحاكم بأمر الله الفاطمي لكنه كان منحازاً للفاطميين الشيعة. ففي هذين العهدين حدث أكبر حالتي اضطهاد للأقليات. لكن ـ كما رأيناـ كانت الحالة العامة هي الاعتراف بالتعددية والتنوع.
إذن، باستثناء حالات معدودة، كان المجتمع المدني(الأمّة) في الحضارة الإسلامية قائماً على التعددية وحماية الجماعات الضعيفة والأقليات ومحاربة التمييز ضدها. وقد احترمت الدولة هذه التعددية غالباً. إنّ هذه المفاهيم المدنية ينبغي استعادتها وتقنينها وتوسيع نطاق دورها، إذا أردنا مجتمعاً مدنياً فعالاً ومتقدماً وقوياً.
محمود كيشانه: بما أننا نتحدث عن أنّ هذه المفاهيم المدنية يجب استعادتها وتقنينها وتوسيع نطاق دورها، فهناك أيضاً قضايا مدنية أخرى يجب طرحها وبيان موقف الإسلام المستنير منها، ومن هذه القضايا قضية الإسلاموالسينما وحرية الإبداع، فما رأيكم في هذه القضية؟
ـ الدكتور محمد عثمان الخشت: في وسط حالة التراجع العام في الفكر الديني والرياضة والفن، نجد السينما في حالة يُرثى لها، من حيث ضآلة عدد الأفلام المنتجة، ومن حيث القيمة الفنية والإبداعية المتدنية للأفلام القليلة التي يتم إنتاجها، فهي إمّا "قص ولزق" من أفلام أجنبية مثل ذلك الفيلم الذي أثيرت حوله ضجة مؤخراً والمأخوذ من فيلم "مالينا" الإيطالي، وإمّا معبرة عن "الثقافة دون الشعبية" والتي صار لها السيادة، وإمّا تلخيص وتكثيف لمشاهد "الملاهي الليلية" لكن في ثوب سينمائي.
والغريب أنّ أمثال هذه العقليات تتحدث عن حرية الإبداع، وهي ليس لها منه أي نصيب، والإبداع لم يطرق بابها يوماً، بل لم تحاول أن تغازله في لحظة ما، والأغرب أنّ أصحابها يتشدقون بالإبداع وهم عاجزون عن المنافسة في أي مهرجان دولي، مثلما تعجز الفرق الرياضية عن شرف التنافس على كأس العالم أو الأولمبياد. نحن لدينا فقط ظواهر صوتية تفوز بجدارة في "مَكلمات" البرامج الفنية والرياضية، وهي نفسها حالة الأخوة الأعداء في المشهد السياسي الذين يجيدون التشاجر حول مصير الشعوب ولا يجيدون إدارة مصنع أو وزارة.
ويكفي المنتجين الدخلاء الذين ليس لهم رسالة إلا رسالة المال، مغازلة الشباك عن طريق مغازلة الغرائز، لا كتعبير فني عن حالة إنسانية، وإنما كوسيلة رخيصة للاستيلاء على بضعة قروش من جيوب شباب عاطل - بحكم الظروف القاهرة- عن العمل وعاطل عن الزواج وعاطل عن الإبداع الفني أو السياسي أو الرياضي.
وانطلاقاً من الأثر الضخم للفن عموماً نشأت إشكالية العلاقة بين الفن والأخلاق، وهي إشكالية قديمة قدم الكتابات الفلسفية نفسها، وقد أدت إلى الكثير من المشاكل التي ظلت في محل البحث حتى الآن.
ولن أبدأ بموقف الإسلام من الظاهرة الفنية وعلاقتها بمنظومة القيم، بل سأبدأ باستعراض بعض آراء الفلاسفة الكبار الذين تأسس موقفهم من الفن على موقفهم من الأخلاق. وعلى سبيل المثال كان أفلاطون أكثر الفلاسفة نقداً للشعراء والفنانين بوجه عام. فقد ذهب إلى أنّ جميع الشعراء الكبار من شعراء الملاحم والشعراء الغنائيين لا يكتبون قصائدهم الجميلة بالفن، بل بالهيام والهوس؛ فعندما يكتب الشعراء الغنائيون أنغامهم الجميلة فهم عند أفلاطون أشبه ما يكونون بالمعربدين الذين يفقدون عقولهم، والهَيام الوحيد الذي أقرَّه أفلاطون كان هيام العقل في حالة صفائه مستقلاً عن الشعور. وعلى ذلك ـ من وجهة نظره ـ فإنّ أي هيام آخر مبني على التضليل والخداع؛ ولذلك لم تتفق فكرة الإلهام أو الوحي في الشعر مع فلسفته المثالية، ولم تتفق تعاليم الشعراء مع منظومة القيم الأخلاقية التي سعى إليها في مذهبه الفلسفي.
وعبّرت نظرية أفلاطون الشهيرة في "عالم المثل" عن ذلك الموقف الذي اتخذه من الفن والفنانين. حيث إنّ نظريته في "المثل" تعتبر الأشياء الخارجية الموجودة في العالم المحسوس لا حقيقة لها، وإنما هي مجرد تقليد لعالم المثل الحقيقي، ومن ثمّ فإنّ الصورة التي يرسمها المصور أو الشاعر ما هي إلا تقليد لعالم الأشياء المزيف، وليس لعالم المثل الحقيقي؛ أي أنها "تقليد للتقليد" (مثل أفلامنا التي لا تقلد الحياة المعاشة بل تقلد الأفلام الأجنبية التي تعكس حياة أخرى غير حياتنا)، ومن ثمّ فلا حاجة لها، وذلك لأنّ كلّ شيء لا يمثل فكرة لا يستحق الوجود. والشعر أو الفن يمثل "الشيء" الذي يمثل "الفكرة"؛ ولذلك فهو عمل مزيف لا ضرورة له في المدينة الفاضلة التي كان أفلاطون يتصورها ويسعى لبنائها. وبناء على ما سبق فقد استهجن أفلاطون الشعر فلسفياً؛ لأنه يستند على الكذب والوهم، واستهجنه أخلاقياً؛ لأنه متعارض مع القيم.
وهكذا نجد ـ وهو أمر ملفت للنظرـ أنّ رؤية فيلسوف في حجم أفلاطون أكثر تشدداً من رؤية المتشددين في الدين، وهكذا نجد أنفسنا أيضاً بين نقيضين كليهما مرفوض: فن رخيص مبتذل، وفلسفة تأخذ موقفاً متطرفاً في الإنكار.
لكن هناك وجهة نظر أخرى طرحها الشاعر والكاتب الإنجليزي جون راسكن (1819 ـ 1900)، وهو أحد القائلين بالمعايير الخلقية في العصر الفيكتوري والعصر الإدواردي، والذي كان لأفكاره تأثير كبير في فنون وجماليات هذين العصرين وفي تطور الاشتراكية المسيحية. فعلى الرغم من موقفه المتمسك بالمعايير الخلقية، فقد ذهب إلى نتائج مناقضة لموقف أفلاطون، وإذا كان أفلاطون قد استنتج أنّ الفنون بطبيعتها تتعارض مع الأخلاق، ولذلك نفاها من دولته، فإنّ راسكن وجد أنها بطبيعتها الأصلية تتفق مع الأخلاق فباركها. وقد ذمّ أفلاطون الفنون لأنها لا أخلاقية، وامتدحها راسكن لأنها أخلاقية إلى حد كبير. وطردها الأول من مدينته الفاضلة لأنها متأصلة في أوهام الإحساس، ورحب بها الثاني لأنها تنبع من الذكاء القدسي العامل من خلال خيال الإنسان (سكوت جيمس، صناعة الأدب).
وإذا كان أفلاطون حلّ إشكالية العلاقة بين الفن والأخلاق برفض الفن لأنّ الفن لا أخلاقي، فإنّ جون راسكن رفع من قيمة الفن غير المتعارض مع الأخلاق، ونظر إلى الأخلاق بوصفها معياراً من المعايير الأساسية التي تُثمن على أساسها الفنون، فكل ما هو فن يُعدّ ـ حسب تصوره ـ من أصل قدسي، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ حيث يرى أنّ تذوق الجمال ينشأ من الشعور بالاحترام والعرفان بالجميل والسرور النابع من إدراك صنعة الخالق في الطبيعة، ولا يعتمد تذوق الفن عنده على أي من الحواس الخمس، بل لا يوجد أي دور للعقل في إدراك الفن؛ لأنّ الفن بما أنه إلهام ومن أصل قدسي فالطريق إليه هو القلب الذي ينفذ إلى القدرة القدسية العاملة في وجدان الفنان.
وامتداداً لهذا الاتجاه كان طبيعياً أن يذهب تولستوي إلى أنّ الفن يجب ألّا يتعارض مع الدين. ومن المنطلق نفسه يقول علي عزت بيجوفيتش في كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب): "الفن رسالة مقدّسة".
ومن ثمّ ـ من وجهة نظري ـ نجد أنّ رأي التيارات التي تطالب الفن عموماً والسينما خصوصاً بعدم تجاوز "السقف الأخلاقي" للمجتمع ليست بدعاً ولا ابتداعاً ولا تطرفاً، فهي متوافقة مع رأي مجموعة من كبار الأدباء والفنانين والفلاسفة الغربيين، بل أفضل وأعدل بمراحل من الموقف المتطرف الذي اتخذه أفلاطون الفيلسوف اليوناني الكبير.
وعلى الرغم من نشأة السينما المصرية في وقت مواكب للسينما العالمية، فإنّ التطور الذي حدث على المستوى الدولي لم ينعكس على السينما المصرية إبداعاً وابتكاراً في الأدوات واللغة الفنية والرؤية، وإن كان قد انعكس عليها كنوع من التقليد المستمر، مع أنه كان المفترض أن تكون السينما المصرية قد تجاوزت مرحلة التقليد التي كانت ضرورية في البداية؛ فالتقليد شيء إيجابي في بداية أي عمل ناجح، لكن الاستمرار في التقليد - بعد مرور أكثر من مائة عام- يُعدّ علامة سلبية تدلّ على العجز ووقف النمو.
فالحركة التاريخية للسينما المصرية لم تخضع للتراكم أو النمو التصاعدي، أي أنها لم تنمُ مثل نمو الكائن الحي الذي يخضع لمنطق التطور، أو هي ليست مثل البناء الذي يتصاعد نحو الأعلى تدريجياً، بل ارتبطت بحركة المجتمع صعوداً وهبوطاً. والخطورة أنّ منطق تطور الفن غاب، وربما من أسباب ذلك أنّ أكثر صناع أو منتجي السينما في الزمن الأخير ليسوا غالباً من أهل الفن.
ولم تعد السينما المصرية في هذه الفترة المضطربة أداة للتسلية، بل أصبحت ـ مثل برامج التوك شوـ تعبيراً عن حالة "الإثارة العامة"، وأنا لا أقصد الإثارة الجنسية بالذات، بل أقصد حالة الإثارة الفكرية والنفسية والعصبية التي أصبحت دائرة مغلقة ودوامة لا تنتهي سقط فيها الشارع وسقطت فيها منابر الرأي.
ويجب أن يكون الفن محكوماً بوعي أرقى من وعي الشارع، لكن يبدو أنّ هذه النظرية باتت مهددة عندنا؛ إذ صارت مقولة "هذا ما يريده الجمهور" هي المحركة لمنتجي الأفلام أو لأكثرهم. والخطورة أنّ السينما في مصر ـ عدا القليل منها ـ لم تعد أداة لتوجيه المجتمع أو للارتقاء بغرائزه، مثلما كان يحدث في الماضي في كثير من الأفلام القديمة التي لها الفضل في تخفيف حدة الصراع بين الطبقات والتقريب بينها، والتي كانت تحمل في معظم الأحيان فكرة الصراع بين الخير والشر، وطبعاً كانت توظفها لصالح الخير في النهاية تأكيداً لقيم العدالة الإلهية، وهنا تلتقي مع الدين في أسمى معانيه.
وربما هذه هي الأسباب التي كانت تشعرني بحالة من "التطهر" بعد مشاهدة أي فيلم سينمائي جيد في اللغة والمضمون، وربما كانت هي التي تعيد إليّ "الأمل" بعد المرور بأية حالة إحباط، وربما كانت هي السبب في الشعور بنوع من "التوازن النفسي" الذي كان يعيدني إلى مضمار السباق مرّة أخرى بعد تعرض لظلم أو إجحاف، وربما هي التي شكلت بداخلي مع الدين والعقل "رؤية العالم" كقصة إلهية تكافح فيها قوى الخير قوى الظلام. وحتى عندما كنت أذهب إلى السينما وأنا صغير "للاستمتاع"، لم أكن أدري أنها تشكل بداخلي مفهوم الخير والشر، ومفهوم الوطن، ومكافحة الصراع الطبقي، وإعادة تكوين الوعي بالمرأة ككائن إنساني، وليس كأنثى للاستهلاك، وتشكيل عقيدة البطل الذي يكافح من أجل أسرته أو وطنه أو من أجل تحقيق العدالة أو تحقيق الذات ضد عالم غير منصف، وهنا وجدت الدين بوصفه رحلة كفاح في العالم ضد "القبح" بكلّ أشكاله... الدين كمفاهيم ترسخ قيم الحق والخير والجمال وتعيد إلى الإنسان "نقاءه العقلي" و"تصالحه" مع ربه ونفسه وعالمه. وهنا تكمن الوظيفة الرئيسة للفن: إعادة التصالح، وإعادة اكتشاف الذات والعالم، ثم تغييرهما إلى الأفضل؛ فالسينما يجب ألّا تعكس الواقع كالمرآة، بل يجب أن تساهم في صنعه، وهي لا تغير فقط وعي المشاهد، بل تغير أيضاً مَنْ يصنعها فيتجاوز ذاته ويتحدى قدراته.
إنّ الصورة السينمائية ـ شئنا أم أبيناـ هي أداة توجيه للسلوك والأفكار سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، إنها أخطر من الكلمات المقروءة، نتيجة التأثير غير المحدود للصورة المتحركة. يقول جورج بالاندييه في كتابه (في الطريق إلى القرن الحادي والعشرين): "إنّ الصورة مألوفة وقريبة جداً الآن؛ بحيث إنها لا تكون معروفة حقّاً، إنها تفعل فعلها، وفي معظم الأحيان يدعها كلّ إنسان تعمل ويعاني من آثارها". وتزداد هذه الخطورة لأنّ المشاهد لا يدرك تأثير الصورة المؤثر والفاعل في حياته من حيث تعديل الأفكار، والسلوكيات، والمعتقدات. وهذا ما أدركه تروتسكي في كتابه (الثورة والحياة اليومية) قائلاً: "هذه الوسيلة التي بين أيدينا هي أفضل وسيلة للدعاية، سواء كانت هذه الدعاية تقنية، أم ثقافية، أم مناهضة للإدمان على الكحول، أم صحية، أم سياسية. إنها تيسر القيام بدعاية هي في متناول فهم الجميع وجاذبة لاهتمام الجميع، ودعاية تستحوذ على المخيلة". ولهذا ذهب تروتسكي إلى أنّ السينما يمكن أن تنافس الدين في السيطرة على جموع الشعب، فكلّ الأفلام ـ الكوميدية أو المأسوية أو الخيال العلمي أو المطاردات أوالعنف أو الرعب ـ تحمل وجهة نظر ما، تحمل فكراً محدداً، وليست خيالية كما قد يدّعي البعض.
إنّ السينما تعكس دائماً وجهة نظر ما، وتحمل فكراً راقياً أو فكراً إباحياً أو فكراً سياسياً أو اجتماعياً صائباً أو خاطئاً. فقل لي ماذا تنتج أو ماذا تشاهد، أقل لك من أنت. أمّا أصحاب نظرية "الفن للفن" عندنا في مصر فهم واهمون ويعيشون خارج التاريخ، أو هم مغالطون كبار يخدعون أنفسهم ويخدعون الناس بحثاً عن تبرير لعمل غير مسؤول أو زعماً للدفاع عن حرية إبداع متوهم، إنهم فقط يتحدثون عن الحرية المطلقة دون أن يمارسوا تجربة الإبداع، ودون أن تكون لديهم القدرة عليه، بل دون أن يعرفوا أنّ هذه الحرية تفرض عليهم واجبات، فلا توجد حرية دون مسؤولية، ولا يوجد إبداع دون هدف إنساني.
نحن إزاء موقفين متطرفين من السينما: موقف فوضوي متسيب، وموقف متشدد محرّم. وكلاهما يعبّر عن وجهة نظر ضيقة الأفق، وعقل مغلق؛ فالعقل المغلق ليس سمة للمتشددين في الدين فقط، بل سمة أيضاً للفوضويين الذين يريدون أن يفرضوا رؤيتهم للحياة على الجميع دون مسؤولية ودون شعور بالتزام تجاه المجتمع.
وبقدر رفض التطرف في التشدد والتحريم، يكون رفض الإفراط في الإباحية والتحلل من مصفوفة القيم الإنسانية. ولذا لا أعير أيّ اهتمام للذين يرفعون سقف الحرية إلى درجة الفوضى بحجة إبداع مزعوم ينشرون من خلاله مفاهيم متدنية، وسلوكيات الغواني، وقيم البلطجية، التي تنحط بالمجتمع إلى درك حيواني رخيص يطيح بقيم الرجولة والشهامة ويتعامل مع المرأة كسلعة جنسية رخيصة لا تعدو أن تكون أداة لإشباع الرغبات، مثلما لا أعير أيّ اهتمام لأولئك الذين يحرّمون "السينما النظيفة"؛ لأنها مجرد أداة للبهجة البريئة أو لنقل إيقاع الحياة أو لتوصيل رسالة أو للتعبير عن تجربة إنسانية. وطالما هي محكومة بالقيم الإنسانية وتسير في ظلال مبدأ "الفن للمجتمع" فلا يمكن القول بتحريمها، بل هي عمل إبداعي يضاف إلى مصفوفة الحضارة، وشكل من أشكال التعبير الفني الجمالي عن العالم الإنساني من منظور خاص.
إنّ الأصل في الأشياء الإباحة إلا إذا أتى ما يدلّ على تحريم ذلك الشيء، هذه قاعدة حاكمة في الحلال والحرام. والعجيب أنّ المتشددين الذين يزايدون على الدين تجد تفكيرهم محكوماً بقاعدة أخرى تناقض القواعد الأصولية، هي "الأصل في الأشياء التحريم".
بينما يسع التصور الإسلامي في أصله النقي كلّ ألوان الإبداع الإنساني طالما لا تضر بالمجتمع. لكن عندما ينحرف الفن ليعبر عن رسالة ضارة تؤثر في سلوك الناس وتدفعهم لأي لون من ألوان الشر، هنا يجب التوقف، ويجب التوقيف. وليس معنى هذا أنّ السينما محظور عليها التعبير عن الشر؛ لأنّ التعبير عن الشر إذا كان من أجل توصيل رسالة إنسانية تتخاصم مع الشر، فإنه يكون بلا شك عملاً نبيلاً. أما إذا كان تصوير الشر يهدف إلى نقل حالة من العدوى للمجتمع فإنه يصبح خطأ فادحاً في حق المجتمع.
إنّ السينما مجرد وسيلة حاملة، والوسيلة في حد ذاتها ليست حراماً أو حلالاً، مثل الكوب يمكن أن تملأه خمراً أو ماء، ومثل الكهرباء يمكن أن تستخدمها كوسيلة للصعق أو القتل بغير حق، ويمكن أن تكون وسيلة للإضاءة أو الطاقة النافعة. فالسينما قد تحمل مشاهد رديئة تجعلك تتأثر بأسوأ ما فيها، أو تحمل مشاهد إنسانية رائعة تدخلك في عمق الحياة.
إنّ الصورة تقوم بتكوين الوعي، والقصص هي أكثر الألوان تأثيراً في مخيلة الإنسان، ولذلك هي أداة قرآنية في إعادة تشكيل الوعي الإنساني وفق مفاهيم الحق والخير والجمال، وليس معنى هذا أنّ قصص القرآن تتحدث عن عالم مثالي نظيف ووحيد دون توصيف للشر، بل إنها تدخل عالم الشر بكلّ ظلماته معبّرة عمّا يحدث بداخله من قتل وسرقة وفواحش وظلم وخيانة، لكن بلغة فنية تدفع المتلقي للانفصال عنه لا لتقمصه أو إعادة إنتاجه مرّة أخرى، وهذا فرق جوهري مع تلك القصص التي تتعامل مع الأحداث والشخوص المنحرفة بلغة فنية تؤثر في المتلقي تأثيراً سلبياً فيخرج من السينما متعاطفاً مع بطل "هايف" أو "منحرف"، أو ليقوم بتحرش جماعي، أو بحالة نفسية كارهة للمجتمع.
ولذا فالسينما شأنها شأن كلّ شيء "حلالها حلال وحرامها حرام". والقرآن صريح في الرد على الذين يميلون لتحريم أي شيء دون دليل قاطع: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف: 32). وهو أيضاً صريح في الردّ على الذين يصدرون عدوى الأفعال المشينة إلى المجتمع: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33).
إنّ السينما تتمتع بحدود واسعة من الحرية في الرؤية الإسلامية الرحبة، ولا يشترط فيها أن تعبّر عن موضوعات إسلامية أو دينية، بل يشترط فقط أن تكون خالية من الرسائل الضارة، ولا تروج لأفكار هدامة تؤثر على سلامة المجتمع.
وليس في هذه الرؤية أي نوع من التعنت، بالقياس إلى الغرب، فهو ما يزال يحرّم ويدين أي فيلم أو عمل فني أو فكري يحمل وجهة نظر معادية للسامية، أليس الغرب نفسه يضع قيوداً على الأعمال الفنية والفكرية، وإن كانت من نوع مختلف؟
إنّ الرؤية الإسلامية التي تقيد الفن بمعايير الحق والخير والجمال، لا تعني عدم السماح بالاختلاف السياسي، ولا تعني عدم السماح بالتنوع والتعددية الفكرية والاجتماعية، ولا تعني عدم نقد المجتمع وتطويره، بل تعني فقط عدم تجاوز السقف الأخلاقي العام وعدم تصدير نماذج الشر إلى المجتمع. وفي هذا اتفاق مع تلك النظرية في فلسفة الفن التي تقول إنّ "الفن ليس للفن بل للمجتمع". أمّا الحديث عن حيادية الفن، وأنه خارج أُطر ما هو أخلاقي أو غير أخلاقي، فهو وهم كبير؛ لأنّ قيم الجمال غير منعزلة عن قيم الحق والخير، أو هكذا ينبغي أن تكون.
وفي هذا الإطار تبدو الرؤية الإسلامية الوسطية التي تجعل الفن للمجتمع، ومن ثمّ تربطه بالخير، ليست بمعزل عن تيار قوي في فلسفة الفن نشأ وترعرع في إطار الفكر الغربي. ومن هنا فإنّ الحديث عن فوضى الإبداع بلا حدود، إنما هو نوع من الانفلات يروج له أنصار الإثارة من أجل زيادة المكسب المادي وارتفاع حصيلة بيع التذاكر، فعندما تضعف اللغة الفنية، تكون الإثارة هي البديل لجذب جمهور مكبوت.
محمود كيشانه: إذن لنأخذكم إلى قضية أخرى منسية أو مهملة في الدراسات الدينية وهي قضية المرأة، فهل استوعبت الدول الإسلامية رسالة الإسلام حول المرأة، خاصة وأنّ المرأة تميزت في العديد من الدول الغربية التي لا تفصل بين الأنوثة والسياسة، وتقف بالمرصاد للتمييز ضدّ المرأة؟
ـ الدكتور محمد عثمان الخشت: لا شك أنّ الإسلام (قرآنا وسنّة) يُعدّ أهمّ محطة تاريخية لمكافحة التمييز ضد المرأة، باعتباره ضد أية تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتمّ على أساس الجنس في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية. والإسلام يؤدي هذه المهمة بوصفها جزءاً من رسالته منذ نشأته؛ إذ حرص على رفض أي إحباط للاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية له بدون أي تمييز بين الرجل والمرأة، وهذا هو لبّ المادة 1 من اتّفاقيّة مناهضة جميع أشكال التمييز ضد المرأة الصادرة بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة ديسمبر 1979.
ومع هذا فإنّ بعض الدول الإسلامية، ومنها مصر، لم تستوعب رسالة الإسلام فيما يخص وضع المرأة، ولم تأخذ منها إلا القشور، على الرغم من أنّ رسالة الإسلام مرّ عليها أكثر من أربعة عشر قرناً، فبنية المجتمع في بعض قطاعاته ما تزال حتى الآن محكومة بالعقلية البدوية أو الريفية رغم كلّ مظاهر الحداثة الشكلية، وهذا لا ينسحب فقط على وضع المرأة، بل على معظم الوضع الإنساني داخل المجتمع.
والمرأة نفسها مسؤولة هي الأخرى بقدر ما عن إحباط رسالة الإسلام بشأنها، فهي إمّا أن تتحايل على التعاليم الخاصة بها، كأن ترتدي حجاباً يجسد كل صغيرة وكبيرة (فتاة التحرش بجامعة القاهرة نموذج لقطاع كبير)، وإمّا أن تسرف في تنفيذ الشكلي منها، أو تنقلب لكائن غريب يحرّم كل شيء (كلّ حاجة حرام: التليفزيون حرام، والأباجورة حرام...).
فهي تلتفت عن جوهر هذه التعاليم وروحها فيما يتعلق بدفع المرأة إلى مصاف الكائن الفاعل المميز والشريك في كلّ شيء مع الرجل، وتفضل أن تبقى في وضعها كأنثى فقط، وليس كمواطن أيضاً. ويأتي هذا طبعاً على هوى كثير من الرجال المشغولين بالذكورة والأنوثة طوال الوقت. وبطبيعة الحال ليس هذا حكماً عامّاً، فهناك من النساء والرجال من دخلوا في طور التحضر، ولا مجال للتمييز عندهم إلا بالكفاءة والعمل الجاد، ومن ثم أدركوا المبدأ القرآني (لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) [آل عمران: 195].
ونظراً لأنّ دعاوى تحرير المرأة اختلط فيها الحابل بالنابل، وخرجت من إطارها المنضبط إلى تطرف نقيض يدعو المرأة للتمرد على كلّ شيء، وتحويلها إلى كائن ناقم منفلت ومتفذلك، فلا بدّ من التوقف للتأمل في إعادة بناء الأفكار حول وضع المرأة في مصر، من أجل فهم سياسي لا في إطار حقوقها فقط ولكن أيضا في إطار مشاركتها السياسية باعتبارها أعلى مراحل المواطنة.
ويكشف لنا التاريخ المصري عن وجود مشاركات سياسية استثنائية للمرأة في فترات متقطعة، فإثبات المرأة لوجودها السياسي في الماضي كان مرتبطاً دوماً بشخصيات نسائية كاريزمية، ولم يكن مرتبطاً بحركة نسائية عامة وتحول حقيقي في بنية وتكوين المجتمع. نذكر منها مشاركات كلّ من: حتشبسوت، ونفرتاري، ونفرتيتي، وكليوباترا، وشجرة الدر.
وهناك مشاركات أخرى ليست سياسية خالصة لكنها كانت ذات علاقة بتشكيل السلطة في مرحلة لاحقة، وساهمت في تحويل مجرى التاريخ بدون أية مبالغة، مثل هاجر المصرية أمّ العرب وجدة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وفي سياق آخر تبرز في المشهد بوضوح امرأة فرعون التي احتضنت موسى، ومن قبلهما إيزيس التي ربما كانت واقعاً تحوّل إلى أسطورة.
وإذا قفزنا إلى العصر الحديث نجد ثورة النساء في مارس 1919 للمطالبة بالاستقلال الوطني وحرية المرأة. ثم مظاهرة 1924 بمناسبة افتتاح البرلمان المصري بعد دستور 1923. ولا أحد ينسى دور هدى شعراوي في تلك الفترة. وبعد ثورة 23 يوليو 1952 دخلت المرأة البرلمان لأول مرّة 1957، وتولت المرأة المصرية الوزارة لأول مرّة 1960. وتوالت النجاحات النسبية والاستثنائية بعد ذلك سواء على مستوى السلطة التشريعية أو التنفيذية، أمّا السلطة القضائية فقد استمرت لفترة طويلة حكراً على الرجال، لكنّ هذا الاحتكار تمّ كسره في السنوات القليلة الماضية. ويلاحظ أنه رغم النضال السياسي للمرأة المصرية والذي برز في العصر الحديث ابتداء من ثورة 1919، ورغم كثرة المنظمات النسائية منذ ذلك الوقت، فإنّ المساواة في الحقوق السياسية لم يتمّ الاعتراف بها إلا عند صدور دستور 1956. ولقد بقي قيد المرأة في الجداول الانتخابية اختيارياً إلى وقت صدور القانون 41 لسنة 1979 الذي جعل هذا القيد وجوبياً بالنسبة للمرأة مثل الرجل.
وظلّ تمثيل المرأة في البرلمان المصري محدوداً جداً، حتى ظهر أواخر السبعينيات قانون جديد لتعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية، أعطى للمرأة الحق في 30 مقعداً بالبرلمان تتنافس عليها النساء بعيداً عن أية منافسة أخرى. وكان هذا أول برلمان في تاريخ مصر تدخله ثلاثون امرأة دفعة واحدة. لكن واقع الحال أنه حين ألغي هذا القانون بعد ذلك اختفت معظم الفائزات السابقات، ولم تفز إلا قليلات منهن في تجارب الانتخابات التالية. وقد انخفضت نسبة تمثيل المرأة في البرلمان من حوالي 9% في عام 1979 وأوائل الثمانينات إلى 2, 2% في مجلس برلمان 1992، ثم نزلت النسبة إلى أقل من 2% في مجلس 1995. ونسبتها في البرلمان التالي 1.8% مع الأخذ في الاعتبار أنه في هذا البرلمان كانت سيدة تشغل منصب وكيل مجلس الشعب.
ويبدو أنّ هذه الحالة ليست خاصة بمصر، بل هي حالة العالم العربي أجمع؛ حيث تأتي المجموعة العربية في ذيل قائمة أقاليم العالم، فنسبة تمثيل المرأة في البرلمانات العربية لا تتجاوز نسبة 3.3%.
محمود كيشانه: إذن نحن أمام إشكالية كبيرة مؤداها أنّ الفهم البشري الخاطئ للدين ولقضاياه التي عرضنا لها يضع الدين في قفص الاتهام، فهل يمكن لنا تحرير الدين من هذه الاتهامات والعودة به إلى المنابع الأولى، بحيث يظهر الإسلام الحق، الإسلام الحر في طبعته الأولى؟
ـ الدكتور محمد عثمان الخشت: يجب التأكيد مجدداً على أنّ الإسلام هو الإسلام وليس المسلمين، هو القرآن والسّنة الصحيحة فقط. وقد اكتمل الدين في اللحظة التي أعلن فيها القرآن هذا، وبالتالي فكلّ ما زاد عن ذلك مجرد اجتهاد بشري يصيب ويخطئ. والإسلام الحر ليس إسلاماً آخر، وإنما الإسلام نفسه في طبعته الأولى الأصلية دون أقنعة أو تلوين سياسي أو اجتماعي من أجل مصالح فئوية. إنه عودة لمنابع النهر الصافية: القرآن والسنّة الصحيحة.
ومعظم التيارات التي انبثقت في التاريخ الإسلامي فهمت الإسلام وفق فهم بشري (خاص)، وليس في هذا عيب، وإنما العيب عندما يزعم فصيل أنّ فهمه للإسلام هو الحق المطلق، وما سواه باطل مطلق، وهنا منشأ التكفير والتفجير، والانشقاق والصراع المميت. ولذا يجب العمل على تحرير التصور الأصل من الشوائب المشوهة التي لحقت به سواء من البدع في مجال العبادات أو الابتداع في مجال السياسة؛ حتى يبرأ الأصل من شبهات الصور المزيفة له، ويعود هذا الأصل إلى جذره "الحر" في أصوله الأولى النقية: القرآن والسنّة الصحيحة.
وبداية تحرير المفهوم تكون باللغة، لكنها ليست اللغة في عالمها الضيق الحرفي، بل اللغة في فضائها الحر، واللغة في هذا الفضاء هي صورة الفكر؛ فالفكر هو الذي يصنع اللغة، فهي صورته وليست أصله، على عكس بعض تيارات التعصب والانغلاق التي تفكر حسب حرفية اللغة فتقع في التشدد، حيث يصبح المعنى أسير الحرف.
فـصفة "حر" ليس معناها هنا "الحرية" فقط كما قد يتوراد إلى الذهن، وأيضاً "الحر" ليس مرادفاً لـ"ليبرالي" في معناه الغربي الضيق. "الحر" هنا وصف للإسلام بسمة جوهرية فيه، ومعناه متعدد الدلالات؛ فالحر هو "الخالص pure من الشوائب" مثلما نقول "ذهب حر أو ماس حر"، أي نقي خالص لا يشُوبُهُ مَعْدِنٌ آخَرُ. وهذا هو إسلام القرآن والسنّة قبل الصراع على السلطة، وقبل نشوء الفرق، فمن المعروف أنّ بداية ظهور الفرق في تاريخ المسلمين كانت بسبب الاقتتال على الخلافة.
والحر أيضاً هو "الأصيل"، يقال "فَرسٌ حُرٌّ أي عتيقُ الأَصْل". وبهذا المعنى فإننا نريد الرجوع بالإسلام إلى أصالته قبل أن يلونه البعض بمواقفه السياسية ومصالحه الدنيوية من أجل السلطة أو الثروة أو الهيمنة الاجتماعية أو العلو في الأرض. والحُرُّ هو "الكريم والشهم"، مثلما نقول "رجل حر"، والإسلام في أصالته هو الإسلام الكريم والشهم، ولا معنى للكرم والشهامة دون إكرام الآخر والدفاع عنه وحمايته، أيّاً كان الآخر، ومن هنا نفهم معنى الإجارة لمن يستجير وحماية من يطلب الحماية حتى ولو كان فيه ما فيه. تقول أم هانئ: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، قلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي أنه قاتل رجلاً قد أجرته "فلان بن هبيرة"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ". وأيضا الوفاء بعهد الأمان لمن أعطيناهم هذا العهد ولو كانوا كفاراً، يقول الرسول الحر ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة"، (رواه أبو داود، وهو صحيح).
والحُرُّ هو "الجزءُ الظَّاهر من الوجه". فالإسلام الحر ليس دين الأقنعة، ولا التلون، ولا العمل السري، ولا الحياة تحت الأرض، ولا المواربة، ولا النفاق، ظاهره كباطنه، يقول ما يفعل، ويفعل ما يقول.
والحُرُّ من القوْل أَو الفِعل "الحسن منه". يُقال: "هذا من حُرِّ الكلام". والإسلام الحر، لا يعرف لغة التخوين، ولا القذف، ولا "الشتيمة"، وهو ضدّ من إذا حدث كذب، وإذا خاصم فجر في القول أو الفعل. والمرأة "الحُرَّةٌ"، هي المرأة الشريفة التي لا تبيع عرضها، ومبادئ الإسلام "حرة" بهذا المعنى؛ فهي لا تباع ولا تشترى، من أجل حفنة دولارات، ولا لإرضاء دولة عظمى أو صغرى، والحُرُّ في اللغة أيضاً هو "الخالص من الرقّ"؛ والإسلام حر لأنه لا يمكن أن يخضع لمستعمر ولا أن يكون مطية لحزب سياسي أو جماعة تسعى إلى السلطة. فقد جاء ليحرّر الإنسان من العبودية لغير الله وحده، وجاء أيضاً ليحرّره من سلطة رجال الدين، ومن تضليل المتحدثين باسم الله، أو طلاب السلطة أو ثروات رجال الأعمال.
والحر أيضاً صفة تنطبق على القائل بالحرية والمؤمن بها، والإسلام حر لأنّ الحرية في التصور الإسلامي حق إنساني أصيل، والحرية هي القدرة على الاختيار في الحياة أو العقيدة أو السياسة دون خضوع لتأثير خارجي أو إكراه معنوي أو مادي أو تهديد بحرق الوطن. ففي الإسلام الإنسان حر بحكم المولد، قال عمر الفاروق لحاكم مصر عمرو بن العاص عندما اعتدى ابنه على مسيحي: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"؟.
والحرية في الإسلام الحر تحافظ على الدماء والأموال والأعراض وحق التفكير وحق الاعتقاد؛ فلا تكفير للأفكار، ولا إهدار للدماء، ولا قطع للطريق، ولا تعطيل للمصالح العامة، ولا إجبار على اعتناق مذهب، بل لا إجبار على اعتناق الإسلام نفسه، والأولى لا إجبار للآخرين على أن يعيشوا النمط نفسه من الحياة الذي أحياه أنا. فللإنسان حق ممارسة الحرية طالما لا يضرّ نفسه أو الآخرين وفق القوانين. فالحرية في الإسلام هي الحرية الملتزمة، وهي ضدّ الفوضوية التي ترجع فلسفياً إلى الفردية المطلقة عند شميت وشترنر وبرودون وباكونين في الغرب، وإلى القرامطة في تاريخ المسلمين.
والسؤال: ما موقف الإسلام الحر من الصراع على السلطة، وفقه الاختلاف والمصالحة، والتكفير، وإهدار الدماء، والحرية في المجال العام والخاص، وقطع الطريق، والجهاد، والاجتهاد، وصراع الطبقات، والرأسمالية المتوحشة، والصراع الموهوم بين الولاء للدين والولاء للوطن...؟
محمود كيشانه: مأساتنا في الوطن العربي هي تارة الاستغلال السيء للحريات العامة والخاصة، وتارة أخرى التعدي عليها، وما يزال العرض مستمراً: مرّة فوضى ومرّة استبداد. فما موقف الإسلام الحر من حرمة الحياة الخاصة؟
ـ الدكتور محمد عثمان الخشت: من أكبر مآسي زمننا الخلط بين الحرية والفوضى، مثلما يحدث في كثير من مستويات المجال العام في مصر؛ حيث عدم الخوف من خرق القانون، وحيث الرعونة في تطبيقه إمّا بسبب جبن المرتعشين أو بسبب الطيبة الجوفاء أو اللامبالاة بحاضر البلد ومستقبله. وفي حالة التعدي على الأمن القومي أوالنظام العام فلا تحدثني عن حرية، ولا تحدثي عن حقوق، إذ لن يكون هناك دولة ولا قانون يمكن الالتجاء إليه؛ لأنّ الآخرين سيكون لهم ذلك الحق أيضاً في انتهاك القوانين، وهنا تسقط فكرة الدولة، ويضيع البلد، وتستيقظ الصراعات المسلحة من مرقدها العفن.
ومن مظاهر هذه الفوضى انتهاك حرمة الحياة الخاصة، مع أنّ حرية الفرد في عالمه الخاص به، هي "حرم مقدس" لا يجوز لأحد انتهاكه أو الدخول إليه إلا صاحبه أو من يأذن له، وهنا تظهر مغالطة من يعتبرون أنّ حياة الساسة والفنانيين والرياضيين والمشاهير مثلاً هي حق مشاع للإعلام الأصفر تحت دعوى حرية التعبير أو دعوى أنّ الحياة الخاصة للشخصية العامة أصبحت جزءاً من حياته العامة.
وتشمل حرمة الحياة الخاصة للفرد: العائلة والبيت والذوق الخاص، والأشياء المفضلة للفرد، بشرط ألا يكون في أيّ من ذلك عدوان على الغير (أنت وحدك الذي تحدّد أسلوب حياتك ما لم تخرج عن القانون). ويجب ألا تمتد يد السلطة الحكومية والاجتماعية إلى الحياة الخاصة، فهي "المجال الخاص" الذي تنتهي عنده سلطة قوانين المؤسسات العامة.
وهذا ما استقرّ في كلّ دساتير الدول الحرة، لكن المشكلة دوماً في التنفيذ، فبعض الحكومات تقول ما لا تفعل، حتى في الديمقراطيات العريقة مثل الولايات المتحدة، فقد حدث قديماً فضيحة التجسس على الاتصالات، وفي هذه الأيام تعود من جديد كفضيحة على المستوى الدولي؛ حيث التجسس على رؤساء الدول الصديقة بواسطة وكالة الأمن القومي الاميركية التي لم تحترم القواعد التي تحمي الحياة الخاصة في عملياتها للتنصت على الاتصالات الهاتفية.
والإسلام الحر يقدّس الحرية، لكنه مثل كلّ دول الحريات العريقة، يميز بين "المجال العام" و"المجال الخاص". فالمجال العام يضم الميادين السياسية والاقتصادية والمجتمعية، والحرية في المجالات العامة غير الشخصية يجب أن تكون خاضعة للرقابة والضبط القانوني. فلا حرية في المجال العام بدون التزام بالقانون؛ لأنّ الحرية لها سقف هو القانون وإلا تحولت إلى فوضى، وأهم تعريفاتها في أعرق الدول إيماناً بالحرية هي "الحق في فعل كلّ ما تسمح به القوانين".
والحريات المنضبطة هي حقوق لكلّ الناس، وليست حقوقاً لفئة دون سائر المجتمع، فلا يجوز لأحد أن ينتهك حرية الآخرين، ثم ينادي باحترام حريته هو، فإذا ما تعدّى فريق على حرية الآخرين فسيكون من حقهم أيضاً أن ينتهكوا حريته. إنّ البعض يظن أنّ القانون يمنع ويقيد فقط، وهذا خطأ لأنّ القانون يحمي حرية الفرد أيضاً؛ فمثلاً، يمنع القانون الفرد من التعدي على الآخرين، لكنه يحمي أيضاً حريته من أن يعتدي عليها أحد.
وفي "المجال الخاص" يعتبر انتهاك حرمة الحياة الخاصة أمراً مخجلاً في الإسلام الحر. وهو ما تبينه عمر الفاروق عندما نبهه إلى ذلك أحد الأشخاص، فمن القصص الذائعة أنّ الفاروق كان يتجول بالمدينة ليلاً، فسمع صوت رجل في بيت وهو يتغنى ويشرب مع رفاقه، فتسوّر عليه، أي قفز من فوق سور البيت، فقال: يا عدو الله أظننت أنّ الله يسترك وأنت في معصيته؟ فقال الرجل: وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ، إن أكن عصيتُ الله واحدة فقد عصيتَ الله في ثلاث، قال: (ولا تجسسوا)، وقد تجسست، وقال: (وأتوا البيوت من أبوابها)، وقد تسوّرت عليّ، وقد دخلت عليّ بغير إذن وقال الله: (لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها). قال عمر: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم، فعفا عنه، وخرج وتركه (رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق).
ويعني هذا أنّ الحياة الخاصة هي حق لصاحبها يستأثر بها ويحتكرها وحده، ولا يجوز لأحد أن يطلع عليها إلا بإذنه، وهي أعلى من حق الملكية الفردية لأنها غير قابلة للتنازل عنها. وهذا المعنى مستقر عند المفسرين، فقد قال القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن): "لَمَّا خصّ الله بني آدم الذين كرّمهم وفضلهم بالمنازل، وسترهم فيها عن الأبصار، وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد، وحجز على الخلق أن يطلعوا على ما فيها أو يلجوها دون إذن أربابها، أدبهم بما يرجع إلى الستر عليهم".
ولا تقتصر حرمة الحياة الخاصة في الإسلام على المسكن فقط، بل تشمل كلّ الخصوصيات وشؤون الأسرة والاتصالات والمراسلات والأنشطة الإليكترونية الخاصة. بل إنّ مفهوم السكن الذي تشمله الحماية لا يقتصر فقط على البناء، بل يشمل ما يؤوي الإنسان حتى لو كان بشكل مؤقت. لهذا قال الخطيب الشربيني في كتابه (مغني المحتاج): إنّ الفقهاء ذهبوا إلى أنّ الخيمة في الصحراء كالبيت المشيد في المدينة. ويشمل هذا في عصرنا غرف الفنادق والشواطئ، والسيارات، والطائرات الخاصة، والمكاتب الخاصة. وهي جميعاً تدخل تحت حق حماية الحياة الخاصة، ومن المحظور التجسس عليها أو تفتيشها أو الدخول إليها بغير إذن المقيم فيها أو إذن السلطة القضائية في حالة ثبوت وقوع جريمة ضارة بالآخرين. وهذا ما أكد عليه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، في المادة 17. فالأصل والقاعدة تقديس حرية الشخص في الحياة الخاصة، والتقييد لا يأتي إلا في حالة التعسف في استعمال هذا الحق بالتعدي على الغير أو حتى تعدي الشخص على نفسه كالانتحار أو تعمد حرق الممتلكات الخاصة مثلاً.
محمود كيشانه: ولكن هل يقضي الإسلام الحر على معضلة الفوضى؟
ـ الدكتور محمد عثمان الخشت: الجميع يتحدث عن الحقوق ولا أحد يحترمها، وكلّ فريق يتحدث عن حقوقه هو وينسى حقوق الآخرين. وكلّ فرد يتحدث عن حقه في الحرية، لكنه يقصد حقه في الفوضى، هذه هي معضلتنا.
وبعض الإعلاميين والثوار يتحدثون عن الحق في التعبير بينما يقصدون حق القذف والتشهير وانتهاك الأعراض: سواء كانت الأعراض بالمعنى المباشر للكلمة أو الأعراض بمعناها العام (الأعراض السياسية والمهنية)؛ فعرض الإنسان ليس فقط عرضه بالمعنى الجنسي، ولكن أيضاً عرضه بمعنى شرفه العام المتعلق بسمعته ككل. فحرية التعبير التلفزيوني أو الإذاعي وحرية الصحافة لا تعطي لأحد حق إطلاق الأكاذيب أو الشائعات الضارة بسمعة طرف آخر. ويطلق على مثل هذا التعبير "قذفاً" إذا صدر لفظاً، و"تشهيراً" إذا صدر مكتوباً.
أمّا دعاة الاستبداد فيريدون بحجة الفوضى نزع كلّ الحقوق والحريات، والعودة مجدداً لحكم ديكتاتوري يحكم "شعباً يخاف ولا يختشي"، وإذا كانت الأنظمة الفاشية والاستبدادية لا تلقي بالاً للحرية، فلا يقلّ خطأ عنها دعاة الفوضى باسم الحرية، فكلا الفريقين آثم، وكلاهما يُضيّع مصر ويضيع نفسه.
بينما الحل بسيط، وهو يا سادة: الفوضى حلها تطبيق القانون بحسم وعدالة ناجزة دون تراخ ودون ارتعاش. فمأساتنا أننا نتأرجح دوماً بين الاستبداد والفوضى.. مرّة نعيش تحت القهر، ومرّة نعيش تحت الفوضى، ولا نعرف المنطقة الوسط (الحرية المسؤولة الملتزمة بالقانون). ولذلك فليس بديل الفوضى هو العودة للاستبداد ولا الدولة البوليسية، بل هو الالتزام بالقانون من الناس، والالتزام بتطبيق القانون على الجميع.
إنّ الحرية في الإسلام مقدّسة، وقد تنبه إلى ذلك الشيخ المباركفوري في تكملته على "المجموع شرح المهذب للنووي"، حيث اعتبر الحرية الشخصية من أعظم مقاصد الشريعة. وقد أكد على هذا المقصد الفقيه التونسي الطاهر بن عاشور، وغيره من الأصوليين والفقهاء الحقيقيين؛ فالحرية وإن لم يذكرها الأصوليون من جملة الضرورات الخمس فهي عنوان كلّ ضرورة من هذه الضرورات. لكنها ليست حرية مطلقة، بل حرية منضبطة ومسؤولة تعطي حقوقاً في مقابل واجبات، مثل واجب المواطن أن يدفع ضرائب، ويلتزم بقواعد العمل، ويلتزم بالدور في الحصول على الخدمات، وألا يعطل مصالح الناس أو يضر بأيّ مظهر من مظاهر الحياة.
فالقانون لا يسحب حرية الفرد مثلما يحدث في النظم الاستبدادية، بل ينظمها من أجل كفّ الضرر عن الآخر، ويضع سقفاً لحرية الآخر من أجل كفّ ضرره عن الفرد، أي أنّ القانون هو من أجل تحقيق حرية متساوية لكلّ طرف، ومن أجل الحفاظ على النظام، وسير الأمور بيسر ودون ضرر، فعندما يتعذر على سيارتين في الوقت نفسه عبور ملتقى طرق، دون اصطدام، فإنّ النظام يحدد أي اتجاه يكون للسيارة القادمة منه الأولوية في أن تمرّ أولاً.
ويمنع القانون الفرد من استخدام حريته عندما تضرّ بالمصالح المشروعة للآخرين أو سلامتهم أو صحتهم أو حتى رفاهيتهم، فحرية الكلام حق، لكنها ليست مطلقة في قاعات الدرس، ولا في الصلوات، كما أنّ الحق في "حرية الكلام" لا يعني الحق في "الصراخ"، كأن يصيح فرد قائلاً "حريق" "قنبلة" في مكان مزدحم إذا لم يشب حريق أو توجد قنبلة بالفعل. وحرية التجارة لا تعطي لأحد الحرية في أن يغش الآخرين. وحق التصرف في الملكية الخاصة للعقارات لا يعطي لأصحابها حق التعدي على حرم الطريق أو حقوق الجار. وحرية أصحاب المصانع في إدارة مصانعهم لا تبيح لهم تلويث الجو أو إلقاء النفايات الصناعية في الطريق العام أو المياه أو غير المكان المخصص لذلك. لكن في مصر المحروسة "الحرية" تعني أنّ كل شيء مباح؛ فالمصري دوماً متفرد وله إبداعه الخاص، وهو أيضاً ينسى أنّ الحرية التزام ومسؤولية (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت).
إنّ المعاملة بالمثل هي المبدأ العادل، والقانون حق على الجميع، والفعل الذي أقوم به يشرع للآخرين أن يفعلوا مثله، فإذا كان من حقي قطع الطريق فمن حق الجميع أن يفعلوا ذلك. والتظاهر حق أصيل، لكن إذا كان من حقي كمتظاهر أن أعطل مصالح الشعب وأعتدي على ممتلكات الآخرين، فمن حقهم أيضاً عندما يتظاهرون أن يعتدوا على ممتلكاتي ومصالحي العامة. وهنا تضيع الدولة، ويضيع الأمن القومي، وتتحول البلد إلى عشوائية وصراخ هيستيري.
ولا أدري كيف يبيح البعض لأنفسهم عند الاختلاف السياسي بين أبناء الوطن الواحد حقوقاً لا يبيحها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حالة الحرب ضدّ الأعداء الذين يعتدون على الوطن؛ فيعطون لأنفسهم حق السحل والتنكيل، والاعتداء على المنشآت، وقطع الطريق.
ومن سخرية زماننا أن نطالب ونرجو "فرقاء السياسة" أن يلتزموا بقواعد الحرب، إنّ الجهاد فرض كفاية أو فرض عين (حسب طبيعة الحرب)، لكنه يقف عند حدود عدم الإضرار بالمصلحة العامة أو انتهاك حقوق الإنسان أو الحيوان أو الجماد. فقد أوصى الصديق أبو بكر جنوده قبل فتح بلاد الشام (12) هجرية بقوله: "لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له".
وقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) في حديث واضح: "من ضيق منزلاً، أو قطع طريقاً، أو آذى مؤمناً، فلا جهاد له"(صححه الألباني، الجامع 6378).
فهل يمكن أن ينصت المصريون لثوان لحديث سيد الخلق، حتى يعرفوا موقعهم الحقيقي؟
وهل يمكن أن ينصت أصحاب المحلات والباعة وقائدو السيارات والثوار الأحرار لقول آخر للمصطفى عندما سأله بعض الصحابة الكرام: وما حقّ الطريق يا رسول الله؟ قال: "غض البصر، وكف الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر"(رواه البخاري).
رحمتك يا رب.
محمود كيشانه: هذا يعني أنّ الإسلام الحر يقضي حتماً على الرؤية الأحاديةللإسلامالتي تنطلق من النظرة الضيقة لنصوص الكتاب والسنّة النبوية؟
ـ الدكتور محمد عثمان الخشت: مع مرور أكثر من أربعة عشر قرناً على ظهور الإسلام، ما تزال الفجوة واسعة بين الإسلام والمسلمين، فالإسلام (قرآناً ورسولاً) يقدم نموذجاً إنسانياً عالمياً للدين الذي يلائم الطبيعة الإنسانية، ويعترف بالتنوع الكوني والإنساني، ويعتبر التعددية سنة إلهية، ويميز بوضوح بين البشري والإلهي، وهو في الأساس جاء رحمة للعالمين وليس لبعض المسلمين فقط، ومن مقاصده الكبرى تحقيق العدالة الاجتماعية والحفاظ على الأوطان ومصالح الناس...كلّ الناس: حياتهم، وعقولهم، ودينهم، وأموالهم، وأعراضهم. وهذه الأمور الخمسة تسمى بالضروريات الخمس، وبمقاصد الشريعة، وهي الأمور التي تظهر من جميع أحكامه.
وبعض أو أكثر المسلمين منذ لحظة الانحدار الحضاري وحتى الآن يفسرون هذه المقاصد على أنها خاصة بهم أو بفصيلهم، أمّا باقي التيارات فليس لها إلا التكفير الديني أو السياسي وكلها في النار.
ولهذا أسباب كثيرة، أكتفي منها هنا بـ"النظرة إلى الإسلام من زاوية واحدة وضيقة"، هي زاوية القراءة الضيقة والحرفية لنصوص الكتاب وأحاديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأخذ ببعض الكِتاب وترك البعض الآخر، غافلين عن روح الإسلام وأدلته الكليّة.
مثل هؤلاء مثل العميان الذين دخلوا غرفة مظلمة فيها "فيل عملاق"، ووضع بعضهم أيديهم على ذيله، وظنوا بل اعتقدوا أنّ "الفيل كله" عبارة عن "ذيل"، بينما فريق آخر وضعوا أيديهم على "رجل" الفيل وتصوروا الفيل كأنه عمود طويل مستدير، أمّا الذين وضعوا أيديهم على "ظهر" الفيل فتصوروا أنه هضبة عالية، والذين وضعوا أيديهم على "أنيابه" ظنوا أنه كائن شرس فتاك، وهكذا الحال مع سائر الأجزاء... ثم دخل الجميع في جدال مميت حول ما هو الفيل، وأخذ كلّ فريق يصف الفيل "كله" بمواصفات هذا "الجزء" الذي يمسك به والذي يعلمه علم اليقين.
وعمى بعض المسلمين في عصرنا ليس عمى عين وإنما عمى ثقافة، وعمى الزاوية الواحدة التي ينظرون منها، وهي زاوية الموروثات الاجتماعية وزاوية المصدر الواحد للمعرفة؛ فهم يخلطون بين موروثاتهم الاجتماعية والتصور الإسلامي النقي والشامل. ولذا تجدهم يعتقدون أنهم يحتكرون الفهم الصحيح والأوحد للإسلام، ويبدون تعصبهم نحو المختلفين معهم. مثل البدو الذين يضفون على الإسلام الطابع البدوي، فلا يرون فيه إلا سلطة الرجال وعزل المرأة، ودين الخشونة، والمعاداة للفن والحضارة.
أما العلمانيون فهو عندهم علاقة فقط بين العبد وربه، ولا شأن له بصلاح الحياة العامة ولا دخل له بأي شأن من شؤونها.
والجماعات الماسونية والباطنية والسرية تضفي طابعها الخاص عليه؛ فتراه دين العمل السري، والتقية، والعمل من وراء ستار، والرغبة في السيطرة والهيمنة.
أما الجهاديون، فالإسلام عندهم هو دين الفتك، والعنف، والقوة، وتكفير الآخر. وهو دار السلام في مقابل دار الحرب.
والصوفيون يرون فيه دين الزهد والتقشف والذكر والاعتزال عن الكفاح في الحياة.
أما الكتلة الصامتة فالإسلام عندها هو دين المناسبات: رمضان، العيد، رجب، شعبان، المولد النبوي، الحج.
وبعض الفنانين يتصورون الله تعالى ربّ قلوب فقط وليس ربّ أعمال أيضاً، والمهم القلب، وطالما قلبك سليم تقدر تعمل أي حاجة.
وعلى عكسهم ـ لكنه يقع أيضاً في الخطأ نفسه- البعض من المتشددين الذين يفهمون تعاليم الله على أنها تعاليم شكلية حرفية تتعلق بالظواهر أكثر ممّا تتعلق بالبواطن، ويحصرون أنفسهم في جانب ضيق: المظهر والملابس والشكليات، نصف الجسد الأسفل، الجنس، الزوجات، الطقوس.. ومن ثمّ حوّلوها من تعاليم للروح والجسد معاً إلى تعاليم للجسد فقط.
أمّا الفاسدون والنصابون من كلّ فصيل، فهم يخلطون بين العبادة الحقة والعبادة المزيفة، فما يزال الكثيرون يقيمون علاقتهم مع الله من خلال الطقوس فقط، وليس من خلال الالتزام والمسؤولية، فسبيل الخلاص عندهم في الالتزام بالعبادات فقط، وليس في ممارسة العمل البناء في تنمية العالم، وهم يخلطون بين العبادة الحقة في الدين والتي تقيم علاقة فعالة بين الإنسان والله فتمده بدافع شخصي متجدد لممارسة دوره في إعادة بناء العالم وتنميته، وبين العبادة المزيفة التي يمارسها المراؤون، أو التي يمارسها الذين يخدعون أنفسهم ويظنون أنهم يسترضون الله تعالى بأداء بعض العبادات ثم يسعون في الأرض فساداً؛ فيرتشون ويغشون ويكتمون الشهادة ويشيع بينهم عادة النفاق والإهمال والغدر وعدم الالتزام بالوعود.
كما يخلط كثير من المسلمين بين معتقدهم الديني ومواقفهم السياسية ذات الطابع الإنساني المتغير. إنّ الإسلام يشتمل على أصول الحكم السياسي العادل. هذا شيء لا شك فيه، لكنّ الكارثة تكمن في أن يعتبر أي شخص أنّ مواقفه السياسية المتغيرة والمرتبطة بالمصالح والطبقة والجماعة التي ينتمي إليها هي تعبير عن الإسلام الخالد نفسه.
أمّا بعض رجال الدين الذين يتخذون الإسلام مهنة وليس رسالة؛ فقد حولوا الدين الأصلي إلى مؤسسات ذات سلطة ومرجعية تحتكر الحقيقة وتركز على الشعائر والمناسبات أكثر ممّا تركز على نقاء الضمير واتساق القول والفعل، وتركز على الشكل والحرف أكثر ممّا تركز على الجوهر والعقل والإنسان، وتبرر للحكام قراراتهم ومصالحم، فالدين عندهم "سبوبة".
وهكذا نجد أنّ كلّ هؤلاء ما تزال تسيطر عليهم الرؤية الأحادية للإسلام، بينما رؤية الإسلام أوسع من ذلك بكثير: الكون، الإنسانية، الحضارة، التاريخ، العدالة الاجتماعية، الإنصاف، الخير والرحمة للعالمين.
لكلّ هذا يجب عدم الخلط بين الإسلام كدين في حد ذاته، والإسلام كما يفهمه ويمارسه بعض المسلمين في ضوء ثقافتهم المحدودة وعقائدهم الجامدة ومصالحهم الخاصة.
وينتج من ذلك حتمية عدم اتهام الإسلام كدين بأية صفة سلبية نتيجة الفهم القاصر الذي تقع فيه كلّ هذه الطوائف الممسكة بـ "ذيل" الفيل أو "رجله" أو "ظهره" أو "أنيابه"، فكلّ شائنة تشين هؤلاء، هم وحدهم الذين يتحملونها، مثل تحمل التلاميذ الفاشلين لمسؤولية عدم فهمهم للمقررات الدراسية (الجيدة طبعاً) التي يدرسونها، ومثل الأرض البور التي لا تنتج أيّ ثمار على الرغم من أنّ "الماء النقي" يرويها ليل نهار.
محمود كيشانه: ومما لا شك فيه أنّ هذه الرؤية الأحادية تستند بالأساس إلى الأتباع والمريدين الذين يسيرون خلف زعمائهم كالقطيع لإذاعتها ونشرها بين الناس الذين يعتقدون خطأ أنها المعبر الحقيقي عن رأي الدين الحر، مع أنّ القرآن ذاته نهى عن غريزة القطيع، فكيف استطاع القرآن أن يحذرنا من خطورتها على الفرد والمجتمع؟
ـ الدكتور محمد عثمان الخشت: يرفض القرآن بحسم "غريزة القطيع" التي تجعل المجموع ينساقون وراء قادتهم بلا تفكير أو تروي أو مراجعة، كما يستنكر القرآن بوضوح ما ينشأ عن هذه الغريزة، مثل منهج السمع والطاعة، ويسخر من التسليم بأقوال القادة أو الآباء دون الاستناد إلى براهين عقلية. قال تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)(البقرة: 170). وفي الوقت نفسه يرفض القرآن موقف الذين لا يستخدمون عقولهم ويشبههم بالبهائم.
ومن هنا انتبذ القرآن الطريقة المتعصبة في التفكير التي تقوم على اليقين الساذج الذي نجده عند المتطرف، فالمتطرف متعصب لآرائه إلى أبعد الحدود، لا يقبل أن يناقش آراءه ومعتقداته أحد، يعتقد في ذكائه المفرط وقدرته الخارقة على معالجة الأمور. كما يعتقد في سلطة الآباء أو العلماء أو غيرهم من أصحاب النفوذ الديني أو الفكري. وهذه هي طريقة الذين يقولون "إنّ الحق يعرف بالرجال" الذين حذر منهم الإمام علي، أي الذين يعتبرون القول حقاً لمجرد أنّ فلاناً أو عِلّاناً قاله، وهؤلاء هم الذين يسيرون على منهج السمع والطاعة، لا برهان لهم ولا رأي، فالذي يملك الحقيقة هم سادتهم فقط. ولذلك فهم منفصلون تماماً عن الواقع كما يقول علماء النفس.
والسمع والطاعة أمر مستهجن وضد مبادئ العقل المنطقي وضد البداهة؛ لأنّ المعتقدات ينبغي أن تؤسس على براهين من الواقع، وليس من الحجج النظرية الجوفاء التي تقوم على المصالح الخاصة للجماعة بصرف النظر عن مصالح الوطن.
ولذا حذرنا الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون من الذين يتبعون زعماءهم مثلما يتبع القطيع الراعي، وأطلق بيكون على آراء أمثال هؤلاء اسم "أوهام المسرح"، وهي الأوهام التي تنشأ عن الاعتقاد في صحة كلّ ما يقوله قادة الجماعات أو الآباء أو الشيوخ أو غيرهم من أصحاب النفوذ؛ حيث يعتقد بعض الناس أنّ كلامهم كله صحيح لمجرد أنّه صدر عن فقيه كبير من الفقهاء أو قائد جماعة دينية أو سياسية من ذوي الأسماء الكبيرة. ويرى بيكون أنه لا بدّ من النظر إلى أقوال هؤلاء ومذاهبهم على أنها تشبه المسرحيات.
والأصل الأول لكلّ تعصب هو غريزة القطيع التي ليس لها بوصلة سوى اليقين المطلق الذي تتسم به بعض معتقداتهم اعتماداً على التسليم الكامل للقادة.
وفي ظني يكمن المنشأ الفلسفي لغريزة القطيع في طبيعة منهج التفكير، فالعقل المتعصب المتطرف عقل مغلق على نفسه، ومن ثمّ فهو مظلم، مثل الحجرة المغلقة التي لا نوافذ لها، إنها لا ترى النور، ولا يمكن لمن بداخلها أن يرى شيئاً سواء في الداخل أو الخارج.. إنه لا يستطيع أن يتجاوز ذاته. ومن هنا فإنّ صاحب العقل المغلق من المستحيل أن يرى أيّ شيء خارج عقله، لا يستطيع أن يتجاوز أفكاره المظلمة ولا يمكنه أن يرى غير أفكاره هو، ويعتبرها يقينية قطعية لا تقبل المناقشة، ومؤكدة بشكل نهائي، ويرجع هذا بدوره إلى حالة الانغلاق العقلي التي يعيشها، ومن ثمّ الطابع التعصبي التطرفي الذي يميز منهجية التفكير التي يستخدمها.
ولذا تجد المتعصب شخصاً غير عقلاني، يعتقد اعتقاداً جازماً أنّه على صواب تام وأنّ الآخرين على خطأ تام، إمّا لأنه لا يستخدم عقله مطلقاً، أو لأنه يستخدمه بطريقة خاطئة. فليست "اللاعقلانية" هي عدم استخدام العقل فقط، ولكنها أيضاً استخدامه بطريقة خاطئة.
إنّ التعصب حيلة فكرية مخادعة؛ لأنّ المتعصبين يتحدثون كما لو كان موقفهم قائماً على براهين محكمة ونهائية، أي أنهم يخدعون غيرهم، بل ويخدعون أنفسهم دون أن يشعروا، بأنهم أصحاب براهين محكمة مع أنّ براهينهم مليئة بجوانب الخلل. وما هذا إلا لأنّ التعصب لا يستطيع أن يخرج وراء ذاته فيرى عيوب تفكيرها.
ويؤكد القرآن على إمكانية المعرفة اليقينية ووجود معايير لماهية الحقيقة، لكن من جهة أخرى يرفض اليقين المطلق الذي يزعم امتلاكه البعض دون براهين محكمة؛ حيث ينتقد الأساليب الزائفة غير البرهانية، ويدعو للمعرفة التجريبية المبنية على النظر في الكون والآفاق والنفس، وغير ذلك من الأساليب التي توصل للمعرفة المضبوطة أو العلم الدقيق بالعالم الخارجي أو النص المكتوب.
والعلم اليقيني يحصل عليه الإنسان بوسائل متعددة: الواقع، أو التجريب، أو الاستدلال العلمي، أو القراءة الفاحصة، قال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (يونس: 101). (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق: 4 -5).
ودعا القرآن الكريم إلى استخدام البرهان للوصول إلى المعرفة اليقينية: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) (البقرة: 111)؛ فحجية العقل المنطقي سند للتمييز بين اليقين والوهم.
كما أنّ العلم بالدين والواقع المعاش وعدم الانفصال عنه شرط لاستخدام العقل، قال تعالى: (وما يعقلها إلا العالمون) (سورة العنكبوت، 43)، والعالمون هم الذين يملكون أدوات البحث العلمي في الواقع الخارجي أو النص المكتوب ويعرفون طرق البرهان والاستدلال، وما هي الطريقة المنضبطة التي يتوصل بها العقل إلى المعارف، فالعقل المنضبط بمعايير البرهنة والاستدلال العلمي له دور لا يُنكر في عملية المعرفة بالواقع أو الكتاب.
لكلّ هذا لا بدّ من انتباذ الجمود الديني النظري الذي تتسم به التيارات المتعصبة التي تعارض تجديد أمر الدين أو تطور العلوم الإنسانية والطبيعية.
وهنا تكمن مأساة التيارات المتطرفة التي تعتقد أنها وحدها تملك الحقيقة المطلقة. ومن هنا أيضاً ينبع الاستئثار بالسلطة وإقصاء الآخرين عند الوصول إلى الحكم.
وعندما يضيع الحكم يؤدي وهم امتلاك الحقيقة المطلقة إلى الإرهاب.
محمود كيشانه: شكراً سعادة الدكتور والمفكر الكبير على هذا الحوار المثمر، ولكم خالص تحياتي.