محمد وهيب: التراث الإنساني في الشرق الأوسط في دائرة الخطر والزوال
فئة : حوارات
محمد وهيب: التراث الإنساني في الشرق الأوسط في دائرة الخطر والزوال(*)
قال الدكتور محمد وهيب، إن التراث الإنساني في الشرق الأوسط في دائرة الخطر والزوال، وأن تخريب التراث في المنطقة يزداد بوتيرة متصاعدة بسبب الأوضاع غير المستقرة، والتي تشهد نزاعات مسلحة، حيث يتعرض ذاك التراث للتدمير المباشر وغير المباشر، والنهب والسلب، والبيع والتهريب.
وأوضح الباحث الأردني وأستاذ الآثار، في حوار مع مجلة "ذوات"، أن مفهوم التراث العالمي يتميز بشموليته للعالم بأسره، وأن مواقع التراث العالمي هي ملكٌ لجميع شعوب العالم بغض النظر عن المكان الذي تقع فيه والحقبة التاريخية التي تعود إليها، مشيراً إلى أن منظمة اليونسكو، الراعية لهذا التراث، تسعى إلى حماية مكونات التراث العالمي في كل أرجاء العالم.
وأشار الدكتور وهيب إلى أن الجهود المستقبلية لتعزيز التراث الثقافي غير المادي تتطلب زيادة الاهتمام الحكومي العربي بهذا التراث، وتحسين التنسيق، وزيادة التواصل مع الجمهور عن طريق المزيد من التركيز على التراث الثقافي في التعليم ووسائل الإعلام، وخلق استراتيجية موحدة على مستوى العالم العربي، الذي يتوفر حاليا على استراتيجيات عديدة، مؤكدا على ضرورة تعزيز قيم الحياة المشتركة، من خلال السياحة والتراث الثقافي، حيث توجد على طول امتداد الوطن العربي الكثير من المواقع المشتركة التي تجمع سيرة الأنبياء والرسل، وكذلك تعزيز الاهتمام بالمسارات والطرق المشتركة العابرة للدول، ولا بد من إقامة المؤتمرات العالمية المشتركة التي تتناول هذه المحاور بكل شمولية.
وأكد الدكتور وهيب أن التراث الثقافي قد يلعب دورا بارزا وقائيا لمنع حدوث الاختلالات والنزاعات قبل أن تقع، حتى لا يصبح التراث الإنساني هو الضحية، مشيرا إلى أن "هذه الذاكرة رغم كونها غنية ومتنوعة؛ فهي هشة ومعرضة للتلاشي والاندثار. ففي كل لحظة تزول منها مكونات لا تعوَّض. وقد استهلت اليونسكو برنامج ذاكرة العالم بغية تفادي فقدان الذاكرة الجماعية المشتركة لشعوب العالم".
واستعرض الدكتور وهيب آراء مختلفة للمفكرين حول التراث، فمنهم من اقتصر على التراث الديني وحده، ولكن مفهوم التراث الثقافي عند معظم المفكرين أوسع من أن نحصره في دائرة الدين وحده، لأن التراث ليس شاملا للدين فقط، وإنما هو مجموعة التجارب الإنسانية المتراكمة. فالتراث مجموعة من المنجزات المادية والعلمية والفلسفية والأدبية والفنية، التي أنجزها السلف على امتداد الزمان والمكان، وأضحت ودائع بين أيدي الخلف، وهذا التراث هو الذي يوحّد هُوية الأمة.
والدكتور محمد وهيب الحسين من مواليد الأردن عام 1962، وهو أستاذ مشارك في الجامعة الهاشمية / كلية الملكة رانيا للسياحة والتراث والآثار. عمل عميدا لكية الملكة رانيا للتراث والآثار، ورئيسا لقسم الإدارة، ومديرا لمشاريع الاكتشافات الأثرية. له أربعون اكتشافا أثريا مهما على المستوى المحلي والإقليمي والعربي، كان آخرها اكتشاف موقع عماد السيد المسيح في منطقة "وادي الخرار" في نهر الأردن، وهو الذي نبّه إلى أهمية الموقع سياحيا ودينيا. له من المقالات العلمية المنشورة مئتان وخمسون (250) مقالا، وثلاثون كتابا في مجال التراث والآثار، وشارك في مئات المؤتمرات الدولية والعربية والمحلية، حاصل على الدكتوراه من جامعه حاجي تبه/ أنقره تركيا.
مدني قصري: متى ظهرت فكرة التراث الثقافي لأول مرة، وكيف تعولمت الفكرة؟
محمد وهيب: لقد اتسع نطاق مفهوم التراث الثقافي بشكل كبير منذ مطلع القرن الماضي، وقد ساهمت اليونسكو بشكل كبير في تحقيق هذا التوسع الذي شمل معظم دول العالم، وشهد انتشارا واسعا خلال القرن الحالي، حيث ظهرت فكرة التراث اصطلاحا في الفكر الغربي والعربي. ويرى العديد من الباحثين في مجال التراث أن التراث كفكر يشمل الأديان السماوية، ونشاطات وممارسات عديدة أخرى؛ فالتراث كلمة واسعة المعنى والدلالة.
وهنالك آراء مختلفة عند المفكرين حول التراث؛ فمنهم من اقتصر على التراث الديني لشعب ما وحده، ولكن مفهوم التراث الثقافي أوسع من أن نحصره في دائرة الدين فحسب، أو كما يذكر الألوسي، فإن التراث ليس شاملا للدين فقط، وإنما هو مجموعة من التجارب الإنسانية المتراكمة؛ فتراث وثقافة أمة ما كمفهوم هو نتاج صيرورة تاريخية ومادية تشمل البنى التحتية (المادية) والبنى الفوقية (الرمزية، الأخلاقية)؛ فالتراث مجموعة من المنجزات المادية والعلمية والفلسفية والأدبية والفنية، التي أنجزها السلف على امتداد الزمان والمكان، وأضحت ودائع بين أيدي الخلف، وهذا التراث هو الذي يوحّد هُوية الأمة.
وقد عٌقدت الكثير من المؤتمرات والورش والندوات، والمحاضرات من قبل الخبراء والمتخصصين والمدربين، لصياغة اتفاقيات وطرق لنشر مفهوم التراث الثقافي وتوضيح أنّه تراث شعبي فولكلوري قريب جداً من مصطلح التراث المادي، والذي يشمل حالياً المناظر الطبيعية، والآثار الصناعية، وأشكال أخرى مختلفة لها صلة بمفهوم التراث العالمي أو التراث المشترك بين البشر. وقد انتقل الاهتمام بالتراث عبر وسائل الإعلام المختلفة، من خلال وسائله المرئية والمسموعة والمقروءة، ويتسارع انتشار مفهوم التراث الثقافي مع ظهور الوسائل الإلكترونية، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي.
مدني قصري: ما دور اليونسكو وغيرها من المؤسسات في قضية التراث الثقافي؟
محمد وهيب: تقوم منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) بالعمل على زيادة الاهتمام والعناية بالتراث الثقافي والطبيعي الذي يُعتبر ذا قيمة متميزة بالنسبة إلى الإنسانية حول العالم، وتجديده، من أجل صيانته والحفاظ عليه، وقد تمخض هذا المسعى عن معاهدة دولية تُعرف بالاتفاقية الخاصة بحماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي التي تبنتها منظمة اليونسكو في عام 1972، وصادق عليها حتى الآن 186 بلدا.
ومن المنظمات الأخرى المساهمة في حفظ التراث، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، وهي إحدى منظمات جامعة الدول العربية، وتعنى بالحفاظ على الثقافة العربية، وهي وكالة متخصصة، مقرها تونس، تعمل في نطاق جامعة الدول العربية، وتُعنى أساسا بتطوير الأنشطة المتعلقة بمجالات التربية والثقافة والعلوم على مستوى الوطن العربي وتنسيقها.
وتعمل الألكسو على رفع مستوى الموارد البشرية في البلاد العربية العاملة في مجال التراث، والنهوض بأسباب التطوير التربوي والثقافي والاتصالي فيها، وتنمية الثقافة العربية الإسلامية داخل الوطن العربي وخارجه، ومد جسور الحوار والتعاون بين الثقافة العربية والثقافات الأخرى في العالم.
كما توجد أيضا المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة أو الإيسيسكو (ISESCO)، وهي منظمة متخصصة تعمل في إطار منظمة التعاون الإسلامي، وتعنى بميادين التربية والعلوم والثقافة والاتصال في البلدان الإسلامية، ومقرها الرباط.
مدني قصري: ما موقع التراث الثقافي العربي في التراث الإنساني؟
محمد وهيب: شهد تعريف مصطلح التراث الإنساني في مضمونه تغيراً كبيراً في العقود الأخيرة من قبل منظمة اليونسكو، ويرجع ذلك جزئياً إلى الإسهامات التي أدخلتها اليونسكو. ولأن التراث الإنساني شاملٌ، فسنقتصر هنا على التراث الثقافي العربي المشتمل على المعالم التاريخية ومجموعات القطع الفنية والأثرية في بلدان العالم العربي، في بلاد الشام والمغرب العربي والخليج العربي وإفريقيا. كما يشمل أيضا التقاليد أو أشكال التعبير الحية، الموروثة من أسلافنا، والتي تداولتها الأجيال، الواحد تلو الآخر، وصولاً إلينا، مثل التقاليد الشفهية، والفنون الاستعراضية، والممارسات الاجتماعية، والطقوس، والمناسبات الاحتفالية، والمعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون، والمعارف والمهارات في إنتاج الصناعات الحرفية التقليدية.
مدني قصري: ما هو مفهوم التراث الثقافي المادي، وما هي تصنيفاته وهل هي ثابتة؟
محمد وهيب: يقصد بمفهوم التراث الثقافي المادي، البيئة المبنية التي صنعها الإنسان، من المباني التاريخية، والتراثية، ومن البقايا الأثرية، من مدن وقرى وقلاع وحصون وطرق ومنشآت مدنية وعسكرية وزراعية ودينية، وما يتبع لها ....إلخ، وكذلك مواقع البيئة الطبيعية، مثل المناظر الطبيعية الريفية، السواحل والشواطئ، والتراث الزراعي .....إلخ).
ويمكن تلخيص تصنيفات التراث الثقافي المادي وغير المادي على النحو الآتي:
- البيئة المبنية (المباني التاريخية، التراثية، والبقايا الأثرية ....إلخ).
- البيئة الطبيعية (المناظر الطبيعية الريفية، السواحل والشواطئ، التراث الزراعي .....إلخ).
- الحرف والمصنوعات اليدوية (الكتب والوثائق، الأجسام، الصور).
وهذه التصنيفات تتطور حسب أنواع التراث التي يتم اعتمادها حسب المعايير المتبعة بهذا الخصوص.
لكن يوجد في العالم العربي اهتمام أيضا من قبل الحكومات بما يسمى بالتراث الثقافي غير المادي.
مدني قصري: وما هو مفهوم التراث الثقافي اللامادي ودور التقاليد التعبيرية الشفهية بما فيها اللغة كناقل لهذا التراث؟
محمد وهيب: حسب تعريف اليونسكو، التراث الثقافي اللامادي هو "الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات - وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية - التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحيانا الأفراد، جزءا من تراثهم الثقافي" (الماده: 2- من نص اتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي).
وبتفصيل أكثر، فالتراث غير المادي يشمل الأصوات، والقيم، والتقاليد، والتاريخ الشفهي. شعبيًا يُعتبر ذلك من خلال المطبخ، والملابس، وأشكال المأوى، والمهارات التقليدية والتكنولوجيات، والاحتفالات الدينية، والفنون المسرحية، والرقص. واليوم، وفي العالم العربي يعتبر التراث المادي مرتبطا ارتباطا وثيقا لا ينفصم مع التراث غير المادي، في مشاريع الحفاظ على التراث. وقد أصبح واحداً من أولويات اليونسكو في المجال الثقافي. وتسهم اللغة بدور فاعل في هذا المجال، وخاصة اللغة العربية كناقل مشترك بين دول العالم العربي والإسلامي. إضافة إلى اللغات الأخرى، من خلال عرض التراث في المؤتمرات والورش العالمية، من خلال الاتصال الشفوي، وتعلم اللغات واللهجات المختلفة، والأشكال الأخرى المصاحبة لها، وخاصة للأجيال القادمة، حيث يتم تعليم الأطفال مناهج التراث في المدارس، ومن تم في الجامعات، وقد أصبح تعلم الأغاني والشعر والحكايات التراثية وسردها ونقلها من أفضل أنواع مناهج وأساليب حفظ التراث.
ويشمل التراث الثقافي غير المادي الممارسات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات والأدوات والأشياء والفضاءات الثقافية التي تعترف بها المجتمعات كجزء من تراثها الثقافي، والذي يُعزز احترام التنوع الثقافي والقدرة الإبداعية البشرية. وتقوم العديد من الدول بإقامة فعاليات سنوية لتعزيز الهوية والانتماء للتراث، من خلال المهرجانات والعروض الفلكلورية، حتى أصبحت جاذبة للزوار والمهتمين، حيث أصبح الموروث الثقافي مصدر اعتزاز لهم في حاضرهم، بل وفي مستقبلهم. وقد امتزج الحاضر بالماضي بأبهى صوره وأصبح الارتباط بينهما وثيقا، تقوم على ديمومته جمعيات ومراكز أبحاث وباحثون متخصصون.
مدني قصري: كيف يُحفظ التراث اللامادي، هل بالذاكرة الجمعية وحدها؟
محمد وهيب: هنالك بعض المؤسسات، والمنظمات التي تعمل على تطوير التراث الثقافي غير المادي وحفظه، وفعلا فإن المقابلات الشخصية تعتبر وسيلة مهمة لحفظه، بسبب وفاة المعمرين وضياع ما يملكون في الذاكرة. ومع ذلك، لا يتم تنسيق الجهود الكافية في العالم العربي لحفظ هذا التراث، وهناك القليل من الوعي على معظم المستويات المجتمعية بأهمية التراث الثقافي غير المادي. وفي يومنا الحاضر، دخلت وسائل تكنلوجية حديثة لحفظ هذا النوع من التراث، واستخدام وسائل النشر الإلكتروني الحديث والتبادل الثقافي بين الدول، وعليه تعددت وسائل الحفظ الحديثة، والأرشفة، والتوثيق، وكذلك إعادة إحياء التراث اللامادي في المجتمعات، من خلال الوسائل المتعددة في شتى المناسبات.
ويشكل التراث الثقافي غير المادي، بالرغم من طابعه الهش، عاملاً مهماً في الحفاظ على التنوع الثقافي في مواجهة العولمة المتزايدة؛ ففهم التراث الثقافي غير المادي للمجتمعات المحلية المختلفة، يساعد على الحوار بين الثقافات ويشجع على الاحترام المتبادل لطريقة عيش الآخر. وتظهر أهمية التراث الثقافي غير المادي بشكل جلي في المعارف والمهارات الغنية التي تنقل عبره من جيل إلى آخر، والقيم الاجتماعية والاقتصادية التي ينطوي عليها هذا النقل.
مدني قصري: يقول الأنثروبولوجيون إن الأساطير البدائية نصوص مقدسة ترسم حياة البدائيين، وتعاليم ثابتة، كالتعاليم السماوية لدى الشعوب المتحضرة، وهو ما يفسر عدم قابلية هذه الشعوب للتطور، هل يساعدنا هذا النمط التراثي على فهم سيكولوجية هذه الشعوب، بعيدا عن اتهامها بالتخلف؟
محمد وهيب: غالبًا ما نجد في الموروثات الشعبية المغزى الأخلاقي أو الديني، والمعنى الفلسفي، أو النمط السلوكي المفضل، فنجده يبرز ويطفو فوق الأحداث، ويمكن للباحث أن يلاحظ دون أدنى عناء كيف أن مغزى الأسطورة، أو الحكاية، أو دلالة القصة يبرزان حتى من عنوانهما. ولا تخلو حكاية، مهما صغر حجمها، أو قل تداولها، من نقدٍ لجانب معيّن من جوانب الحياة الاجتماعية، إما بإبرازه في صورة بشعة، أو في صورة مشرقة؛ فحتى الأساطير، أو الحكايات الخفيفة التي تتخذ التفكه طابعاً لها، نجد أنها تقصد من وراء الفكاهة نقداً لاذعاً. وهذا يدعو إلى الاعتقاد بأن الأدب الشعبي ملتزم بالضرورة، وهنا لا بد من الإشارة والتفريق ما بين مغزى الحكاية ومغزى الأسطورة ودورها في تقدم الأمم أو العكس.
فالأسطورة هي قصة خيالية، أو مختلقة ترتبط بالظواهر والكوارث الطبيعية وتفسيرها؛ فلقد تصور الأولون المطر إلهًا يصب الماء من إناء بالسماء، وأن الريح له إلهٌ ينفخها بمراوح، وأن الشمس إلهٌ، لأنها تضيء الدنيا وتشعل النيران. وكان الإنسان الأول يؤدي طقوسا للحصول على هذه الأشياء، وكان يعيش مع أساطيره. كما انشغلت كل الحضارات القديمة بالخلق والخليقة. وتعتبر الأساطير حكايات مقدسة لشعب أو قبيلة بدائية، وتراثا متوارثا، ويطلق على هذه الأساطير أحلام اليقظة، ولها صلة بالعقائد الدينية، كما أنها تعبّر عن واقع ثقافي لمعتقدات الشعوب البدائية، كالموت والحياة الأخروية. وما زالت القبائل البدائية تمارس الطقوس وتتبع أساطيرها التي تعتبر نوعا من تاريخها الشفاهي الذي لم يدوّن. ومن خلال الملاحم، تروي الشعوب روايات عن أجدادها، وحروبها، وانتصاراتها، وعن سيرها الشعبية الملحمية، لهذا لا تعد الأساطير تاريخا يعتمد عليه، لأنها مرويات خرافية خيالية؛ فالإنسان البدائي لم يكن يشغل عقله لتفسير الظواهر الطبيعية، حيث كان يعتبر، من منظوره، الشمس والقمر والرياح والبحر والنهر، بشرًا مثله.
لهذا ظهرت أساطير الأولين لدى البابليين والفراعنة والرومان والإغريق والمايا، لأن الأسطورة ما هي إلا نتاج لتفسير ساذج من قبل الشعوب البدائية لظواهر الطبيعة المختلفة التي كانت تصادفهم في حياتهم اليومية. وبالعكس من ذلك، فإن الحكاية في معظمها تعكس حوادث حقيقيه جرت على أرض الواقع. وهنا فإن المغزى في حكايات التراث الشفوي يركز على رفض الظلم والذل، والانتصار للحق، والدفاع عن الوطن والأرض والعرض بأغلى ما يملك الإنسان، وليس لذلك علاقة بتخلف واقع الإنسان الحضاري، أو تقدمه، حيث أصبح من المستحيل التمسك بالخرافات في ظل العولمة الجارفة، والتقدم التكنلوجي الهائل في مختلف ميادين الحياة، وفي حال وجود ذلك، فإنه بمثابة انتحار شامل وعزلة.
مدني قصري: هل الجاهلية التي سبقت الإسلام تركت لنا شيئا من التراث، وهل كان يمكن للأصنام، مثلا، أن تصبح جزءا من هذا التراث؟
محمد وهيب: مصطلح الجاهلية خاطىءٌ، لأن العرب كانوا يملكون إرثا حضاريا كبيرا أثّر في الحضارات المجاورة إيجابا، من خلال طرق القوافل التجارية، مثل طريق الإيلاف القرشي، ما بين الجزيرة العربية وبلاد الشام، وطريق البخور الدولي القادم من اليمن والمتجه إلى أوروبا. وعليه، فإن المصطلح المناسب للتعريف، والبديل للجاهلية هو "العرب قبل الإسلام". ويكفي أن نتعرف على نبوغ العرب في مجال علم الكلام، والتحدي الإلهي لهم، بإنزال القرآن الكريم.
أما الأصنام، فهي ليست سوى تراث يجب الحفاظ عليه، حيث إن المخاوف من عودة الوثنية قد تلاشت بمرور الزمن وأصبحت من الماضي البعيد. وما وجود هذه الأصنام إلا دلالات على حقبة زمنية تجاوزتها البشرية في مسيرة البحث عن الإله والتواصل معه مباشرة، أو بواسطة هذه التماثيل. وقد بقيت هذه الأصنام لتعكس مستوى الفن والمعتقدات المرتبطة به، والتي تتسابق إليها معظم متاحف العالم للحصول عليها والتفاخر باقتنائها.
مدني قصري: المقصود بـ "التراث الثقافي" مفهوم تغير بشكل كبير في العقود الأخيرة، وذلك جزئيا بسبب الأدوات التي وضعتها اليونسكو، هل من توضيح؟
محمد وهيب: تعرّف اليونسكو المناطق التاريخية أو التراثية الثقافية بأنها "مجموع الأبنية والساحات والفضاء، وتشمل المواقع الأثرية التي تشكل مستوطناً بشرياً في بيئة حضرية أو ريفية، ويعترف بقيمتها من الناحية الأثرية أو المعمارية أو التاريخية أو الجمالية أو الاجتماعية أو الثقافية".
ويعدّ التراث ثروة لا تقدر بثمن، ولا يمكن أن تعوَّض، وتقوم اليونسكو بوضع معايير وضوابط من خلال ما يقدمه الخبراء والمتخصصون من أعضاء اللجان المشاركة. وما الأدوات التي تضعها اليونسكو إلا مؤشرات مهمة على ضرورة حفظ التراث وديمومته للأجيال القادمة، حيث تهدد اليونسكو بأنها قد تضطر إلى إلغاء اعتماد موقع ما على قائمة التراث العالمي في حال عدم التقيد بالمعايير والضوابط التي تقرّها، مما قد يؤدي إلى فقدان الموقع للمزايا والحوافز التي يتمتع بها. وعليه، فإن الكثير من المواقع لا تعتَمد لدى خبراء التراث الثقافي بسبب المخاطر التي تتعرض لها، وعدم قدرة الدولة صاحبة العلاقة على توفير البيئة الآمنة لديمومته، مما قد يسرع بزواله واندثاره. لقد تشعبت التفاصيل المرتبطة بالتراث الثقافي بسبب التقدم السريع في مجال العلوم المصاحبة له، وكلها تصب في مصلحة الحفاظ عليه وإدامته للأجيال القادمة. وتعرف اليونسكو التراث الإنساني بأنه: "مجموع قيم، ومعتقدات، وآداب، وفنون، ومعارف، جميع نشاط الإنسان المادي والمعنوي، وهو ناتج عن تراكم خبرات المجتمع، وهو شاهد على تاريخ الأمة وأحوالها. ويتميز بأنه مكون من بنى مترابطة، ومتكاملة الأجزاء، ومتداخلة في كثير من الأوقات، ومنه ما هو ثابت ومنه ما هو متغير".
مدني قصري: ما دور المتاحف، وهل الحفاظ على التراث الثقافي مقتصر عليها فقط؟
محمد وهيب: عُرف المتحف عند الإغريق باسم "Mouseiom"، وذلك للدلالة على أحد المعابد التي شيّدوها على تل هيلكون قرب مبنى الأكروبوليس في أثينا، حيث خصص هذا المعبد لعبادة آلهة الفنون "Muses"، حيث كانت الهدايا والعطايا الثمينة توضع داخل هذا المعبد، كدلالة على عمق الإيمان والشكر. غير أن هنالك آراء تشير إلى أن بداية المتحف ترجع في تاريخها إلى عهد نبوخذ نصّر الأول عام 612 ق.م، حيث كان يعرض تماثيله لزوار قصره، وقد تطور مفهوم المتحف بشقيه المغلق داخل الأبنية، والمفتوح في الساحات، حتى أصبح وجودُه دلالة على رقيها وتحضرها.
وقد شهدت بدايات القرن الحالي نهضة علمية في المتاحف، ما انفكت تنشط وتنمو بمرور الزمن، فأصبحت المتاحف تشارك مشاركة فعّالة في العملية التربوية. فبعد أن كان التعليم يتم بالكتب، أضيفت إليه الأشياء ذات الأبعاد الثلاثة التي تحيط بالإنسان، وبذلك لم تعد متاحف اليوم أماكن لحفظ المقتنيات وحسب، بل أصبحت مؤسسات علمية يتعلم فيها الإنسان تاريخه الطويل ومصادر عالمه الواسع.
وقد أدركت الحكومات والجامعات أهمية علم المتاحف في المراحل التعليمية، وذلك لإفادة الطلبة من المعروضات، ومن فوائد المعلومات والقيم التي تمثلها المعروضات والنماذج المتحفية التي تؤلف جوهر العملية التربوية، وهذا الهدف السامي هو مقصد المتحف.
لقد انتهى ذلك الزمان الذي كانت فيه المتاحف متعة لفئة محدودة من الناس، فأصبح المتحف من المظاهر الحضارية العامة؛ فهو معهد علم ومركز ثقافة ومدرسة فنون، وهو المجال المناسب للإسهام في التعرف على تراثنا الحضاري وممتلكاتنا الثقافية، وعلى نشر الوعي العلمي والثقافي وتنمية الحس الحضاري لدى كافة أبناء الوطن.
وهناك أهداف رئيسة ينبغي للمتحف أن يحققها من خلال أداء دوره في الحياة التعليمية للمجتمع:
- المحافظة على التراث الحضاري من خلال حفظ المقتنيات وتوثيقها وإجراء الأبحاث اللازمة ونشرها.
- ربط المعروضات بالبرامج التعليمية، حيث تقدم المعروضات ضمن تسلسل تاريخي منذ العصور التاريخية المبكرة وحتى العصر الحديث.
- الانفتاح على المجتمع المحلي بما يخدم نشر الوعي والتوعية الأثرية والمتحفية لدى المواطنين المقيمين في المناطق، من خلال إيجاد متحف يحتوي على مخلفات تاريخية وحضارية، الأمر الذي سوف يشجع الزوار على زيارة المتحف، والاطلاع على التاريخ الحضاري للمنطقة، وعلى تثقيفهم، على اختلاف أعمارهم ومستوياتهم العلمية والثقافية، ويحبذ أن يكون المتحف بجوار الجامعة، يزوره الطلاب وكذلك القادمون من المحافظات المجاورة.
- إقامة البرامج التعليمية لطلاب المدارس في المناطق المجاورة.
- تشجيع الحركة السياحية الداخلية من خلال التنسيق ما بين المؤسسات الرسمية والمحافظات المجاورة وبين المؤسسات العلمية لتنظيم رحلات علمية للمتحف.
- التوسع في توثيق التراث القومي، حيث تكون الخطوة الأولى تأسيس المتحف، ثم إنشاء أقسام تابعة، مثل قسم أرشيف الفيديو، إضافة إلى نواة مكتبية متحفية تحوي العديد من الكتب المتخصصة، ويتم ذلك بالتنسيق ما بين وزارة السياحة والآثار والمؤسسات العلمية.
- إقامة المعارض المؤقتة، وذلك من خلال جلب معروضات من مؤسسات معينة أخرى، وتعرض فيها اللقَى الجديدة التي يعثر عليها من خلال أعمال التنقيبات التي تجريها وزارة السياحة والآثار في المنطقة.
ويتضح أن المتاحف لها دور كبير، لكنه ليس الدور الشامل؛ فالقطاعات الأخرى تسهم بشكل فاعل وكبير، مثل الجامعات والمراكز والمنظمات غير الحكومية، من خلال المتاحف الخاصه التي بدأت تنتشر في دول العالم.
مدني قصري: ما المقصود بالكنوز البشرية الحية، وهو التمييز الذي ظهر في اليابان في عام 1950؟
محمد وهيب: (هم شخصيات يملكون مستوى عاليا من المعارف الضرورية، يتم تعيينهم من قبل بلدانهم والاعتراف بهم من قبل اليونسكو)
مصطلح الكنوز البشرية الحية Trésors humains vivants يختص برموز وطنيه في كل دولة، ويقوم صون التراث الثقافي غير المادي على الجماعات والأفراد، عبر نقله وتوارثه جيلا بعد جيل، ليبقى في طابعه الحي لا الميت، وهو ما يمكّن من ضمان استمراريته، وتجنب خطر ضياعه وزواله، ولهذا نجد أن اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي قد ركزت على هذا الجانب، حيث أصبحت الدول تعرض لرموزها وللإبداعات التي قاموا بها في مسيرة حياتهم، عبر وسائل الإعلام التي تملكها، خاصة في ظل العولمة التي بدأت تطغى على كل شيء، وأصبحت تهدد المجتمعات بفقد خصوصيتها من خلال طغيان مفاهيم هذه العولمة الجارفة.
مدني قصري: هل من أمثلة عن التراث الثقافي البشري في إفريقيا وأمريكا وآسيا وأوقيانوسيا وأوروبا؟
محمد وهيب: تنتشر مواقع التراث الثقافي الإنساني في معظم دول العالم بلا استثناء، ولا يمكن حصرها بسطور، ويكفي أن نشير إلى أن ترشيح المواقع لتصبح على قائمة التراث العالمي أمر يبشر باهتمام دول وحكومات العالم بإدراج التراث على قوائم علمية، لتحظى بمزيد من الحماية والصيانة، ومن الإفادة من المردود الاقتصادي. وعلى سبيل المثال، لدينا محمية جبل نيمبا الطبيعية المتكاملة بين ساحل العاج وغينيا. الدوائر الحجرية في سينيغامبيا بين غامبيا والسنغال، وشلالات فيكتوريا، أو موسي ؤوا تونيا بين زامبيا وزيمبابوي. وفي قارة أوروبا في ألمانيا برول - قصري أوغستوسبيرغ وفالكنلوست (1984). وفي اليونان الأكروبوليس: قلعة إغريقية مهمة، تعد إحدى أشهر معالم أثينا واليونان قاطبة (1987). وفي آسيا في تركيا، المسجد الكبير، ومشفى ديوريجي. وفي روسيا أعمدة لينا، وهي تشكيلات صخرية طبيعية على طول ضفاف نهر لينا في أقصى شرق سيبريا، ضمن حدود جمهورية بورياتيا ذات الحكم الذاتي. يبلغ ارتفاع الأعمدة 150م.
مدني قصري: ما هي القيم الإنسانية المشتـركة التـي يحملها مفهوم التـراث الثقافـي الإنساني في الوطن العربي، ودوره في تعزيز التنوع والتعدد الثقافي ونشر قيم التسامح والسلم وحل النـزاعات، خاصة عبر ما يسمى المواقع العابرة للحدود؛ أي الممتلكات الثقافية أو الطبيعية المادية واللامادية المشتركة بين أكثر من بلد؟
محمد وهيب: القيم الإنسانية المشتركة هي مجال العادات والتقاليد في الأفراح والأتراح والمناسبات، والمواقع المشتركة العابرة للحدود، مثل محطات قوافل الحج الإسلامي من بلدان العالم الإسلامي باتجاه مكة والمدينة، وطريق الحج المسيحي، من القدس إلى الأردن عبر موقع عماد السيد المسيح / المغطس، ومقامات الأنبياء والرسل والصحابة، والأولياء المنتشرة على كافة أرجاء العالم الإسلامي. ولا بد من الأخذ ببعض التوصيات بهذا الخصوص، مثل الاستفادة من التجارب العالمية في مجال استثمار مواقع التراث العمراني في البلدان العربية، ويتضمن ذلك التعاون مع المنظمات العالمية في مجال توفير الخبرات البشرية في التعرف على أفضل الوسائل للاستثمار، وذلك بما يتلاءم مع طبيعة ونوعية وأنماط التراث العمراني في مختلف مناطق المملكة. واستكمال الإجراءات الخاصة بتطوير أنظمة التراث العمراني، وتحديد المعايير والمواصفات الفنية والمهنية للمواءمة بين المحافظة على الأصالة الحقيقية من جهة، ومن جهة أخرى، لعرض كيفية الجوانب التنظيمية والتطويرية عند الاستثمار لمواقع التراث العمراني، وزيادة مساهمة البرامج التوعوية للمالكين بأهمية القيمة الحقيقية لمباني التراث العمراني، وذلك للحد من إزالتها وتحفيز هؤلاء على استثمارها بما يتلاءم مع جوهر أصالتها، وبما يحقق المزيد من المنافع الاقتصادية والاجتماعية، سواء كان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
مدني قصري: كيف ترون علاقة التراث الثقافـي الإنساني بالتعايش والتعارف بين الشعوب العربية؟
محمد وهيب: مواقع التراث الثقافي تجذب فئات عديده من السياح، وخاصة ممن لديهم هواية التعرف على الثقافة العامة للمجتمع، بما في ذلك التعرف على العادات والتقاليد للمجتمعات المحلية، وأنواع الأنشطة المهنية، وأسلوب التعامل بين أفراد تلك المجتمعات. وفي هذا التوجه، فإن المستثمرين لمواقع التراث العمراني يلزمهم التركيز على إيجاد برامج ثقافية تعكس الأصالة الحقيقية للمجتمعات المحلية، وذلك لغرض أن يكون السواح على بيان بالقيمة الحقيقية للمدخرات القيَّمة للتراث الوطني بكافة جوانبه. ومن جانب آخر، فإن الاستثمار في مواقع التراث تحقق اتصالا ثقافيا بين النشء من الأجيال اللاحقة والرعيل الأول من الآباء والأجداد الذين يعود الفضل إليهم في توفير الإرث الوطني المتمثل في مباني التراث العمراني الذي يعكس حجم المهارة والإبداع والدقة في كافة التفاصيل التي تدعو الحاجة إلى التدبر في كيفية إنجازها واستمرارها على مر السنوات المتعاقبة، كما أن المواقع المشتركة ما بين أصحاب الديانات، مثل مقام الخضر المنتشر في معظم البلدان بالعالم العربي يساعد في تقارب الحياة المشتركة.
مدني قصري: ما تصوركم لحل مشكلة تخريب التراث وتجريم قيامه على أساس الفهم المغلوط للتوظيف الديني؟
محمد وهيب: التخريب يزداد بوتيرة متصاعدة في مناطق الشرق الأوسط غير المستقرة، والتي تشهد نزاعات مسلحة، حيث يذهب التراث الإنساني ضحيتها، من تدمير مباشر وغير مباشر، ونهب وسلب، وبيع وتهريب، وغيرها مما يضع التراث الإنساني في الشرق الأوسط في دائرة الخطر والزوال.
التراث الموثق أو الوثائقي هو مرآة الشعوب للعالم، ويشكل الذاكرة للثقافة والشعب، ولتطوير الذاكرة ممكن إتباع عدد من المهام.
النقاط المختلفة التي وضعتها اليونسكو، وساعدت في نشرها الكثير من الجامعات والمنظمات الحقوقية والإنسانية المهتمة بحفظ التراث الثقافي للشعوب المختلفة ومنها:
- إنشاء المجموعات والمتاحف المساهمة في تشكيل التراث وتوضيحه.
- المساهمة في رفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي للجماعات المحرومة التي تريد تطوير تراثها الثقافي.
- بناء المتاحف التي تظهر التراث خاصة في الدول الفقيرة خاصة في إفريقيا.
- تحسين المستويات التربوية والتنفيذية عبر إطلاق المشاريع التوعوية والثقافية التي تهدف إلى نشر مفهوم التراث الثقافي بين الشعوب المختلفة وتعريفه في أفضل صورة وأشكاله.
- تنظيم الدورات التدريبية لتأهيل المتخصّصين في الحفاظ على التراث الشعبي ونشره وزرع قيمه بين أفراد المجتمع المختلف الآراء والتوجّهات الثقافية.
مدني قصري: ما هي أهم الفرص والتحديات التي تواجه العامليـن في إدارة مواقع التراث الثقافي الإنساني في الوطن العربي؟ وهل توجد في الوطن العربي استراتيجية لإدارة التراث الثقافي؟
محمد وهيب: الفرص المتاحة للتراث الثقافي في العالم العربي عديدة، بسبب العناصر المشتركة في المجال الثقافي، وخاصة اللغة والدين والقرب الجغرافي، والبيئة الطبيعية، وهي محفزات لمزيد من العمل في التشاركية، بل الوحدة والاندماج في التراث الثقافي. ولعل أبرز التحديات هي الخلافات السياسية التي تنسحب على التراث وإغلاق الحدود في وجه السياحة البينية. ولا توجد سلطة مركزية للتوثيق والحفاظ على الأرشيف الموجود، ولذا لا بد من تسهيل حركة الخبراء والمختصين، وتأمين عناصر جديدة للتراث الثقافي، ولا بد أيضا من تقسيم المسؤولية عن هذه الجهود بين الجامعات، والوزارات المتنوعة، ومنظمات المجتمع المدني المختلفة، لتشمل المخزون الحالي من التراث الثقافي.
تتطلب الجهود المستقبلية لتعزيز التراث الثقافي غير المادي زيادة الاهتمام الحكومي العربي، وتحسين التنسيق، وزيادة التواصل مع الجمهور عن طريق المزيد من التركيز على التراث الثقافي في التعليم ووسائل الإعلام. وتوجد حاليا استراتيجيات عديدة لدول العالم العربي، لكن مع الأسف لا توجد استراتيجية موحدة للعالم العربي، وهذا يبقى في دائرة الأمل المنشود في ظل المعطيات الحالية.
مدني قصري: في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم العربي في ظل العولمة واقتصاد السوق، كيف يمكن التوفيق بين الخصوصيات الثقافية للمجتمعات العربية وحاجاتها إلى الحداثة والتنمية الاقتصادية؟
محمد وهيب: التوفيق بين الخصوصيات من خلال البرامج الثقافية لكل دولة ضمن استراتيجية مشتركة في العالم العربي يتفق عليها، ويتم من خلالها الربط بين تراث حوض بلدان المتوسط، على سبيل المثال، وبين دول التعاون الخليجي وبلاد الشام. وهكذا توضع من خلالها الأولويات، بما يضمن الانتقال بهذا التراث إلى التواؤم والمواكبة لمستجدات العصر، وليس في ذلك دعوة نحو سلعنة التراث، بل كيفية الإفادة منه اقتصاديا، من خلال الوسائل المتاحة والممكنة، وفق المعايير والضوابط.
مدني قصري: كيف يمكن للتراث العالمي في الوطن العربي المساهمة في الحد من النزاعات الإقليمية، والتي تتخذ أبعادا ثقافية ودينية؟
محمد وهيب: لا بد من تعزيز قيم الحياة المشتركة، من خلال السياحة والتراث الثقافي، حيث توجد على طول امتداد الوطن العربي الكثير من المواقع المشتركة التي تجمع سيرة الأنبياء والرسل، ولنأخذ على سبيل المثال موقع عماد السيد المسيح الذي اكتشف حديثا في الأردن، ودوره في تعزيز التواصل بين المسلمين والمسيحيين، وكذلك تعزيز الاهتمام بالمسارات والطرق المشتركة العابرة للدول، مثل طريق البخور، وطريق الحرير الذي يربط دول العالم القديم مع أوروبا وطرق الحج. ولا بد من إقامة المؤتمرات العالمية المشتركة التي تتناول هذه المحاور بكل شمولية. وعليه، فإن التراث الثقافي قد يلعب دورا بارزا وقائيا لمنع حدوث الاختلالات والنزاعات قبل أن تقع، حتى لا يصبح التراث الإنساني هو الضحية.
مدني قصري: ما هو البعد الاقتصادي للتـراث العالمي لكونه قطباً سياحياً ومحركا مهما من محركات الحياة الاقتصادية للأمم، في ظل إشكالية كون التراث العربي الإسلامي في الأندلس هو من أبرز محركات اقتصاد إسبانيا، لدوره الحيوي في إنعاش السياحة؟
محمد وهيب: من المسلم به أن استثمار مواقع التراث العمراني العالمي لأغراض اقتصادية بحتة ليس هدفاً بحد ذاته فحسب، بل يتعدى ذلك لغرض تهيئتها، حتى تكون ملائمة لإقامة العديد من الأنشطة والفعاليات الاستثمارية الأخرى التي يزداد الطلب على منتجاتها، والرغبة في مشاهدتها، لاسيما عندما تكون مزاولتها في مواقع التراث العمراني التي تضفي بأصالتها وزخارفها الجميلة قيمة إضافية إلى القيمة الأساسية لتلك المنتجات التراثية، أو غير التراثية من الأنشطة والفعاليات، وخاصة تلك الفعاليات التي تتم إقامتها بالتزامن مع المناسبات الوطنية، مثل احتفالات الأعياد، واليوم الوطني، أو الاحتفالات المئوية، واحتفالات البطولات وغيرها. وعلى هذا الأساس، فإن الأنشطة الاستثمارية وغير الاستثمارية التي تتم مزاولتها في مواقع التراث العمراني يتم تصنيفها إلى مجموعتين رئيستين كما يلي:
المجموعة الأولى: الأنشطة الاستثمارية والاستخدامات الممكنة داخل مباني التراث العمراني.
المجموعة الثانية: الأنشطة الاستثمارية والاستخدامات الممكن إقامتها في الساحات المحيطة بمباني التراث العمراني.
إن كافة الأنشطة الاستثمارية والفعاليات الوطنية والاستخدامات المتعددة لمواقع التراث العمراني التي تضمها المجموعتان تعتبر في مجملها فرصاً استثمارية للقطاع الخاص، يحقق من خلالها منافع ثقافية واقتصادية واجتماعية تنعكس على كافة الأفراد والمؤسسات، وذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وعلى الرغم من صعوبة حصر كافة الأنشطة والاستخدامات الملائمة لمواقع التراث العمراني، إلا أنه يمكن الإشارة إلى أهمها وذلك للمجموعتين كل على حدة.
مدني قصري: استحوذ الغرب عبر عصوره الاستعمارية على الكثير من الآثار ونصبها في بلدانه، فهل تؤيدون عودة هذه الممتلكات إلى أصحابها؟
محمد وهيب: كان السبب الرئيس للاستحواذ على هذه الآثار والنصب هو الاستعمار وحالة الفوضى التي عاشها العالم العربي، خاصة تلك التي أعقبت زوال الإمبراطورية العثمانية التي كانت تسيطر على تلك الدول، وأهمها مصر والعراق وبلاد الشام. والمنطقي هو أن تعود هذه الآثار إلى أصحابها الشرعيين، وإلى أماكنها الطبيعية، وهذا ما تدعمه المقررات الدولية والإقليمية والمحلية، إلا أن ما تشهده الدول من عدم استقرار وظهور التطرف المعادي لمثل هذه الآثار والنصب يضع علامات استفهام حول ضمانات بقائها إذا ما عادت، وكذلك قدرة تلك الدول على توفير المناخ المناسب لهذه الآثار والنصب، آخذين بعين الاعتبار أن ما جرى في أفغانستان والعراق وسوريا ما زال مقلقا جدا. لكن لا يمنع ذلك من التفكير في تقاسم العوائد الاقتصادية المتأتية من عرض تلك القطع في المتاحف، وألا تبقى إدارتها وصيانتها بمعزل عن تدخل المالك الحقيقي لهذه القطع؛ فبالمشاركة يمكن أن نحصل على الكثير، بانتظار العودة الكاملة.
مدني قصري: هل للسياسة تأثير في التراث الثقافي العالمي؟ وهل نجحت السياسة أحيانا في تشويه دلالات التراث، أم أن السياسة قادرة على كل شيء إلا على تغيير التراث؟
محمد وهيب: تؤكد الاستراتيجيات الوطنية في العالم على أهمية التراث الثقافي الحيوية في التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولتحقيق هذه الغايات، صادقت معظم دول العالم على اتفاقية التنوع الثقافي، والتي أسفرت عن تشكيل لجان للتراث الثقافي المادي وغير المادي. ويلاحَظ أن الخلافات السياسية بين الدول تنعكس أحيانا سلبا على التراث، وتظهر تلك المخاوف من إظهار معالم تراثية ثقافية لدولة غير صديقة، خشية استغلال ظهورها لأغراض سياسية لدى طرف ثالث، وبالتالي تنسحب على هذا التراث صراعات تاريخية لاسترجاع أرض الأجداد والأمجاد. ولا بد من تنفيذ مشاريع مشتركة بإشراف من اليونسكو، على سبيل المثال، حيث تكون مشروعات رئيسهً للتراث الثقافي. وللتوجيهات السياسيه دورها في حجب بعض المواقع عن العامة، وفرض حظر على دخول جنسيات ما على البلاد، لمخاوف وهواجس.
إضافة إلى أن بعض البلدان تقوم بتسييس التراث وتشويهه، من خلال ربطه بأجندات خاصة بها، دون غيرها، ما يثير حنق الآخرين، وينعكس ذلك سلبا على التراث ويشوهه؛ فالتراث الإنساني ليس لإنسان بل للإنسان، ولا بد من إبعاد إقحام التراث في السياسة والعكس، ففي ذلك مجازفة غير مأمونة الجوانب.
* نشر هذا الحوار في مجلة ذوات، العدد 27، 2016، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.