محمود محمّد طه و"الرسالة الثانية من الإسلام"
فئة : مقالات
إنّ أكثر ما يثير الحزن في نفس المفكّر أن يتمّ تشويه أفكاره عمداً، إذا لم تتماه تلك الأفكار مع مصالح الطبقات المسيطرة، بل وتهدّد بتقويض تلك السيطرة لحساب المعرفة الإنسانية. ولعل ما حدث مع الأستاذ محمود محمد طه الذي حلّتْ ذكرى وفاته في يناير (أعدم على يد نظام جعفر النميري في السودان في 18 يناير سنة 1985)، يُعتبر نموذجاً على ما يمكن أن يعانيه المفكر، عندما يهمّ بالخروج عن نمط التفكير السائد ومخالفة العقل الأوحد، إذ سيكون وقتها هدفاً لقوى الظلام التي ترى أنّ مصلحتها تقتضي تكريس الرجعية وتدعيم أسس الاستبداد التي تحفظ لها هيمنتها الثقافية والسياسية.
شكّل محمود محمد طه تحدّياً أخلاقياً في مواجهة وُعّاظ السلاطين وفقهاء السلطة، ومحترفي التجارة بآلام الشعوب وتطلّعاتها، ولم تكن حادثة إعدامه سوى شاهد حيّ على مأساة بشرية ستكلل بحبل المشنقة، وهنا لم نجد تقريظاً لحياة الرجل سوى أن نردّد معه "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء"، وهو الحديث النبوي الذي كان يردده طه، ويكثر من الاستدلال به دوماً، ويحفظه عن ظهر قلب عملاً وقولاً، ليدفع حياته في النهاية ثمناً لتلك الغربة القاسية.
الرسالة الثانية من الإسلام
جاء كتاب "الرسالة الثانية من الإسلام" بمثابة حجر الزاوية في أفكار طه الذي عكف على تطوير أفكاره طيلة ثلاثين عاماً[1]، لينتهي إلى تصوّر جديد يخالف الرؤية التقليدية التي سادت لدى علماء عصره، وأفضت في محصّلتها النهائية إلى أنّ الآيات التي نزلت في صدر الدعوة الإسلامية بمكّة تمثل أصل القرآن. ففي هذه الآيات يبدو الإسلام ديناً متسامحاً ينبذ الإكراه، وهي الآيات التي بدأ بها النبيّ دعوته في مكة، ومثالها "وَقُل الحَقّ مِنْ رَبِّكُم فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ"، "فَذَكِّرْ إنّمَا أنْتَ مُذَكّر لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِر"، ويرى الأستاذ طه أنّ المعنيّين بتلك الآيات كانوا أقل قامة من ذلك الخطاب المتسامح، فهم قد رفضوا الدعوة وناوؤوها بالحرب والعصيان، وضيقوا على الدعاة وعذّبوهم حتّى الموت، وتآمروا على حياة النبي نفسه بالقتل، حتى اضطرّوه إلى الهجرة، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى آيات الفروع، وهي آيات الجهاد التي منها: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله"، ثم كان الحديث النبوي "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله..."، ويستمر الأستاذ طه في تطوير أفكاره حتى يصل إلى أن نسخ أصول القرآن بفروعه في القرن السابع الميلادي لم يكن إلغاءً نهائياً لأحكامه[2]، وإنّما كان مجرّد إرجاء لتلك الأحكام لادخارها في المستقبل،والسبب الذي يراه في ذلك هو النزول على حاجة وطاقة ذلك المجتمع، مشيراً إلى أنّه لو كان النسخ نهائياً لأصبح أحسن ما في ديننا منسوخاً بما هو أقل منه؛ أي أنّ السماح وهو خير من الإكراه، يكون قد نُسخ إلى الأبد بحكم أقلّ منه، منبّهاً إلى نقطة مهمّة تفضي إلى أنّ الأحسن في الشرائع ليس أحسنَ في ذاته، وإنّما يُقاس بملاءمته لحاجة المجتمع وظرفه التاريخي، وهذا ما حدث بالنسبة لآيات الفروع التي نزلت في المدينة، ونسخت آيات الأصول التي نزلت في مكّة نسخاً مؤقتاً فرضه السياق التاريخي للقرن السابع الميلادي، بما لا يعني تعميمه إلى الأبد خارج ذاك السياق، ولذلك فإنّ زماننا بحسب الأستاذ طه هو زمان بعث آيات الأصول، حيث "لا إكراه في الدين".
نحو فهم جديد لآيات الأحكام
أطلق الأستاذ طه على هذا التصوّر المفضي إلى استعادة روح الآيات المكية بـ"الرسالة الثانية من الإسلام"، وهي عنده الرسالة الأصل، وقد تضمن مؤلفه بضعة عناوين من بينها "الجهاد ليس أصلاً في الإسلام"، "عدم المساواة بين الرجال والنساء ليست أصلاً في الإسلام"، "الحجاب ليس أصلاً في الإسلام"، "تعدّد الزوجات ليس أصلاً في الإسلام"، وبذلك ألقى الضوء على كثير من آيات الأحكام التي لم تعد مناسبة لمتطلّبات العصر الحديث وتطوّر قيمه الروحية والجمالية، قاصداً من ذلك أن ينوّه بالطاقة الكامنة في التشريع الإسلامي، والتي تستطيع أن تستوعب المتغيرات الجديدة، إذا تمّ بعث "الأصول" دون "الفروع" التي شكّلت شريعة القرن السابع الميلادي، وهي الدعوة التي قضى فيها الأستاذ طه عمره، ليثبت أنّ النصوص التي جرى تطبيقها في القرن السابع الميلادي ذات طبيعة مرحلية، ولذلك هي لا تصلح لمسلمي اليوم، ويرى أنّ المَخْرَج كامن في الانتقال من نصّ فرعي في القرآن خدم غرضه حتى استنفده، إلى نصّ أصلي ظلّ مُدّخراً حتى يحين تطبيقه، وها هو ذا قد حان وقته اليوم، بشرط أن نتحرّك من شريعة الفروع وفقهها الذي تبعها طيلة القرون التالية لفجر البعثة إلى إحكام آيات الأصول المنسوخة، بما أنها القادرة على استيعاب طاقات وحاجات الحياة المعاصرة، ويورد الأستاذ طه مثالاً الآية: "واستشهدوا شَهِيدين من رجالكُم فإن لم يكونا رُجلين فرجلٌ وامرأتان ممن ترضونَ من الشهداء أن تضِلَ إحداهما فتذكِّر إحداهما الأُخرى"، فيعلّق قائلاً "إنّ هذه الشريعة السلفية عادلة وحكيمة، إذا اعُتبِر حكم الوقت...ولكن يجب أن يكون واضحاً، فإنّها ليست الكلمة الأخيرة للدين، وإنما هي تنظيم للمرحلة، يتهيأ بها"[3]، هكذا كانت أفكار طه متناسقة "إنّ الخلل ليس في الدين، وإنما هو في العقول التي لا يحرّكها مثل هذا التناقض لتدرك أنّ في الأمر سرّاً، هذا السرّ هو ببساطة شديدة أنّ شريعتنا السلفية مرحلية، وأنها لا تستقيم مع قامة الحياة المعاصرة، وأنها حتى تستطيع استيعاب هذه الحياة وتوجيه طاقتها الكبيرة، لابدّ لها من أن تتفق وتتطوّر وترتفع من فروع القرآن إلى أصوله".[4]
ها نحن قد انتهينا من هذه الومضة السريعة عن واحد من الذين قدّموا حياتهم فداءً للكلمة، أملاً في أن يلتفت المثقّفون إلى أفكار طه، ليس فقط بإعادة إحيائها، وإنما أيضاً بوضعها على مِحكّ النقدوإعادة تقييمها، بعد أن عانى الرجل عقوداً من التجاهل حتى كادت تنزوي ذكراه، ولا يسعنا ونحن نختم كلمتنا عن الشهيد الأستاذ محمود محمد طه، إلاّ أن نستعير ما قالته الصحفيّة "جوديث ميلر"، المراسلة السابقة لصحيفة "نيويورك تايمز" في الشرق الأوسط، ضمن شهادتها التي ضمّها كتابها "لله تسعة وتسعون اسماً"، God Has Ninety Nine Namesعن واقعة إعدام طه، عندما كانت مُوفدة عن الصحيفة لتغطية الواقعة، حيث كتبت: "أحسست أنا أيضاً أنّ طه لم يُقتل بسبب يتعلق بنقص في قناعاته الدينية، وإنما بسبب من نقصهم هم".[5]
1ـ أسماء محمود محمد طه، مقدمة كتاب نحو مشروع مستقبلي للإسلام، ط رؤية/ مصر/ 2012
2ـ الرسالة الثانية للإسلام، ضمن المرجع السابق.
3ـ تطوير شريعة الأحوال الشخصية، ضمن المرجع السابق.
4ـ تطوير شريعة الأحوال الشخصية، ضمن المرجع السابق.
5ـ المرجع السابق، المقدمة.