مخاضات العقلانية
فئة : مقالات
ليس العقل مبادئ مطلقة ومحكمة عليا، وكياناً متعالياً يعمل بعيداً عن المجال الذي يتولد فيه ليبني الأسس، ويسنّ الطرق، ويُملي القواعد. إنه، على العكس من ذلك، محايث لذلك المجال، وهو لا ينمو إلا في أحضانه، ولا يتحدد إلا بشروطه.
يبني العقل ذاته ويحوّلها عندما يصنع الأدوات التقنية التي يعقل عن طريقها العالم الطبيعي، ويدبّر بواسطتها الشأن البشري؛ فهو تقنيات ذهنية تختصّ بها ميادين معينة للتجربة والمعرفة، وقدرة على القيام بعمليات تبعاً لقواعد. هذه القواعد والتقنيات تتحول بدلالة الموضوعات التي تنصب عليها، واللغة التي تستعملها، والمجال الذي تعمل فيه، وهي تتوقف على مستوى تطور التقنو-علم، وترتبط بالتاريخ الاجتماعي والسياسي.
لا ينمو العقل إذن، إلا في حضن أشكال المعقولية. ولا إمكان لعزل أشكال المعقولية هذه عن أدوات العقل وتقنياته. لكنها لا يمكن أن تُعزل كذلك عن الأخطاء التي يحاربها العقل، والعوائق التي يتجاوزها، والمقاومات التي يصارعها.
غير أن مجال المعقولية هذا، والعوائق التي يواجهها العقل لا تظل هي هي، فهي ما تفتأ تتجدد. فقد تجسدت في "الإبريس" الإغريقي، ثم حلت في "الشيطان الماكر"، لتسكن فيما بعد أوثان "الكهف" و"السوق" و"المسرح" و"الجنس"، كي تغدو في النهاية مؤسسات اجتماعية، و"أجهزة إيديولوجية للدولة".
وهكذا، فقد حملت عوائق العقلانية أسماء متنوعة حسب الحقب وحسب الفلاسفة وحسب المجالات، فاتخذت اسم الفكر الأسطوري تارة، واسم العوائق الإبستمولوجية تارة أخرى، كما ضُمّت تحت اسم الإيديولوجيا في أغلب الأحيان.
ما يهمّنا في الأمر هو أن العقلانية لا تنمو في هدنة، كما أنها لا تتحقق دفعة واحدة، فغزو العقل لللامعقول مخاض عسير، وعملية تاريخية، وصراع لا يكل.
ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أننا، عندما نتكلم عن تجدد أشكال اللامعقول، فلا يعني ذلك بالضرورة أن الأشكال التقليدية تمضي وتزول: فلا يعني ذلك أن الفكر الأسطوري لا يلبس أقنعة أخرى، كما لا يعني أن المعرفة العلمية ستتم في جوالمسالمة والهدنة، وهو لا يعني بالأوْلى موت الإيديولوجيا كما قيل؛ فكل هذه العوائق تظل حية فاعلة، إلا أنها لا تعمل إلا على تغيير حلتها. وتكفي الإشارة هنا، دليلاً على ذلك، إلى حديث الأنثربولوجيين عن أساطير العالم المعاصر، وعن "التوتمية اليوم".
لا شك أن هذا يصدق أكثر ما يصدق على العوائق الإيديولوجية التي يظهر أنها غدت تعمل في عالمنا على غير النحوالذي عملت به إلى حد الآن. عندما كانت الستينيات من القرن الماضي تقابل بين «العلم والإيديولوجيا»، أوبين «الحقيقة والإيديولوجيا»، كانت تعتبر أن الآلية الإيديولوجية تتمثل أساساً في كونها إعادة إنتاج لعلائق الإنتاج، وكونها أداة قلب وتشويه، وكونها تعمل جاهدة على نشر عقيدة بعينها، والوقوف ضد كل روح انتقادية.
ليس في إمكاننا اليوم،بطبيعة الحال، أن نقابل بين العقل والإيديولوجية إذا اقتصرنا على هاته المعاني عن الآلية الإيديولوجية. ذلك أن هاته الآلية لم تعد اليوم تتمثل في قلب الواقع ولا في تشويهه، ولربما ليس أساساً حتى في تغليف تناقضاته، وإنما أصبحت تتمثل في خلقه. لا نقول إنها تخلق الواقع، وإنما تخلق ما يعمل كواقع.
تتمثل الآلية الإيديولوجية اليوم في جعل الواقع مفعول ما يُصوّر به وما يقال عنه. المنطق المتحكم هنا منطق غريب يمزج بين الحلم والواقع، ويخلق الواقع الذي يتنبأ به فينبئ عنه. الإيديولوجية هي ما يجعل الأشياء حقيقة بمجرد التأكيد الدائم على أنها كذلك. إنها لبّ لاواقعية الواقع،لبّ «سريالية الواقع». هوإذاً واقع يفقد شيئاً من الواقعية، واقع يتلبس الوهم ويتحول إلى فرجة وسنيما.
نتبين، والحالة هذه، المشاق العسيرة التي يعانيها العقل اليوم، وهو يسعى لأن يسترجع، عن طريق نضال عسير، واقعية الواقع التي ما تنفك تنفلت من ذاتها ومن رقابة العقل وتنبهه.