مخلِّص الطّائفة ومخلِّصو الإنسانيّة
فئة : مقالات
إذا كان الصّراع يُنظر إليه - حينًا - على أنّه مؤشّرٌ على عمق الخلاف بين الأطراف المتصارعة، فإنّه - حينًا آخر - يكون تعبيرًا عن عمق الاتّفاق بين هذه الأطراف، وما شدّة الخلاف الظّاهر سوى محاولة لإخفاء حجم التّشابه في مستوى البنية الفكريّة العميقة، ومنهجيّة التّفكير، فعندما يتمسّك كلّ طرف بخيريّته المطلقة، وتملّكه للحقيقة المطلقة، واصطفائه وخلاصه الحَصْرِيَين، ويتوسّل بالعنف الرمزيّ والماديّ بوصفهما أداتَيْ فرض هذه الحقيقة، وبلوغ الخلاص، فهنا نكون بصدد تماثل جوهريّ، قد تنجح المظاهر والقشور في ستره عن السّواد الأعظم من النّاس، لكنّها تُسْفر عن طبيعتها للمتمعّنين من أولي الألباب.
نعلم أنّ تاريخ الأديان التوحيديّة الثلاثة، مليء بالصّراعات التي قامت بينها، أو بينها وبين غيرها ممّن يقعون خارج التّقليد الإبراهيميّ، ومن يهمّه تأكيد الفجوة يركّز على تباين المضامين والمحتويات، فيحكم باتّساع المسافة اللّاهوتية بين هذه الأديان، ومن يهمّه تجسير الهوّة يبحث داخل كلّ دين عمّا من شأنه أن يشكّل نقطة التقاء مع هذا الآخر القريب.
لا يهمّنا في هذه المقالة عن فكرة المخلّص أن نكون أنصارًا لدعاة التّقريب أو لدعاة الإبعاد على المستوى اللّاهوتي؛ بَل ينصرف همّنا إلى التّشابه في آليّة التّفكير بين كثير من المذاهب والفرق داخل أديان مختلفة، تعيش صراعًا على الإرث الإبراهيميّ؛ إذ تدّعي كلّ ديانة أنّها الأحقّ به من غيرها، لوفائها بمقتضيات هذا الاستحقاق.
أوّلًا: البنية العميقة لفكرة الخلاص في التّقليد الإبراهيميّ:
تتّفق الأديان التّوحيدية الثّلاثة على فكرة المخلّص الآتي في آخر الزّمان، ليملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلئت جورًا، ومع أنّهم يختلفون في اسمه وصفته (نبيّ، إمام من البيت النبويّ، ..إلخ)، إلاّ أنّهم يتّفقون في أنّه فردٌ ذكرٌ مشهود له بعلوّ منزلته الأخلاقيّة، وحتّى المعرفيّة، وكاريزميّته، وحنكته في تدبير معركة الحسم، وإدارة مرحلة ما بعد النّصر المؤيَّد غيبيًّا.
من يعطيه اسم المسيح (المسيا) يترقّبه مخلِّصًا للشّعب اليهوديّ المختار، ومحرّر أرضهم من دنس الأمميّين (المسلمين)، والفِرَق الضالّة المنشقّة عن اليهوديّة (المسيحيّة)، ومن ينتظر المسيح ابن الربّ يعدّه مخلّصًا لكلّ من آمن به، وتَعمّد باسمه، واعتقد في أنّه صُلِب في سبيل خلاصه، وأنّ نزوله في آخر الزّمان هدفه القضاء بالسّيف على مملكة المسيح الدجّال، وهم بالمناسبة غير المسيحيّين، باستثناء اليهود الذين سيخيّرون بين التّمسيح أو القتل، أمّا الباقي؛ فمصيرهم الفناء في معركة هرمجدون.
نقرأ في الرّسالة الثّانية إلى أهل تسالونيكي (1: 6- 10): "فمن العدل عند الله أن يجازي بالضّيقة أولئك الذين يضايقوكم، وأن يكافئكم، أنتم الذين تتضايقون، كما يكافئنا نحن بالرّاحة لدى ظهور الربّ يسوع علنًا من السّماء، ومعه ملائكة قدرته، وسط نار ملتهبة، منتقمًا إلى التّمام من غير العارفين لله، وغير المطيعين لإنجيل ربّنا يسوع، فهؤلاء سيكابدون عقاب الهلاك الأبديّ، بعيدًا من حضرة الربّ، ومن مجد قوّته".
قبل بداية الانقسامات العقديّة والمذهبيّة التي حلّت بالأديان الثّلاثة، كان أتباع كلّ دين، قبل ظهور الخلاف، يعتقدون أنّهم الفرقة الناجية التي سينضمّ إليها المخلّص في معركة الحسم ضدّ أتباع الدّيانات والنِّحَل الأخرى، خاصّة الكتابيّين منهم، فالمخلّص اليهوديّ سيرى في المسيحيّين والمسلمين المكوّن الأخطر في مملكة المسيح الدجّال، والمسيحيّون يُسقطون هذا الوصف بشكل يكاد يكون حصريًّا على المسلمين والهراطقة المنشقّين، فيما المخلّص الإسلاميّ يرى في اليهود الجنود الأقوى، والفرقة الأخطر ضمن جيش المسيح الدجّال.
بَيد أنّه بفعل الانقسامات المذهبيّة واللاهوتيّة التي بدأت مبكّرًا في الأديان الثلاثة، جرى التحكّم بالتأويل والوضع (الكذب المذهبي) في نصوص الملاحم والفتن وأشراط نهاية العالم، بما يتناسب والمستجدّات التي حدثت في التاريخ. فبعد أن كان التناقض الأساس لكل دين مع الدينين الآخرين في صورة تبخيس أخلاقي وحروب مقدّسة، تحوّلت هذه الآليّة الخارجية إلى أداة صالحة للتوظيف في الصراع على الدين الواحد في مواجهة أعدائه من الهراطقة والكفّار. أي أنّ القراءة المذهبية قلّصت من عدد الأنصار وأكثرت من الأعداء؛ بل وصار كلّ مذهب ينظر إلى أتباع المذهب الآخر ضمن الدّين الواحد، باعتبارهم الخصوم الأكثر سوءًا وضلالًا حتّى من أتباع الدّينيْن الآخرين، فالمخلّص - وفق القراءة البروتستانتيّة الكلاسيكيّة - ستكون مهمّته الأولى تطهير المسيحيّة من وثنيّة البابويّين (الكاثوليك)، والمخلّص الشيعيّ الاثنا عشريّ (محمّد بن الحسن العسكريّ) ستكون أحد مهامّه الانتقام من غاصبي حقّ آل البيت في الولاية العامّة، وكلّ مبرّر لهذا الغصب، والمخلّص السفيانيّ ستكون مهمّته حماية حقّ بني أُمية في وجه المتربّصين من داخل الدّين ومن خارجه، وهذا معناه أنّ مخلّص آل البيت الفاطمي سينزل عقابه بالنّواصب، ومهدي السنّة سيجعل من الرّوافض أحد أهدافه الحربيّة، ومع تزايد الفرق عمدت كلّ واحدة إلى صناعة المخلّص، وتمثّله وفق نزعتها المذهبيّة، فلا جرم أن كان ولا زال تاريخ الأديان الثّلاثة مسرحًا لظهور المئات - إن لم نقل الآلاف - من مدّعي المهدويّة والنبوّة الخلاصيّة، "ومع كلّ ظهور تظهر أحاديث جديدة تنطبق على هؤلاء الثّائرين"[1].
نلاحظ بعد الإجماع على فكرة المخلّص ومذهبيّته، إجماعًا ثالثًا على فرديّته؛ فكلّ الفرق والمذاهب داخل هذه الأديان تؤمن بأنّ الخلاص سيأتي على يد فرد ذكر واحد، سينجز ما عجزت عنه الجماعة النّاجية طوال تاريخها، وهي القناعة التي نرى فيها شخصنة لمبدأ التوحيد الغيبيّ في التّاريخ، فالمنقذ واحد بنفس القدر الذي جرى فيه تفريد وتذكير المجدّدين والمصلحين، فالغيب ينتظم وفق مبدأ الواحديّة، وعالم الشّهادة - أيضًا - يخضع للمنطق نفسه.
نلفي صورة البطل في التّاريخ، حاضرة في الدّين والسّياسة والفنّ بشكل أقوى، فالخلاص الدينيّ والوطنيّ غالبًا ما يجري تجسيده في صورة زعامة فرديّة (لنتذكّر مقولة بطل التّحرير، بطل الاستقلال، باني الدّولة الحديثة، رمز الأمّة، نِسْبة الدّول إلى الزّعماء، ...)، وفي عالم الفنّ السّابع نرى أنّ الأعمال التي تدور حول البطل المخلّص - سواء في الشّرق أو في الغرب - لا تعدّ ولا تحصى (مثال ذلك؛ سينما هوليود وبوليود)، وهو - في معظم الأحوال - يجمع بين خاصيَّتي الذّكورة والشّباب (القوّة العقليّة والبدنيّة).
المخلّص وعقيدة العنف:
أمّا الخاصيّة الرّابعة؛ فهي توسّله بالعنف في تحقيق الخلاص، وآية ذلك تصوير الرّؤيا القياميّة تصويرًا كارثيًّا من حيث غضب الطّبيعة، وانقسام الأرض إلى فسطاطين لا ثالث لهما، يمكن أن يدّعي الحياد وعدم الانحياز، فإمّا أن تكون مع المخلّص أو المسيح الدجال، وهذه الحرب السّاخنة التي نعرف وفق الرّؤيا الخلاصيّة نتيجتها مسبقًا، هي الفيصل.
نقرأ في إنجيل متّى النّبوءة الشّهيرة للمسيح: "ثم يأتي المنتهى فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان المقدس ليفهم القارئ، فحينئذ ليهرب الذين في اليهوديّة إلى الجبال، والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئًا، والذي في الحقل فلا يرجع إلى ورائه ليأخذ ثيابه، وويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيّام، وصلّوا لكي لا يكون هربكم في شتاء ولا في سبت، لأنّه يكون حينئذ ضيّق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن، ولن يكون، ولو لم تقصر تلك الأيام لم يخلص جسد، ولكن لأجل المختارين تقصر تلك الأيام... تلك الأيّام تظلم الشّمس والقمر لا يعطي ضوءه والنجوم تسقط من السّماء، وقوّات السّماوات تتزعزع، وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السّماء، وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض، ويبصرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السّماء بقوّة ومجد كثير، فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصّوت، فيجمعون مختاريه من الأربع الرّياح من إقصاء السّماوات إلى إقصائها، حينئذ يكون اثنان في الحقل يؤخذ الواحد ويترَك الآخر، اثنتان تطحنان على الرّحى، تؤخذ الواحدة وتترك"[2].
ولأنّ الأتباع الأوائل لهذه الدّيانات والمذاهب، كانوا يتصوّرون قيام السّاعة قريب؛ حيث يرون في كلّ حدث بشريّ أو طبيعيّ كبير علامة على النّهاية، فإنّهم جنحوا إلى تصوير المعارك في صورة حرب تقليديّة بين جيشين؛ كلّ واحد منهما له فرسان ومشاة، وأدواتهم السّيوف والرّماح والمجانيق، وإستراتيجيّتهم كرّ وفرّ، أمّا مكان المعركة فلا يخرج - غالبًا - على جغرافيّة سورية الكبرى، فالمعركة مقدّسة ولن تجري إلّا على أرض مقدّسة، حسب التّقسيم التوراتيّ للأرض كما ساد عند اليهود، وتسرّب إلى عمق المسيحيّة والإسلام[3].
المخلّص والتّراجع في التّاريخ:
أمّا الخاصيّة الخامسة؛ فتفيد بأنّ محور الخير - كما يجري تأويله مذهبيًّا بالطّبع - لن يكون علامة على بداية عالم دنيوي أفضل؛ بل هو مؤشّر يدوم لألف عام (حسب العقيدة الألفيّة) قبل أن يفنى العالم، ومن الواضح أنّ عشرة قرون إذا ما موضعناها في سياق التّاريخ البشريّ، لن تكون في الحقيقة سوى مشهد عابر؛ إذ سرعان ما تنتهي الجنّة الأرضيّة، ويعمّ الفساد، ولا تقوم السّاعة إلّا على شرار الخلق؛ فالإصلاح الدنيويّ الذي يُدَشّن مرحلة جديدة في مسار البشريّة لا مكان له في التّقليد الإبراهيميّ بنسخه الثلاث.
إنّ عالمًا أفضل بصورة دائمة، هو عالم أخرويّ، من نصيب الفرقة النّاجية، يقابله هلاك أبديّ لمئات الفرق غير النّاجية.
عند المقارنة بين هذه النّظرة إلى العالم ونظرة الإيديولوجيّات الوضعيّة وبعض الفلسفات الشرقيّة؛ نجد أنّ ما تؤخّره وتحصره الأديان الثّلاثة، تحاول الإيديولوجيّات السّالفة تعجيله وتعميمه دنيويًّا (الوضعيّة، الماركسيّة، البوذيّة،...إلخ)، ففي الماركسيّة؛ يبدأ الفردوس الأرضيّ مع نهاية الطّبقات، وفي الوضعيّة؛ يُتَوقّع مع سيادة العلم والأخوّة والغيريّة أن يبدأ التّاريخ الإنسانيّ للإنسان، وفي بعض الفلسفات الشرقيّة يملك الإنسان- دائمًا- فرصة للإصلاح والتّكفير عن خطاياه، بولادة جديدة تقوم على مبدأ تناسخ الأرواح، فالنّظرة إلى التّاريخ في التّقليد الإبراهيميّ- في عمومها- نظرة خطّية انحداريّة من الحسن إلى الأسوأ[4]، فخير الأجيال هو الجيل الأوّل، جيل التّأسيس، ثمّ يبدأ النّكوص، أمّا في الإيديولوجيّات والفلسفات السّابقة؛ فالمسار إمّا خطّي تقدّمي، أو دائريّ يعيد البدايات عبر أجيال وأفراد مختلفين.
المخلّص: مخدّر ودافع:
أمّا الخاصيّة السّادسة؛ فهي أنّ فكرة المخلّص تشكّل عزاءً للجماعة- خصوصًا- في لحظات الاضطهاد والجزر، فلا عجب أن تنتشر هذه العقيدة، وتستفحل في تناسب طرديّ مع تزايد المعاناة، فعلى قدر ما تكون البداية مُحْرقة، يعتقد الأتباع أنّ تلك علامة على خاتمة مشرقة، فما الاضطهاد سوى اختبار إيمانيّ للذّات، وإقامة للحجّة على أتباع الدجّال من الظّالمين والكفّار، والظّاهر من تجارب التّاريخ أنّ اشتداد المحنة يولّد نوعًا من الحاجة إلى الاعتقاد في فكرة المخلّص، وهي حاجة سيكولوجية نادرًا ما تقف الحجج العقلية والمعطيات التجريبيّة في وجهها، فحتّى لو حصل تنافر معرفيّ بين الاعتقاد والواقع، فإنّ القهر يفتح أمام الذّات منافذ تأويليّة تنقد المعتقد من مطرقة التحقّق التجريبيّ، أو التّماسك المنطقيّ[5] (لنتذكّر التخيّل الأسطوريّ لغيبة المهدي المنتظر، ومكان اختبائه، وظروف إقامته خارج قوانين الطّبيعة).
تجنح الجماعة الدّينية- أحيانًا- إلى تمثّل المخلّص المنتظر في صورة شريك سابق لها في المعاناة والألم، فاستحضاره هو من جنس ما تعيشه الفرقة، فالمسيح الذي تألّم، هو الذي سيخلّص المؤمنين به في آخر الزّمان من آلامهم، وهو الذي سيضمن لهم الخلاص الأبديّ في العالم الأخرويّ.
والمخلّص الشيعيّ الاثنا عشريّ هو من ذرّية الحسين- الشّهيد ابن الشهيد- الذي قُتل وبعض أهله وأصحابه على يد البغاة، وهذا الإمام المنحدر من الأصل الحسينيّ دخل في غيبة كبرى هروبًا من حكّام الجور، وخوفًا على نفسه من الهلاك؛ فهو شريك لهم في المعاناة، ومع أنّ ذرية الحسن خرج منها ثوّار، فقد استبعد التيّار الشيعيّ السّائد أن يكون المهدي من هذه الذريّة، فصورة الحسن ارتبطت بالتّنازل عن السّلطة والعيش في رغد عطايا معاوية، وعلى ما يبدو فإنّ هذا هو ما أسّس لفكرة الوراثة العموديّة للإمامة.
غير أنّه من الصّحيح أيضًا، القول: إنّ الإيمان بالمخلّص وقرب ظهوره قد يكون محايثًا لمرحلة القوّة والتّمكين، وهي المرحلة التي يجري النّظر إليها بوصفها وضعًا ضروريًّا يهيّئ شرط العودة لهذا المخلّص، على نحو ما نجده لدى بعض الفرق الإنجيليّة المتصهينة داخل البروتستانتية الأمريكيّة، ذلك أنّ اعترافهم بدولة إسرائيل، وتأييد سلطتها على مملكة داوود- كما وردت في الكتاب المقدّس[6]- هي مقدّمة ضرورية لرؤيا آخر الزّمان، وعودة المسيح الذي سيؤسّس مملكة تدوم لألف عام، يحكم فيها المسيح الأمم كلّها بعصا من حديد[7]، ثمّ تبدأ الأهوال بعودة الشّيطان إلى ساحة الفعل[8].
فلا جرم أن ينظر هؤلاء المسيحيّون المتصهينون إلى كلّ انتصار إسرائيليّ على العرب، كمرحلة متقدّمة في السّيناريو الذي يفضي إلى نهاية الزّمان، وفي المقابل؛ يوضّح لنا سرّ رفضهم المطلق لقيام دولة فلسطينيّة، ودعوتهم المستمرّة إلى تهجير فلسطينييّ الأراضي المحتلّة والضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وتوزيعهم في أنحاء العالم العربيّ[9].
ومن الضّروري أن ننتبه إلى أنّ موقفهم هذا لا تمليه- بالضّرورة- دوافع المحبّة لليهود، ولا دوافع الكراهيّة للعرب؛ بل منطلقها رؤية لاهوتيّة غايتها خلاص المسيحيّين فقط، ومن مقدّمات ووسائل هذا الخلاص عودة اليهود إلى الأرض الموعودة، لكنّ بقاءهم فيها وسلطتهم عليها مؤقّتة تنتهي بنزول المسيح، وآنئذ؛ لهم خياران: إمّا الإيمان بالمسيح والالتحاق بمملكة الله، أو البقاء على الموقف التقليديّ الرّافض لكون المسيح هو المسيا الذي وعد به العهد القديم بني إسرائيل، وبهذا الرّفض سيضعون أنفسهم موضوعيًّا في جيش المسيح الدّجّال قائد مملكة الشّيطان، ولا وجود لطريق ثالث: فإمّا معنا أو ضدّنا، فليس غريبًا، إذن، أن تُتّهم الأصوليّة الإنجيليّة بمعاداة السّامية؛ لأنّها لا ترى في اليهود سوى وسيلة لتحقيق غاية مسيحيّة، فقيمتهم هي قيمة الوسائل، لا قيمة الغايات المطلقة.
يفضي الإيمان بالمخلّص - في التّاريخ- إلى مسارين متناقضين؛ مسار سلبيّ مغرِق في العجز والاتكاليّة واليأس من قدرة الجماعة على الخلاص بوسائلها الذّاتية، دون حاجة إلى معجزة خارقة، فيكون سلوكها السياسيّ هو سلوك المهادنة ورفض الخروج؛ بل ولعن كلّ خارج في غيبة المخلّص وتكفيره، وخير من يمثّل هذا النّموذج في تاريخنا الإسلاميّ؛ الفقه السياسيّ الشيعيّ التقليديّ الذي أهمل قضايا الولاية العامّة المطلقة، وتعايش- بل وقبل أحيانًا- بحكم الجور والغصب، بذريعة أنّ الولاية المطلقة هي اختصاص حصريّ للإمام الغائب ولا تقبل الإنابة، وربّما يكون لتجربتهم المؤلمة تحت سلطة الأمويّين والعباسييّن على وجه التّخصيص، وفشل معظم حالات الخروج التي قام بها رؤوس الشّيعة، أو قامت باسمهم، وما ترتّب عن ذلك من مآسي.
من الوارد أن تكون هذه الذّاكرة الحزينة قد رسّخت نوعًا من الإحساس بالعجز الذّاتي عن التغيير، وأنّ إنقاذ الجماعة وإعادة الحقّ إلى أصحابه يتوقّف على المعجزة الإلهيّة، بعد أن فشلت كلّ المحاولات البشريّة.
أمّا المسار الثّاني؛ فهو يكرّس الفاعليّة والاجتهاد، ذلك أنّ هذه العودة للمخلّص تشترط ظروفًا خاصّة هي من صميم مهام الجماعة المؤمنة، وهو ما رأينا مثالًا له في حالة الأصوليّة البروتستانتيّة، ونضيف إليها الأصوليّة اليهوديّة؛ فنزول مخلّصيهما (المسيح والمسيا) سيتحقّق وهما في حالة استقواء، لا في حالة استضعاف، ودورهما هو قيادة المعركة النهائيّة، ومن الواضح أنّ جعل إشراطات الظّهور عمل من صنع الجماعة المؤمنة، يلقي عليها عبء الانخراط الحماسيّ في الإنجاز عوض الانتظار.
فهناك- إذن- فرق شاسع بين المخلّص الذي سيقوم بكلّ شيء (حالة الجماعة الاتّكالية)، والمخلّص الذي سينهي ما بدأته الجماعة المؤمنة الفاعلة، لكنّ كلا المسارين يُجمعا على أنّ عودة المخلّص هي من أجلهم على وجه الحصر، بوصفهم ممثّلين للدّين والمذهب الحقّ، وأنّ النّصر لن يحالفهم إلّا بإراقة الدّماء بصورة غير مسبوقة، كيف لا وهي معركة الحسم بين جيش الله وجيش الشّيطان؟
لم تكن فكرة الإنجاز من أجل عودة المخلّص حاضرة، في حالة التّجربة الإسلاميّة، إنّما العزلة والتقيّة والمسالمة هي الثقافة المهيمنة على الفقه السياسيّ المستضعف؛ لذلك وجدنا أنّ الجماعة لا تخرج عادة إلى دائرة الفعل إلّا مع بروز مُدّعٍ للمهدويّة؛ فهي تنجز في حضوره لا في غيابه، وكان الارتباط شديد الوضوح بين كثرة حالات الخروج وكثرة الدّعوات المهدويّة، وما إن يخفق هذا المهدي حتّى يؤمنوا بغيبته، أو يبحثوا عن مهدي جديد، فلا يُتصوّر خلاص جماعي ناجح في غيبته، وإن حدث إخفاق في حضوره دخلت الميثولوجيا على الخطّ، فمقتله أو وفاته لا يعنيان سوى الغياب في سرداب أو جبل، وخسارة معركة تحت إمرته لا تعني خسارة الحرب ضد الشرّ والجور؛ بل هو ابتلاء وامتحان للفصل بين الثّابتين على الحقّ والمبدّلين.
نقرأ عن الكيسانية قولها: "إنّ محمد بن الحنفية لم يمت، وهو في جبل رضوى بين أسد ونمر يحفظانه، وعنده عينان نضّاحتان تجريان بماء وعسل، ويعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا"[10].
وفي حالة الاثني عشريّة؛ فإنّ محمّد بن الحسن العسكري اختفى وهو ابن الخامسة (في أشهر الأقوال)، ولا زال حيًّا منذ غيبته الكبرى في 329 هجريّة إلى يوم النّاس هذا، وبغيبته غاب الفعل، أو أصبح غير شرعيّ إن حدث، ومن هنا ذلك القول الشيعي الشهير: "كلّ راية قبل ظهور المهدي، فهي راية ضلالة وصاحبها طاغوت"[11].
والغريب أنّ هذه الميثولوجيا تُطْبق حتّى على أكثرهم عقلانيّة وانفتاحًا على الفلسفة والمنطق والفكر المعاصر عمومًا؛ فهذا المرحوم محمد باقر الصّدر يعيد في كتابه "بحث حول المهدي" نفس الأطروحات التقليديّة للاعتقاد الشيعيّ الاثني عشري، مدّعيًا محاولة إثبات ذلك بالعقل المنطقيّ التجريديّ، والحال أنّ عمود كتابه هو الرّواية والمعجزة، التي تخاطب العقل الإيمانيّ المؤمن سلفًا، فهي محاولة تسعى إلى أن تثبت شيئًا بشيء هو بدوره في حاجة إلى إثبات، فنقع في الدّور[12].
عندما كان الأمر يتعلّق بالفكر الغربي كان المرحوم يحرّك كلّ قواه النقديّة، فإذا عاد إلى الذّات التراثيّة انطفأت جذوة هذا النّقد، وحلّ محلّها الإيمان والتّسليم، وكأنّ النقد لا يكون فضيلة وواجبًا إلّا في حقّ الأفكار والمذاهب التي أبدعها الغرب.
ومقابل هذه الثّقافة الانتظاريّة؛ نرى الفقه السياسيّ السُنّي في عصور تمكينه السياسيّ، أو على الأصحّ، في العصور التي جرى فيها الاستيلاء على السّلطة وممارستها باسمه، كان يعيش عمليًّا في غياب سطوة عقيدة المهدي المنتظر، مع العلم أنّ المهدويّة حاضرة في التّراث السنيّ فقهًا وحديثًا وكلامًا[13]، وليست بدعًا من صنع التراث الشيعيّ حصرًا. وإن كان هناك تضخّم في حضورها وأسطوريّتها[14]، وقداستها، وكثرة التّأليف فيها عند هؤلاء مقارنة بالسنّة، فإنما مردّ ذلك إلى تناسبها العكسيّ مع غياب التّمكين، وتناسبها الطرديّ مع زيادة حجم الاضطهاد، وهذا لا ينفي حضور عوامل أخرى من قبيل النزعات الإشراقيّة والغنوصيّة، لكنّ تأثير هذه النّزعة يظلّ نخبويًّا في غياب شروط موضوعيّة، تنقلها من حيّز النّظر الضيّق إلى رحاب الاعتناق الجماهيريّ.
لكن، في الفترات التي عاشت فيها الأسر الحاكمة باسم عقيدة السنّة والجماعة، مراحل انحطاطها وتفسّخها وهزيمتها أمام الجيوش غير المسلمة، كان المجتمع يدخل في حالة هزيمة عقليّة مجسّدة في صورة تضخّم للخرافيّ والأسطوريّ، تعبيرًا عن اليأس من رفع البلاء دون معجزة إلهيّة خارقة لقوانين الطّبيعة، وسنن الاجتماع البشريّ، فيزداد الطلب على نصوص البطل المخلّص، ويكثر تداولها وإذاعتها على لسان القاصّين والواعظين والمتصوّفة، فتصبح الهزيمة هنا شرطًا لعودة المخلّص، في الوقت الذي يكون فيه النّصر هو ذلك الشرط الممهّد للعودة في حالة بعض الفرق الأصوليّة- المسيحيّة واليهوديّة- كما أسلفنا.
يقلّ الطّلب عمومًا- في تجربتنا التّاريخية الإسلاميّة- على المخلّص في أزمنة القوّة والرّخاء، ويزداد الإقبال عليه في لحظات البلاء والوباء.
ثانيًا: نحو أنسنة الخلاص:
من المهامّ التي ينبغي أن ينصبّ عليها مجهود الإصلاح الدينيّ؛ إنجاز قراءة تأويليّة، تخلّص المخلّص من طائفيّته وفرديّته وعنفه، وحضوره المتزامن مع قرب نهاية العالم أو نهايته، وكأنّه بطل سينمائيّ لا يظهر إلّا في آخر مشهد من الفيلم، فمهمّة أنسنة هذا المفهوم تفترض الانتقال:
- من فكرة المخلّص الفرد المُذَكّر إلى فعل الخلاص الجماعيّ، الذي تنخرط فيه كلّ الإرادات الطيّبة من مختلف الملل والنّحل والإيديولوجيات، وانطلاقًا من مقاربات مختلفة وخبرات متباينة، تصبّ في غاية واحدة؛ هي سعادة الإنسانيّة على هذه الأرض. إنّ المساهمة في سبيل عالم أفضل هي مهمّتنا نحن في الحاضر، لا مهمّة شخصيّة استثنائيّة قد تأتي في المستقبل.
- كما يقتضي هذا التّأويل الإنسانيّ الانتقال من عقيدة العنف- بوصفه الأداة المقدّسة في عملية الإنقاذ- إلى عقيدة السّلم التي تبحث عن المشترك الإنسانيّ وتعزّزه، بدل إحياء ما يذكّي الاختلاف والانتفاش بتميّز أنانيّ واستعلاء كاذب.
- كما يقتضي الانتقال من عقيدة تخليص فرقة ناجية وإهلاك باقي الفرق إلى عقيدة خلاص الإنسان، من حيث هو إنسان له كرامة لا تتأثّر بميماته الثقافيّة؛ فسفينة العصر عليها أن تتخلّص من اصطفائيّتها وانتقائيّتها، فالأرض تجري في هذا الكون وعلى متنها الجميع، ومهمّة الحفاظ عليها من كلّ خرق هي مهمّة الإنسانيّة جمعاء، خصوصًا، في مواجهة من يستعجل لها الغرق والدّمار في سبيل نجاته وخلاصه الفرديّ في عالم آخر، مِثله مِثل من يفكّر في تفجير طائرة عوض التّفكير في صنعها[15].
إنّ الفكر الدينيّ في حاجة إلى تمثّل الخلاص في صورة جماعيّة بنّاءة، يقودها أشخاص مثل؛ غاندي، وأبراهام لينكول، ومارتن لوثر كينغ، وبيتر شارب، وريشارد داوكينز، وإسبينوزا، وجون لوك، وسباستيان كاستييلو، وحنّا أرندت، وجون بول سارتر، والأُم تيريزا، وشيرين عبادي، ونوال السّعداوي، وخالص جلبي، وجودت السعيد، ومحمد يونس، وتقودها مؤسّسات مثل؛ أطباء بلا حدود، الصّليب الأحمر الدولي، والهلال الأحمر الدوليّ، ومنظّمات حماية البيئة، ...إلخ.
- وهذا يفرض على الفكر الدينيّ- خاصّة الفكر الإسلاميّ التقليديّ المهيمن في مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة- ضرورة الانتقال من الرّؤية الكارثيّة الوشيكة لنهاية العالم؛ فالأبحاث الفلكيّة تظهِر أنّ هذا الكوكب لا زال أمامه مليارات السّنين، اللّهم إلّا إذا كان للقرار البشريّ أمر آخر يقضي بتقريب المدّة بأفعال هوجاء.
ومما يزيد من جرعة الأمل؛ أنّ هناك احتمالًا قويًّا لوجود أماكن أخرى في الكون تتوفّر فيها ظروف الحياة، فالواجب نحو الإنسانيّة يفرض - اليوم - تغيير هذه الرّؤية (أبوكاليبس) السوداويّة لمآل العالم، بطوبا إنسانيّة في وسائلها وغاياتها، تقوم على تعاقد جديد فيما بين بني البشر، وبينهم والطّبيعة.
فالسياسيّ والاقتصاديّ، والخبير البيئيّ، والطّبيب، والمدرّس، والفاعل المدنيّ، والصحفيّ، والحركات الاجتماعيّة والحقوقيّة، مِمّن يلقون على عاتقهم المساهمة في حماية كوكبنا الأزرق من التلوّث، والاحتباس الحراريّ، والفقر، والعنف، والجهل، والمرض، يساهمون بعمق في خلاص الإنسانيّة.
- في حالتنا العربيّة الإسلاميّة؛ سيُمَكّن الانتقال من الاستبداد إلى الدّيمقراطية، ومن الظّلم الاجتماعيّ المُجسّد في الفوارق الطبقيّة الهائلة إلى عدالة اجتماعيّة، ومن الفكر التقليديّ إلى الحداثة الفكريّة والعلميّة، من إضعاف الطّلب على المخلّص في صورته التقليديّة، وأقصى ما يمكن تصوّره؛ هو بقاء هذه الصّورة على هامش مجتمع عصريّ، في الوقت الذي سنؤسّس فيه لصورة بديلة في التّغيير، قوامها الإيمان بأنّ "البطل التاريخيّ الوحيد الموجود هو الشّعب، لكنّ هذا البطل لا يقوم بدوره التاريخيّ إلّا إذا تمّ تحريكه من خلال تنظيمات شعبيّة، ومن خلال نضالات متواصلة متنامية يحرّكها، ويوجّهها، ويقودها المثقّفون وكلّ أفراد النخبة الوطنيّة التي تحمل مشروع المستقبل وتبشّر به"[16].
[1] أحمد أمين، المهدي والمهدوية، مؤسّسة هنداوي للتعليم والثقافة، ط 1 (خاصّة بهذه المؤسّسة)، 2012م، ص ص 27- 28
[2] إنجيل متى: 24. التّشديد من عندي.
[3] كان يوحنا البطمسي (صاحب الرؤيا) يصوّر المسيح على أنّه محارب شرس سيهزم روما ويقتل عددًا هائلًا من الرّومان. انظر في هذا: كارين أرمسترونغ، حقول الدّم، ترجمة: أسامة غاوجي، الشّبكة العربيّة للأبحاث والنّشر، بيروت، ط1، 2016م، ص 224. وفي الحالة الإسلاميّة نرى أحاديث الفتن في صحيح مسلم تتكلّم عن نبوءات تقع في آخر الزّمن بلغة تنتمي إلى مفردات القرن الهجريّ الأوّل، فالحروب سوف تقع مع الرّوم والجيش ينزل من قبل المدينة، أمّا أدوات القتال؛ فهي الخيول والسّيوف والرّماح، وأمّا غنائم الحرب؛ فسوف يتمّ اقتسامها في الميدان. انظر في هذا: عبد الجواد ياسين، السّلطة في الإسلام، العقل الفقهيّ السلفيّ بين النصّ والتّاريخ، دار التنوير، الطّبعة 4، 2012م، ص 309
[4] يعجّ الموروث الإسلاميّ براويات وأحاديث مفرطة في التّشاؤم والسّوداويّة عن أحوال مجتمع آخر الزّمان، نذكر منها:
"يَكُونُ فِي آخِرِ هَذِهِ الاُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أنهلَكُ وَفِينَا الصّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا ظَهَرَ الْخبثُ"، أخرجه التّرمذي. "يَكُونُ فِي أُمَّتِي خَسْف، وَمَسْخٌ، وَقَذْفٌ"، أخرجه أحمد وابن ماجه. "فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ: إِذَا ظَهَرَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ" أخرجه التِّرْمِذِي.
"لا تقوم السّاعة حتّى يكون في أمّتي خسف ومسخٌ وقذفٌ" أخرجه ابن حبّان،
"يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ فِي أُمَّتِي الشَّكُّ مِنْهُ خَسْفٌ أَوْ مَسْخٌ أَوْ قَذْفٌ فِي أَهْلِ الْقَدَرِ" أخرجه التّرمذي.
وفي حديث حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ: "اطَّلَعَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: مَا تَذَاكَرُونَ؟ قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ، قَالَ: إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ، فَذَكَرَ الدُّخَانَ وَالدَّجَّالَ، وَالدَّابَّةَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ- عليه السّلام- وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ؛ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ". أخرجه مسلم والتّرمذي.
[5] من الطّرائف في باب الحيل المنقذة للنّفس من التنافر المعرفيّ؛ ما يذكره ابن خلدون عن ابن عربي حول المهدي المنتظر: "إنّه من أهل البيت من ولد فاطمة، وظهوره بعد مضي (خ ف ج) من الهجرة، ورسم حروفًا ثلاثة يريد عددها بحسب الجمل، وهو الخاء المعجمة بواحدة من فوق ستمائة، والفاء أخت القاف بثمانين، والجيم المعجمة بواحدة من أسفل ثلاثة، وذلك ستمائة وثلاث وثمانون سنة، وهي في آخر القرن السابع، ولمّا انصرم هذا العصر ولم يظهر؛ حَمَل ذلك بعض المقلّدين لهم على أنّ المراد بتلك المدّة مولده، وعبّر بظهوره عن مولده، وأنّ خروجه يكون عند العشر والسّبعمائة، وأنه الإمام النّاجم من ناحية المغرب. مقدّمة ابن خلدون، تحقيق: حامد أحمد الطاهر، دار الفجر للتّراث، ط 2، 2013م، ص 396
[6] "سأعطي نسلك هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات". سفر التّكوين [15: 18]، والكلام موجّه لإبراهيم، كما جاء في نفس السّفر قول الله لإبراهيم: "ارفع عينيك وتلفّت حولك من الموضع الذي أنت فيه شمالًا وجنوبًا، وشرقًا وغربًا، فإنّ هذه الأرض التي تراها سأعطيها لَك ولذريّتك إلى الأبد، وسأجعل نسلك كتراب الأرض، فإن استطاع أحد أن يحصي تراب الأرض، يقدر آنئذ أن يحصي نسلك، قم وامش في طول الأرض وعرضها لأنّي لَك أعطيها" [13: 14-17].
[7] رؤيا يوحنا [12: 5].
[8] "ومتى تمّت الألف سنة. يُطلق الشّيطان من سجنه. فيخرج ليضلّل الأمم التي في زوايا الأرض الأربع، أي يأجوج ومأجوج، فيجمعهم للقتال وعددهم عدد رمل البحر، فصعدوا على وجه الأرض وأحاطوا بمعسكر القدّيسين، وبالمدينة المحبوبة، فنزلت نار من السّماء فأكلتهم" رؤيا يوحنا، [20: 7- 9].
[9] هناك ملخّص جيد لأفكار الأصولية الإنجيليّة في الموضوع في كتاب المختار بن بركة.
La droite chrétienne américaine , les évangéliques à la Maison-Blanche ? Privat, premier édition ,2006.
[10] عبد الجواد ياسين، السّلطة في الإسلام، العقل الفقهيّ السلفيّ بين النصّ والتّاريخ، دار التنوير، الطّبعة 4، 2012م، ص ص 92- 93. وأحمد أمين، المهدي والمهدوية، ص 10
[11] انظر حول هذا المبدأ وتداعياته، كتابين مهمّين: تطوّر الفكر السياسيّ الشيعيّ، أحمد الكاتب، الدار العربية للعلوم، ط 3، 2005م. ونظريّة السّلطة في الفقه الشيعيّ لتوفيق السّيف، ط 2، 2014م.
[12] محمد باقر الصّدر، البحث حول المهدي، تحقيق: عبد الجبّار شرارة، مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة، 1996م. وممّا يحسب للمرحوم محمد باقر الصّدر؛ التزامه بآداب الحوار مع مخالفيه في هذه العقيدة، فلا ينزع إلى التّكفير والتّبديع والتّعريض بالذّمم، كما يفعل كثر من السنّة والشّيعة على حدّ سواء، ولعلّ مقدّمة المحقّق نموذج دالّ في هذا الباب.
[13] أشهرها حديث: "لو لم يبق إلّا يوم، لطول الله ذلك اليوم حتّى يبعث الله فيه رجلًا من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي" رواه التّرمذي وأبو داود والحاكم. وحديث: "لو لم يبق من الدّهر إلّا يوم لبعث الله رجلًا من أهل بيتي يملؤها عدلًا كما ملئت جورًا" رواه أو داود. وقد خصّص ابن خلدون في مقدّمته فصلًا "في أمر الفاطميّ وما يذهب إليه الناس في شأنه، وكشف الغطاء عن ذلك" عرض فيه لأحاديث أخرى، ناقدًا إيّاها من زاوية السّند، لكنّ الأهمّ هو نقده لها من زاوية المتن، على ضوء قوانين الاجتماع البشريّ، وهي مقاربة غير مسبوقة، تفرّد وتميّز بها عن المحَدّثين الغافلين عن سنن الواقع والكون، وكمثال لهذه الغفلة العقليّة المفرطة في الرّواية بلا دراية، في صفوف "المعاصرين" من أهل السنّة، يمكن العودة- مثلًا- إلى دراسة بعنوان "عقيدة أهل السنّة والأثر في المهدي المنتظر"، عبد المحسن العباد، مجلّة الجامعة الإسلاميّة، المدينة المنوّرة، العدد الثّالث، 1969م.
[14] عند أهل السنّة، لا وجود لفكرة غيبة المهدي وبقائه على قيد الحياة لأكثر من عشرة قرون؛ بل سيولد مع فجر اليوم الموعود. انظر محمد باقر الصّدر، بحث حول المهدي، ص 58
[15] من المشاهد الدّالة في هذا المضمار؛ توسّل أصحاب النّظرة الدينيّة الكارثيّة للعالم، بأدوات الإعلام المرئيّ، الذي هو جزء من إبداع الحداثة العلميّة والتقنيّة، في تصوير انهيار العمران، وكأنّ في ذلك تعبيرًا عن نزعة ساديّة تتلذّذ بمشاهد سقوط ناطحات السّحاب، وغرق المدن، وهجوم الوحش وأتباعه من الكائنات المسيخة، واندلاع حروب نوويّة، ...إلخ.
[16] محمد عابد الجابري، إشكاليّات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2، 1990م، ص 165