مركزية مفهوم الاعتراف في تشكل الهوية الذاتية عند أكسل هونيث
فئة : مقالات
تقديــــــــم:
في ظل تزايد ما أصبحت تعيشه المجتمعات الإنسانية من أمراض وأزمات اجتماعية، اكتسب مفهوم الاعتراف أهمية قصوى من بين جُملة من المفاهيم الفلسفية التي تهتم بالنظر في المجتمعات البشرية، وما يطرأ عليها من تحولات، وفيما يصيبها من أزمات اجتماعية، حيث أضحى براديغم الاعتراف اليوم يحتلّ منزلة عالية في الفكر الإنساني، وصار لا ينظر إليه كمسألة شكلية لا دور لها، بل باعتباره حاجة حيوية لا يمكن الاستغناء عنها داخل مسار تطور الإنسانية؛ وذلك لما يتميز به من بعد عملي بَعدي. فالاعتراف يأتي كمرحلة لاحقة لوقوع شرّ ما، مُحاولاً البحث عن كيفية تُمكِّنُهُ من الدفع بهذه الشرور والمظالم، وتحقيق نوع من التعايش المشترك، وليس التنظير فقط. ومن بين المواضيع التي اقترن النظر فيها بمفهوم الاعتراف، نجد مسألة تشكّل الهوية الذاتية. ففي ظل التعددية الثقافية التي صارت تشهدها مُجمل المجتمعات الإنسانية، أصبح كلّ فرد يتطلع إلى الاعتراف بهويته الفردية، باعتباره كيانًا إنسانيًا له مقوماته الخاصة تميزه عن الآخرين، وهكذا أصبحت مسألة تشكل الهوية الذاتية تتعلق تَعلُّقًا جوهريًا ببراديغم الاعتراف، وتشكّل محورًا من محاور اهتمامه. وفي هذا الصدد، سنحاول معالجة مفهوم الاعتراف كمرتكز من مرتكزات الفكر الفلسفي المعاصر في علاقته بتعيين الهوية الذاتية، بالاعتماد على أكسل هونيث واضع الأسس الأولى لنظرية الاعتراف في شكلها الحالي. ويشكـل السؤال التالي: كيف يمكن لمفهوم الاعتراف أن يسهم في تشكّل الهوية الذاتية؟ محور هذا العمل. ولتيسير معالجة هذا التساؤل المركزي، ارتأينا توزيعه إلى الأسئلة التالية:
- ما هي الأسس والمنطلقات التي انطلق منها هونيث في بناء نظريته في الاعتراف؟ ما المنظور الهونيثي لعلاقة الاعتراف بالهوية الذاتية؟ وكيف يمكن لإقرار مسألة الاعتراف أن تسهم في تشكّل الهوية الذاتية؟
اكتسب مفهوم الاعتراف أهمية قصوى من بين جُملة من المفاهيم الفلسفية التي تهتم بالنظر في المجتمعات البشرية، وما يطرأ عليها من تحولات
أولا: أسس ومنطلقات نظرية الاعتراف الهونيثية
أحدث هونيث منعطفاً جديداً وجذرياً في مسار نظرية الاعتراف من خلال كتابه العمدة الصراع من أجل الاعتراف، إذ عمل فيه على إحياء النموذج الهيغلي للاعتراف، من خلال سبره للأسس والمبادئ الأولية التي أقيم عليها هذا النموذج، ثم أعاد بلورتها وفق معطيات حديثة، الأمر الذي مكّنه من بناء نظرية جديدة تتماشى ومقتضيات الراهن.
انطلق هونيث في التأسيس لنظريته في الاعتراف من الفكرة الأولى التي وضعها هيغل حول الصراع من أجل الاعتراف، عبر استحضار تاريخي، بدأه من المنطلقات الأولى[1] التي استند إليها هيغل، منتهيا بما بلغه نموذج الصراع هذا من تأسيس فلسفي نسقي ورصين، من خلال ارتباطه بمفهوم الوعي في كتاب فنومينولوجيا الروح، وتحديدًا العلاقة الجدلية بين السيد والعبد. "هذه العودة بالذات إلى هيغل حسب هونيث، ترجع بالأساس إلى كونه أول فيلسوف قام بدراسة العلاقات الاجتماعية بوصفها علاقات بين الذوات تسعى لتحقيق الاعتراف"[2].
أصبح كلّ فرد يتطلع إلى الاعتراف بهويته الفردية، باعتباره كيانًا إنسانيًا له مقوماته الخاصة تميزه عن الآخرين
عبر هذه العودة التاريخية المرفقة بالتحليل العميق للنموذج الهيغلي، عمل هونيث أثناء بنائه لنظريته في الاعتراف على الابتعاد عن الطابع الصوري للنموذج السابق الذكر، وكذا عن مقولاته الميتافيزيقية، باعتبار أن هذه الأخيرة كانت تشكِّل عائقًا أمام التحقق الإمبريقي لنظرية الاعتراف، حيث يرى في هذا الصدد أن الأطروحة الهيغيلية ظلت أسيرة الفرضيات المسبقة للتقليد الميتافيزيقي، "حيث إنها لا تنظر إلى العلاقة البيذاتية بوصفها حدثاً أمبريقياً نابعاً من العالم الاجتماعي، بل هي تختصره بشكل آلية تشكُّل تجري بين عقول مفردة"[3]. فمن خلال هذا التصور الضيق ذي الأساس التأملي، وما يفتقر إليه من حدث تجريبي، ستتشكل لدى هونيث القناعة بضرورة تجاوز هذا التصور، وما يستند إليه من مقولات ميتافزيقية عبر الاستناد إلى العلوم التجريبية، وتحديدًا علم النفس الاجتماعي ذي السمة التجريبية، يقول هونيث: "لم يعد بالإمكان بعد الآن بذل جهد لإحياء نظريته الفلسفية (أي النظرية الهيغلية) دون أخذ العلوم التجريبية بالاعتبار، الأمر الذي يسهم ومنذ البداية بتفادي خطر الوقوع مجددا في الميتافيزيقا"[4]. هذا التّحيين وإعادة البناء لنموذج هيغل، الذي يصبو هونيث إلى القيام به عبر اللجوء للعلوم التجريبية، سيتحقق له في كتابات جورج هربرت ميد[5]؛ وذلك لما تتميز به من أعمال تجريبية وميدانية قادرة على منح نظريته تلك السمة الإمبريقية التي يسعى إليها، إذ يرى فيها هونيث "أجدر وسيلة لفهم الآليات الاجتماعية والبنيوية لعملية الاعتراف، وأنسب أداة لإعادة بناء حدوس هيغل الشاب حول دور البيذاتية في إطار نظري ما بعد ميتافزيقي، وهذا ما سيسمح بتهيئة أرضية نظرية للاعتراف الجديدة"[6]. وعليه، يرى هونيث في علم النفس الاجتماعي لجورج هربرت ميد بمثابة جسر يربط بين فكرة هيغل الأولى، وبين الفكرة التي يرمي إلى إقامتها في الفكر المعاصر. ويقر بأن المادة التي استقاها من علم النفس الاجتماعي لدى هربرت ميد قد أتاحت له أن يعطي النظرية الهيغلية بشأن الصراع من أجل الاعتراف منحًى ذا طابع مادي، مما سيتيح له الوصول لنظرية اجتماعية ذات منحى معياري[7].
وعبر هذا الجمع بين التأسيس النظري الذي وضعه هيغل لنظرية الاعتراف والمعطيات التجريبية التي قدمها هربرت ميد، استطاع هونيث إعادة بناء نظرية الاعتراف وعرضها من منظور معاصر يراعي الشروط النظرية للوضع الحالي.
استطاع هونيث إعادة بناء نظرية الاعتراف وعرضها من منظور معاصر يراعي الشروط النظرية للوضع الحالي
وعلاوة عليه، شكلت النظرية التواصلية الهابرماسية منطلقا آخر لهونيث نحو بناء نظرية الاعتراف من خلال نقده لبراديغم التواصل وإحلال براديغم الاعتراف محله، مُحدثًا بذلك منعطفًا جديداً في مسار النظرية النقدية.
ذهب هابرماس إلى إقامة نظرية ذات بعد معياري تكون كفيلة بوضع حل للأزمات الاجتماعية التي يتخبط بها المجتمع، حيث "كان يهدف إلى وضع قواعد لنظرية فلسفية واجتماعية تسمح بإمكانية التفكير في الظواهر المَرَضيّة للمجتمع الحديث قصد تقويم هذا الاعوجاج، أو ما يسميه بالتواصل المشوَّه، الذي يَحُول دون بناء مجتمع حداثي، ديمقراطي، يتأسس على التفاهم والتواصل"[8]، باعتبار أن التواصل حلّ ناجع وكفيل بإقامة علاقة تواصل ناجحة بين الذوات، خالية من الإكراه، الأمر الذي سينعكس إيجابا على المجتمع بشكل عام والذات الفردية بشكل خاص، إذ يرى "أن التواصل هو المبدأ المؤسس للمجتمع، والتواصل بالنسبة إليه تَدخُّل للآخرين في تكوين الأنا أو الهوية وبنائها"[9]. وانطلاقا من مناقشته النقدية لنظرية الفعل التواصلي لهابرماس وللأسس التي تقوم عليها، توصل هونيث إلى "اقتناع فكري راسخ يتمثل في القول بأن نظرية التواصل لم تعد كافية لتفسير النزاع الاجتماعي"[10]. لذلك، كان لزامًا عليه أن "يغير وجهة النظر النقدية للتشخيص التاريخي التي قامت عليها المقاربة الهابرماسية، إذ لم تعد التوترات الموجودة بين النّسق والعالم المعيش هي مركز الاهتمام والتفكير، بل تلك العوامل الاجتماعية المسؤولة عن الانتهاك النسقي لشروط الاعتراف، وعلى هذا الأساس يجب أن يتحول الاهتمام من التشخيص التاريخي والتحرر من الأنساق إلى البحث عن التدهور الذي أصاب العلاقات الاجتماعية للاعتراف"[11]؛ بفعل هذا التحول في البنى العَلائِقيَّة بين الأفراد، وما صارت تعانيه من أزمات، والتي أصبح فيها التفاهم بين مختلف الفاعلين فكرة شبه مستحيلة، وبالتالي أضحى من اللاّزم إيجاد نموذج جديد للخروج بالعلاقات الاجتماعية من هذا القصور الذي تعيشه. الشيء الذي سيدفع هونيث للتخلي عن مفهوم التواصل ونظرية الفعل التواصلي، وتعويضها بنظرية الاعتراف باعتبارها نموذجًا إرشاديًا جديدًا. ضمن هذا السياق، يقول هونيث: "إن العالم المعاش الأولي الخاص بالوجود الإنساني هو عالم الاعتراف لا عالم التفاهم اللغوي، والأولوية للاعتراف لا للتفاهم، وهو أمر يمكن إثباته بكل سهولة، وذلك لأن الاعتراف العاطفي يسبق دومًا من الناحية التكوينية عملية اكتساب اللغة"[12]؛ فالاعتراف حسب هونيث سابق على اللغة. ومنه وجَّه هونيث سهام نقده صوب التداوليات اللغوية؛ لأنها في نظره غير قادرة على الكشف عن التجربة الأخلاقية للفاعلين، ليقوم بعد ذلك "باستبدال فكرة التفاهم بفكرة الاعتراف، والاستعاضة عن مفهوم الفضاء العمومي بمفهوم العلاقات الاجتماعية للتفاعل التي تكتسب فيها الذوات الفاعلة أشكال الاعتراف الضرورية لتأسيس الفعل الذاتي"[13].
كرَّس هونيث مجهوداته نحو إقامة نظرية تكون قادرة على توسيع النموذج التواصلي ليشمل الاجتماعي بمضمونه النزاعي، وهذا ما سيتحقق له من خلال براديغم الاعتراف
وبناء على هذا الإقصاء الذي خلقته النظرية التواصلية لهابرماس لمسألة النزاعات الاجتماعية أو كما يسميها هونيث "الأمراض الاجتماعية"[14]، من خلال اقتصارها على تحديد العلاقات الاجتماعية بعلاقات التواصل، كرَّس هونيث مجهوداته نحو إقامة نظرية تكون قادرة على توسيع النموذج التواصلي ليشمل الاجتماعي بمضمونه النزاعي[15]، وهذا ما سيتحقق له من خلال براديغم الاعتراف، باعتباره حلاًّ أخلاقيًا للأمراض الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع المعاصر، باعتبار أن "مبدأ الاعتراف سيشكل بكيفية ما قلب أو مركز المجتمع"[16]، جاعلا من الاعتراف بأشكاله الثلاثة (الحب والقانون والتضامن الاجتماعي) منطلقا لفهم النزاعات الاجتماعية وحلا أخلاقيا لتجاوزها.
ثانيا: الاعتراف وتشكل الهوية الذاتية
يرى هونيث في الاعتراف مفهوما جديدا قادرا على معالجة العديد من الأمراض الاجتماعية بما فيها أزمة تشكل الهوية الذاتية، إذ يشكّل الاعتراف عنده المبدأ المُهيكل للهوية الذاتية، وأداة مهمة ذات دور مركزي ومباشر في بنائها، عبر ما يتميز به الاعتراف المتبادل من علاقة تذاوتية تراعي وجود الآخر وتعيره الاهتمام، باعتباره عاملاً حيويًا في انبثاق هذه الهوية، حيث يلعب فعل التذاوت أساس الاعتراف الهونيثي. ومنه، ما المنظور الهونيثي لعلاقة الاعتراف بالهوية الذاتية؟
أ. نفي الاعتراف أداة لهدم الهوية الذاتية
تشكل تجربة الذل بأشكالها الثلاثة (العنف الجسدي، انتهاك الحقوق الأساسية للفرد، الحكم السّلبي على القيمة الاجتماعية للفرد) آلية لهدم الهوية الشخصية للأفراد لما لها من انعكاس مباشر على تدمير الذات الفردية عبر سلب الفرد تلك الفكرة الإيجابية التي سبق وأن كونها حول نفسه، سواء في علاقته مع الآخر أو مع ذاته، ولهذا أضحت تجربة الذل حسب هونيث تمثل أداة تهدد بشكل مباشر تحطيم الهوية الذاتية للفرد، يقول: "تهدد تجربة المهانة والإذلال الاجتماعي الكائنات الإنسانية في هويتها تماما كما تهددها الأمراض في وجودها الطبيعي"[17].
يشكّل الاعتراف عند هونيث المبدأ المُهيكل للهوية الذاتية، وأداة مهمة ذات دور مركزي ومباشر في بنائها، عبر ما يتميز به الاعتراف المتبادل من علاقة تذاوتية تراعي وجود الآخر
وعليه، يترتب عن النتيجة السلبية التي تخلفها هذه الأشكال الثلاثة، شعورًا سلبيًا ينعكس على الذات الفردية، ويدفع المرء إلى فقدان الثقة في ذاته واحترامه لها، وبالتالي فقدان تقديره لنفسه، الأمر الذي يجعل من هويته الشخصية هوية مدمرة، ومنه:
- كيف يمكن لتجربة الذل بما هي نفي للاعتراف أن تكتسح الحياة الفردية للإنسان وتدمر هويته الذاتية؟
يرى هونيث أن تجارب الذّل والاحتقار التي تتعرض لها الكائنات الإنسانية في هويتها، ترتكز على ثلاثة أشكال أساسية: الشكل الأول يرتبط لديه بالعنف الجسدي، فيما يقوم الثاني على انتهاك الحقوق المرتبطة بالذات. أما الشكل الأخير من هذه الأشكال، فيتعلق بالحكم السلبي على القيمة الاجتماعية لشخص ما أو بعض المجموعات.
فيما يخص الشكل الأول، والذي نجد من أهم أشكاله الأساسية الاغتصاب والتعذيب. فيرى فيه هونيث نوع من الذل يطال الشخص في سلامته البدنية، ويعمل على تحطيم العلاقة العملية للفرد مع ذاته، حيث تشكل "أشكال سوء المعاملة التي بواسطتها يصار إلى سحب من الكائن البشري كل إمكانية باستخدام جسده استخدامًا حرًّا تكون بالفعل النوع الأكثر أولوية في عملية الإذلال الشخصي"[18]. وعليه، تعد محاولة التحكم بجسد الآخر والسيطرة عليه أعمق شكل من باقي الأشكال التي سيأتي ذكرها لاحقا؛ وذلك لما يخلفه هذا الشكل من موت نفسي La mort psychique لدى الفرد. لذلك، يرى هونيث أن عملية السيطرة على الجسد والتحكم فيه بمثابة قتل لتلك الذات المالكة لهذا الجسد. وفي هذا الصدد، لا يُعير هونيث اهتمامًا كبيرا بما تخلفه هذه الأشكال من ألم جسدي، بل بما يترتب عنها من شعور بالخضوع إلى الآخر دون قوة على المقاومة، الأمر الذي يدفع الشخص الضحية إلى الإحساس بفقدان وجوده الواقعي الخاص.
يرى هونيث أن عملية السيطرة على الجسد والتحكم فيه بمثابة قتل لتلك الذات المالكة لهذا الجسد
هذا الشكل الأول من أشكال الذل والاحتقار ترتب عنه خسارة الفرد لثقته بذاته، ثم بالعالم المحيط به، لتصبح ثقته بنفسه من الماضي، الأمر الذي يدفع الذات إلى فقدان العلاقة العملية مع ذاتها، ومنه فقدان الثقة بالذات، حيث "أن تشكل العلاقة العملية مع الذات، ومهما كان أوليا مثل الثقة بالذات، ستصبح ثقة منهارة وإلى مدى طويل"[19].
أما الشكل الثاني، "فيتعلق بأحوال من الذل الشخصي التي تكون الذات ضحيتها، حيث تجد نفسها بنيويا مقصاة عن بعض الحقوق داخل المجتمع"[20]، فعندما يُحرم الفرد من حقوقه الشخصية المشروعة أو يتم انتهاكها من طرف جهة معينة يقع لدى الفرد إحساس بالحرمان الحقوقي والرفض الاجتماعي، وعبر هذا الرفض لبعض الحقوق الفردية الأساسية، والتي يعتبرها هونيث بمثابة نفي للاعتراف بالدرجة نفسها من المسؤولية الأخلاقية التي يعترف بها لسائر أفراد المجتمع، يتشكّل لدى الفرد شعور سلبي تجاه ذاته يدفعه إلى فقدان احترامه لنفسه. وفي هذا الصدد، يعتبر أن لهذا الحرمان وعدم الاعتراف بالحقوق الأساسية للأفراد تأثيرا مباشرا على فقدان الأفراد احترامهم لذواتهم، "بل وبعدم تساويهم مع الغير، حيث يحرمون من المشاركة الفعالة في الحياة الاجتماعية مع الآخرين بصورة إيجابية"[21].
أما فيما يخص الشكل الثالث والمتعلق بالحكم السلبي على القيمة الاجتماعية لشخص ما أو بعض المجموعات، والذي يعتبر ذا صلة مباشرة بفقدان كرامة الفرد وتقديره الاجتماعي لذاته داخل الأفق الثقافي للمجتمع. ويعد هذا الحط من قيمة الذات بمثابة انتهاك وتعدٍّ على كرامة الغير، له تأثير بالغ على التمثُّل الذي يضعه الفرد عن شخصه. وكما يرى هونيث "أن الحط من قيمة بعض نماذج التحقق الذاتي يعني أن من يقومون لا يستطيعون عزو أية دلالة إيجابية لوجودهم داخل الجماعة"[22]، يلزم عن هذا الشكل من الذل والاحتقار حسب هونيث فقدان تقدير الذات، يقول: "تترافق تجربة الحط من القيمة الاجتماعية هذه مع فقد تقدير الذات، إذ لن تكون لديه أية فرصة، ليتمكن من فهم نفسه بوصفه كائنا يقدر لصفاته ولقدراته المميزة".[23]
إن أشكال الاحتقار وتجارب الذل، وما يترتب عليها من نتائج سلبية تؤدي بالأفراد إلى فقدان ذواتهم وهدم كيانها عبر ما أسماه هونيث بالموت النفسي تهدد بهدم الهوية الذاتية بصورة كاملة
وبهذا، فإن هذه الأشكال من الاحتقار وتجارب الذل، وما يترتب عليها من نتائج سلبية تؤدي بالأفراد إلى فقدان ذواتهم وهدم كيانها عبر ما أسماه هونيث بالموت النفسي تهدد بهدم الهوية الذاتية بصورة كاملة، عبر سلبها الثقة بنفسها وفقدان الاحترام الفردي والجماعي لها، وبالتالي ضياع الإحساس بتقدير الذات. ومنه، فتجارب الذل بما هي نفي للاعتراف تمثل أداة لتهديد الهوية الشخصية للفرد عبر ما تخلفه من نتائج تكون ذات وقع سلبي على الذات.
وعليه، إذا كان نفي الاعتراف يشكّل سببًا مباشرًا لهدم الهوية الشخصية، فكيف يمكن لإقرار مسألة الاعتراف أن تسهم في إعادة تعيين هذه الهوية؟
ب. الاعتراف كأساس لتشكل الهوية الذاتية
يشكل الاعتراف المتبادل (La Reconnaissance Mutuelle) بأشكاله الثلاثة: الحب (L’amour) والحق (Le droit) والتضامن (La solidarité)، أفقًا جديدًا يطمح لإعادة بناء الهوية الذاتية المهدمة جرّاء تجارب الذل والاحتقار؛ وذلك من خلال مساهمته الناجعة في التطوير المستمر للعلاقة الإيجابية التي تقيمها الذات مع نفسها بشكل دائم، بناءً على العلاقة القائمة بين "الاعتراف المتبادل والعلاقة العملية للفرد مع ذاته"[24]، وكذا مع الآخر المشارك له في الحياة العملية، سواء في شخص واحد أو في جماعة؛ وذلك لما تتضمنه العلاقات التذاوتية من أشكال التعامل الاجتماعي، وهذا ما يشير إليه هربرت ميد، بالقول: "يفترض التذاوت دائما تجربة الآخر، ولهذا السبب لا يمكن تحقيق ذواتنا إلا من خلال الاعتراف بالآخر، ومن خلال علاقتنا به"[25]. وعليه، يرى هونيث في أشكال الاعتراف التذاوتي الأسس الأولية المؤسسة للهوية الذاتية، والتي عمل على تفريعها إلى ثلاثة أشكال أساسية من التذاوت في كتابه العمدة: الصراع من أجل الاعتراف، معتمدا في ذلك على نصوص هربرت ميد والتراث الهيغلي.
- التذاوت عبر الحب
ينظر هونيث إلى مفهوم الحب في بعده الشمولي وبطريقة حيادية، حيث يعرفه بأنه "كل العلاقات الأولية، والتي على غرار نموذج العلاقات الإيروسية وعلاقات الصداقة والعلاقات العائلية تفترض وجود روابط عاطفية قوية بين عدد محدود من الأشخاص"[26]. وعليه، تمثِّل علاقة الحب النواة البنيوية المكوِّنة لكل حياة أخلاقية، وأولى الركائز الأساسية التي تتيح للفرد السبيل إلى الانفتاح على ذاته وفهمها واستيعاب حاجاتها، وكذا على محيطه الاجتماعي بدرجة أولية من خلال تمثل الذات لنفسها في غريب. وهذا ما نجده أيضا عند هيغل، إذ "يشكل الحب عنده الدرجة الأولى من الاعتراف المتبادل، حيث تقوم الذوات بتأكيد نفسها فيه بشكل متبادل من خلال حاجاتهم العينية؛ أي بوصفها كائنات محتاجة: من خلال تجربة الاهتمام المتبادل، تجد الذاتين نفسيهما وقد اتّحدتا، حيث إنهما وفيما هما بحاجة إليه، الواحد منهما تابع لشريكه الخاص"[27]. وهكذا، أضحت تُفهم تجربة الحب على أنها شكل خاص من الاعتراف المتبادل، وهذا يتضح من خلال العديد من المحاولات التي قام بها فلاسفة الاعتراف في تفسير علاقة الحب بوصفها سيرورة اعتراف متبادل، وأبرزها تلك التي قامت بها Jessica Benjamin[28].
وتعدّ علاقة الطفل بأمه أولى مستويات الشكل الأول من أشكال الاعتراف المتبادل، وذلك باعتبارها أولى أشكال التفاعل التذاوتي، أو كما يطلق عليها بالتذاوت الأولي (Intersubjectivité primaire) الذي يحصل بين الأم ورضيعها. تمهد هذه العلاقة التذاوتية الطريق أمام الفرد للشعور بالأمان العاطفي وبثقة بذاته تكون مستقلة عن الآخر؛ فالحب الأمومي حسب هونيث "يخلق في كل كائن إنساني الأساس النفسي الذي انطلاقا منه بإمكان هذا الكائن أن يثق بالنزوات المترتبة عن رغباته الخاصة"[29]. الأمر الذي يمنح الفرد أو الذات الإنسانية بشكل عام دافعًا نحو تحقيق الاستقلال الذاتي، ويسمح له بإظهار حاجاته ومشاعره بهدوء، مؤمنًا بذلك الشرط النفسي لتطور كل مظاهر احترام الذات. فالشخص المحبوب وما أن يتأكد من عاطفتنا، سيجد القوة لينسحب بهدوء إلى ذاته، منفتحا عليها، جاعلا منها ذاتا مستقلة وخاصة بشخصِه، واثقة من كل رغباتها، محققتا بذلك الثقة التي تجعل منها ذاتا مستقرة نفسيا ووجدانيا.[30]
يمثل الحب عبر التذاوت نموذجا أساسيا في سيرورة تشكّل الهوية الذاتية لما له من نتيجة مباشرة على الذات الإنسانية، من خلال العلاقات التذاوتية التي يقيمها الأفراد مع الآخرين بكل أشكالها
وعليه، يمثل الحب حسب هونيث تمثيلاً مثاليًا لوحدة العيش، والنواة المكوّنة لكل حياة أخلاقية، والتي بدونها لا يمكنه المشاركة باستقلالية وفاعلية في الحياة العامة. "فبدون مثل هذا الاعتراف الأولي يعجز الأطفال الصغار عن اتخاذ منظورات الأشخاص المتعلقين بهم، كما أن الكبار أنفسهم يعجزون أثناء تفاعلهم عن فهم التعبيرات اللغوية لشركائهم"[31]، وبالتالي تلعب تجربة الحب دورًا مركزيًا في تجاوز ما خلفته تجارب الذل والاحتقار من هدم للهوية الذاتية، وتحديدًا في تجاوز مسألة فقدان الثقة بالذات، حيث يرى أن هذا الشكل من الاعتراف يسمح للذات في أن تكتسب ثقتها في نفسها؛ وذلك أن الثقة في الذات نتيجة لتجربة الحب، بل وتتعدّى ذلك، وتصبح الثقة بالذات مثل الحب، عبر ما تؤمنه هذه التجربة التذاوتية من شروط نفسية مناسبة لتطوير كل مظاهر الثقة بالذات واحترامها.
وهكذا، يمثل الحب عبر التذاوت نموذجا أساسيا في سيرورة تشكّل الهوية الذاتية لما له من نتيجة مباشرة على الذات الإنسانية، من خلال العلاقات التذاوتية التي يقيمها الأفراد مع الآخرين بكل أشكالها، وما يترتب عليها من نتائج ذات وقع إيجابي على شخصية الفرد من ثقة في الذات واحترامها وتحقيق للاستقرار النفسي والوجداني وتكوين شخصية مستقلة وخاصة بالذات.
- التذاوت عبر الحق
يرى هونيث في الحق على المستوى القانوني الشكل الثاني من أشكال الاعتراف المتبادل؛ فالاعتراف القانوني (La Reconnaissance Juridique) هو الذي يضمن للفرد الشعور بالحرية وبالاستقلال الذاتي عبر تحقيق حقوقه الذاتية الموزعة بالأساس على ثلاثة مستويات أساسية: حقوق مدنية، والتي تضمن للفرد الحرية والحياة والحماية من استبداد الدولة، وحقوق سياسية تتيح للفرد إمكانية المشاركة في سيرورة تكوين الإرادة العامة، وحقوق اجتماعية تضمن التوزيع العادل للملكيات.
يشكل الاعتراف القانوني ركيزة أساسية من الركائز المكوِّنة للهوية الذاتية، فغياب الاعتراف يُفقد الفرد صفة الشخص ووضعيته؛ وذلك لأن "العيش في مجتمع لا حقوق فردية فيه، يعني الافتقار لأية فرصة تؤمن احترام الذات"[32]، وبما أن كل ذات إنسانية إلا وتعتبر نفسها صاحبة حقوق فردية بدرجة أولى، وتنتظر من الآخر سواء كان هذا الآخر بصيغة المفرد أو الجماعة الاعتراف بهذه الحقوق، باعتباره عضوًا في المجتمع الإنساني ومُكوِّن من مكوّناته. وعليه، إن كل فرد إلا وتعتريه رغبة جامحة في الحصول على حقوقه الذاتية، أملاً منه في تحقيق مكانة بين باقي أفراد المجتمع، وفي نيل احترام الآخرين واعترافهم به وبحقوقه الفردية، من خلال الاعتراف القانوني للذوات المكوّنة للوسط الذي يعيش فيه بهذه الحقوق؛ وذلك "لأن اعتراف الأشخاص القانونيين ببعضهم بعضا وبشكل متبادل يعني الآن أشياء تتجاوز ما كان سائدا، حيث تولد الحق الحديث، والفرد إذ يجد نفسه معترفا به قانونيًا، لن يكون محترما فقط من حيث قدرته المجردة على الطاعة للمعايير الأخلاقية، بل محترما أيضا لما يتمتع به من صفة عينية تؤمن له مستوى حياة دونه لن يكون قادرا على ممارسة هذه القدرة الأولية".[33]
وهكذا، يرى هونيث في الحقوق والاعتراف القانوني عاملاً أساسيًا من العوامل التي تتدخل بشكل مباشر وعملي في تكوين احترام الذات لنفسها، وذلك اعتبارًا بأن "تجربة الاعتراف القانوني هي تجربة تتيح للذات أن تعتبر نفسها شخصا يتقاسم مع كل الآخرين من أعضاء الجماعة الصفات التي تجعل منه شخصا قادرا على المشاركة في إرادة استدلالية"[34]، فعبر الاعتراف القانوني "يكتسب الفرد إمكانية فهم أفعالهم كتجلٍّ محترم من طرف جميع الناس لاستقلاله الذاتي (...)، وحقوقه المشروعة تجعله يشعر باحترام ذاته؛ لأنه جدير باحترام الذوات الأخرى"[35]، كما يعتبر أن احترام الأشخاص ليس إلا احترامًا لحقوقهم. وعليه، فالحصول على الحقوق الذاتية يجعل الذات تتجاوز صمتها لتعبر عن حاجاتها ومتطلباتها بكل حرية وبدون خوف وتردّد، الأمر الذي يجعلها تنال احترامًا بين باقي الذوات المشكِّلة للعملية التذاوتية؛ فالاعتراف القانوني يتجاوز كل الظروف المحيطة بالفرد، ويتعامل معه كذات مستقلة بذاتها وبدون تمييز، فهو يمنح الأفراد حقوقهم بغض النظر عن انتمائهم الاجتماعي ومراتبهم ووظائفهم.
يشكل الاعتراف القانوني ركيزة أساسية من الركائز المكوِّنة للهوية الذاتية، فغياب الاعتراف يُفقد الفرد صفة الشخص ووضعيته
وعليه، يرى هونيث في حصول الذات على حقوقها الفردية المشروعة أمرًا يجعلها تَعي قدرتها على احترام ذاتها. وبذلك، يعتبر أن احترام الذات بمثابة علاقة قانونية، كما اعتبر في السابق بأن الثقة في الذات مثل الحب، يقول: "بما أن الطفل في حالة الحب يكتسب بفضل تجربة العناية الأمومية المستمرة الثقة التي تسمح له بإظهار رغباته بحرية، كذلك الراشد يكتسب عبر تجربة الاعتراف القانوني إمكانية تفهمه لأفعاله، باعتبارها تمظهرًا لاستقلالية الذات التي تلاقي الاحترام من قبل الجميع"[36]. فإذا كانت التجربة التذاوتية للحب كما سبق التطرق إليها فيما سبق تساهم بشكل مباشر في ظهور الشعور بالثقة بالذات حسب هونيث، فكذلك يرى في الاعتراف القانوني شرطاً أساسياً لبزوغ الشعور باحترام الذات.
وبهذا، فإن حصول واستفادة الفرد من حقوقه الذاتية يجعل منه فردًا قادرًا على مشاركة الآخرين في شؤون الحياة بكل ثقة بنفسه، وإذا كان انعدام الاعتراف يحرم الفرد من أن يحترم ذاته، فإن الاعتراف القانوني يفتح أمامه السبيل إلى إثبات ذاته، ويولد لديه شعورًا بأنه نال احترام الذوات الأخرى، وعبره يتشكّل له ما يسمى باحترام الذات.
- التذاوت عبر التضامن
أضاف هونيث إلى جانب التذاوت عبر الحب والحق شكلا ثالثًا من أشكال الاعتراف المتبادل، وهو التذاوت عبر التضامن الاجتماعي، حيث يرى أن العلاقات التذاوتية بين الأفراد لا يجب أن تقتصر فقط على الحب، وعما ينتج عنه من شعور عاطفي أو على الاعتراف القانوني، بل تدعو الضرورة إلى أن يحصل الفرد على التقدير الاجتماعي، وذلك بالنظر لما تنتجه هذه العلاقة من ترابط إيجابي مع القدرات الذاتية للفرد ومع صفاتها العينية. ويمثل التقدير الاجتماعي عند هونيث تلك الصفات الخاصة التي بها يتميز الناس في خصوصياتهم الشخصية، ويرى في التضامن "نوع من علاقة تفاعل تهتم فيها كل ذات بمسيرة الحياة الشخصية عند الذات المواجهة لها؛ ذلك أن هذه الذوات قد أقامت فيما بينها علاقة تقدير متناظرة".[37]
حصول واستفادة الفرد من حقوقه الذاتية يجعل منه فردًا قادرًا على مشاركة الآخرين في شؤون الحياة بكل ثقة بنفسه
يسمح هذا النموذج من الاعتراف المتبادل للأفراد حسب هونيث بتحقيق ذواتهم والشعور بقيمتهم، عبر ما تَكِنُّهُ الذوات الأخرى لهم من تقدير اجتماعي، بالإضافة إلى أنه نموذج يستند إلى خلفية قيميّة مشتركة لدى الذوات المعنية بالتقدير، وذلك "لأن الآخر والأنا لا يمكن أن يقدر كل منهما الآخر بشكل متبادل وبوصفهما شخصين مُتفرِّدين، إلا إذا أرجعها إلى القيم نفسها، وإلى الغايات نفسها، والتي تبعا لوظيفتها يقيس الواحد منهما أهمية صفاته الشخصية بالنسبة إلى حياة الآخر أو لما تقدم له"[38]. وعليه، لا يمكن لهذا الشكل من الاعتراف التذاوتي أن يقوم بين أفراد لا رباط وصل بينهم ولا علاقات مشتركة، وإنما يتم بين ذوات تجمع بينهم مقاصد وأهداف وقيم مشتركة، حيث ينتاب كل فرد يرغب في الحصول على التقدير الاجتماعي لذاته الخاصة شعورا بالتقدير يكون صادرا عن سائر الأعضاء المشاركين له في تجربة الاعتراف هذه، الأمر الذي يشعره بنوع من الفخر والاعتزاز بذاته وبالمجموعة التي ينتمي إليها، أو بنوع من {الشَّرَف الجماعي}[39] كما يَسِمُه هونيث.
وعلاوة عليه، يتوقف التقدير الاجتماعي لدى هونيث على المؤهلات والقدرات الفردية لكل ذات، وليس على الصفات والخصائص الجمعية، وذلك لأن تحقق الذات يكون بشكل فردي، يقول في هذا الصدد: "إن السمات الجماعية ليست هي ما يتحكم بالتقدير الاجتماعي، بل القدرات التي طورها كل فرد إبان سيرته الشخصية"[40]. وبهذا أصبح التقدير الاجتماعي مرتبطاً بما يقدمه الفرد للجماعة التي ينتمي إليها، وليس ما تقدمه الجماعة، فإسهامات الفرد وأفعاله القيمة هي من تجعل منه عضوًا معترفًا به، وينظر إليه بتقدير من طرف الذوات الأخرى؛ ذلك لأن كل فرد يشعر بأن تقديره من طرف الآخر وليس من طرفه هو ذاته.
وهكذا، فإن التقدير الاجتماعي لا يرتبط بالذوات في كُلّيتها، بل يتعلق بكل ذات على حِدة (الذات المتفردة من حيث سيرتها الشخصية)، فبالرغم من أنه نوع من الاعتراف القائم على التضامن الاجتماعي، إلا أنه يظل نموذجاً قائماً على الفرْدَنَة، رغم ذلك يتيح هذا الشكل من الاعتراف للمرء الشعور بقيمته من خلال ما يترتب عليه من تقدير للذات في مقابل الثقة بالذات التي تتحقق عبر الحب، واحترام الذات الذي ينتج عن الاعتراف القانوني؛ وذلك لما يتميز به هذا النموذج من الاعتراف من بُعد قيمي وأخلاقي، حيث يرى فيه هونيث نموذجا من الاعتراف التذاوتي يلزم عنه توفر الصفة والخاصية الأخلاقية في العلاقات الاجتماعية.
وبهذا، إذا كان غياب الاعتراف بأشكاله الثلاثة، وما يفضي إليه من تجارب الذل والاحتقار، وما يترتب عليها من نتائج سلبيّة تُسهم بشكل مباشر في هدم الهوية الشخصية للفرد من خلال سلبه ثقته بذاته، واحترام الذات وتقدير الذات، فإن إقرار مسألة الاعتراف ووضعها مَوْضِع التّفعيل يسهم بشكل مطلق في تشكّل وتعيين الهوية الذاتية. ومنه يلعب الاعتراف دورا مزدوجا، تارة ًيكون آلية لهدم الهوية، وتارة ًأخرى يكون أداة لبنائها، فإذا كان غياب الاعتراف بمثابة هدم للهوية الذاتية، فإقرارُه يُعد أداةً لتشكُّلها من جديد؛ فلا هوية إذن بدون الاعتراف.
يوضح الجدول التالي الدور الثنائي الذي يلعبه الاعتراف في هدم وتشكيل الهوية الذاتية:
أشكال الذل والاحتقار |
العنف الجسدي وسوء المعاملة |
الحرمان من الحقوق الفردية والاقصاء |
الحكم السلبي على القيمة الاجتماعية للفرد |
أشكال الهوية الذاتية المهددة |
فقدان الثقة بالذات |
هدم احترام الذات |
هدم الكرامة الفردية والشرف |
نماذج الاعتراف التذاوتي |
التذاوت عبر الحب |
التذاوت عبر القانون |
التذاوت عبر التضامن |
العلاقة العملية بالذات المترتبة عن أشكال الاعتراف المتبادل |
الثقة بالذات |
احترام الذات |
تقدير الذات |
الملخـــص:
تزامنًا مع ما أصبح يشهده العالم اليوم من أزمات؛ كتلك المرتبطة بالتعددية الثقافية والدينية وحقوق الأقليات وصراع الهويات وغيرها من القضايا المعاصرة، تمكَّن مفهوم الاعتراف من أن يفرض نفسه وبقوة في الساحة الفكرية الآن، وأكثر من أيّ وقت مضى، وذلك لما يتمتع به من إمكانات عملية تمكنه من دراسة هذه القضايا وفهمها، وفي الآن ذاته الصراع من أجل تَنْحِيَتها أو على الأقل التقليل منها، الأمر الذي منحه اليوم بُعدًا أداتيًا قادرًا على تغيير الأوضاع الاجتماعية نحو الأفضل. وهذا ما يؤكده الاهتمام الواسع الذي أضحت تعرفه نظريات الاعتراف بمختلف اهتماماتها من لدن ثُـلّة من جهابذة الفكر الفلسفي المعاصر. ونخصّ بالذكر فيلسوف الاعتراف، أكسل هونيث Axel Honneth، وما حققته نظريته حول الصراع من أجل الاعتراف، من انتشار واسع، لما تتميّز به من طرح جديد في حل النزاعات والأزمات الاجتماعية باعتمادها مقاربة إيتيقية. ومن أهم هذه الأزمات، نجد قضية تشكل الهوية الذاتية، وما تعانيه من تشتُّتٍ وتحطّم في ظل هيمنة مختلف أشكال الاحتقار والإذلال.
المراجع
[1] المنطلقات الأولى نقصد بها التصور الهوبزي للعلاقات الاجتماعية ذات الطابع البرغماتي، وبالأخص فكرة الصراع من أجل البقاء.
[2] بومنير كمال، أكسل هونيث فيلسوف الاعتراف، منتدى المعارف، الطبعة الأولى، بيروت 2015، ص 44
[3] هونيث أكسل، الصراع من أجل الاعتراف، ترجمة وتحقيق جورج كتورة، نشر المكتبة الشرقية، 2015، ص ص 126-127
[4] نفس المصدر، ص 125
[5] قام ميد بقلب العلاقة القائمة بين الأنا والعالم الاجتماعي، اعتمادا على العلوم التجريبية، مؤكدا على أولوية إدراك الآخر على تطور إدراك الذات، إذ لا يمكن أن تعي الذات نفسها إلا حينما تأخذ بعين الاعتبار فعلها الخاص وفق منظور تمثلها الرمزي للغير. هذه الأطروحة تعتبر أول خطوة نحو التأسيس الفعلي للنظرية الهيغلية في الاعتراف.
عن بومنير كمال، أكسل هونيث فيلسوف الاعتراف، مرجع سابق، ص 47
[6] هونيث أكسل، الصراع من أجل الاعتراف، مصدر سابق، ص 131
[7] المصدر نفسه، ص 169
[8] الأشهب محمد عبد السلام، أخلاقيات المناقشة في فلسفة التواصل لهابرماس، دار ورد للنشر والتوزيع، الأردن، 2013، ص 14
[9] المرجع نفسه، ص 11
[10] بومنير كمال، أكسل هونيث فيلسوف الاعتراف، مرجع سابق، ص 42
[11] المرجع نفسه، ص 42
[12] نفسه، ص 42
[13] مجيديلة إبراهيم، براديغم الاعتراف: المفهوم والمسارات، مجلة يتفكرون، إصدار مؤسسة مؤمنون بلا حدود، العدد الرابع، 2014، ص 114
[14] يقصد هونيث بالأمراض الاجتماعية: جملة من العلاقات أو التطورات الاجتماعية التي تلحق ضررا بشروط تحقيق الذات.
[15] بغورة زواوي، الاعتراف من أجل مفهوم جديد للعدل، دار الطليعة للطباعة وللنشر، الطبعة الأولى، بيروت 2012، ص 168
[16] المرجع نفسه، ص 170
[17] هونيث أكسل، الصراع من أجل الاعتراف، مصدر سابق، ص 246
[18] المصدر نفسه، ص 214
[19] نفسه، ص 242
[20] نفسه، ص 243
[21] بومنير كمال، أكسل هونيث فيلسوف الاعتراف، مرجع سابق، ص 70
[22] المرجع نفسه، ص 245
[23] نفسه، ص 245
[24] أكسل هونيث، الصراع من أجل الاعتراف، مصدر سابق، ص 271
[25] G.H Mead, L’Esprit, le soi, la société. P 165
عن بومنير كمال، أكسل هونيث فيلسوف الاعتراف، مرجع سابق، ص 52
[26] أكسل هونيث، الصراع من أجل الاعتراف، مصدر سابق، ص 275
[27] المصدر نفسه، ص 275
[28] قامت Jessica Benjamin 'محللة نفسية'، بمحاولة لتفسير علاقة الحب بوصفها سيرورة اعتراف متبادلة، مستخدمة في محاولتها هاته أدوات التحليل النفسي، معتمدة في ذلك على ما توصل إليه المحلل النفسي الإنجليزي فينيكوت، بالإضافة لحدوس هيغل الشاب.
[29] أكسل هونيث، الصراع من أجل الاعتراف، مصدر سابق، ص 217
[30] المصدر نفسه، ص 193
[31] أكسل هونيث، التشيؤ، بحث موجز في النظرية النقدية، ترجمة كمال بومنير، دار الأمل للطباعة والنشر والتوزيع، 2013، ص 71
[32] هونيث أكسل، الصراع من أجل الاعتراف، مصدر سابق، ص 219
[33] المصدر نفسه، ص 215
[34] نفسه، ص 220
[35] بومنير كمال، أكسل هونيث فيلسوف الاعتراف، مرجع سابق، ص 59
[36] أكسل هونيث، الصراع من أجل الاعتراف، مصدر سابق، ص 217
[37] المصدر نفسه، ص 236
[38] نفسه، ص 223
[39] نفسه، ص 225
[40] نفسه، ص 230
