مسألة الشكل...ليست مسألة شكلية
فئة : مقالات
ثنائية الشكل / المضمون ثنائية عريقة في القدم، وقد تولدت عن إحدى التصنيفات الأولى للبلاغة الكلاسيكية التي كانت تقابل بين الشيء واللفظ. «على الشيء (أو المادة البرهانية للخطاب) كان يتوقف البحث عما كان بالإمكان قوله عن موضوع، وعلى اللفظ كانت تتوقف العبارة (أو تحويل تلك المادة إلى شكل لفظي)، وتلك العبارة هي ما كانت تشكل ما نطلق عليه أسلوبا».
في هذا التصور الكلاسيكي، الذي يطلق عليه رولان بارث أدب المدلولات، تكون العلاقة بين المضمون والشكل علاقة فينومينولوجية، حيث يُنظر إلى الشكل على أنه مظهر المضمون ولباسه، مثلما يكون المضمون حقيقة الشكل. وهذا ما كان يُعَبّر عنه بالقول: إن العلاقة بين الشكل والمضمون علاقة تعبيرية.
غني عن البيان بأن القيمة الكبرى تعطى هنا للمضمون إلى حدّ اعتبار وظيفة الشكل وظيفة ثانوية. هذا التعلق بالمضمون هو أساسا تعلق بالمدلول على حساب الدال، تعلق بمعان وحقائق، تعلق بـ«الحقيقة». وقد بين بارث أن النصوص الحديثة لا تستجيب كثيرا لهذا التعلق، ولا تروي ظمأنا إلى «الحقيقة». فالمدلول (السردي والرمزي والنفسي) ما ينفك ينفلت من أيدينا، إلى حدّ أنه لن يعود في استطاعتنا مطلقا أن نقابل بين منظومات أشكال ومنظومات مضامين على الطريقة المألوفة.
لا يعني ذلك مطلقا أن التقابل بين الشكل والمضمون لم تعد له قيمة، وأن التحليل البنيوي جعلنا في غنى عن تلك الثنائية. فقد بين بارث نفسه أن «التحليل البنيوي للحكاية، فيما أنجزه من مكتسبات وما يحبل به من وعود، قائم بكامله على الاقتناع النظري (وعلى الحجة التطبيقية)، أن بإمكاننا تحويل نص معطى إلى خطاطة تقريبية ليست لغتها الواصفة هي لغة النص الأصلي، وذلك من غير أن يتغير النص السّردي في هويته. فلكي يكون في استطاعتنا أن نحصر الوظائف، ونعيد بناء المقاطع وتوزيع الأدوار، ولإبراز نحو سردي متميز عن النحو اللغوي للنص، يلزمنا انتزاع الشريط الأسلوبي من طبقة أخرى من المعاني الثانوية التي لا تكون فيها للمسات الأسلوبية أهمية كبرى، كما أن بإمكاننا أن ندخل تغييرات على هذه من دون أن ينال ذلك من البنية ذاتها». إلا أن الخطأ هو أن نجعل هذا الانتزاع يتوقف قبل الأوان. فما يكشف عنه ذلك الانتزاع ليس هو المضمون أو المدلول، وإنما شكلا آخر؛ أي مستوى لا يكون أبدا هو المستوى النهائي، لأن النص تترابط مفاصله حسب قواعد لا نهاية لها.
بناء على ذلك، لن يعود في استطاعتنا النظر إلى النص كما لو كان بناء ثنائيا لمضمون وشكل، ما دام في استطاعة المدلولات أن تتخذ أشكالا، وأشكالا لامتناهية. في النص ليست هناك إلا أشكال، أو على الأصح «إن النص ليس في مجموعه إلا كثرة من الأشكال»على حد قول بارث.
لن نذهب إلى القول، بطبيعة الحال، إن الثقافة المعاصرة ثقافة أشكال. وعلى رغم ذلك، فيبدو أن الثقة المطلقة في المضامين لم تعد كما كانت عليه. وقد أصبحت تتحدد إلى حد كبير بفقدان الثقة في إطلاقية «الحقيقة» كما أشرنا.
ينصرف ذهني إلى اعتراف لشيوران كان اقتبسه صاحب «الكتابة والتناسخ» يقول فيه: «لم نعد نريد أن نتحمل ثقل ”الحقائق“، ولا أن ننخدع بها أو نتواطأ معها. إنني أحلم بعالم قد نقبل فيه الموت من أجل فاصلة.» ويضيف: «لا أسلوب مع غياب الشك وسيادة اليقين: إن الحرص على جمال اللفظ وقف على الذين ليس بمقدورهم أن يركنوا إلى اعتقاد راسخ. ففي غياب سند متين، لا يتبقى لهمإلا التشبث بالكلمات، – أشباه واقع؛ بينما الآخرون، الواثقون بقناعاتهم، فإنهم يستخفون بمظهر الكلمات وينعمون براحة الارتجال».
يتحول التقابل بين الشكل والمضمون عند شيوران إلى مقابلة بين الشك واليقين، فيغدو اليأس من المضمون تشبثا بالشكل، ويصبح الاستخفاف بالشكل علامة على وثوقية وفكر دوغمائي. ذلك أن الوثوق بالقناعات يجعل الكتابة تُعلق كل أملها على مضمونها ضامنة وفاءه واكتفاءه الذاتي، وبذا يغدو الشكل عندها جمالية زائدة، وقضية شكلية.