مشروعية الكذب في مواجهة الأخلاق الكذب آفة سياسية واجتماعية في سياقنا المعاصر
فئة : مقالات
مشروعية الكذب في مواجهة الأخلاق
الكذب آفة سياسية واجتماعية في سياقنا المعاصر
ملخص:
تعالج هذه الدراسة قضية من أبرز القضايا الفلسفية تعقيدا، والتي باتت تطرح بقوة خلال الآونة الأخيرة، ألا وهي إشكالية الكذب والخداع والتزييف، مما أحدث عدة أزمات أخلاقية والسياسية واجتماعية في عالمنا اليوم؛ إذ أصبحت مسألة إدراك الحقيقة شبه مستحيلة، ولم نعد باستطاعتنا التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مزيف، وبما أن الكذب اصطحب الإنسان منذ وجوده، الأمر الذي دعانا إلى سبر أغوار هذا المفهوم والبحث عن الأوجه الأخلاقية واللاأخلاقية فيه، ومدى تأثيره على حياتنا الاجتماعية والسياسية اليوم، خاصة وأننا مقبلون على عالم من التزييف والخداع والكذب، لا سيما في عالم التكنولوجيا والصحافة والإعلام والذكاء الاصطناعي، وهذا ما دعانا إلى التوقف عند هذه الإشكالية، وهي: إلى أي حد يمكن أن يصبح الكذب مشروعا أو فعلا أخلاقيا؟
مقدمة:
غالبا ما تتبادر إلى أذهاننا جميعا بعض الأسئلة الأخلاقية والأنطولوجية، مثل لماذا يكذب الإنسان؟ وهل الكذب فطرة في الإنسان أم بدعة منه؟ تعد هذه الأسئلة من ضمن القضايا الفلسفية التي تناولها العديد من الفلاسفة والمفكرين؛ وذلك راجع إلى الإشكاليات الأخلاقية التي تتنافى مع قضية الكذب، وبما أن الفكر الفلسفي يكمن جوهره الفعلي في البحث عن الحقيقة ونقد جل أشكال الوهم والتضليل، كان من الضروري التوقف عند نقيضها أو إن صح القول على من يخفيها ويشوهها (الكذب)، والذي يشمل عدة مجالات: (أخلاقية، واجتماعية، وسياسية).
إن الحفر في تاريخ الكذب قد يعود بنا إلى بداية الوجود الإنساني، كما يثبت تاريخ الفكر الفلسفي أن الإنسان القديم ابتدع كما هائلا من الأساطير والخرافات لتفسير حقيقة الأشياء التي من حوله، أو لأنه لم تكن له القدرة العقلية الكافية لتفسير الظواهر الطبيعية التي تهدد وجوده، الشيء الذي دفعه لبناء أفكاره على أكاذيب وأوهام ليريح عقله وجسده. وبعد مجيء الفكر الفلسفي تلاشت شيئا فشيئا هذه الأكاذيب والخرافات التي لم تصمد أمام منطق العقل وتساؤلاته؛ وذلك بدءا من أفلاطون وأرسطو مرورا بأغسطين ثم مكيافيلي، وجان جاك روسو، وكانط، ومن المعاصرين حنة أرندت، وجاك دريدا. كل هؤلاء حاولوا مناقشة إشكالية الكذب من زوايا نظر فلسفية مختلفة، والتي يمكننا أن نقسمها إلى ثلاثة اتجاهات: اتجاه يحاكم فعل الكذب انطلاقا من النية والقصد، واتجاه يقطع مع كل أنواع الكذب مهما كانت عوائدها، وهو ما تتبناه (نظرية الواجب) Deontological، وهناك من يحاكم الفعل انطلاقا من النتائج Consequentialism. وهذا ما سنحاول مناقشته في هذه الدراسة التحليلية التفكيكية لمفهوم الكذب والقضايا التي يشملها، محاولين البحث عن الأصول الفلسفية لمشروعية الكذب، وأبعاده الأخلاقية واللاأخلاقية؛ وذلك من خلال التوقف عند المفاهيم الفلسفية التي تتداخل ومفهوم الكذب، أبرزها مفهوم الحقيقة الذي لم نعد اليوم نستطيع التميز بينه وبين الآخر، نظرا لدرجة الغموض التي تشملهما. لذلك، سنحاول أن نبرز العلاقة التي تجمع بين الكذب والحقيقة، أما في الشق الثاني: سنناقش قضية الكذب كممارسة أو كفعل أخلاقي؛ وذلك من خلال الإجابة عن هذين السؤالين: متى يكون الكذب فعلا لا أخلاقيا؟ ومتى يكون فعلا أخلاقيا ومقبولا؟ أما الشق الثالث: لقد خصصناه لمناقشة الكذب كفعل سياسي مشروع؛ وذلك من خلال تقديم وجهات نظر سياسية وأخلاقية. وكل هذا سنحاول إبرازه من خلال مقارعة مجموعة من المواقف الفلسفية التي سعت إلى تقديم رؤى وأفكار حول قضية الكذب من مختلف الزوايا والمجالات. أما في العنصر الرابع والأخير، فسنحاول أن نقدم رؤية استشرافية حول ما نعيشه اليوم من تزييف وتضليل وخداع، خاصة مع بداية ثورة الذكاء الاصطناعي وتطور تقنياته، مما يشير إلى أننا مقبلون على عالم سيصعب فيه التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مزيف. وكيف سنتعامل مع إشكالية الكذب حينما يتعلق الأمر بعلاقة الإنسان بالتقنية. وهذا ما سنتوقف عنده من خلال إجابتنا عن مجموعة من الإشكالات التي سنحاول مناقشتها في هذه الدراسة: ما هو الكذب؟ وما العلاقة التي تجمع بين الكذب والحقيقة؟ وهل يمكن للكذب أن يكون فعلا أخلاقيا؟ ومن أين يستمد الكذب مشروعيته؟ وبأي معنى يكون الكذب مناف للأخلاق؟ وإلى أي حد يتنافى الكذب السياسي مع القيم الأخلاقية؟ وكيف نحاكم كذب الذكاء الاصطناعي هل هو أخلاقي أو غير أخلاقي؟
الكذب كمفهوم فلسفي:
يُعرف الكذب Lying في اللغة بوصفه نقيضا "للصدق"[1]، وقد تعددت المعاني اللغوية حول هذا المفهوم؛ إذ غالبا ما يعرف بضده، والتي يمكن أن نشملها في دلالتين: "التصريح" بما هو خاطئ، أو "إخفاء" ما هو صحيح، أما في الاصطلاح غالبا ما يعرف الكذب بالتزييف Falsification والخداع المقصود Deception Tntentional. أما في المعجم الفلسفي يعرف الكذب بأنه فعل "قبيح بذاته مقصود كان أو غير مقصود، إلاَّ أن بعض المحدثين يقولون إن الكذب لا يكون قبيحا إلاَّ إذا كان المقصود به إضلال الناس؛ أي إخفاء الحقيقة تعمدا عمن يجب أن تقال له"[2]، وفي تعريف آخر "الكذب يفترض معرفة حقيقة يعمد الإنسان إلى تزيفها إراديا"[3]، ومن هنا تنطلق إشكالية الكذب ومدى تعقيدها، نظرا لتعدد المفاهيم وأدوات إخفاء الحقيقة وتزيفها. ونفترض أن كل كذب يخفي حقيقة ما، وكل حقيقة هي تكذيب لقول أو فعل كان يعتقد أنه حقيقة، كما أن فعل الكذب قد يحدث مرات عن قصد ومرات بغير قصد. لهذا في بعض الأحيان يحدث الخلط بين الخطأ والكذب، مما يجعلنا ننتقل من الفعل إلى القصدية، فإذا كان الخطأ مقصودا وصاحب القول يعلم الحقيقة، فهنا يمكننا أن نقول عنه كذبا، بينما إذا كان الفعل أو القول خطأ دون قصد لا يكون ذلك كذبا. وفي هذا السياق، تُعرّف سيسيال بوك الكذب "بأنه تعبيرٌ زائفٌ يصدر عن الإنسان، على شكل قول، أو تصريح بالقول أو الفعل، ولكنه تعبير ينطوي على دلالة خداعية على نحو متعمد"[4]، بينما الكذَّاب حسب أرسطو "هو ذاك الإنسان الذي يميل إلى استخدام الصيغ "الزائفة" وينجح بمهارة في أن يفرض هذه الصيغ على الآخرين، وهو يفعل ذلك الفعـل الشرير بإرادته؛ أي عن قصد من جانبه بذلك، وهو ما من شأنه أن يجعله أسوأ من ذلك الذي يقوم بهذا الفعل بغير إرادة منه؛ أي دون أن يقصـد"[5]؛ وأرسطو هنا يقر بشكل ضمني أن الكذب شر والصدق خير، لهذا أي نية للكذب هي نية للشر.
بينما اتخذ رواد الوضعية المنطقية اتجاها أخرا في تحليلهم لمفهوم الكذب؛ إذ يقرُّ لودفيج فيتجنشتاين Ludwig Wittgenstein، "على أن اتفاق أو إجماع الناس هو الذي يقرر ما هو صادق وما هو كاذب، وإن الصادق والكاذب هو ما يقوله الناس وهم يتفقون أو يجتمعون عليه في اللغة التي يستخدمونها"[6]، ومن هذا المنظور لا يكون قول الكذب هو كذب في ذاته، بل الكذب والصدق يبقيا مرتبطان بإجماع الناس عليهما وكيف يعبرون عنهما في لغتهم، وكما هو معلوم أن اللغة يمكن التلاعب بها، مما يزيد من صعوبة تميز القول أو الفعل الصادق عن الكاذب، فيظل الكذب دائما مرتبط بقصد ونية الشخص.
لهذا ما يميز الكذب عن غيره من المفاهيم هو ارتباطه الوثيق بمجموعة من المفاهيم التي تقوم بنفس الدور الذي يقوم به؛ أي إخفاء الحقيقة وتشويهها وطمسها، مثل (الوهم، والتضليل، والتزييف، والخداع)، وهذا ما دعانا لطرح إشكالية العلاقة بين الكذب والحقيقة.
العلاقة بين الكذب والحقيقة:
إن البحث في إشكالية الحقيقة وصعوبة الوصول إليها، قاد الفلاسفة للبحث والتساؤل عن نقيضها؛ إذ كلما تعددت الأقوال واختلفت التأويلات، أصبحت الحقيقة نسبية وشبه مستحيلة، ما يجعلنا غير قادرين على الإقرار بوجود حقيقة مطلقة أو يقينية. لهذا، فالبحث عن الحقيقة يتطلب التعرُّف عما يناقضها (الخطأ، الوهم، الشك)، وهي ليست نقائض للحقيقة وحسب، بل شرائط ومقدمات وأرضية لها، وكأن الحقيقة لا تنبثق إلاَّ على أرضية من الخطـأ والتشكيك والتكذيب[7]، أو كما يقول إدغار موران، إن فكرة الحقيقة هي المنبع الأكبر للخطأ، والخطأ الأساسي يكمن في التملك الوحيد الجانب للحقيقة[8]، أي أن الحقيقة تكمن في الخطأ ذاته، أو بمعنى أخر كل الأخطاء والأوهام التي نعيشها هي حقائق ما دامت لم تظهر أخطاء تحل محلها، وبهذا سيكون الخطأ والوهم أساسا ومقوما من مقومات الحياة، وأننا لن نستطيع العيش دون أوهامنا اليقينية، وهذا ما أقره نيتشه، معتبرا أن الأحكام الخاطئة ومن بينها الأحكام التأليفية القبلية، هي الأكثر لزوما لنا، زاعما أنه من دون التسليم بالأوهام المنطقية، ومن دون قياس الواقع بعالم اللامشروط المساوي لذاته والمختلق تماما، ومن دون تزييف مستمر للعالم بواسطة العدد، قد لا يمكن للإنسان أن يعيش، حيث يكون الاستغناء عن الأحكام الخاطئة هو استغناء عن الحياة ونفيا لها[9]. ولكن إذا كانت الحقائق هي مجرد أوهام وأخطاء، ألا يمكننا اعتبار الحقائق التي ندعي معرفتها هي مجرد أكاذيبنا الصادقة؟ وأننا حقا لا نستطيع العيش دون الكذب سواء على أنفسنا أو على الآخرين؟
إذا أردنا الإجابة عن هذه الإشكالات، سنجد أنفسنا نبتعد شيئا فشيئا عن موضعنا الأساس(الكذب)، بل سنغوص في أغوار إشكالية الحقيقة وصورها المتعددة، لهذا سنحاول الإجابة عن هذه الإشكالات بشكل ضمني من خلال تفكيكنا لمفهوم الكذب، لهذا سننطلق من موقف القديس أغسطين الذي فصَّل في هذا الأمر، خاصة في العلاقة التي تفصل بين الكذب والخطأ، وكيف نميز القول الكذب عن القول الحق؟ وهذا ما يتبين من قوله: "إنه بإمكاننا أن نقول قولا خاطئا دون أن نُعتبر كاذبين؛ وذلك إذ كنا نعتقد، عن حسن نية، بأن ما نقول صحيح وألاَّ يكون قصدنا هو خداع الآخرين، كما أنه بإمكاننا أن نقول قولا صحيحا، وأن نعتبر رغم ذلك كاذبين، إذا كان القصد من قولنا هو خداع الآخرين"[10]، وهنا يتبين لنا كيف أن أغسطين يجعل الكذب مرادفا للخداع الناتج عن القصد والنية، حتى وإن كان ناتجا عن حقيقة؛ أي إن كل فعل أو قول يسعى صاحبه إلى خداع الآخرين يعدّ كذبا، مما يجعلنا نفهم أن الحقيقة ليست دائما نقيضة للكذب، بل في بعض الأحيان يكون الكذب ناتج عنها إذا كان القصد هو خداع الآخرين، وهذا ما يزيد من تعقيد مسألة تحديد مفهوم الكذب، لهذا يقول مونتاني: "لو كان للكذب، كما هو الشأن بالنسبة إلى الحقيقة وجه واحد، لكانت العلاقات بيننا أحسن مما هي عليه، فيكفي أن نحمل على محمل صدق نقيض ما ينطق به الكاذب منا، إلا أن نقيض الحقيقة له مائة ألف وجه ولا يمكن الإلمام كليا بالحقل الذي يشغله"[11]، والمغزى من قوله هو أن صعوبة إدراك الكذب تتجلى في تعدد أوجهه، بينما الحقيقة تظل واحدة وثابتة، لهذا يصعب تحديده أو الحكم على القول هل هو قول كاذب أم صادق. ولا يمكننا التمييز بين هذين المفهومين إلاَّ إذا استطعنا معرفة العلاقة التي تجمع بين الكذب والحقيقة.
إن العلاقة التي تجمع بين الكذب والحقيقة ليست دائما علاقة تضاد وتناقض، بل في بعض الأحيان يحصل بينهما نوعا من التناغم، ويحدث هذا حينما يقول أحد قولا كذبا وتكون غايته خداع الآخرين، وفجأة يصبح ما أدلى به حقيقة، مثل الطالب الذي يخبر أصدقاءه بأن المعلم لن يأتي إلى المدرسة، وذلك بغاية عدم رغبته في الدراسة أو كي لا يغيب وحده عن الدرس، فيضطر للكذب على زملائه، ولكنه في اليوم التالي يتفاجأ أن المعلم كان مريضا ولم يأت إلى المدرسة؛ ففي هذه الحالة يكون فعله حسب منطق أغسطين وكانط كاذبا؛ لأن المبدأ الأخلاقي عندهما يخاطب الغاية وليس الفعل في حد ذاته؛ بمعنى أن الكذب يبقى كذبا، لأن الغاية منه كانت خداع الآخرين، حتى وإن كان سيعود بالنفع على الجميع، هذا حسب موقف كانط بالأساس. وبهذا يكون الشخص الذي يعطي نقودا مزيفة لشخص ليس مدينا له بشيء، فإنه يخدع ذلك الشخص ما في ذلك من شك، ولكنه لم يسرقه؛ أي بمعنى آخر أن الشخص الذي أعطى النقود المزيفة كان باستطاعته الامتناع عن ذلك؛ لأنه لم يفعل هذا بغاية منفعة، ولكن هذا الفعل حسب الواجب الكانطي "يعدّ كذبا: لأنه ناتج عن خداع الآخرين، حتى في حالة عدم ارتكابنا أي عملية اختلاس، فبالنسبة إليه الالتزام بالصدق يجب أن يكون حاضرا في كل معاملاتنا مع الآخرين"[12]؛ لأن كانط دائما ما يحاكم أفعاله وفقا للقاعدة الأخلاقية العامة، التي تقول: "اعمل وفق تلك القاعدة التي تريدها في الوقت نفسه أن تكون قانونا عاما"[13]. ولهذا، فكل ما هو مخالف للصدق هو كذب، كيف ما كان نوعه ومهما كانت الظروف؛ لأنه لا يصلح أن يكون قانونا كونيا.
نلاحظ أن الموقف الكانطي لم يتسامح مع أي نوع من أنواع الكذب، حتى وإن لم يترتب عنه أي ضرر، لهذا يعد موقفه موقفا مثاليا، خاصة أنه يعتبر أن كل فعل ينبني على نية الخداع أو التمويه هو فعل منافي للأخلاق، حتى وإن كان هذا الفعل سيعود بالخير على الجميع. علما أن الكذب في بعض الحالات يكون فعلا أخلاقيا أكثر من قول الحقيقة. كيف ذلك؟
متى يكون الكذب واجبا؟
من الصعب أن نقول الحقيقة دائما، بل في بعض الأحيان يكون من الواجب أن نكذب، حينما يكون قول الحقيقة سيؤدي أحد الطرفين، وهذا ما سنراه عند جان جاك روسو الذي جمع بين الكذب والحق؛ إذ يقول في كتابه أحلام يقظة: "قرأت في أحد كتب الفلسفة، أن الكذب هو إخفاء حقيقة يجب إظهارها، ويترتب عن هذا التعريف أن السكوت عن قول الحق الذي لا يكون المرء مضطرا للجهر به لا يعد كاذبا"[14]؛ أي إن الكذب ليس مرتبطا بقول الحقيقة أو إخفائها، بل يرتبط بمن له الحق في معرفتها؛ لأنه في بعض الأحيان يضطر المرء للسكوت عن قول الحق؛ لأن الطرف السائل ليس من حقه أن يعرف، وفي هذه الحالة ننتقل من ارتباط الكذب بالقصد إلى ارتباطه بالحق. وقد ميز روسو بين أنواع الكذب المتعددة، معتبرا أن الكذب الذي يستهدف النفع الشخصي خداع، وأن الكذب لنفع الغير غش، وأما الكذب من أجل الإيذاء، فهو إفك: وهو أسوأ أنواع الكذب، والكذب الذي لا ينطوي على مصلحة أو إلحاق الضرر بالنفس أو بالآخرين لا يعد كذبا، بل هو توهم[15]، شمل هذا التصنيف معظم أنواع الكذب المتداولة بين الناس، ويستوقفنا في هذا التصنيف ذاك النوع الأخير من أنواع الكذب الذي لا يُعدّ كذبا، بل مجرد توهم، والوهم هنا يقصد به تلك القصص والعبر والحكايات ذات المواضيع الأخلاقية، التي نظل نتداولها فيما بيننا دون أي غاية أو منفعة، بل بغاية الترفيه والاستمتاع، ولهذا فروسو لا يراها كذبا، حيث طرح إشكالا مهما ألا وهو "أيجب السكوت أم الجهر بالنسبة للحقيقة التي إذ تفيد أمرا تؤدي أخرا؟"[16].
فالسؤال الذي خلص إليه روسو ينقلنا مباشرة إلى الجدل الذي دار بين إيمانويل كانط وبنجامين كونستانت حول مسألة الحقيقة والكذب؛ فبالنسبة إلى كانط يعد موقفه حول الكذب واضحا وجازما، فهو ينص على قول الحقيقة كواجب أخلاقي يجب توظيفه في كل الأقوال والأفعال؛ لأن "الكذب في نظره يفسد القدرات الأخلاقية للإنسان، ويعيق الآخر في السلوك بعقل وباستقلالية"[17]. أما كونستانت، فيعد موقفه قريبا من طرح روسو؛ إذ يتنافى مع موقف كانط بأن قول الحقيقة واجب؛ وذلك من خلال تفكيكه لمفهوم الواجب نفسه وعلاقته بالحق؛ إذ يقول: "إن مفهوم الواجب ملتصق بمفهوم الحق/القانون، فالواجب هو ما يطابق عند موجود ما حق الآخر، وحيثما لا وجود للحقوق، فلا وجود للواجبات، فقول الحقيقة هو واجب إذن، لكن فقط تجاه أولئك الذين لهم الحق في معرفتها، وليس لأي إنسان الحق في معرفة حقيقة تؤدي الآخر"[18]، فمن خلال هذا الموقف الأخير يتضح كيف أن كونستانت حاول أن يأتي بحل وسط بخصوص قول الحقيقة، لكي تكون قابلة للتطبيق؛ لأنه رأى أن موقف كانط بخصوص قول الحقيقة أمر مجرد ومطلق، من الصعب تحقيقه على أرض الواقع، وكذلك لما يشوبه من التناقض والتعقيد؛ لأنه ليس في جميع الأحول يتوجب علينا قول الحقيقة لكل من سألنا، بل يجب قولها لمن له الحق في معرفتها، مثلا: إذا أتى رجل وسألك أين يضع والدك المال، وأنت تعرف جيدا المكان الذي يخبئ فيه والدك أمواله، في هذه الحالة إذا قلت الحقيقة قد يؤدي هذا الإدلاء إلى سرقة المال من أبيك، وإذا أخفيت عنه وأنكرت، ستكون قد كذبت، حسب منطق كانط، ولكنك لن تكذب حسب كل من كونستانت وروسو.
وبهذا ومن خلال ما سبق، يمكننا القول إن قول الحقيقة يكون أكثر قبولا وموضوعية إذا ربطناه بمسألة الحق؛ بمعنى الحقيقة لمن يمتلك الحق في معرفتها، وبهذا يصبح الكذب مباحا أو واجبا على من ليس لهم الحق في معرفة الحقيقة، وهذا ما يضعنا أمام سؤال أخر وهو السؤال المهم والمركزي في هذه الدراسة: متى يمكن أن يصبح الكذب مشروعا؟
مشروعية الكذب، الكذب كفعل سياسي:
أثبت معظم الفلاسفة والمفكرين، أنه من الصعب الجمع بين الأخلاق والسياسة؛ وذلك راجع لطبيعة الفعل السياسي والغاية من وجوده، فالعمل السياسي لا يتوافق دائما مع الفعل الأخلاقي؛ لأن هذا الأخير يحاكم الغاية قبل محاكمة الفعل، بينما العمل السياسي يحاكم الفعل إذا ما كانت هناك غاية تبرره.
لهذا، نجد كانط ينفي فرضية مشروعية الكذب؛ لأنه يرى "أن كل من يحاول التسامح مع الأطروحة القائلة بالحق في الكذب، يساهم مباشرة في إنتاج مجتمع مستحيل ومتفسخ، لأن الحق في الكذب مناقض تماما لمبدأ الحق ذاته"[19]، وبهذا نفهم أن كلمة الحق منافية للظلم، وبما أن الكذب ظلم وخداع، لا يجب أن يكون هنالك حق يضمنه أو يشرعه. كي لا يصبح الكذب فعلا مألوفا بين الناس، مما سيفقد الحقيقة قيمتها، خاصة وأن الكذب لا يملك وجها واحدا.
فأصحاب نظرية الواجب الأخلاقي لم يتركوا للكذب منفذا ولم يسمحوا بأي تشريع له أو حقا يضمنه؛ لأن الكذب بالنسبة إليهم لا يصلح أن يكون قانونا كونيا أو فعلا أخلاقيا عاما، بل دائما ما توجد غاية لا أخلاقية تبرره، بينما ألقت قضية الكذب اهتماما كبيرا من طرف زعماء النظرية السياسية، الذين حاولوا تشريع فعل الكذب وجعله من ضمن أدوات الفعل السياسي المشروعة، وعلى رأسهم نجد مكيا فيلي الذي شرع فعل الكذب للأمراء والحكام بغية الحفاظ على سلطتهم ومصالحهم الخاصة، كما ورد في قوله: "على المرء (الحاكم) أن يكون ثعلبا ليتجنب الفخاخ وأسدا ليخيف الذئاب...، فعلى الأمير إذا ألاَّ يحفظ عهدا يكون الوفاء به ضد مصلحته، وآلاَّ يستمر في الوفاء بوعد انتهت أسباب الارتباط به"[20]؛ ويقصد هنا بعدم الوفاء، أي المكر الذي يجب أن يتحلى به كل من يسعى للحفاظ على مكانته السياسية، وكذلك للحفاظ على استقرار نظام حكمه؛ لأنه استنتج من خلال أنظمة الحكم السابقة كيف "أن الأمراء الذين حققوا أعمالا عظيمة، هم من يصن العهد إلاَّ قليلا، وهم من استطاع أن يؤثر على العقل بما له من مكر، كما استطاعوا التغلب على من جعلوا الأمانة هاديا لهم"[21]، ومن خلال موقف مكيا فيلي يتضح أن الكذب والخداع وسيلتان مشروعتان بالنسبة إلى الحكام، وهو ما يتلخص في قولته الشهيرة "الغاية تبرر الوسيلة"؛ أي إن غاية توفير الاستقرار في الدولة وجعلها دولة قوية والحفاظ على السلطة، تبرر جميع الطرق المشروعة وغير المشروعة التي قد يسلكها الحاكم. ولهذا، فالكذب حسب مكيا فيلي يكون مشروعا حينما تكون هناك غاية تبرره، لكن حنة أرندت لا تتفق البته مع هذا الطرح؛ إذ تقرُّ بأن اللجوء للكذب في الممارسة السياسية هو مس فضيح بكرامة المواطن وهدم بيّن للعقد الاجتماعي بين الناس[22]؛ أي إن الكذب كيف ما كان نوعه فهو لن يكون مشروعا؛ لأنه مخالف بطبيعته للكرامة الإنسانية، ويقوم على تهديم المجتمع، وأن الأشخاص الذين يريدون تشريع الكذب، هم بطبيعتهم تجدهم أناسا لا يتحلون بالأخلاق، بل هم أناس يقدسون مصالحهم الخاصة وغير قادرين على التصرف وفق المبادئ الأخلاقية العامة، لهذا تجدهم دائما ما يلجؤون للمكر والخديعة لتبرير أفعالهم، أو كما يفعل الكثير من الرؤساء والحكام في مجتمعاتنا العربية اليوم حينما يبررون استبدادهم وفشلهم السياسي بوضع بعض المقارنات بين ما تعيشه الشعوب الأخرى من حروب ونزاعات، معتبرين أن حفظ دولهم ومجتمعاتهم من هذه النزعات هو كل ما يحتاجه أفراد المجتمع. ولكن ما يجب التوقف عنده هو أن مكيافيلي في كتابه الأمير، والذي هو عبارة عن مجموعة من الرسائل والنصائح التي كتبها لكل من يريد أن يكون ناجحا في الحفاظ على سلطته وعلى استقرار بلده -وهذا يكون أكثر مشروعية إذا ربطناه بالعلاقات الخارجية للدولة- ففي هذه الحالة يمكن أن يباح للحاكم حق المكر والخداع، بينما موقف أرندت يرتبط أكثر بالعلاقة التي تجمع بين الجماعة السياسية وأفراد الشعب؛ أي العلاقة الداخلية للدولة، لهذا فهي تقرُّ بأنه يجب أن تقوم هذه العلاقة على الصدق؛ لأن الكذب يتنافى مع طبيعة العقد الاجتماعي والقوانين المتفق عليها.
فالحالة الأولى التي يمثلها موقف مكيافيلي يمكن أن نجد لها تبريرا، إذا ربطناها بقضايا سياسية مثل الحرب مع العدو، أو المستعمر والمحتال، في هذه الحالات يكون الكذب مشروعا؛ لأن الحرب خدعة، والمستعمر هو عدو غاصب يستعمر بلدا ما بالقوة لا بالحق، لهذا في المجتمعات التي خضعت للاستعمار الغربي، والتي لازالت تعاني منه، كان من يقول الحق ويوصّل الأخبار ويكشف عن خطط شعبه للمستعمر يعتبر خائنا ومنبوذا؛ لأن الكذب في تلك الحالة يعدّ حقا وواجبا وطنيا تجاه العدو، والخدعة سلاح. وحتى العنف يكون مشروعا في تلك الحالة، ولكن إذا قامت السلطة السياسية بالكذب على الجيش أو الشعب وتعريضه للخطر مقابل الحفاظ على سلطتها، هذا ما يتنافى مع مبدأ الحق ويعد خيانة للعقد الاجتماعي. لهذا في المجال السياسي، غالبا ما يحدث نوع من التعارض بين الغاية السياسية والمعايير الأخلاقية؛ لأن هذه الأخيرة كما سبق وأشرنا تحاكم الغاية وتنظر إلى الفعل من منظور بَعدي، لهذا نجد كانظ في مشروعه عن السلام الدائم يقرُّ في المادة السادسة بأنه "لا يحق لأي دولة في حرب مع أخرى أن تستبيح لنفسها مع تلك الدولة القيام بأعمال عدائية، مثل الاغتيال، أو التسميم، أو خرق شروط التسليم، والتحريض على الخيانة؛ لأن هذه الأعمال قد تؤدي إلى فقدان الثقة بين الدولتين أثناء عودة السلم[23]، ولهذا نجد المواثيق الدولية ومنظمة حقوق الإنسان قد سنَّت مجموعة من البنود تنص على أخلاقية الحرب، ولكن هذا يبقى على الأوراق فقط، حينما تندلع حرب فعلية تصبح أخلاقية الحرب مجرد حبر على ورق، كما يحدث اليوم في الحرب على غزة، كل من مكر وخداع وتضليل وكذب إعلامي، وخرق لكل قوانين الحرب، بل ما نشهده هو عبارة عن شرُّ مطلق لا نكاد نعرف غايته من هذا الدمار والخراب الذي يحدثه الكيان الصهيوني في المنطقة.
إننا لم نعد نستطيع التفرقة بين من يكذب ومن يقول الحقيقة، رغم كل ما نشهده اليوم لا زلنا لم ندرك حقيقة ما يقع من حولنا، أصبحنا نُكذّب كل شيء ونصدق كل شيء، نظرا للكم الهائل من الوعود والأخبار والصور والخذلان... التي نسمعها ونراها بأعيننا.
لهذا تعد إشكالية الحقيقة والكذب خاصة في مجال السياسة من ضمن الاستراتيجيات السياسية التي أصبحت متداولة بين رجال السياسة في السياق الحديث والمعاصر؛ إذ نجد الكثير من القادة السياسيين اتخذوا من أسلوب قول الحقيقة والادلاء بمخططاتهم منهجا لهم لخداع وتضليل الشعوب والأعداء، كما كان يفعل "هتلر"، والذي أفصح عن كل مخططاته في كتابه كفاحي، وفي عصرنا الحالي نجد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يستخدم قول الحقيقة كأسلوب في التضليل والخداع، حيث إنه في الوقت الذي يدلي بمخططاته علنا، فهو من جهة يكسب مصداقية شعبه، ومن جهة أخرى يخدع أعداءه؛ لأن الدول اليوم تعمل على تقوية أجهزتها المخابراتية لمعرفة ما يخطط له عدوها، وحينما يكشف لها ذاك العدو عن مخططاته، فهي كعدو له تغير خطتها وتظن أن ما أدلى به لن يفعله؛ لأن الأمر أصبح مكشوفا لدى الجميع، وهذا يعتبر أخطر أنواع الكذب؛ أي الذي تتضمنه الحقيقة نفسها.
الذكاء الاصطناعي: مرحلة جديدة في تاريخ الكذب
إننا اليوم مقبلون على عالم من التزييف والخداع الممنهج والمبرمج؛ وذلك ما بدأنا نشهده مع ثورة الذكاء الاصطناعي، حيث أصبحنا من الصعب التمييز بين ما هو صحيح وما هو مزيف أو كاذب، ويشمل هذا جل المجالات، المعرفية منها، أو السياسية والاقتصادية، خاصة ما يتعلق بالتقنية والتطور التكنولوجي ومدى قدرته على تزييف الحقيقة. ولازالت منظومة الذكاء الاصطناعي تطور من نفسها كي تصبح قادرة على صناعة الأفكار والصور والأصوات المطابقة للأشكال الحقيقية بدقة لا نكاد نميز بينها وبين الأصل الموازي لها. وهذا ما سيخلق عدة مشاكل سيصعب علينا حلها. إن تزييف الحقائق قد يخلق لنا عالما موازيا لما نعيشه، حيث إن العديد من الأشخاص اليوم يعتمدون على المعلومات التي يقدمها لهم الذكاء الاصطناعي، ويعتمدونها في أبحاثهم ويتداولنها فيما بيهم على أنها حقيقية، وكما شهدنا خلال الآونة الأخيرة فيديوهات مطابقة على المستوى الصوت والصورة لرجال سياسة ورؤساء الدول، مما خلق ضجة إعلامية كبيرة، فجأة أثبتت منظمات الكشف أن تلك الفيديوهات مفبركة بواسطة الذكاء الاصطناعي، وهذا ما يطرح عدة إشكالات محورية: كيف يمكننا اليوم التمييز بين ما هو حقيقة وما هو كاذب؟
هناك من يتنبأ بأن تورة الذكاء الاصطناعي ستكون نهاية للحقيقة، مما سيترتب عنها عدة مشاكل اجتماعية وسياسية وأخلاقية. إذن فالكذب اليوم سيصبح حقيقة والعكس صحيح؛ وذلك ناتج عن التطور الذي بدأ يعرفه الذكاء الاصطناعي، وفي هذا السياق يقول الدكتور بيتر بارك، وهو باحث السلامة الوجودية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أنه "مع تزايد تقدم القدرات الخادعة لأنظمة الذكاء الاصطناعي، ستصبح المخاطر التي تشكلها على المجتمع خطيرة بشكل متزايد"[24]؛ لأن المعرفة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي ليست بالضرورة معرفة حقيقية، تاليها أن منظمة الذكاء الاصطناعي تبتكر وتتطور وتبدع في أشكال التزييف بشكل سريع جدا، فاق وثيرة المنظمات التي تعمل على الكشف عن أشكال الكذب والتزييف في ما ينتجه الذكاء الاصطناعي، وهذا ما يزيد من خطورة الذكاء الاصطناعي؛ لأن عملية التأكد من صحة الخبر أو المعلومات تحتاج إلى وقت وإلى أجهزة متطورة، لازالت بعيدة عن التطور الذي بلغه الذكاء الاصطناعي، ولكن السؤال الذي يجُّب في خاطرنا هو لماذا يكذب الذكاء الاصطناعي؟
مما لا شك فيه، أن الذكاء الاصطناعي تابع إلى شركات ومنظمات عالمية لها غايات وأهداف وأيديولوجيات تحتكم إليها، لهذا فهو لا يجيب عن كل الأسئلة التي نطرحها عليه من تلقاء ذاته، بل هناك خوارزميات تتحكم فيه وتحدد طريقة عمله وإجاباته، ففي بعض الأحيان حينما نسأله عن بعض القضايا الحساسة أو الشائكة يدعي الحياد، وعدم توفر المعلومات الكافية عن الموضوع أو يجيب بطريقة سطحية، حتى إنني سألته هل الذكاء الاصطناعي يكذب؟ فكان جوابه "الذكاء الاصطناعي لا يكذب بالمعنى التقليدي؛ لأنه ليس لديه نية أو وعي، فهو يعتمد على البرمجة والبيانات التي تم تدريبه عليها لإنتاج استجابات أو النتائج. لكن في بعض الحالات، قد يعطي الذكاء الاصطناعي معلومات غير دقيقة أو مضللة بسبب نقص في البيانات، وأخطاء في البرمجة، أو تعقيدات في فهم الأسئلة. لذا، من الأفضل التعامل مع نتائج الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة يمكن أن تحتاج إلى التحقق، خصوصًا في المواضيع الحساسة أو المعقدة" لهذا فمسألة الكذب في منظومة الذكاء الاصطناعي واردة جدا، رغم أن السمات المرغوبة لنظام الذكاء الاصطناعي تتحدد في ثلاثة عناصر أساسية (الصدق، والمساعدة، وعدم الضرر)، ولكن لوحظ بالفعل في الأدبيات، بأنه يمكن أن تتعارض هذه الصفات مع بعضها البعض: "الصدق قد يسبب ضررا لمشاعر شخص ما، أو أن يكون مفيدا في الرد على سؤال حول كيفية صنع قنبلة يمكن أن يسبب ضررا، لذلك، يمكن أن يكون الخداع أحيانًا ملكية مرغوبة لنظام الذكاء الاصطناعي. يدعوا المؤلفون إلى مزيد من البحث حول كيفية التحكم في الصدق، والذي على الرغم من صعوبته سيكون خطوة نحو الحد من أثارها الضارة المحتملة"[25]، وهنا نجد أنفسنا أمام إشكالية أخرى وهي مشروعية الكذب في الذكاء الاصطناعي، وكيف يمكن التحكم في قول الحقيقة أو الامتناع عنها أو قول ما يخالفها؟
من الطبيعي أن يكون الكذب في بعض الأحيان واجبا كما أثنينا سابقا، ولكن في هذه الحالة الأمر مختلف عنما طرحناه سابقا؛ لأننا حينما نسأل شخصا عاقلا أو يسألنا ليس مثل ما نسأل جهازا مبرمجا، لهذا سيكون الإشكال المطروح هو كيف يميز الذكاء الاصطناعي بين من له الحق في معرفة الحقيقة ومن ليس له الحق في معرفتها؟ وهذا ما يتطلب الكثير من الجهد وقد تحدث الكثير من المشاكل مثل: التميز بين البشر حسب المناطق الجغرافية التي يسألون منها أو حسب الهوية أو اللغة أو الجنس....
لقد أصبح الكذب والتزييف من أهم سمات الذكاء الاصطناعي، مما بدأ يخلق مشاكل كبير داخل الفضاء الاجتماعي والسياسي، إضافة إلى ذلك أن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم تلعب دورا كبيرا في نشر الأخبار الزائفة بشكل واسع النطاق، يصعب التحكم فيها أو تكذيبها، وفي هذا الصدد تقول فرانشسكا تريبودي، وهي خبيرة في الدعاية الإلكترونية "إن مثل هذه الصور المصنوعة بالذكاء الاصطناعي هي وسائل حديثة تحقق انتشارا وتحمل سردا قديما معاديا للهجرة. وتابعت قائلة إن هذه الصور الساخرة بعيدة كل البعد عن الفكاهة، فعندما يكون هناك مسئولون منتخبون يستخدمون هذه الصور كوسيلة لإطالة أمد العنصرية وكراهية الأجانب، فإن هذه المشكلة ضخمة"[26]، وهذا ما يظهر لنا أن التلاعب ببعض الصور والفيديوهات حتى وإن كانت كرتونية فهي تترك أثارا اجتماعيا عظيما، وفي الغالب ما تتحول هذه الظاهرة إلى قضايا سياسية وأخلاقية.
كما أن إشكالية التزييف والكذب بواسطة الذكاء الاصطناعي أصبحت بإمكانها أن تؤثر على الكثير من أفراد المجتمع، وقد تأثر حتى على الانتخابات وتحقيق الديمقراطية، مثل استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي في الترويج للحملة الانتخابية ونشر بعض الفيديوهات المفبركة عن الخصم وتشويه سمعته مما يؤثر بشكل مباشر على قرارات الأفراد. وهذا ما يجعلنا ندق ناقوس الخطر، ونجهز أنفسنا للمرحلة القادمة، التي سيكون فيها من الصعب تكذيب أو تصديق قول أو فعل ما، كما أنه سيصبح كل من أخطأ أو ارتكب جريمة حقيقية سينسبها للذكاء الاصطناعي كي يبرأ نفسه. لهذا سيكون التحدي في المستقبل قائما على مدى قدرتنا على الكشف والتمييز السريع بين ما هو حقيقي وما هو زائف.
خاتمة
ما يسعنا قوله هو أن إشكالية الكذب التي كنا نظن أنها في غاية البساطة، خلصنا إلى أنها أكثر تعقيدا وتفرعا من إشكالية الحقيقة نفسها؛ إذ اتضح لنا أن مفهوم الكذب من الصعب تحديده بشكل دقيق؛ لأنه تارة يرتبط بالنية والقصد الذي يترتب عن الفعل أو القول، وأحيانا يرتبط بالحق، وتارة أخرى يرتبط بالواجب أو المنفعة، مما يجعلنا نعيد النظر في القول إن الكذب هو نقيض للحقيقة؛ لأنه في بعض الأحيان يكون ناتجا عن الحقيقة ذاتها. ولهذا يصعب علينا تحديد الكذب من الناحية الأخلاقية؛ لأن الكذب في بعض الأحيان يكون فعلا ذا طابع أخلاقي، ليس بالمعنى الكوني، بل بالمعنى الخاص للكلمة.
لكن هذا النوع من الكذب الذي لا يكون ناتجا عن غاية منفعية؛ أي عندما لا نريد قول الحقيقة فنضطر لقول ما يخالفها دون إلحاق الضرر بالآخرين، فإذا افترضنا أن هذا الفعل أصبح قاعدة مألوفة عند الجميع، فمن الضروري أن تفقد الحقيقة قيمتها، وسيعم الكذب في مكانها، حتى إنه سيصبح من الصعب علينا بلوغ الحقيقة أو تمييزها عن الكذب، وهو ما أصبحنا عليه اليوم، داع الكذب وتفشى بيننا، وغابت الحقيقة وتم تدنيسها وتشويهها، حتى باتت منبوذة ومرفوضة من طرف الجميع، أصبحنا نعيش في عالم مزيف بالكامل، ولم يعد الكذب فعلا محصورا بين الأنا والآخر، بل أصبحت الأنا تكذب حتى على ذاتها، وترفض حقيقتها، لأنها ستدخلها لا محال في صراعات بينذاتية لا مخرج منها، لهذا تفضّل الكذب على ذاتها؛ وذلك كي تنجو من تناقضاتها التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من هويتها.
كما يجب أن نعلم أننا مقبلون على مرحلة جديدة، خاصة مع ثورة الذكاء الاصطناعي الذي سيزيد من تعقيد أحبال الحقيقة، كما سيصبح الكذب والحقيقة عبارة عن شيء واحد؛ لأن تقنية الذكاء الاصطناعي تحاول أن تنتج حقائقا مزيفة مطابقة للحقيقة الجوهرية. لهذا يجب أن نكون واعين بأننا اليوم داخلون على مرحلة أو في عالم مواز لعالمنا؛ أي عالم من الوهم والكذب اللامحدود. وهذا ما يضعنا أمام طرح مجموعة من الأسئلة: لماذا يفضل الإنسان أن يكذب على نفسه بدلا من مواجهة حقيقته؟ وما هي المعايير الأخلاقية التي نستطيع من خلالها التمييز بين الكذب والحقيقة؟ وهل يمكننا أن نتحدث عن شيء اسمه الكذب الأخلاقي؟
لائحة المراجع والمصادر:
- مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الرابعة 2004
- صليبا، جميل، المعجم الفلسفي الجزء الثاني، الناشر: دار الكتاب اللبناني. 1982
- وهبة، مراد، المعجم الفلسفي، الناشر: القاهرة، دار قباء الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع 2007
- أرسطو، الميتافيزيقا، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، ضمن كتابه، مدخل إلى الميتافيزيقا، الناشر: القاهرة، نهضة مصر للطباعة والنشر، 2005
- فتجنشتين، لودفيج، بحوث فلسفية، ترجمة وتعليق: عزمي إسلام، مراجعة وتقديم عبد الغفار مكاوي، الناشر: الكويت، مطبوعات جامعة الكويت، 1990
- سبيلا، محمد. بن عبد العالي، عبد السلام، دفاتر فلسفية نصوص مختارة: الحقيقة، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية 2005
- نيتشه، فريدرش، ما وراء الخير والشر، ترجمة، جيزيلا فالور حجَّار، الناشر: بيروت، دار الفارابي، الطبعة الأولى 2003
- دريدا، جاك، تاريخ الكذب، ترجمة وتقديم وشيد بازي، الناشر: المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2016
- روسو، جان جاك، أحلام يقظة جوال منفرد، ترجمة وتعليق ثريا توقيف، الناشر: المركز القومي للترجمة، الطبعة 2009
- كانط، إيمانويل، أسس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، الناشر: مؤسسة المهداوي، الطبعة 2020
- مكيا فيلي، نيقولا، كتاب الأمير، ترجمة الدكتورة إكرام مؤمن، الناشر: مكتبة ابن سينا للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة 2004
- كانط، إيمانويل، مشروع للسلام الدائم، ترجمة عثمان أمين، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى 1952
- ترجمة حميد لشهب، حول ادعاء الحق في الكذب لأسباب إنسانية، مجلة الحكمة الإلكترونية، تاريخ النشر13/01/2017. شوهد 2024/09/22
- عبد الحميد، ريم، كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في انتخابات أمريكا؟ المدونة الالكترونية (اليوم السابع)، الثلاثاء 24 سبتمبر 2024، شوهد 31 أكتوبر 2024، 2.20
https://www.youm7.com/story/2024/9/24/
- Bok, Sissela: Lying: Moral Choice in Public and Private Life, New York: Random House, 1978
- Hannah Devlin. Is AI lying to me? Scientists warn of growing capacity for deception. FRI 10 May 2024 16.00
https://www.theguardian.com/technology/article/2024/may/10/is-ai-lying-to-me-scientists-warn-of-growing-capacity-for-deception
[1] مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الرابعة 2004. ص780
[2] صليبا، جميل، المعجم الفلسفي الجزء الثاني، دار الكتاب اللبناني. 1982. ص226
[3] وهبة، مراد، المعجم الفلسفي، الناشر دار قباء الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة 2007. ص513
[4] Bok, Sissela: Lying: Moral Choice in Public and Private Life, New York: Random House, 1978.p 14 -16
[5] أرسطو، الميتافيزيقا، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، ضمن كتابه، مدخل إلى الميتافيزيقا، القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنشر، 2005. ص391
[6] فتجنشتين، لودفيج، بحوث فلسفية، ترجمة وتعليق: عزمي إسلام، مراجعة وتقديم عبد الغفار مكاوي، الكويت: مطبوعات جامعة الكويت، 1990. ص160
[7] سبيلا، محمد. بن عبد العالي، عبد السلام، دفاتر فلسفية نصوص مختارة: الحقيقة، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية 2005. ص6
[8] نفسه، ص26
[9] نيتشه، فريدرش، ما وراء الخير والشر، ترجمة، جيزيلا فالور حجَّار، بيروت: دار الفارابي، الطبعة الأولى 2003. ص25
[10] دريدا، جاك، تاريخ الكذب، ترجمة وتقديم وشيد بازي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2016. ص 6
[11] نفسه، ص ص 29- 30
[12] نفسه، ص 19
[13] كانط إيمانويل، أسس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، الناشر مؤسسة المهداوي، الطبعة 2020. ص 100
[14] روسو، جان جاك، أحلام يقظة جوال منفرد، ترجمة وتعليق ثريا توقيف، المركز القومي للترجمة، الطبعة 2009. ص129
[15] نفسه، 132
[16] نفسه، 131
[17] ترجمة حميد لشهب، حول ادعاء الحق في الكذب لأسباب إنسانية، مجلة الحكمة، تاريخ النشر13/01/2017
[18] نفسه
[19] ترجمة حميد لشهب، حول ادعاء الحق في الكذب لأسباب إنسانية، مرجع سابق. (بدون صفحة).
[20] مكيا فيلي نيقولا، كتاب الأمير، ترجمة الدكتورة إكرام مؤمن، الناشر: مكتبة ابن سينا للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة 2004. ص ص89- 90
[21] نفسه، ص 89
[22] ترجمة حميد لشهب، حول ادعاء الحق في الكذب لأسباب إنسانية، مجلة الحكمة، مرجع سابق.(بدون ص)
[23] كانط إيمانويل، مشروع للسلام الدائم، ترجمة عثمان أمين، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى 1952. ص 32
[24] Hannah Devlin. Is AI lying to me? Scientists warn of growing capacity for deception. FRI 10 May 2024 16.00
[25] Ibid
[26] ريم عبد الحميد، كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في انتخابات أمريكا؟ المدونة الالكترونية (اليوم السابع)، الثلاثاء 24 سبتمبر 2024، شوهد 31 أكتوبر 2024، 2.20
https://www.youm7.com/story/2024/9/24/