مشكلة الزمان التاريخي في الكتابة التاريخية الإسلامية بين الاتصال والانفصال

فئة :  قراءات في كتب

مشكلة الزمان التاريخي في الكتابة التاريخية الإسلامية بين الاتصال والانفصال

مشكلة الزمان التاريخي في الكتابة التاريخية الإسلامية

بين الاتصال والانفصال

نظام الزمان العربي: دراسة في التاريخيات العربية الإسلامية، كتاب صدر سنة 2006 عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، يقع في 210 صفحات من الحجم المتوسط، ويضم بين دفتيه سبعة فصول.

قام الأستاذ رضوان سليم، في هذا الكتاب، بجهد نظريّ استثنائي؛ وليس يفسر ذلك سوى إصراره وطموحه العلمي على ممارسة أقصى مراتب الالتزام الفكري، ليُقدم للقارئ أثراً فكريّاً علميًّا يستحق عليه كل الثناء والتنويه. وقد أطل من خلاله على إحدى القضايا الإشكالية التي احتلت مَساحة معتبرةً من هواجسه، واتخذت حيزاً كبيراً في أفقه الفكري، وهي: "مشكلة الزمان في التاريخيات العربية الإسلاميَّة".

كان الكاتب رضوان سليم، شديد الحرص في عمله هذا، على بيان مكانة مفهوم الزمان في تاريخ الفكر الإنساني عموماً، وفي تاريخ الفكر العربي الإسلامي على وجه الخصوص. ومبرر اهتجاسه بهذا المفهوم هو أنه حينما يُطرح على المؤرخ التقليدي هذه الأسئلة: ما معنى التاريخ؟ ما معنى الزمان؟ وما العلاقة بينهما؟ فإنه غالباً ما يقدم معاني فضفاضة لهذه المفاهيم، أو أنه ينساق وراء التعاريف الكلاسيكيّة الضيقة، وهذه واحدة منها؛ يقصد بالتاريخ مجموع الأحداث والوقائع التاريخية التي عرفتها المجتمعات الإنسانية عبر سيرورتها الزمنية؛ أي إن الموضوع الرئيس لحقل التاريخ هنا ينحصر في دراسة تعاقب الأحداث التاريخية وتواليها في الزمان. من ثمة، يتبين أن مهمة الزمان في التاريخ هي مهمة ثانوية وهامشية؛ لأنه مجرد إطار خارجي ينظم الوقائع التاريخية ويرتب تواليها وتعاقبها. وإذا كان ينظر إلى التاريخ في التاريخيات الكلاسيكية بوصفه خلواً من سؤال الزمان أو متحرّرا منه إلى حد ما، فإن أمرها في هذا الكتاب - أي في الدراسات التاريخيّةِ الحديثةِ- مختلفة تماماً، خاصةً وأن هذه الدراسات عملت على إحداث تحول إبستيمولوجي في حقل التاريخيات. والحق أن هذا التحول، إنما قُصد به القطع مع التصورات والتعريفات الكلاسيكيّة التي ذكرنا قبل قليل؛ لأنها تصورات انتهى زمنها وانصرم. وبالتالي، أضحى التساؤل عن ماهية الزمان بمختلف طبائعه وتمظهراته التاريخية أمراً مشروعاً، فهل الزمان متصل أم منفصل؟ أو بمعنى أدق، ما طبيعة الزمن في التاريخيات العربيّة؟ هل هو منفصل أم متصل ونهائي أم لامحدود؟ هل الانتقال من نمط تاريخي إلى نمط تاريخي آخر، يعكس تحولاً في الزمانيّة؟

إن أهمية عمل المؤلف لا تكمن في تناول مشكلة الزمان من منظور فكريّ تاريخيّ فحسب، وإنما تكمن في المقام الأول، في أنه انهم بقراءة بطون كتب التاريخ الإسلامي (كالسيرة النبوية لابن هشام، وكتب الطبري، والمسعودي والواقدي، مقدمة ابن خلدون ...). وقد حظي هذا النوع من النصوص بمكانة معتبرة في مشروعه لدراسة التاريخيات العربيّة الإسلاميّة، وأفرغ جهداً ملحوظاً في البحث عن الإشكاليات المسكوت عنها في هذه النصوص مع تقفي آثارها في إفادات مؤرخي التاريخ، والمقارنة بين تلك الإفادات، بُغية استخراج معنى الزمان كما تصوره المؤرخ العربي في مؤلفاتهم التاريخيّة الإسلاميّة. وبالرغم من أن عنوان هذا الكتاب، يوحي بأن التاريخ العربي الإسلامي يسير في نظام خطي مستمر، فإن قارئ هذا الكتاب سرعان ما يلحظ أن للتاريخ العربيّ الإسلامّي مستويات مختلفة وأبعاد متعددة؛ ذلك أن فكرة الاتصال التاريخي التي تنظم الصيرورة التاريخية، ليست سوى أداة أيديولوجيّة لتاريخ يجب تقسيمه إلى زمنيات.

يمثل هذا الكتاب فرادة متميزة؛ لأنه استطاع أن ينتزع نفسه من الخطابات التقليديّة المألوفة في مقاربة مواضيع من هذا القبيل؛ إذ عمل على خلخلة اليقينيات الآسنة التي قدمها المؤرخ حول ماهية التاريخ وماهية الزمن؛ وذلك من خلال تجديد عملية قراءة النصوص القديمة في الفكر العربي الإسلاميّ وقراءتها قراءةً يقظةً ومتأنيةً لإثارة القضايا المسكوت عنها خلف المتن التاريخي.

نعم، لا أحد يُنكر الفضل الكبير لهؤلاء المؤرخين الذين وصفوا لنا مجموعة من الوقائع التاريخيّة التي عرفتها المجتمعات العربيّة الإسلاميّة، وكشفوا الفكرة التاريخيّة وتعاقب الأشكال التاريخيّة وأبرزوا المدارس التاريخية كذلك. لكنهم أغفلوا الجزء الأهم: أي الخلفيات المضمرة التي ساهمت في تدوين الخبر التاريخي، وبالتالي عدم بحثهم عن مسألة الزمان أثناء تدوينهم للأخبار التاريخيّة.

ليس صحيحا إذن، أن مشكلة الزمان عند المؤرخ العربي هي مشكلة تاريخيّة بالدرجة الأولى؛ إذ الثابت، أن المشكل الحقيقي يكمن، أولاً، في كيفية تدوين الخبر في الزمان. وثانياً، في أن المؤرخ العربي لم ينجح أثناء تدوينه للمتون التاريخية في صياغة خطيةٍ زمنيّةٍ أو صيرورة منظمة تراعي حركية التاريخ. وبالتالي، لم يتمكن من تدوين تاريخ موحد، بل أنتج تواريخ متعددة وخلق أزمنة منفصلة، ترتب عنه تكوين أشكال متعددة للتدوين التاريخي (كتاريخ الخلق، وتاريخ الأنبياء، تاريخ الأمم، تاريخ الدول ...)، وأنتج أيضا أنماطاً مختلفةً للتأليف التاريخي (المغازي، السير النبوية...). لهذا السبب، يولي المؤلف عناية كبرى لمفهوم الزمان، ويمنحه منزلة كبرى في أفقه الفكري، ويعمل على تقفي أثر هذا المفهوم في الكتابة التاريخيّة العربيّة الإسلاميّة. وخلص إلى أن تطور مفهوم الزمان في التاريخيات العربية الإسلامية، قد سار على مراحل، يمكن تسليط الضوء على ثلاث منها رئيسة:

أولها؛ أن المعنى الذي كان يدل على ما نفهمه اليوم من لفظ التاريخ كان يُقصد به الخبر في الثقافة العربيّة الإسلاميّة القديمة، وهو في نظر الكاتب[1]: "لا يعني فقط العلم بالنبأ، بل أيضا معرفته على حقيقته، فالخبر هو العلم بالشيء في مخبره؛ أي في باطنه وظاهره. وبالتالي، فهو يعني من جهة نقل الخبر، ومن جهة ثانية عملية نقله، فالإخباريون هم الذين كانوا يروون أيام العرب ومغازي الرسول لكن روايتهم لم تكن تحتوي على زمن أو أزمنة". والحق أن المؤلف ما اكتفى بهذا التفسير الدلاليّ، وإنما أحاط مادته المعرفية بإضاءاتِ تاريخيّةِ، مدعماً تعريفه لمفهوم الخبر بقول الدكتور علي أومليل من كتابه "الخطاب التاريخي: دراسة لمنهجيّة ابن خلدون"، والذي عُرف هو الآخر بحسٍ تاريخيّ عالٍ، قائلاً[2]: "التاريخ الأول الناشئ عن هذه الأصول اتخذ شكلا محددا في السرد (الخبر)، وهو الشكل الأصلي للتاريخ العربي، وهو رواية لحدث مفرد عبر سلسلة رواة تناقلوا الخبر ابتداءً ممن شهده أو زعم ذلك طبقاً لمنهج اختصت به العلوم الدينية، هو منهج الإسناد". هذا يعني أن الخبر كان يتضمن علم الحديث، الأمر الذي يدفعنا إلى القول إن الخبر هو بنية معرفيّة قائمة بذاتها، متميزة عن غيرها من البنى المعرفيّة بكونها لا زمنيّة". يعني ذلك أن التاريخ العربي الإسلامي تميز بأسلوب رواية الأخبار، وفي نظر الكاتب، يستمد هذا الخبر زمنيته من ذاته؛ لأنه لا يملك تاريخاً زمنياً يُحدده، ولا وجود لفترة زمنيّة تفصل بين الخبر وزمنه، فالأخبار لا يؤرخ لها حسب زمنها، بل يخبر بها حسب أمكنتها ومواقع حدوثها. وعلى سبيل المثال "معركة صفين"، "معركة كربلاء"، "معركة الجمل ".

ثانيها؛ يؤكد رضوان سليم أن التأليف التاريخي العربي ظل وفيا لأسلوب السرد ورواية الخبر، ومتشبثا بحكي قصص المعارك والبطولات التاريخيّة التي تبدأ بالحرب وتنتهي بنهايتها، مما حال دون تحقيق تطور تاريخي في خط سير الثقافة العربيّة الإسلاميّة. ويوضح في هذا السياق، قائلاً[3]: "لم تكن بنية الخبر تسمح بوضع الأخبار في إطارها الزمني، فقد كان زمنها متضمنا في القصة التاريخيّة التي تروي خبر الواقعة، وكذا في سلسلة الرواة الذين تعاقبوا على روايتها، بينما جعل العمل التركيبي للأنماط التاريخية (أيام العرب، مغازي الرسول، تاريخ الأنبياء..) تكوين زمن متصل، موحد ومنسجم أمراً صعباً".

ثالثها؛ أحدث التقويم الهجري ونشأة التاريخ الحولي تغيراُ حاسماُ في شكل الخبر. لكن لم يؤد ذلك إلى زواله، بل على العكس من ذلك تم ترتيب الأخبار وفق إطار زمني، ويتخذ هذا الإطار الزمني شكلين هما:

أ - التحقيب التاريخي: اهتم المؤرخ المسلم بالتحقيب وسعى إلى تدوين وقائع الماضي وتقسيم التاريخ الديني الإسلامي إلى فترات منفصلة وحقب تاريخيّة متعددة: فترة الخلق، سلسلة الأنبياء والرسل، تاريخ الخلافة ...

ب - يعد التقويم الهجري حدثاً تاريخيًّا سهّل عملية تنظيم الأحداث التاريخية، وهو في نظر المؤلف، ساعد في الحسم مع إشكالية الزمن القدسي، موضحاً في معرض كتابه الأسباب المضمرة التي دفعت المسلمين إلى اختيار الهجرة كخط فاصل بين زمنين أي الزمن القدسي وبداية زمن الزمن الإسلامي. ويوضح الكاتب هذه الفكرة، قائلاً[4]: "لم يكن التقويم الهجري مجرد أداة فنية يتم بواسطتها ترتيب الأخبار التاريخية حسب السنين، ولم يكن مجرد نقل لتقليد يهودي أو فارسي إلى بلاد الإسلام، بل كان يعكس شعوراً بضرورة وضع زمن يفصل بين حقبتين تاريخيتين حاسمتين، ما قبل الإسلام وما بعده"، وهي في نظر المؤلف ترجع - بالدرجة الأولى - إلى أسباب سياسيّة.

يثير التقويم الهجري، إذن، إشكالية الاتصال والانفصال مع الزمن القدسي. وهنا من الواجب طرح هذه التساؤلات: هل يعبر التقويم الهجري عن وعي بميلاد عصر جديد؟ هل يعكس تاريخ الهجرة الشعور بانبثاق عالم جديد؟ هل يعلن هذا التاريخ الانفصال عن الزمن القدسي، وبداية الزمن الزمني؟

هذه الإشكالات المؤرقة، تقود الكاتب إلى التساؤل عن طبيعة الزمن في التاريخيات العربيّة الإسلاميّة، هل هو منفصل أم متصل؟ والحكم على التاريخ بأنه منفصل أو متصل، ليس موضوعاً ابستمولوجياً صرفاً، بل يحكمه هو نفسه تصور خاص، يقارن بواسطتها بين الأديان. ولكي يجيب المؤلف عن هذا السؤال، عمل على عقد مقارنة بين الاستغرافيّة المسيحيّة والاستغرافيّة الإسلاميّة؛ فإذا كانت الأولى تسير في زمن خطي متصل، إذ أدخل المؤرخون المسيحيون بدء الكون وخلق العالم كعصر يفتتحون به تواريخهم، فإن الثانية تنشطر إلى فترات منفصلة وحقب زمنية متعددة بسبب بنية الخبر التي لم تسمح بتكوين زمن خطي صاعد للماضي الإسلامي، كيف ذلك؟

لكي يجيب المؤلف - بشكل دقيق- عن هذه الإشكالية: أي طبيعة الزمن الديني في التاريخيّة العربيّة الإسلاميّة؛ هل هو زمن طويل ومتصل بلحظة الخلق، من خلال سلسلة الأنبياء والرسل أم إنه زمن إسلامي خالص منفصل عن تاريخه الدّيني، ومنقطع عن ماضيه الجاهلي؟ عمل الكاتب على قراءة نصوص تاريخ الإسلام وتحليل مظانها كنصوص السيرة النبوية مثلاً. ومن بين أهم القضايا التي اهتجس بها الكاتب، هي مسألة النبوة في التاريخيات الإسلاميّة، هل أدى التصور الشمولي للزمن الديني إلى نشأة مفهوم النبوة، أم أن هذا المفهوم هو من صنع السيرة النبوية المنفصلة؟

من أجل مقاربة هذه الإشكالية، قام الكاتب بعرض شامل للتطور الذي شهده تأليف السيرة النبويّة في الكتابة التاريخيّة الإسلاميّة، بدأ بتاريخ الأنبياء إلى زمن النبوة ورواية المغازي؛ أي الأخبار الحربيّة للرسول، الذي لا يمثل تطوراً تلقائياً لتدوين الخبر، بقدر ما يعبر عن تحول في الزمن الدّيني، والذي اتسم بلحظات زمنية يمكن تسليط الضوء على ثلاث منها رئيسة:

أولها؛ الزمن القدسي أو المبتدأ، ويثير الكاتب فيه إشكالية الاتصال التاريخي أو الانفصال المذهبي التي يسم مسألة التحقيب التاريخي في الفكر العربي الإسلامي. ولكي يوضح ملامح هذه المفارقة، قدم الكاتب التصور الزماني الديني الأول من خلال تقديمه وصفاً شاملاً وتفصيلياً لمضمون كتاب المبتدأ، المبعث، المغازي لأحمد بن إسحاق بن يسار المطلبي (توفي سنة 151 هـ) الذي عمل فيه على تقديم منظور شمولي وكلي لمفهوم النبوة داخل الزمان التاريخي الديني المتصل؛ وذلك من خلال تدوينه لأخبار الخلق وتاريخ السيرة النبوية والرسل السابقين، مبيناً الأسباب الذاتيّة التي دفعت ابن إسحاق إلى تأليف هذا الكتاب.

يعد عمل ابن إسحاق في نظر الكاتب عملاً موزوناً ومحكماً؛ لأنه لم يقتصر على سرد أحداث فترة بعينها، أي العصر النبوي فقط، بل قدم سرداً كرونولوجيّاً شاملاً منذ بداية الخلق إلى مبعث الرسول ومغازيه، التي استمد أخبارها من الرواية التوراتيّة، مما أضفى على التاريخ طابع القدسية من جهة، ومن جهة أخرى، ساهم في إضفاء سحنة جديدة للزمن الديني الذي أصبح زمناً متصلاً بالزمنية الإسلاميّة. الأمر الذي ساعد المؤرخين المسلمين لاحقاً على تدوين مؤلفاتهم التاريخيّة اعتماداً على مرويات ابن إسحاق. على خلاف ذلك، قام محمد بن هشام المعارفي بفصل زمن السيرة النبوية عن الزمن الديني الأول من خلال حذفه لقصة الخلق من كتابه، وشطر الوحي الإسلامي عن النشأة الأولى للوحي الإلهي؛ مما نجم عنه إنشاء زمنية دينيّة خاصةً تستلهم قدسيتها من أقوال النبي وأفعاله، وبالتالي، لم يعد المرجع الوحيد للدين الإسلامي هو القرآن، بل أصبحت السيرة النبويّة مرجعاً أساسياً له. هذا التقسيم التاريخي بين الزمنين ترتب عنه انبثاق مفاهيم مذهبيّة وظهور تحقيب مذهبي جديد للتاريخ الإسلامي مثل مفهوم الجاهلية والعهد النبوي والردة وغيرها. ويقول في نفس السياق[5]: "هذا التحقيب المذهبي لم يكن أبدا من إنتاج وعي وكتابة المؤرخين المسلمين، سواء منهم الإخباريون الأوائل أو كبار المرخين اللاحقين، ذلك أن تصورهم جميعا للماضي ظل خارج الهيمنة المذهبية. لكن الذاكرة التاريخيّة الإسلاميّة لم يصنعها المؤرخون، بل كونتها المفاهيم والتصورات التي أنتجها القرآن، ما جعل الهوة قائمة بين الوعي التاريخي الذي صنعته هذه المفاهيم، والتدوين التاريخي الذي يسعى إلى الحفاظ على آثار الماضي. لقد ظل التحقيب التاريخي يواجه إشكالية جوهرية: مدى اتصاله التاريخي أو انفصاله المذهبي؟ الاتصال التاريخي يفتح الباب أما الارتباط بالمبتدئ القدسي، بينما يفسح الانفصال المذهبي للضلال الجاهلي، إشكالية تتجدد كلما عرف الوعي العربي الإسلامي تناقضا بين تاريخيته وزمانيته؛ أي كلما أدرك المسافة الفاصلة بين أصل الدين وسيرورة الزمن".

ثانيها؛ أن زمن النبي أو المبعث يشكل تجسيداً ثانياً لحقبة تاريخيّة مفصليّة في الزمنيّة الإسلاميّة، ويشمل أربع لحظات أساسية هي: المولد، المبعث، الهجرة، الوفاة. وقد أثار المؤلف عدة قضايا إشكالية مرتبطة بهذه الفترة التاريخية، ومن بين أهمها:

أ - زمن التقويم التاريخي: تساءل المسلمون عن زمن التقويم التاريخي؛ أي الزمن الذي وجب التاريخ به، هل المولد أم المبعث أم الوفاة، فوقع الاختيار على الهجرة كبداية للتقويم التاريخي الإسلامي. وكما أشرنا سابقاً، لزمن الهجرة حسب الكاتب دلالةً مزدوجةً، فهو يحيل إلى بداية الزمن التاريخي الإسلامي من جهة؛ أي إلى التاريخ الذي يفتتح به المسلمون زمنهم، وهو من جهة ثانية، رسخت الهجرة في الآن نفسه استمرارية الحدث التاريخي في الذاكرة التاريخيّة الإسلاميّة.

ب- زمن المغازي كنمط تاريخي مستقل يتميز بتقليده في السرد والرواية بأسلوب أيام العرب؛ إذ يتسم التدوين التاريخي للسيرة النبوية بنمط الرواية الشفهية للمغازي والمعارك والحروب التي خاضها الرسول. وحسب قول الكاتب[6]: "يتم التعبير عن الزمن في المغازي باستعمال مفهومين هما اليوم والدهر، يدل الأول على الجزئي في مقابل الثاني الذي يرمز إلى المطلق. فاليوم كلحظة منفصلة يكسر اتصال الاستمرارية. زمن اليوم هو زمن الغزوة. إذ ليس له ما يسنده أو مستقبل يأمله. وبالتالي فهو يفقد تاريخيته في الوقت نفسه الذي يدون فيه. أي أنه يعيد إنتاج زمنيته كتعبير وحيد عن حقيقته". ويعتقد الكاتب أن الانتقال من الرواية الشفهيّة إلى التدوين التاريخي لم يكن نتاج شعور بالتغيير؛ أي تعبيراً عن تصور جديد للزمن بقدر ما كان إعادة وإحياء لبنية زمن "أيام العرب"؛ إذ لم يتمكن مؤلف السيرة النبوية من إحداث قطيعة معرفية مع زمن الجاهلية.

يتبين إذن أن الكاتب قد قام بالبحث في طبيعة العلاقة بين النبوة والزمان في الكتابة التاريخيّة العربية الإسلامي، أي طبيعة زمن السيرة النبوية، ما دور التدوين التاريخي في ترسيخ زمن النبوة؟ هل يسعى هذا الزمن إلى ترسيخ أخبار الماضي الشخصي لحياة الرسول أم ترسيخ لمسار الرسالة النبوية؟ يرى أن السيرة النبوية كنمط تاريخي تحكي أقوال الرسول وأحواله وأفعاله، تعمل على تشكيل عصر النبي من أجل الانفراد بزمن ديني خاص بالزمنية التاريخيّة الإسلاميّة منقطع عن سيرورة الزمنية الدينية. ووضح المؤلف أن سيرة بن هشام لم تكتفي بتلخيص وتشذيب سيرة ابن إسحاق، بل عملت أيضا على صياغة رؤية جديدة لزمن سيرة النبي، وهي كالتالي:

أ – فصل سيرة النبي عن تاريخ الأنبياء والرسل السابقين، مما أدى إلى انفصال زمن الوحي النبوي عن تاريخ الوحي الإلهي المتصل.

ب - انبثاق عصر نبوي كصورة للسيرة النبوية، أي عدم القدرة على إدراك زمن النبوة في استقلال عن عهد النبي، ما نتج عنه نشأة الرجعة الزمنية كتجسيد لإحياء العصر النبوي، وانقطاع زمن النبوة المتصل، الطويل والعميق.

ت – عدم التمييز بين زمن النبوة وعهد النبي حال دون قيام وعي خالص بالنبوة في ذاتها؛ إذ تحولت إلى قواعد للتشريع الفردي والجماعي، ومن ثم فإن المؤمن يقتفي أثر أقوال النبي وأعماله.

لقد حافظ المؤرخون المسلمون أثناء تدوينهم للتاريخ على تعدد الأنماط والأزمنة التاريخية؛ فالتاريخ نشأ من تركيب أنماط تاريخية مختلفة "أيام" و"مغاز" و"فتوحات" وغيرها، وقيام المؤرخ بتركيب هذه الأنماط لم يؤد إلى تأسيس تاريخ يضمن تسلسل الأحداث وترابطها، فالمؤرخ كان يحافظ في نفس الوقت، على الزمان التاريخي بكل نمط، وقد أدت هذه الممارسة إلى تركيب أزمنة تاريخية تتناسب مع الأنماط التاريخية، وكان من النتائج المباشرة لتلك الممارسة امتزاج النمط التاريخي بالحقبة التاريخية التي يروي أخبارها، وأصبح لكل نمط تاريخي زمانه، فهو يختلف باختلاف التواريخ واختلاف الأنماط التاريخية.

وكإجابة عن إشكالية اتصال أو انفصال الزمان في الكتابة التاريخيّة العربيّة الإسلاميّة في كتب السيرة النبويّة، يمكننا أن نلحظ أن ابن إسحاق عمل على تدوين زمن ديني متصل باللحظة الأولى للخلق، في حين اكتفى محمد بن هشام بعرض زمن السيرة النبوية وفصلها عن الزمن القدسي، ولا مرية في أن الانتباه إلى هذا الفارق بينهما، جر إلى بروز العصر النبوي كحقبة دينيّة مستقلة عن الزمانية الدينيّة. يتبين إذن، أن الإسلام متصل ومرتبط بالتاريخ الكوني المقدس، فهو استمرار للحظة الخلق وتاريخ الأنبياء والرسل السابقين، إلا أنه في نفس الوقت منفصل عن تاريخه الجاهلي، أي أيام العرب وقصصها.

المرجع المعتمد:

سليم، رضوان. نظام الزمان العربي: دراسة في التاريخيات العربية الإسلامية. بيروت: دراسات الوحدة العربية، 2006

([1]) رضوان سليم، نظام الزمان العربي: دراسة في التاريخيات العربية الإسلامية، (بيروت: دراسات الوحدة العربية، 2006)، ص 30

([2]) المصدر نفسه، ص31

([3]) المصدر نفسه، ص48

([4]) المصدر نفسه، ص 43

([5]) المصدر نفسه، ص 64

([6]) المصدر نفسه، ص74