مشكلة المعنى من وجهة نظر الدلاليات المعرفية: مارتن ليمانس نموذجا


فئة :  مقالات

مشكلة المعنى من وجهة نظر الدلاليات المعرفية: مارتن ليمانس نموذجا

مشكلة المعنى من وجهة نظر الدلاليات المعرفية:

مارتن ليمانس نموذجا[1]

تقديم

تتناول هذه الورقة مشكلة المعنى من وجهة نظر الدلاليات المعرفية[2]، كما نجدها عند مارتن ليمانس[3]. ويُستخدم مصطلح "الدلالة المعرفية" عادة للإشارة إلى عدد من النظريات التي ترتبط بالنحو المعرفي كما هو الحال مع لانكاكير، أو بالنحو التركيبي (الراديكالي) كما يدافع عنه تشومسكي، أو بالاستعارة التصورية عند ليكوف...، إلخ. وبالرغم من الطابع الخاص الذي تتميز به كل نظرية من هذه النظريات، إلا أنها تلتزم جميعها، وبشكل أساسي، بنفس الرؤية القائمة على الوظيفة المعرفية للغة. فقد كانت أحد المرتكزات الأساسية للنظريات المعرفية اعتبار اللغة بنية فكرية-ذهنية غير مستقلة تماما عن البنيات المعرفية الأخرى، كالذاكرة والانتباه، والعمليات التخييلية والشعورية[4].

إذا كان تعلم اللغة عند البشر يرتبط في جزء كبير منه بالعامل الفطري (الوراثي)، فإن اكتساب النسق النحوي بشكل كامل يستدعي استحضار ما هو تجريبي عند الإنسان، سواء ارتبط ذلك بالجانب الفيسيولوجي المادي أو بالجانب الثقافي، وفي نفس الوقت، يتطلب اكتساب مهارات معرفية، وهو ما يدفعنا إلى الإقرار بأن البنية النحوية ليست بالضرورة بنية مجردة عامة مستقلة كليا عن الإنسان وأنساقه التصورية، بل هي بنية تجريبية تفاعلية تنشأ من خلال تفاعل الإنسان مع محيطه الفيزيائي والاجتماعي والثقافي. هكذا، فالنحو عند ليمانس ليس مجرد سؤال نظري، بل هو سؤال تجريبي يتمظهر في تصرفاتنا، وطبيعة أنشطتنا اليومية، وطريقة حديثنا[5]. لذلك، سيتم التركيز في هذه الورقة على التفاعل الحاصل بين النحو كبنية لسانية وذهنية وباقي العوامل التجريبية المعرفية الأخرة كالاستعارة والكناية والفهم والتجسد. وبما أن هذه المفاهيم تدخل في صميم الدلاليات المعرفية، فإننا سنعالج المعنى اللغوي انطلاقا من الآليات التي توفرها الدلاليات المعرفية، غير أن مصطلح "الدلاليات المعرفية" يبدو مضللا إلى حد ما؛ إذ قد يشير إلى أن الدلالات هي وحدة منفصلة في النموذج اللغوي، إلى جانب "البنية المعرفية"، و"التجسد المعرفي"، و"التداولية المعرفية"...، إلخ. ومع ذلك، لا تعتمد الدلاليات المعرفية تصورا معياريا للغة تتخذ فيها الوحدات اللغوية بنية مزدوجة: صورة/ معنى، من حيث هي وحدات رمزية أو بناءات نحوية؛ بل يتم تعريف النحو على أنه مخزون منظم لهذه الأزواج (صورة/ معنى). وتعود هذه الثنائية إلى دي سوسير de Saussure في إطار تصوره للعلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول. بالرغم من أن هذه الثنائية لم تحظ باهتمام بالغ من طرف دي سوسير، إلا أنها أصبحت تحظى بدور مركزي في النظريات اللغوية اللاحقة عليه، وتعد اللسانيات التوليدية مع تشومسكي الممثل الأكثر بروزًا في تناول مسألة العلاقة بين الصورة والمعنى. فقد اعتبر النحو التوليدي أن التركيبات الاشتقاقية لا تؤثر على معنى البنيات التركيبية، حيث يمكن اشتقاق كلمات متعددة الصور أو تراكيب نحوية من معاني الطرفين. بمعنى آخر، يعرفُ المتحدثون كيفية فهم معنى الوحدات التركيبية؛ مثل: موقد الخشب أو الطاحونة الهوائية بناء على معنى الأجزاء؛ الخشب، والموقد، الطاحونة، الهواء، ومن معنى أو معاني التراكيب الاسمية في اللغة[6]. وعليه، يمكن دراسة معنى جملة، من قبيل؛ "سيارة صفراء" على أساس معنى الأجزاء (أصفر، سيارة)، والمعرفة التي تتضمنها هذه الوحدات من خلال تحديد ما تصفه. فالوصف يغير الاسم، ويشير إلى معنى محدد للكيان من خلال هذا الاسم. في هذه الحالة يكون لون السيارة متضمنا في بنية التركيب الاسمي "السيارة صفراء". ولذلك، تعتمد معظم النماذج اللغوية على ما أسماه تايلور 2012م، بـ "القاموس أو نحو اللغة"[7]، فكل المعاني المشتقة من التراكيب مخزنة في القاموس ومنظمة بواسطة بنيات صورية مجردة[8].

إن التحديد المعرفي للنحو كمخزون لأزواج؛ معنى/صورة، يتعارض فعليًا مع وجهة نظر النحو التوليدي مع تشومسكي. ويؤكد لانكاكير في هذا الصدد أن النحو لا يفترض مسبقا وجود بنية منظمة ومخزنة عند المتكلم، بل على العكس من ذلك تماما، فالنحو الكلي يبقى نسبيا، وأن المتحدثين يخزنون أكثر مما يُفترض في كثير من الأحيان، بما في ذلك البنيات التركيبية، والتي قد يكون بعضها محددا جزئيًا بواسطة عناصر معجمية أساسية، كما هو الحال مع البناءات النحوية عند جاكاندوف[9].

تعتبر هذه الأزواج في الدلاليات المعرفية ذات أهمية جوهرية. وباختصار، فإن أي وحدة لغوية، سواء كانت مورفيما أو عنصرًا معجمًا أو نموذجًا (نحويًا) أكبر، هي وحدة رمزية تربط شكل معين له معنى خاص (والذي يسميه لانكاكير القطب الدلالي)[10]. من الواضح أنه ستكون هناك اختلافات بين البنيات الدلالية للعناصر المعجمية، والتي ستكون أكثر تحديدًا للمحتوى، وتلك الخاصة بالنماذج الأكثر نحويًا (مثل؛ البناء الانتقائي، وبناء الحركة أو بناء الإطار.

إن معالجتنا لهذه القضية ستقتصر على إبراز الكيفية التي يتميز بها المعنى على جميع المستويات اللغوية؛ التركيبية والدلالية والتداولية في إطار عام يتعلق بالنموذج المعرفي غير المعياري. من الواضح، إذن، أن ما نقدمه هنا ليس سوى الحد الأدنى من الخطوط العريضة للمبادئ الأساسية لهذا النموذج. سننطلق بداية من دراسة الكيفية التي يوُظف بها المعنى في الدلاليات المعرفية، وكيف يسهم في بناء التصورات من خلال التركيز على الرؤية الموسوعية للمعنى، ثم سنتطرق، ثانية؛ إلى دراسة البنيات الدلالية من خلال استحضار الخطاطة التصورية. وسنركز في النقطة الثالثة على بنية المقولات الدلالية، باعتبارها بنية شعاعية. وسننتهي إلى تقديم وصف موجز للجدل الحاصل حول الاستعارة والكناية لموقعهما المتميز في الدلاليات المعرفية.

1. مركزية المعنى في الدلاليات المعرفية

في الدلاليات المعرفية، يتم تعريف المعنى على أنه تصور ذهني، حيث تكون البنية الدلالية عبارة عن تصور مفصل يتكيف مع تفاصيل المواضعات اللغوية. لذلك، يتطلب التحليل الدلالي توصيفًا واضحًا للبنية التصورية[11]. للوهلة الأولى، قد لا تبدو الرؤية المعرفية مختلفة بشكل أساسي عن النظريات الأخرى إلا عندما ننظر إلى المعاني، كمفاهيم أو تصورات؛ أي عندما تتبنى المقاربة الموسوعية للمعنى[12].

يمكن تحويل البنية التصورية التي توفر المحتوى التصوري للتعبيرات اللغوية من مفاهيم بسيطة إلى حد ما أو من تجربة إدراكية قاعدية إلى مجموعات معقدة من النماذج المعرفية، كما توضح ذلك نظرية النماذج المعرفية الممثّلة عند ليكوف أو نظرية الأطر عند فيلمور[13]. والمثال الذي استشهد به فيلمور بشكل متكرر يتعلق بسيناريو عمل "المطعم" الذي ينطوي على تجربة اختيار الطعام، انتظر حتى يجلس، النادل يخدمك، اختر من القائمة، طلب الطعام، خذ الفاتورة...، إلخ. وبالمثل، لا يمكن فهم معنى كلمات، مثل؛ عطلة نهاية الأسبوع أو حفلة المدرسة، إلا بالإشارة إلى التنظيم النموذجي (الخاص بالثقافة) في عصرنا بالأسابيع، بما في ذلك الأيام التي نحن نعمل فيها (من أجل الأجر) أو نذهب إلى المدرسة، والأيام التي لا نعمل فيها، والممارسات الاجتماعية التي ترافق هذا التمييز[14].

هكذا، يتطلب تحديد معنى التصورات، مثل؛ عطلة نهاية الأسبوع أو حفلة المدرسة، القليل من معرفتنا الثقافية حول الحفلات أو الخروج الذي عادة ما يكون في عطلة نهاية الأسبوع، حيث يكون الاستيقاظ متأخرًا والكثير من الكحول، مما يؤدي إلى المزيد من حوادث المرور (المميتة) خلال عطلة نهاية الأسبوع. ومن نفس المنطلق، فإن فهمنا للشيء يقوم أساسًا على الأفكار المرتبطة ببعض المعايير الأخلاقية التي يمكن عقدها في مجتمع معين فيما يتعلق "بالذنب" أو السلوك السري الذي يجب أن يمتلكه المرء إذا أراد أن يكون مستقيما أخلاقيا. تبرز هذه الأمثلة أن البنيات المعرفية التي نفهم في سياقها معنى الوحدات اللغوية تشمل المعتقدات والممارسات الثقافية (المشتركة). وبعبارة أخرى، إن الدلاليات المعرفية تنطوي على نظرة موسوعية للمعنى، حيث إن المفاهيم والتصورات التي تشكل معاني التعبيرات غالبًا ما تكون مستمدة من معرفتنا الكونية ("الموسوعية") للعالم - أو على الأقل، ترفض الانقسام الصارم بين المعرفة اللغوية والمعرفة الموسوعية. ومن ناحية أخرى، فإن هذا الانقسام هو سمة من سمات مفاهيم "القاموس" الدلالي، حيث يقتصر المعنى اللغوي للتعبير على الحد الأدنى من المعنى الحرفي، كما هو مسجل في تعريفات القاموس.

تقوم الدلاليات المعرفية في نظر ليمانس على رؤية تجريبية للتصورات والمعاني، ويشير هنا إلى أن العديد من تصوراتنا تستند إلى تجربتنا - الثقافية والمادية. كما تعتبر الدلاليات المعرفية أن تجربتنا الجسدية اليومية تلعب دورًا أساسيًا في بنْينَة نسقنا التصوري[15]. وفي نفس السياق، يرى ليكوف على أن المعنى يرتكز على أنماط التجربة الجسدية، وتظهر هذه الأنماط التي تسمى "خطاطات الصور" في جميع جوانب النشاط الحسي –الحركي عند الإنسان، فعندما نتعامل مع الأشياء، فإننا نوجه جسدنا تبعا لمسار معين، سواء كان مسارا مكانيا أو زمنيا، ونوجه تركيزنا الإدراكي لأغراض مختلفة"[16]. ومن أمثلة لمخططات الصور نجد: خطاطة المصدر- المسار-الهدف، ومفاهيم اتجاهية، مثل: أمام-خلف، أعلى-أسفل...، إلخ. ومن المفترض أن تتجسد المجالات التصورية التي تنطوي على خطاطات الصور، ومن الواضح، كذلك، أنه لا يمكن أن تتجسد جميع المجالات التصورية، ولكن حتى المجالات غير التجريبية غالبًا ما تتلقى مثل هذه البنية المجسدة عبر التوسيعات الاستعارية. ونتيجة، لذلك، غالبًا ما يتم التمييز بين "المجالات القاعدية" التي تتجسد بشكل مباشر أكثر من خلال التجربة البشرية و"المجالات المجردة" أو "المجالات الثانوية" التي تعتبر أقل تجسيدا، كالحالات أو العمليات الاجتماعية أو الذهنية. يبدو أن التمييز بين المجالات القاعدية غير القاعدية على مستوى درجة التجسيد ليس سهلا دائما، ولكن نلاحظ أنه في المجالات القاعدية، تكون بعض المجالات، مثل الفضاء، مرتبطة بالتجربة الجسدية المباشرة أكثر من غيرها، (الزمن مثلا). وعلاوة على ذلك، غالبًا ما نجد ترابطات استعارية من مجال إلى آخر، حتى لو كان الاثنان مرتبطان ارتباطًا وثيقًا في العديد من تجاربنا المكانية الزمانية[17].

2. الخطاطة التصورية

يبدو، كما تطرقنا إلى ذلك سابقا، أن الخطاطات التصورية لها أهمية بالغة في بناء المعاني داخل اللغة، لكونها توفر ما يسميه لانكاكير المحتوى التصوري للتعبير بالرغم من عدم قدرتها على تحديد معنى هذا التعبير بشكل كامل، وبشكل حاسم. ومع ذلك، يمكن أن تساهم التعبيرات اللغوية في طريقة تفسير المحتوى التصوري؛ فكل تعبير لغوي يفرض تفسيره الخاص. في نظر لانكاكير، يجسد كل تعبير "الصور التقليدية". في هذا السياق، حدد ليمانس ثلاثة أبعاد مهمة للصور الخطاطية: (1) وجهة النظر شخصية-الذاتية. (2) صورة شخصية-قاعدية. (3) صورة شخصية- خصوصية[18].

فعندما نتأمل الجملتين التاليتين: "المصباح على الطاولة" و"الطاولة تحت المصباح"؛ فنحن نشير هنا إلى نفس الموقف، وبالتالي إلى نفس شروط صدق الجملتين، لكن كل منهما يفرض بوضوح وجهة نظره، أو وجهة نظره على المشهد، أو بعبارة أخرى، يؤطران نفس الموقف بشكل مختلف، نظرا لاختلاف بنيتهما السطحية، مما يجعل هاتين الجملتين غير متكافئتين من الناحية الدلالية. هكذا، فالعديد من التعبيرات اللغوية-حسب ليمانس- تدمج هذا الموقف، فلو قلنا: "ستفعل ذلك غدًا"، فنحن ندمج تصورا زمنيا، أما إذا قلنا: "تعال هنا"! فهو تعبير ينطوي على وجهة نظر مكانية[19]. ترتكز الدعاوى الأساسية للدلاليات المعرفية على فرضية مفادها أن الكثير من التعابير اللغوية يمكن وصفها تمثيلا لتصورات مختلفة للتجربة البشرية.

يشير لانكاكير إلى أن التجربة الشخصية تؤثر على مواقفنا، مما يعني أن تصورنا لمشهد ما يتضمن جزءًا من عملية التصور الذي ينشأ عند المتكلم. وتوضح التعبيرات المكانية مرة أخرى التجربة الذاتية؛ خذ مثال لانكاكير الذي يقول إن "الكرة تتحرك بسرعة"، و"زيد يجلس على الضفة الأخرى من النهر"، ففي كلتا الحالتين، يتطلب إدراك الجملتين فضاءً ذهنيًا عند المتكلم، في الاتجاه العمودي أعلى-أسفل، والاتجاه الأفقي أمام-خلف. بالإضافة إلى الأبعاد المكانية (جلوس، ضفة، حركة). وبالتالي، فجلوس زيد على ضفة النهر يفسر المشهد تفسيرا موضوعيا، حيث يكون وضع المتكلم في الفضاء. أما بناء التجربة الشخصية، فتقتضي أن يبقى المتكلم بعيدًا عن الفضاء؛ أي إنه ليس في مركز الملاحظة.

ويمكن أن نوضح أكثر طبيعة الخطاطة التصورية في ارتباطها بالتجربة الشخصية-القاعدية (التي لا علاقة لها بالصورة الذاتية). فهذه الصورة مستمدة من علم النفس المعرفي، والتي تشير إلى الفرضية الأساسية للتجربة المعرفية والإدراكية التي يفهم بها البشر (أو يعرفون) الكيانات، وتسمى هذه القدرة المعرفية "الانتباه"، ولا تقتصر على اللغة فقط، بل تشمل باقي المدركات الحسية والذهنية. ففي الإدراك البصري، مثلا، يمكننا أيضًا أن نرى شيئًا واضحا من الخلفية (مفاهيم المقدمة والخلفية عند الحديث عن صورة أو لوحة هي بناء على هذه القدرة). وبالمثل، ففي الإدراك السمعي، يمكننا تمييز صوت معين عن العديد من الأصوات الأخرى، مثلما يخبرك به صديقك في شريط صاخب، أو صوت معين يمكنك تمييزه عن قطعة "كورالية" متعددة الأصوات. بشكل عام، فالانتباه بنية متراتبة وجزئية، وليست بنية كلية معطاة، وهو ما يفسر كيف أن بعض الكيانات لها خصائص تميزها بسهولة أكبر من غيرها؛ كثيرا ما نتحدث عن "البروز" (المعرفي أو الإدراكي).

يؤكد تالمي 2000م، في هذا السياق، أن التعبيرات االفضائية تتضمن اختلافًا بارزًا، حيث يُنظر إلى الكيان المتحرك كما لو كان كيانا منفصلا عن الأرض. فعلى سبيل المثال، إن السيارة التي تقودها إلى المنزل هي بلا شك الطريقة الأكثر شيوعًا للتعبير عن الحدث، ويمكن تمييز السيارة المتحركة بأنها الأكثر بروزًا من السيارات غير المتحركة[20]. لذلك، سيتم اختيار جسم متحرك (صغير) لجذب الانتباه أكثر من غيره؛ لذلك، نقول صراحة إن "الكأس على الطاولة" ولا نقول إن "الطاولة تدعم الكأس". لاحظ ليمانس أن الأمثلة المذكورة، أعلاه، "على الطاولة" و"المصباح"، تختلف أيضًا في خاصية البروز: فالتركيز على المصباح كما هو الحال مع "المصباح فوق الطاولة" هو أكثر نموذجية بكثير من التعبير "الطاولة تحت المصباح"، حتى لو كان مثل هذا التفسير المعتاد للمشهد غير مناسب تماما في سياقات معينة[21]. توضح هذه الأمثلة أن القدرة المعرفية العامة للانتباه (أو البروز) تتجلى أيضًا في اللغة، لأن البنيات اللغوية تدمج مركز الانتباه في عناصر معينة من البنية التصورية التي تمنحنا فهما لمحتوى التعبير.

في نظر لانكاكير، تفرض التعبيرات اللغوية إطارا لتعريف مبني على التصورات القاعدية، حيث يتم تعريف الخطاطة على أنها "بنية ترتفع إلى مستوى خاص من البروز داخل القاعدة"[22]. وبناء على علاقة الإطار الشخصي القاعدي بالتصورات أو علاقة المفهوم بالمجال الذي يُفهم من أجله. ومن الأمثلة التي يقدمها لانكاكير هي "الوتر"، الذي لا يمكن فهم معناه إلا في سياق المثلث، أو لنعد إلى مثال نهاية الأسبوع الذي يصف جزءًا فرعيًا من التصورات القاعدية نفسها المعينة في الأسبوع.

في النحو المعرفي، تتلقى التناقضات النحوية- مثل تلك التي توجد بين الأسماء والأفعال أيضًا- تعريفًا دلاليًا يتضمن التجربة الشخصية القاعدية؛ فعلى سبيل المثال، يتم وصف فعل القتل واسم القتل على حد سواء فيما يتعلق بالقاعدة نفسها، ولكن كل منهما يفرض تجربة شخصية مختلفًة: يميز الاسم شيئًا (فضاء في المجال)، لكونه مرتبط بالمحمول، في حين يميز الفعل التسلسل الزمني الذي يربط بين الكيانات. هكذا، فالاختلاف النحوي يتعلق بقدرتنا المعرفية على الدمج التصوري؛ أي قدرتنا على تصور مجموعة من الحالات الزمنية ككيان موحد ومجرد. أبرز ليكوف وجونسون 1980م، أن مثل هذا الترابط التصوري يدعم الكثير من تفكيرنا الاستعاري، حيث إننا نتعامل مع الكيانات المجردة غير المحسوسة كما لو كانت محسوسة وملموسة. فعلى سبيل المثال، نتصور الأحداث في العالم الحقيقي كأحداث ليس لها دائمًا بداية ونهاية واضحة، أو ككيانات ذات حدود واضحة، تسمح لنا ببنْينَتها، مع الأخذ في الاعتبار أو التفكير في جوانب مختلفة، مثلما ننظر إلى جوانب مختلفة من جسم ملموس.

يتعلق البعد الثالث للخطاطة التصورية المرتبط بمستوى الخصوصية، وهو المستوى الذي يسمح لنا بأن نحدد كيانًا ما. فعندما نرى كلبًا في الحديقة، يمكننا الرجوع إلى هذا الكيان (أي تشخيصه) باعتباره الراعي الألماني (الأكثر تحديدًا)، كلب (أقل تحديدًا)، حيوان (غير محدد) أو شيء ما (الأقل تحديدًا). على الرغم من هذا الاختلاف، يميل المتحدثون إلى تفضيل أحد هذه المستويات من المفاهيم كطريقة افتراضية للتفكير والتحدث عن الموقف المعين (في هذا المثال، الكلب) الذي تم تحديده على أنه مقولات المستوى القاعدي. يكمن الدافع وراء هذا التفضيل في كونه المستوى الأكثر استعمالا في الخطاب اليومي لسهولة التلفظ به، كما يسمح لنا بإدراك الشكل العام، وننظم فيه معظم معارفنا[23]، ويسهل التواصل من خلاله؛ لأن مفرداته قصيرة، وتستعمل في سياقات محددة، ويمتاز بسرعة ولوجه لمعجم اللغة مما يجعله مقتصدا معرفيا، لأن هذا المستوى يحمل مجموعة من المعلومات التي تكون محايدة بشكل كاف، ولكنها ليست محددة للغاية[24].

3. البنية التصورية للمعنى كبنية موسوعية

لقد أبرز ليمانس أن الدلاليات المعرفية تنطوي على نظرة موسوعية للمعنى؛ فمعرفة دلالة حفلة المدرسة لا يتطلب أكثر من مجرد تجاور دلالة حفلة المدرسة والليل، ولكن ينطوي أيضًا على سلوك اجتماعي مقبول؛ قد تعتبر بعض النماذج اللغوية أن هذا غير ذي صلة بالتوصيف الدلالي؛ لأنه مرتبط بمعرفة العالم. كما أشار، من قبل، إلى أنه في الدلاليات المعرفية يتم رفض التمييز الدقيق بين المعرفة اللغوية والمعرفة الموسوعية. ومن الواضح أن بعض الخصائص التصورية مركزية بما يكفي لتحديد المعنى (اللغوي)، في حين أن البعض الآخر يمكن أن يكون أكثر هامشية وأقل أهمية. والأمر الحاسم هو أنه لا يمكن إجراء ترسيم صارم بين ما يشكل خاصية دلالية للتعبير اللغوي وما ليس لغويا[25]. تنطوي هذه النظرة الموسوعية أيضًا على فكرة تقول بأن ترسيم الحدود بشكل صارم لا يتم إجراؤه في الدلاليات المعرفية بين الخصائص الدلالية والخصائص التداولية، حتى لو كانت هناك بعض الأشياء التي يمكن أن تكون أكثر دلالة (أي مخزنة مع العنصر اللغوي في سياق معناه)، بينما قد تكون أشياء أخرى أكثر تداولية، أي يتم تحديدها من خلال السياق المباشر (اللغوي أو الاجتماعي) الذي يتم فيه استخدام التعبير.

من الواضح أن الرؤية الموسوعية للمعنى لها اقتضاءات مهمة على مستوى تعريف معنى العنصر المعجمي، باعتباره عنصرا يتم تخزينه في المعجم الذهني. إن محاولة دراسة معنى العنصر المعجمي للطيور (لأخذ مثال نموذجي) لن يؤدي بالتالي إلى حزمة من الخصائص الدلالية المميزة التي تمثل الشروط الضرورية والكافية لكل الكائنات التي يتم إدراجها تحت مصطلح الطيور؛ لأنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تحديد الخصائص الأساسية لمعناها اللغوي، وهذا يدل على أن المعنى ينتج عن معرفتنا الموسوعية للطيور (على سبيل المثال لون ريشها أو شكل منقارها، وما إلى ذلك). بدلاً من ذلك، اتضح أن خصائص معينة قد تكون أكثر مركزية في تعريف كلمة الطيور (أو في تعريف فئة الكيانات التي نسميها الطيور) من غيرها، ولذلك، قد تكون بعض الطيور أكثر نموذجية من غيرها.

من أهم المفاهيم الأساسية التي ترتكز عليها الدلاليات المعرفية هي أن القطب الدلالي للغة يمثل مقولة دلالية واحدة (معقدة)؛ مثل أي مقولة تصورية أخرى، باعتبارها مقولة قائمة على الطراز الأولي. بتعبير أدق، هذا يعني أن البنية الفرعية الدلالية المتضمنة في هذه المقولة هي أكثر بروزًا من غيرها. وبالتالي تشكل الطراز الأولي الدلالي، أو المعنى النموذجي لهذا الهيكل اللغوي، فعلى سبيل المثال، سيتم تحديد المعنى النموذجي للخصائص "الساخنة" فيما يتعلق بمجال درجة الحرارة (كما هو الحال في الماء الساخن أو السرير الساخن)؛ سيكون هذا هو المعنى الذي سيفكر فيه معظم الناس تلقائيًا انطلاقا من معنى هذا الخاصية. أما المعاني الأخرى، مثل تلك التي تغذيها المشاعر الدافئة أو اللون الدافئ أو الصوت الدافئ، ستكون أقل نموذجية؛ في هذه الحالة، ترتبط استعاريا بالطراز الأولي. هكذا، لا يتم تحديد القطب الدلالي لصفة "السخونة" بشكل شامل من خلال الطراز الأولي وحده، ولكن من خلال الشبكة المعقدة لجميع البنيات الفرعية الدلالية. إذا تم تجميع هذه المعاني معًا، فإنها تشكل ما أطلق عليه ليكوف في كتابه "النساء، النار والأشياء الخطيرة 1987م "شبكة شعاعية (متعددة الأبعاد)"[26].

العملية المعرفية الرئيسة الكامنة وراء بناء مثل هذه الشبكة هي القياس، حيث يعتبر المعنى الموسع مشابهًا بما فيه الكفاية للطراز الأولي ليتم دمجه في الشبكة. إن مفتاح الانتماء إلى مقولة ما ليس قائمة على الشروط الضرورية والكافية للخصائص الدلالية، بل على حكم التشابه (على غرار فكرة التشابه العائلي عند فتجنشتاين). هذا هو السبب بالضبط الذي يجعل المقولات من الطراز الأولي مفيدة إدراكيًا، حيث إنها تجمع بين "الاستقرار البنيوي والقدرة على التكيف المرن: يمكن لنظام المقولة أن يعمل بكفاءة فقط إذا كان بإمكانه الحفاظ على تنظيمه العام لبعض الوقت [...]؛ ومع ذلك، يجب أن يكون مرنا بما يكفي ليكون قابلا للتكيف بسهولة مع الظروف المتغيرة"[27].

يشتمل نموذج النحو المعرفي عند لانكاكير أيضًا على فكرة وجود معاني نموذجية أكثر بروزًا من الناحية الإدراكية، لكنه يركز أكثر على التشابه الذي يكمن وراء توسيع المقولات التي تؤدي إلى الشبكات الخطاطية. دعونا نوضح هذا بمثال بسيط، يتجلى في فعل القتل، فعندما يُطلب منا إنشاء جملة باستخدام هذا الفعل، فإن معظم المتحدثين سيصدرون جملة توضح ذلك، بحيث يمكن اعتبار المعنى النموذجي لهذا الفعل الذي يُعرّف تقريبًا على أن الحدث "أ" يمارس قوة قهرية على إنسان آخر حتى يموت هذا الأخير. ومع ذلك، يستخدم الفعل أيضًا لتعيين حدث يكون فيه الحيوان هو الضحية. يمكن اعتبار هذا استخدامًا ممتدًا للفعل، والذي يعتمد على التشابه بين البشر والحيوانات. وعليه، يتم اكتساب هذا التشابه من خلال بنية دلالية أكثر عمومية (مثلا؛ "حدث يموت فيه كائن حي")، والذي يلغي الاختلافات الموجودة بين الاستخدامين.

من وجهة نظر لانكاكير، هذه البنية الموسعة لفعل القتل هو مخطط، والنتيجة هي شبكة تخطيطية. من الواضح أن المقولة الدلالية للقتل أكثر تعقيدًا، نظرًا لوجود أنواع أخرى من القتل، يمكن أيضًا القبض على الكائنات الحية، مثل النباتات أو الكائنات الحية الدقيقة الأكثر اكتمالا.

لاحظ ليمانس أن الطراز الأولي ليس له استخدامًا سياقيًا معينًا للفعل، ولكنه في حد ذاته تخطيط لأحداث الاستخدام الفردي الذي يمكن أن تكون خصائصه مختلفة جدًا (في رسم تخطيطي يمثله حدث معلق وحدث إطلاق نار). إن جميع هذه الاستخدامات تمثل المجال الصحيح للقتل، في حين أن الاستخدامات الاستعارية، مثل؛ قتل إنتاج السيارة أو قتل الاقتراح، فهي محفزة بنفس آلية القياس (أو التشابه المدرك) بين وجود كيانات متحركة وغير متحركة. وبالتالي، فإن المخطط الذي يكتسب هذا التشابه سيكون، من قبيل؛ وضع نهاية لوجود كيان". هذا المخطط الأخير لا يستنفد الشعور بالقتل (أي أنه لا يمكن اعتباره تعريفا)، لذلك، تشكل الشبكة التصورية بأكملها قطبا دلاليا لهذا للتعبير. كما تشير "رايس" يمكن اعتبار نموذج لانكاكير نموذجًا عموديا؛ لأن "النمو الخارجي للطراز الأولي يميل إلى التطابق مع النمو التصاعدي"[28]؛ عندئذ تكون المقولة الشعاعية أكثر من نموذج مركزي[29].

يزعم ليمانس أن الأمور أكثر تعقيدًا، لذلك، سوف يقدم باختصار بعض الفروق الدقيقة والتعليقات النقدية:

التعليق الأول؛ هو أن أي تعريف للفعل الذي يمتلك معنى نموذجي يجب تضمينه في إطار مقولات الطراز الأولي، والذي غالبًا ما لا يكون بسيطا، حيث يتم توضيح ذلك من خلال مقولات الأنواع الطبيعية (مثل الطير أو الأثاث)، لكن دعنا نوضح ذلك بمثال آخر، مثل الأفعال الوضعية الثلاثة الأساسية في الهولندية، zitten ("sit")، liggen ("lie") وstaan ​​("stand")، والتي تبين أن وضع القواعد النحوية للأفعال الأساسية المستخدمة للتعبير عن موقع الكيان في الفضاء (على سبيل المثال، سرير "ثابت" في الغرفة، "مدن ملقاة" بالقرب من البحر أو الماء، جالسًا في الزجاجة)، ولكن لهذه الأفعال أيضًا استخدامات استعارية ومعجمية واسعة النطاق[30]. إن الطراز الأولي لهذه المقولات الدلالية بسيطة للغاية، لكونها تسهم في تمثيل المواقف البشرية الأساسية الثلاثة؛ الجلوس، والوقوف، والاحتواء. ومع ذلك، كما يلاحظ نيومان، فإن تصورات الطراز الأولي يتم تعريفها بدقة أكبر على أنها "مجموعات تجريبية" من السمات، وبعضها سيحفز توسيعات دلالية معينة. على سبيل المثال، من بين سمات الجلوس هي أن الإنسان يستريح على قدميه، والذي يصبح، على الأقل بالنسبة للهولنديين، العنصر الرئيسي في التوسيع المثمر لاستخدام الاستعارة: سيتم استخدام فعل الجلوس للتعبير عن موقع أي كيان (بغض النظر عن بُعده العمودي الفعلي) الذي يقع على قاعدته؛ منطقياً، سيقال إن كل من السيارات أو الأسرة أو أجهزة الكمبيوتر أو الألواح أو الأحذية تقف عندما يتم وضعها (وظيفياً) على قاعدتها. في الواقع، هذا التوسيع مدفوع بخطاطات الصورة الأكثر تجريدًا لكيان "قائم" يستوعب التشابه بين كائن بشري وكيان جامد يرتكز على قاعدته. ففي حالة "الجلوس" تكون إحدى الخصائص المرتبطة بالطراز الأولي (ولكن التي قد لا تكون بارزة جدًا للوهلة الأولى) هي فكرة وجود اتصال وثيق مع شبه محصور في الكرسي الذي يجلس فيه أحدهم. تؤكد هذه الفكرة أن العامل المحفِّز لواحد من أكثر الاستخدامات تشير إلى الاحتواء. لذلك، سيطلق على الماء اسم "الجلوس" في الزجاجة، وستبقى البكتيريا في الدم أو السكر "سيبقى" في قهوتي. وبشكل ملحوظ، تستند العديد من التوسيعات الاستعارية إلى هذه المجموعات التي ربما لم تكن للوهلة الأولى في قلب الطراز الأولي، وهذا يبرر، مرة أخرى، رؤية موسوعية للمعنى (المعجمي).

التعليق الثاني؛ الأكثر أهمية هو أنه في الشبكات الشعاعية والتخطيطية، يتم تمثيل المعاني ككيانات ثابتة ومترابطة (كنقاط أو مربعات)؛ يطلق عليها لانكاكير اسم "المعاني المعمول بها"، حيث إن المعاني التي تكون متكررة بما يكفي لتترسخ في النظام اللغوي (أي يتم تخزينها على هذا النحو) لا تختلف عما يسميه كروفت وكروس "المعنى المصغرmicro-sense "[31]. لقد وضح هؤلاء الباحثان وجود عدة معاني مصغرة ومختلفة للجلوس، حيث يمكن للمرء أن يجادل في أن الحروف يُنظر إليها كما لو كانت تقف على السطر. لذلك، يمكن تعريف الخط المائل على أنه schuin staand (حرفيا "الوقوف بزاوية")[32]. بدلاً من ذلك، يمكن أن يكون المفهوم هو ذلك الذي يُنظر فيه إلى الأحرف على أنها أرقام أو رموز تظهر بشكل واضح فيما يتعلق بالورقة أو أي وسيط آخر. وبالتالي، فإن الفضاء العمودي هو الذي يؤدي إلى النزول من أعلى الورق إلى أسفلها.

لكن السؤال الذي يبقى مطروحا في نظر ليمانس هو؛ إلى أي مدى تكون هذه الدوافع حقيقة معرفية، وبالتالي، إلى أي مدى لا يزال هناك مخطط يوحّد معنى المرتبط بالجلوس مع الطراز الأولي. يبدو من المحتمل جدًّا أن المتحدثين يمكنهم ببساطة اعتبار معاني الجلوس لا صلة لها بمقولات طرازية أولية، مادام هناك غياب خطاطة تصورية موحدة. هذا لا ينفي أن هذا الاستخدام غير راسخ جيدًا أو أنه أصبح في حد ذاته مصدرًا منتجًا للتوسيعات الجديدة، لأن كل شيء مطبوع يمكن أن يقال إنه "ثابت"، بدءًا من الصور في الكتاب إلى الرموز على سطح المكتب أو الملفات الموجودة على الكمبيوتر أو على الإنترنت أو الأغاني الموجودة على قرص أو قرص مضغوط (مصمم طباعته على الوسائط)[33].

4. الاستعارة والكناية

تلعب الاستعارة والكناية في الدلاليات المعرفية (المعجمية) دورًا رئيسا، باعتبارها مبادئ بنيوية في المقولة الدلالية. والأهم من ذلك، لا يُنظر إليها عادة على أنها ترابطات لغوية بحتة، بل تشكل بالأساس ترابطات تصورية. لقد وضع كتاب ليكوف وجونسون 1980م، الاستعارات التي نحيا بها، الأساس لنظرية الاستعارة التصورية، وتبعته في ذلك نظريات معرفية أخرى، من قبيل؛ نظرية الفضاءات الذهنية عند فوكونييي 1985م، ونظرية الأطر عند فيلمور 1984م، ربما كان المنشور الذي عمم فكرة الطبيعة المعرفية للاستعارة (على وجه الخصوص) التي يقال إنها تبني طريقة حديثنا، فكر واعمل، فكرة كانت، مع ذلك، سابقة مهمة في مقال الفيلسوف ماكس بلاك حول الاستعارة عام 1954م.

في الدلاليات المعرفية، يتم تعريف الفرق بين الاستعارة والكناية عادة بطريقتين: أولاً، تختلف على مستوى الآليات الأساسية: تعتمد الاستعارة على التشابه (المدرك)، حيث يقال إن كيانًا ما يُفهم من حيث كيان آخر (على سبيل المثال؛ الجذال حرب، والحب رحلة، والتغيير حركة، والغضب حرارة في حاوية، وما إلى ذلك). على النقيض من ذلك، يتم تعريف الكناية من حيث الإحالة، حيث يتم استخدام كيان واحد للإحالة على كيان آخر؛ لأنه (تصوريا) متجاورًا معه أو مرتبطا به من الناحية التصورية. وعليه، فالكناية تحفز التواصل اليومي المتجسد، حيث يتم استخدام لفظ "الباب" كلما لاحظنا وجود "الفتحة في الجدار" ووجود "اللوحة التي تغطي تلك الفتحة". وبالتالي، يمكن القول إن التواصل اللغوي اليومي هو الدافع وراء استخدام الكناية. وأما الفرق الثاني بين الاستعارة والكناية الذي غالبا ما يتم التذرع به (والذي يتبع منطقيا من السابق) هو أن الاستعارة تتعلق برسم الخرائط والاستنتاجات من خلال مختلف المجالات (أو، بشكل أدق، الأطر)، بينما تعني الكناية تغييرًا داخل نفس المجال، على سبيل المثال، فمعاني القتل تستخدم بواسطة تعابير لغوية مختلفة، كأن نقول؛ قتل الإنسان، وقتل الحياة على الكوكب، يمكن اعتبار هذه الاستخدامات مرتبطة من الناحية المعرفية، مما يسمح بإسقاط مثال (كائن حي) على عملية أكبر (حياة)، لكن العلاقة بين المجالين ليست استعارية؛ لأن كليهما لا يزال مميزًا عن الآخر، فالقتل الفعلي للإنسان يتميز عن قتل الحياة. ومع ذلك، فإن استخدمنا، مثلا، التعبير؛ قتل عملية السلام، فهو استخدام استعاري.

لاحظ ليمانس أن الكناية تبين جزءا مهما من نسقنا التصوري على أساس مبادئ المجاورة الفضائية والسببية، كما تعمل على تغيير المعنى الأصلي في مجال المصدر، حيث كناية منتج/ منتوج، كما في قولنا: "تحت الضغط الاقتصادي، قررت فورد قتل إنتاج السيارة (المنتوج)"، وتحت الضغط الاقتصادي، قررت فورد قتل السيارة (المنتج)[34]. وبالتالي، يمكن تعريف الكناية بأنها تغيير في المعنى الأصلي داخل المجال: "فقدرة المتحدث على تحديد المعنى التصوري يختلف بحسب السياق داخل نفس المجال، وانطلاقا من الوضع الذي يحيل عليه عادةً بالكلمة"[35]. غالبًا ما تكون هذه التغييرات محفزة؛ لأن المرء يركز على جانب معين في سياق معين ويغفل جوانب أخرى؛ على سبيل المثال، إذا قلت إن هناك وجوهًا جديدة في الصف اليوم، فأنا أستخدم الوجوه بشكل مجهول؛ لأنها جزء من شخص واحد يسمح لي بالتعرف عليها (أو لا، في هذه الحالة)، وهنا نستخدم كناية الجزء للكل. وبالمثل، في الحالة التي نتحدث فيها عن مساعدة الناس، فإننا نركز في حديثنا على تقديم يد العون وهو جزء من الجسم الذي نستخدمه بشكل نمطي لمساعدة الآخرين. في هذا السياق أشار ليمانس إلى أن السببية الطرازية يمكن أن تحفز أيضًا التغييرات المعرفية: تركز السببية الطرازية للحياة بشكل عام على نقطة النهاية، وبالتالي نقول، مثلا، أن زيد تخلى عن الطفل، بينما هناك أسباب أخرى غير طرازية غالباً ما تقلل من ذلك المظهر العام للحياة عندما نستخدم لفظ الجنين بدلا من الطفل؛ على سبيل المثال، للمرأة الحق في الإجهاض إذا رغبت في ذلك، فغالبًا ما تختار المواقف الحيادية، من قبيل إنهاء الحمل بدلا من التخلي عن الطفل[36].

لكن الفرق بين الاستعارة والكناية سيكون واضحًا بشكل عام، إلا أن المثال الأخير يظهر في الواقع أن هذا قد لا يكون كذلك. على الرغم من أنه يمكن اعتبار الحمل والجنين/ الطفل مرتبطين من الناحية المعرفية، ويمكن اعتبار إنهاء الحمل أيضًا استعارة؛ لأنه يمثل لحظة تخلي عن عملية الولادة (استخدام استعاري)، تمامًا مثل التخلي عن مهمة أو إجهاض. قد لا يكون معيار عبور حدود المجال الذي يستخدم غالبًا في الدلاليات المعرفية مفيدًا، نظرًا لصعوبة تحديد ماهية المجال[37]. يبدو أن قرار عبور الحدود غالبًا ما يكون مخصصًا؛ أي بعد أن نقرر بالفعل أننا استخدمنا اللفظ استخداما استعاريا. ولكن حتى ذلك الحين، ليس من السهل دائمًا اتخاذ مثل هذا القرار. في هذا السياق، استشهد ليمانس بمثال أفعال موقف "الكاردينال الهولندي" التي يتم استخدامها بشكل متكرر، كأفعال أساسية للتعبير عن موقع أي كيان في الفضاء؛ فإذا كانت الزجاجة تقف على الطاولة (الدعامة)، فهل نعتبر هذا الاستخدام استعاري أم لا؟ من الواضح أنه لم يعد يتميز بالمجال الأصلي، ولكن هذا الاستخدام الاستعاري للأشياء الجامدة متأصل جدًا، ويمكن تطبيقه على مجموعة واسعة من الأشياء (أجهزة الكمبيوتر، والهواتف، والطابعات، والسيارات، والقطارات، والأطباق، والحاويات، والطفايات، والفطائر، وما إلى ذلك)، التي يمكن اعتبارها نسخًا تصوريا (حرفيًا) لخطاطة الصورة؛ فوق-تحت، بحيث يكون هذا الكائن قائم على قاعدة بدون دعامة، ويكون الإنسان في وضع قائم عبارة عن مخطط فرعي مميز.

تصبح القصة أكثر تعقيدًا عند تقديم الكناية، كما هو موضح أعلاه، ففي الدلاليات المعرفية، من الشائع اعتبار الكناية كآلية لتوسيع فهمنا تشتغل في مجال معين. لنتأمل في الأمثلة التالية حول "الجلوس" في المجتمع الهولندي:

(1). أ -إنها تجلس على الكرسي.

ب -إنها تجلس في السيارة.

ج -إنها تجلس في القبو.

الاستخدام الأول يبدو واضحا، حيث يكون الشخص في وضعية الجلوس النموذجي، ويحدد السياق الذي يحيط به جزئيًا من خلال توظيف الكرسي كدعامة. أما المثال الثاني، فيتضمن إسقاطا دقيقا لهذه الدعامة (المقعد) على أكبر مساحة مغلقة وهي السيارة، تمامًا مثل المثال الأخير. والفرق بين المثال الثاني والثالث، مع ذلك، هو أن الجملة (ب) تشير دائمًا إلى وضع الجلوس، في حين أن المثال (ج) ربما لا تشير إلى وضعية الجلوس (حتى لو لم يتم استبعاده) يمكن استخدام الجلوس كوضعية متحررة تسمح لنا بالمشي في القبو. وفقًا لهذا التفسير، لم يعد الاستخدام محددا في وضع معين، وبالتالي يجب وصفه بأنه استخدام استعاري (بوساطة الكناية)[38]. استخدام لفظ الجلوس كما في المثال الأخير، يعكس فكرة السجن أو الضيق بدلاً من وضعية الجلوس النموذجي، فهناك أمر شائع للغاية باللغة الهولندية، ولا يقتصر على البشر؛ لأن أي كائن مغلق في حاوية (ضيق) يمكن ترميزه باستخدام zitten حتى يتمكن المتحدثون من اعتباره لفظ غير استعاري. لذلك، يبدو أن مثل هذه الاستخدامات المحلية تعبر الحدود التصورية بين المجالات (النموذجية) وأخرى هامشية.

هكذا، فالاستعارات قد تكون تعبيرات كنائية تتعلق بالمجال المجرد، فعلى سبيل المثال، نقول إن خطأ ما "يكمن" في تفكيرك، أو شخص ما يجلس في حالة اكتئاب. على الرغم من هذه المشاكل، من الآمن أن نفترض أن الاستعارة والكناية هي مبادئ معرفية تلعب دورًا أساسيا في تشكيل التصورات الدلالية، كاللغة، والمعنى، والنحو، والصدق. وكل تمييز صارم وحرفي بينهما ليس من السهل دائمًا، خصوصا عندما نستخدم الاستعارة، فهي تنشأ من بنية الطراز الأولي الأولي للمقولات التي لا تكون فيها الحدود صارمة دائمًا[39].

الاستنتاجات

نستنتج من خلال ما سبق، إلى الإقرار بأن مشكلة المعنى مشكلة مركزية في الدلاليات المعرفية، مادامت هذه الأخيرة لا تركز على دراسة المعنى من خلال ربطه بالظواهر اللغوية، كالتركيب والدلالة، والتداولية، فقط، بل تسعى إلى تفسير بنية المعنى من خلال ربطه بالظواهر التصورية، كالفهم، والمقولة، والانتباه، والإدراك، والإحساس، وغيرها. وهذا ما يجعل بنية المعنى في هذا الإطار بنية موسوعية تستد إلى خطاطات تصورية، سواء كانت خطاطة تصورية ذاتية نابعة من التجربة الشخصية، والعمليات التخييلية للإنسان، أو كانت موضوعية مستمدة من التجربة القاعدية المشتركة بين الناس داخل ثقافة ما. غير أن الخطاطة التصورية القاعدية تقبل التوسيع إلى حدودها القصوى وتتشابك إلى حد التعقيد، مما يضفي على المعنى الطابع الموسوعي الذي يشكل جوهر الدلاليات المعرفية. وبالتالي، نجد أنفسنا أمام معاني متعددة للفظ الواحد أو على الأقل استخدامات متعددة للمعنى، منها ما يرتبط بالمعنى المركزي النموذجي (الطرازي) ومنا ما يتعلق بالمعنى الهامشي (الفرعي). وتلعب العمليات الذهنية، كالمقولة، والسببية، والتجسد، والعمليات التخييلية، كالاستعارة، والكناية، والتصوير، دورا محوريا في عملية توسيع بنية المعنى، باعتبارها بنية شعاعية لها مركز وهامش.

هكذا إذا أردنا تلخيص تصور الدلاليات المعرفية في عدد محدد من الكلمات الرئيسة، فإن النتائج المرشحة والمناسبة ستكون، من قبيل؛ إدراك البنيات الدلالية كبنيات تصورية له ارتباط مباشر بالمعنى الموسوعي، كما أن بناء المعنى وتشكيل الدلالات تخضع للقدرة المعرفية عند الإنسان لتصور التجربة بطرائق جديدة وبديلة، وبما أن المعنى يخضع لتوسيعات استعارية تصورية، فإن مخططات الصور أو الرسوم التخطيطية للتجربة الجسدية، والطراز الأولي المنظم للمقولة هي التي تجعلنا قادرين على التمييز بين المعنى المركزي والمعنى الهامشي. لا تقتصر هذه المبادئ على العناصر المعجمية فحسب، ولكنها تكمن وراء البنيات اللغوية على جميع المستويات، بدءًا من الحدود المنطقية والعناصر المعجمية والتعابير شبه المفتوحة، إلى خطاطات تصورية للمقولات الدلالية.

[1]- أستاذ اللسانيات بكلية اللغات والآداب والحضارات الأجنبية، قسم الدراسات الناطقة باللغة الإنجليزية، جامعة ليل (3) بفرنسا. يشتغل بها مارتن ليمانس بعدة مجالات، أهمها: اللغويات المعرفية، نحو البناء، الدلالات معجمية.، التعبيرات المكانية، الإيماءات اللفظية المشتركة.

[2]- تشكل الدلاليات المعرفية حركة تجمع بين عدد من النظريات تشترك في الأسس والمنطلقات، وتختلف في وظائفها وتوجهاتها والموضوعات المدروسة. وعموما، فهي تنقسم إلى تيارين أساسيين: الدلاليات المعرفية مع ليكوف، وتولمي، وفوكونيي، وليماس...إلخ. والنحو التوليدي مع تشومسكي، وآخرون في نسخته الأدنوية.

[3]- Lemmens, Maarten, Cognitive Semantics, in: Routledge Handbook of Semantics. Editor: Nick Riemer, London & New York: Routledge, 2015, pp: 90- 105.

[4]- Langacker, Ronald W. Foundations of Cognitive Grammar. Vol. I: Descriptive Application. 1987, p13.

[5]- Tomasello, Michael. Language is not an instinct. Cognitive Development v :10, 1995, pp: 131–156

[6]- Lemmens, Maarten, Cognitive Semantics, op, cit, p. 90

[7]- Taylor, J. R. The Mental Corpus: How Language is Represented in the Mind. Oxford: Oxford University Press, 2012, p. 18

[8]- Lemmens, Maarten, Cognitive Semantics, op, cit, p. 9.

[9]- Jackendoff, Ray Construction after construction and its theoretical challenges. Language, v: 84, 2008, pp: 8-28

[10]- Langacker, Ronald W. Foundations of Cognitive Grammar. Vol. II: Descriptive Application. Stanford: Stanford University Press. 1991a, p. 76

[11]- Langacker, Ronald W. Foundations of Cognitive Grammar. Vol. I: Descriptive Application. 1987. p. 99

[12]- Lemmens, Maarten, Cognitive Semantics, op, cit, p. 92

[13]- Dancygier, Barbara and Eve Sweetser. Figurative Language. Cambridge: Cambridge University Press, 2014, p. 223

[14]- Fillmore, Charles. Frames and the semantics of understanding. Quaderni di Semantica, v: 6, 1985, pp: 222–254

[15]- Gibbs, Raymond W., Dinara A. Beitel, Michael Harrington and Paul E. Sanders. 1994. Taking a stand on the meanings of stand: bodily experience as motivation for polysemy. Journal of Semantics, v, 11, 1994, (pp: 231–251) p. 233

[16]- Lakoff, George. Women, Fire and Dangerous Things. Chicago: Chicago University Press, 1987, p. 273

[17]- Lemmens, Maarten, Cognitive Semantics, op, cit, p. 92

[18]- Ibid., p. 93

[19]- Levinson, Stephen C. Space in Language and Cognition: Explorations in Cognitive Diversity. Cambridge: Cambridge University Press, 2003b, pp: 25-46

[20]- Lemmens, Maarten, Cognitive Semantics, op, cit, p. 93

[21]- Ibid., p. 94

[22]- Langacker, Ronald W. 1991b. Concept, Image, and Symbol. Berlin and New York: Mouton de Gruyter, p. 5.

[23]- Lakoff, George. Women, Fire and Dangerous Things, op, cit, p. 47

[24]- Lemmens, Maarten, Cognitive Semantics, op, cit, p. 94

[25]- Ibid, p. 94

[26]- Ibid, p. 95

[27]- Ibid, p. 96

[28]- Rice, Sally. Prepositional prototypes. In René Dirven and Michael Pütz (eds), The Construal of Space in Language and Thought. Berlin and New York: Mouton de Gruyter, 1996, (pp: 135–165), p. 141

[29]- Lemmens, Maarten, Cognitive Semantics, op, cit, p. 97

[30]- Lemmens, Maarten The semantic network of Dutch zitten, staan, and liggen, In John Newman (ed.) The Linguistics of Sitting, Standing, and Lying. Amsterdam and Philadelphia: John Benjamins, 2002, pp: 103–139

[31]- Croft, William and Alan Cruse, Cognitive Linguistics. Cambridge: Cambridge University Press, 2004, p. 126

[32]- Lemmens, Maarten, Cognitive Semantics, op, cit, p. 98

[33]- Ibid, p. 99

[34]- Ibid. p. 99

[35]- Croft, William and Alan Cruse. Cognitive Linguistics, op, cit, p. 48

[36]- Lemmens, Maarten. Lexical Perspectives on Transitivity and Ergativity. Causative Constructions in English. [Current Issues in Linguistic Theory 166]. Amsterdam and Philadelphia: John Benjamins, 1998, p, 211

[37]- Clausner, Timothy and William Croft, Domains and image schemas. Cognitive Linguistics, v; 10, 1999, pp: 1–35

[38]- Lemmens, Maarten, Cognitive Semantics, op, cit, p. .10

[39]- Ibid, p. 101