مشهد الفلسفة
فئة : حوارات
مشهد الفلسفة([1])
جرت هذه المقابلة في 22 أبريل، 1978. وقد أجرى الحوار مورياكي وتناب، وهو خبير مسرح ياباني ومتخصص في الأدب الفرنسي. ونشرت هذه المقابلة في يوليوز، 1978، تحت عنوان "مشهد الفلسفة".
وتناب: لماذا تتكرر ثيمات النظرة وثيمة المسرح داخل كتاباتك بشكل مستمر، حيث يبدو أنها تحكم الاقتصاد العام للخطاب؟
ميشيل فوكو: أعتقد فعلا، أن هذا السؤال على قدر كبير من الأهمية؛ فالفلسفة الغربية لم تهتم حقيقة بالمسرح، ربما منذ إدانة أفلاطون له؛ إلا أنه ينبغي انتظار لحظة نيتشه، لكي يتم من جديد طرح سؤال العلاقة بين الفلسفة والمسرح بكل حدته في الفلسفة الغربية. أعتقد في حقيقة الأمر، أن فقدان المسرح لمكانته في الفلسفة الغربية هو في حد ذاته طريقة لطرح سؤال النظرة؛ فمنذ أفلاطون، وديكارت على وجه الخصوص، واحدة من بين الأسئلة الفلسفية الأكثر أهمية هي معرفة على ماذا يرتكز فعل مشاهدة الأشياء، أو بالأحرى معرفة ما إذا كان ما نراه حقيقيا أم وهميا، وما إذا كنا في عالم الحقيقة أم في عالم الكذب؛ ذلك أن وظيفة الفلسفة تتمثل في الفصل بين الواقع والوهم، بين الحقيقة والكذب، والحال أن المسرح شيء يتجاهل هذه التمييزات على الإطلاق، فلا معنى لسؤالنا عما إذا كان المسرح حقيقيا وواقعيا، أم وهميا وكاذبا، لأنه بمجرد طرح هذا السؤال نعمل على تغييب المسرح. فالإقرار بعدم وجود أي اختلاف بين الصحيح والخاطئ، بين الحقيقي والوهمي، هو شرط عمل المسرح.
لا أَدَّعي كوني خبيرا مسرحيا مثلكم، ودون أن أستطرد في المشاكل المرتبطة بالمسرح كما فعلتم، هناك شيء ما يهمني ويغريني. ما أود فعله هو محاولة وصف الطريقة التي رأى بها الغربيون الأشياء دون طرح سؤال ما إذا كان هذا صحيحا أم لا، محاولة وصف الطريقة التي صعدوا من خلالها، بفضل لعبة مشاهدتهم للأشياء، إلى مسرح العالم. لا يهمني بالأساس كون طب الأمراض العقلية حقيقيا أم مزيفا، على أية حال ليس هذا هو السؤال الذي أطرحه؛ لا يهمني أيضا ما إذا كان الطب يقول أخطاءً أو حقائق، لأن هذا السؤال يهمّ المرضى كثيرا، ولكنني باعتباري محلّلا إذا أردتم، ليس هذا ما يهمّني، خصوصا وأنني لست مهيأ لأعمل على الفصل بين الحقيقة والخطأ والتمييز بينهما. لكن، أود معرفة كيف وضعنا المرض في مشهد، كيف وضعنا الجنون في مشهد، وكيف وضعنا الجريمة في مشهد؛ بمعنى آخر، كيف أدركنا هذه الأشياء وكيف تلقيناها، ما القيمة التي منحناها للجنون وللجريمة والمرض، وما هو الدور الذي أسندناه لها. أتطلع إلى كتابة تاريخ للمشهد، نحاول انطلاقا منه التمييز بين الصحيح والخطأ، لكن هذا التمييز لا يهمّني بقدر ما يهمني تأسيس المشهد والمسرح؛ وهذا هو المسرح الذي أودّ وصفه، مسرح الحقيقة.
كيف تمكن الغرب إذن، من بناء مسرح للحقيقة، مشهد للحقيقة، مشهد يخص هذه العقلانية التي أضحت اليوم بمثابة علامة على النزعة الاستعمارية لرجال الغرب، لأن اقتصادهم؛ أي الاقتصاد الغربي، قد وصل ربما إلى نهاية ذروته، فمعظم أشكال الحياة وأشكال الهيمنات السياسية للغرب قد بلغت نهايتها دون أدنى شك. غير أن شيئا ما ظل قائما، شيء تركه الغرب من دون شك لبقية العالم، يتعلق الأمر بشكل من أشكال العقلانية؛ أي بصيغة لإدراك الحقيقة والخطأ، إنه نوعا ما مسرح الحقيقي والمزيف.
وتناب: فيما يتصل بعلاقة القرابة التي تجمع بين خطابك والمسرح، فاللذة التي أشعر بها في القراءة لكم- بارتBarthes [2] يسميها لذة النص- تتعلق بالتأكيد بطريقتكم في الكتابة: تنظيم درامي شديد لكتاباتك، كما هو الشأن بالنسبة إلى كتابك "المراقبة والمعاقبة"[3]، "إرادة المعرفة"[4]؛ كما أن قراءة بعض الفصول من كتاب "الكلمات والأشياء"[5] تمنحنا لذة تعادل قراءة أعظم التراجيديات السياسية لجان راسينRacine [6] مثل تراجيدية بريتانيكوس Britannicus.
ميشيل فوكو: هذا يشعرني بالإطراء، يشعرني بالإطراء كثيرا.
وتناب: ليس من الخطأ إذن، أن نرى في شخصكم آخر كبار الكتاب الكلاسيكيين، هذا إذا لم يكن عندكم مانع طبعا. لست معجبا بهذا الجانب الأسلوبي الذي يسم مؤلفاتك، لأنني أشتغل على جان راسين، إذا صحَّ تعبيري، ولكن بكل بساطة لأن أسلوبك هذا يستجيب لاختيار وتصور معين عن الكتابة، حينما اقترحتم تقديم وصف لخطوط القوة التي قطعت تحولات إبستمولوجية أو مؤسساتية كبرى في العالم الغربي. مثلا، في عدد خاص من مجلة قوس Arc "la crise dans la tête" -والتي صُمِّمَت في البداية كعدد مخصص لميشيل فوكو، وقد قمتم برفض هذا بقولكم إن العدد الخاص يمَّحي-، يمكننا قراءة المقابلة التي أجريتها مع فونتانا Fontana والتي نُشرت بداية في اٍيطاليا. في هذه المقابلة، تحدثتم عن ضرورة "تمييز الأحداث، والتفرقة بين الشبكات والمستويات التي تنتمي إليها، وإعادة نسج الخيوط التي تربط فيما بينها وتجعلها تتولد من بعضها البعض". لقد أصررتم على "رفض التحليلات التي تحيل على الحقل الرمزي أو على مجال البنيات الدالة" لصالح "الاستعانة بالتحليلات التي نقوم بها فيما يتصل بجينيالوجيا علاقات القوى، التطورات الاستراتيجية والتكتيكات". لا ينبغي علينا أن نعود إلى "نموذج ضخم للغة والعلامات"، ولكن يجب علينا أن نعود إلى "نموذج ضخم للحرب والمعركة"، لأن "التاريخية التي تتملكنا وتحددنا هي تاريخية عدوانية"، وليست تاريخية "لغوية". ما يجب علينا أن نبحث عنه ليس "علاقة المعنى"، بل ينبغي علينا أن نبحث عن "علاقة السلطة". وعلى كل حال، وكما أشار رولان بارت Barthes في تحليله، فإن تراجيديا جان راسين Racine تحكمها علاقات قوى، هذه الأخيرة تشتغل من خلال علاقة مزدوجة بين الهوى والسلطة. إن استراتيجية الانفعال الراسينية عدوانية بكل تأكيد، ومن المرجح أنه بفعل النزعة الواقعية المتضمنة في المواجهات الدرامية والعدوانية، وجدت علاقة قرابة جينيالوجية لخطابك مع الكتابة الراسينية.
يشكل المسرح بصفته عرضا دراميا، على الأقل في الثقافة الغربية، المواجهة النموذجية على المنصة، هذه الأخيرة تكون بمثابة "حقل للمعركة" وفضاء للاستراتيجيات والتكتيكات بامتياز. إذا كانت النظرة في مؤلفاتك مشابهة للعبقرية الجليلة لفن التأليف المسرحي الفرنسي الكلاسيكي، فإن هذا هو ما سمح ببروز هذه المواجهات التاريخية العظمى، والتي ظلت إلى الآن متخفية أو غير معروفة.
ميشيل فوكو: إنكم على حق تماما، إن ما لا يجعلني فيلسوفا بالمعنى التقليدي للكلمة- ربما لست فيلسوفا البتة، على أية حال، لست فيلسوفا جيّدا- هو كوني لا أهتم بالسرمدي، ولا أهتم بالثابت، ولا بالذي يظل مستقرا تحت لمعان المظاهر؛ لكنني أهتم بالحدث، الحدث الذي كان بالكاد مقولة فلسفية، باستثناء الرواقيين[7] ربما، الذين طرح هذا المفهوم لديهم مشكلا منطقيا. لكنني أعتقد مجددا أن نيتشه هو أول من عَرَّف الفلسفة، باعتبارها الفعالية التي تعمل على معرفة ما الذي يحدث وما الذي يحدث الآن؛ وبعبارة أخرى، لقد تم اختراقنا بواسطة عمليات وحركات وقوى، هذه العمليات والقوى لا نعرفها، ومهمة الفيلسوف تكمن في تشخيص هذه القوى، وأن يقوم بتشخيص المستجدات؛ وأن يجيب عن سؤال: من نحن؟ وماذا يحدث؟ هذان السؤالان يختلفان أشد الاختلاف عن الأسئلة التقليدية: ما هي النفس؟ وما هو الخلود؟ ففلسفة الحاضر، فلسفة الحدث، فلسفة ماذا يحدث، هي بشكل من الأشكال عبارة عن إعادة تملك لما يهتم به المسرح عن طريق الفلسفة، وذلك لأن المسرح يهتم دائما بالحدث، ومفارقته تتجلى بالتحديد في كون هذا الحدث يُكَرِّر ذاته باستمرار في كل الأمسيات طالما أننا نلعبه، ويُكَرِّر ذاته إلى ما لا نهاية أو في كل مرة في وقت غير محدد، بما أنه دائما إحالة على حدث متكرر وسابق. إن المسرح يقبض على الحدث ويضعه في مشهد.
صحيح أنني حاولت في مؤلفاتي تناول حدث بدا لي ضروريا بالنسبة إلى مستجداتنا، على الرغم من كونه حدثا سابقا. فبالنسبة إلى الجنون مثلا: بدا لي أنه كان هناك فصل بين الجنون واللاجنون في مرحلة معينة داخل العالم الغربي، كما كان هناك في مرحلة أخرى طريقة معينة في تناول حدة الجرم والمشكل الإنساني الذي تطرحه الجريمة. يبدو لي أننا نكرِّر هذه الأحداث، نكرِّرها في حاضرنا؛ وقد حاولت أن أقبض على الحدث الذي نشأنا تحت تأثيره، وعلى الحدث الذي لا زال يخترقنا.
لقد كنتم تماما على حق، - ولكنني في النهاية أشعر بالإطراء كثيرا، وأنا أتحدث بقدر كبير من اللين- فهذه الكتب كانت فعلا عبارة عن أعمال مسرحية. أدرك جيّدا العائق الذي يطرحه هذا الأمر، وأخاطر بارتكاب خطأ تقديم شيء ما، باعتباره حدثا مهما أو دراميا، وهو ربما لا يحظى بتلك الأهمية التي منحتها له. ومن هنا، فإن خطئي هذا- ينبغي أن نتحدث عن عيوبه وآفاقه في نفس الوقت- هو على الأرجح نوع من التكثيف ومن إضفاء طابع الدراما على الأحداث التي ينبغي أن نتحدث عنها بقليل من الحماس. ولكن في نهاية المطاف، من الضروري في كل الأحوال أن نقدم لهذه الأحداث السرية حظها الأوفر، هذه الأحداث التي تتلألأ في الماضي وتطبع أيضا حاضرنا.
وتناب: يبدو لي أن ما قلته بخصوص الأحداث السرّية هو على قدر كبير من الأهمية، لاسيما وأن تضخم الأحداث أو التثمين الإعلامي المبالغ فيه لكل حدثية، يهدد بإقصاء الحدث بوصفه حدثا. ومن الملاحظ أن هناك نوعا من الارتياب تجاه هذه الأحداث، والتي هي عبارة عن تمثلات منقولة بواسطة شبكة وسائل الإعلام. لقد حاولتم إعادة القبض على الأحداث بوصفها عوامل حقيقية للتحول؛ فثيمات النظرة والمشهد والتأليف المسرحي والحدث ترتبط بثيمة المكان كما لو كانت بينهما رابطة منطقية.
أعلنتم مسبقا في مقدمة كتابكم "ميلاد العيادة"[8]، أن موضوع هذا الكتاب هو المكان، واللغة والموت، ليليها بعد ذلك التساؤل حول النظرة. وإذا سمحتم لي بمثل هذا الرسم التوضيحي، يبدو لي أن براديغم تحليلك وخطابك يتألف من عدد معين من المصطلحات أو الدوافع، مثل "الفضاء"، "اللغة"، "الموت"، "النظرة"؛ وأن دافع الموت يُستعاض عنه بموجب موضوعات التحليل بالجنون، بالجريمة أو بالإبيستيمي. ومن بين هذه الدوافع الأساسية، نجد أن دافع المكان الذي حظي بالسبق، تربطه علاقة وطيدة مع المسرح؛ كما اقترح تحليلك وخطابك وإلى حدود كتابك "المراقبة والمعاقبة"، نشأة وتَكَوّن مكان مغلق في خصوصيته كموضوع تحقيق. لقد كانت العيادات، وملاجئ الأمراض العقلية، والسجون أمكنة مغلقة، جرى تأسيسها بموجب عزلها عن بقية الجسد الاجتماعي، مع بقائها من الناحية الطوبولوجية داخل المدينة. الاحتجاز الكبير للمجانين في القرن السابع عشر كما قمت بتحليله في كتابك "تاريخ الجنون"[9]، يعتبر مثالا نموذجيا على ذلك.
تستهدف تحليلاتك أيضا، وكما تحدثتم البارحة في الندوة المنظمة في جامعة طوكيو، ميكانيكا السلطة في المؤسسة القانونية. اسمح لي بفتح قوس صغير يتعلق باستبعاد آخر، استبعاد الكلام عند ستيفان ملارميه [10]Mallarmé، لأنه يشكل تجربة شعرية أساسية بالنسبة إلى الحداثة الغربية. لقد لاحظتم بأنفسكم في مقابلتنا قبل ثمان سنوات[11]، أن الأدب الحديث منذ هولدرين[12] Holderlin تشكل تحت عنوان الجنون، وذلك من أجل أن ينفصل هذا الأدب جذريا، من حيث هو لغة جوهرية أو من حيث هو لغة أخرى، عن اللغة العادية التي تشتغل وكأنها عملات؛ وهذه اللغة المستبعدة بحكم وضعها كإقصاء اجتماعي تنتهي إلى أن تشبه كلاما آخر مقصيا، إلى أن تشبه كلام الجنون، بمعنى أن تشبه ما سميته في سياق آخر "حصة النار" مشيرا إلى موريس بلانشوBlanchot [13]. أسمح لنفسي بتذكيرك بهذا المشهد، لأقول لك بكل بساطة إن المتأثرين بميشيل فوكو في اليابان كانوا في البداية أناسا يقرؤون فوكو، وخاصة كتاباته حول الحداثة الأدبية الغربية، من ملارميه Mallarmé إلى جورج بتاي[14] Bataille وإلى بيير كلوسوفسكي[15] Klossovski.
بناء على ذلك، فإن تحليلاتك لا تستهدف مضمون هذه الأمكنة المعزولة، المغلقة والمستبعدة، بل تستهدف ميكانيكا السلطة التي تحتاجها هذه الأمكنة، مع العلم بحدود فعاليتها. بهذا المعنى، فإن تحليلاتك لا تتحدث عن المسرحية التي تُلعب في هذه الأمكنة المتميزة أكثر مما هي مغلقة ومستبعدة، ولكنها تتحدث عن إخراج أو إنشاء الجهاز الذي يجعل مسرح المكان هذا ممكنا.
يبدو لي أن بداية كتابك "المراقبة والمعاقبة" بداية نموذجية: يُستبدل المشهد الاحتفالي والدموي الكبير لتعذيب داميان، وبدون حركة انتقالية، بتدقيقات وتنظيمات باردة لمؤسسة إصلاحية تضطلع بمهمة إصلاح الشباب المنحرف. رفض هذا الطابع المسرحي الاحتفائي أو على الأقل اختفاءه في السجلات التأديبية، يسير في نفس المستوى مع عملية استيعاب المنظور المسرحي في جهاز السلطة كما تصوره جيريمي بنتام[16] في وضعه للنظام البانوبتيكي. على أي حال، فتوزيع وإعادة تنظيم المكان في مؤلفاتك ينظر إليهما كعوامل استراتيجية أساسية لجهاز السلطة.
ميشيل فوكو: بكل تأكيد؛ في الوقت الذي كنت فيه طالبا، كان هناك نوع من البرغسونية هيمن على الفلسفة الفرنسية؛ لا أقصد أن هذا الصنف من البرغسونية كان يمثل حقيقة برغسون، وإنما أبعد من ذلك. لقد مُنِح نوع من الامتياز لكل التحليلات الزمانية على حساب المكان الذي اعتُبِر كشيء ميِّت وجامد. في وقت آخر، أتذكر- وهي حكاية أعتقد أنها ذات دلالة بالنسبة للبرغسونية المتجددة، والتي مازلنا نعيش في كنفها- أتذكر أنني قمت بإلقاء محاضرة في مدرسة للهندسة المعمارية، وتحدثت عن أشكال تفرقة الأمكنة في مجتمع كمجتمعنا[17]؛ في النهاية، أخذ شخص ما الكلمة مع صوت عنيف للغاية قائلا: إن الحديث عن المكان معناه أن تكون عميلا للرأسمالية، فالجميع يدركون أن المكان هو الموت، هو الجماد، هو السكون الذي يريد المجتمع البورجوازي أن يفرضه على نفسه، وأن هذا في حد ذاته إنكار لحركة التاريخ العظيمة وإنكار للجدل وللدينامية الثورية. رأينا جيدا، كيف وظَّف هذا المتدخل وطَوَّر بكل بساطة، تحت شكل من أشكال التثمين البرغسوني للزمن على حساب المكان، تصورا مبتذلا جدا عن الماركسية. لا تهمنا هذه الحكاية، بقدر ما تهمنا الطريقة التي استبدل وعزز بها تصور معين للهيغيلية والماركسية عن التاريخ، التثمين البرغسوني للزمان.
وتناب: هذه هي الحادثة التي استحضرتم في السجال الوارد في مقدمة الطبعة الجديدة للترجمة الفرنسية للبانوبتيك[18].
ميشيل فوكو: صحيح، وعلى أية حال، يبدو لي أنه من المهم أن نرى كيف شكّل المكان جزءا من التاريخ؛ أي كيف نظَّم مجتمع مكانه وسجل علاقات القوى الكامنة داخله. وبهذا، وبالأحرى، فليس هناك أصالة؛ وعلى سبيل المثال، فقد بيّن مؤرخو القطاع الزراعي، كيف أن التوزيعات المكانية لم تفعل سوى ترجمة علاقات السلطة والعلاقات الاقتصادية من جهة، ثم دعمها وتجسيدها وإرسائها من جهة أخرى... يبدو لي من الضروري أن نبين كيف امتلك المجتمع الصناعي، المجتمع الرأسمالي الذي تطور ابتداء من القرن السادس عشر، شكلا جديدا من المكانية الاجتماعية هي عبارة عن طريقة معينة في توزيع الأمكنة اجتماعيا وسياسيا؛ وكيف أننا نستطيع كتابة تاريخ بلد أو ثقافة أو مجتمع ما انطلاقا من الطريقة التي يُثَمَّن ويُوَزَّع بها المكان. يبدو لي، أن أول مكان طرح مشكلا وأعلن فعلا عن هذه التفرقة الاجتماعية والتاريخية القوية للمجتمعات، هو فضاء الإقصاء والاحتجاز.
في المجتمعات الإغريقية- الرومانية، الإغريقية على وجه الخصوص؛ عندما نريد التخلص من فرد ما، فإننا نقوم بنفيه -هذا ما يكشف عنه المسرح اليوناني-. بمعنى أن هناك دائما مكانا محيطا، هناك دائما إمكانيات للعبور نحو مكان آخر يُفترض فيه أنه غير معروف، أو على أية حال، مكان ليس للمدينة نية في إدخال قوانينها وقيمها إليه. فالعالم الإغريقي كان مقسما إلى مدن مستقلة بذاتها، وكان محاطا بعالم غريب عنه؛ إذن فقد كان هناك دائما نمط من تعدد الأشكال أو تعدد الوظائف الخاصة بالأمكنة، كان هناك دائما تمييز للأمكنة وللفراغ وللخارج واللامعرف. ومن المؤكد أننا نعيش الآن في عالم ممتلئ، فالأرض صارت دائرية ومكتظة، كما أن العصر الوسيط صان ولفترة طويلة ذلك التقليد المعروف عند الإغريق، والمتمثل في التخلص من الأفراد المزعجين بنفيهم؛ وينبغي ألا ننسى أن العقوبة الرئيسة التي استخدمت في العصر الوسيط هي الإقصاء: "اخرج من هنا بعيدا، لا نريد أن نراك بيننا مرة أخرى"، وكانوا يسمون الأفراد بحديد أحمر حتى لا يعودوا مجددا، نفس الشيء بالنسبة إلى المجانين؛ إلا أنه ابتداء من القرن السابع عشر، وصلنا إلى كثافة سكانية نسبية - دون مقارنتها مع الكثافة السكانية الحالية- جعلتنا نعتبر أن العالم كان ممتلئا. وعندما وصلنا أيضا إلى تنظيم المكان داخل دولة معينة، أو من الأفضل داخل أوروبا -أوروبا ككيان سياسي واقتصادي بدأ يتشكل في أواخر القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر-، في هذه اللحظة، لم يكن من الممكن أو حتى من المقبول التخلص من شخص ما، من هنا أتت ضرورة خلق أماكن للإقصاء، ولكنها أماكن لا تملك شكل الإبعاد والنفي، بل هي أماكن احتواء: التخلص عن طريق الاحتجاز. تبدو لي ممارسات الاحتجاز واحدة من النتائج التي تمخضت عن وجود عالم ممتلئ ومغلق؛ فالاحتجاز -باختصار شديد- هو نتيجة لخصوبة الأرض.
إذن، فسلسلة من التحولات المكانية تحدث؛ لقد كان العصر الوسيط، وعلى خلاف ما اعتدنا عليه، عصرا حيث الأفراد يتنقلون طوال الوقت، وحيث لا وجود للحدود، وحيث كان الناس حركيين تماما؛ فالرهبان والأكاديميون، التجار وأحيانا حتى الفلاحون يتنقلون بمجرد فقدانهم للعلاقة التي تجمعهم بالأرض التي كانوا متصلين بها. لم تبدأ الأسفار الكبرى مع القرن السادس عشر، بل أبعد من ذلك؛ لكن المكان الاجتماعي بدأ يستقر في المجتمعات الغربية ابتداء من القرن السادس عشر والسابع عشر، مع تنظيمات حضرية ومع أنظمة الملكيات، ومع المراقبات وشبكات الطرق... هذه كانت اللحظة التي أوقفنا فيها المتشردين، واحتجزنا الفقراء، ومنعنا التسول، والعالم توقف.
ولكن، لن يتمكن العالم من الجمود بالطبع، إلا حين نؤسس أمكنة مختلفة تخص المرضى والمجانين والفقراء، ونميز الأحياء الغنية عن الأحياء الفقيرة، الأحياء المنحرفة عن الأحياء الهادئة... هذا التمييز في الأمكنة يشكل جزءا من تاريخنا، وهو بالتأكيد واحد من عناصره المشتركة.
وتناب: فيما يتعلق باليابان، هناك تجربة تاريخية مشابهة ومختلفة في نفس الوقت: تجلى ذلك في قرار سلالة Shogunat des tokugawa في القرن السابع عشر بالتحديد والمتمثل في احتجاز الحي الخاص بالمتعة والمسرح في مكان خارج عن المدينة، فالتمييز المكاني وأيضا التقسيم الطوبوغرافي استمر إلى غاية إصلاحات وتجديدات الميجي، فقد ظهر التمييز الاجتماعي بصورة ملموسة في المجال الحضري. أود أن أتحدث كذلك عن الإغراء الذي تمارسه الأمكنة الخارجية في العالم الغربي على بعض الفنانين، وعلى وجه التحديد على بعض رجال المسرح الغربيين؛ من بول كلودل[19] Claudel إلى أنتونين أرتو[20] Artaud وإلى برتولت بريشت[21]Brecht، ومنذ عهد قريب جيرزي غروتوفسكي[22] Grotowski في مسرح الشمس. والملاحظ أنه، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، بدأت بعض أشكال المسرح الغربي التقليدي تجذب بعض المسرحيين والمخرجين الغربيين، كشيء أقرب إلى الأصول ينفلت من القالب التاريخي الغربي. إنه بمعنى ما البحث الروساوي[23] عن أصول تتوجه نحو أمكنة خارج أوروبا، بحث ينقلب إلى بحث عن الآخر خارج الحضارة الغربية.
لا يمكننا اختزال كل هذه الحركة في خيار ثقافي إمبريالي بسيط للقوى الغربية. ما هو مؤكد، هو جاذبية المكان الذي يحكم فيه زمان آخر مختلف عن الزمان اللاهوتي والغائي للغرب؛ وبشكل موازٍ، أصبح علم السلالات البشرية من دوركهايم [24]Durkheim إلى مارسيل موس[25] Mauss يؤسس كل مكان مختلف كما لو كان مجال بحثه الخاص.
انتعاش موضوعة المكان الكبرى خلال الفترة الممتدة ما بين سنتي 1950-1960 كانت في الحقيقة واحدة من اللحظات الأكثر إثارة للاهتمام في تاريخ الأفكار، حيث إنه من مؤلف موريس بلانشوMaurice blanchot "المكان الأدبي"[26] إلى جون لوك كودارJean-luc godard [27] في فيلمه المعنون بـ "بيارو المجنون"[28]؛ استأنفت في مجال النقد الأدبي وفي مجال الإبداعات التجريبية والعلوم الإنسانية، إعادة تثمين المكان ضد الهيمنة القوية للزمان والتاريخ المتواطئين. ومن دون شك، فإنه ليس من الضروري أن نضيف أنه خلال هذه الحقبة بالتحديد، تشكلت سلسلة من الخطابات النظرية التي منحناها خطأ أو صوابا اسم البنيوية؛ وتظل حالة ليفي ستراوس[29]Strauss مثالا نموذجيا على ذلك: لقد كان ملزما بتحرير حقله البحثي ومنهجه من هيمنة الزمن الهيغيلي اللاهوتي الغائي، ليضمن استقلالية بحثه الأنثروبولوجي البنيوي. إن فعل التحرر هذا لم يكن ممكنا، إلا مع التسليم بتعددية الأمكنة واختلافها مقارنة بالمكان الغربي.
ميشيل فوكو: نعم، البنيوية أو ما أطلقنا عليه اسم النزعة البنيوية، في العمق، لم توجد أبدا خارج إطار بعض المفكرين، وهم علماء السلالات البشرية، مؤرخو الأديان، واللسانيون؛ لكن ما أطلقنا عليه اسم البنيوية تميزت في الحقيقة بنوع من التحرر أو الانعتاق أو بالتحوّل إذا أردتم، مقارنة بالامتياز الهيغيلي للتاريخ.
وتناب: ولكن، في نفس الوقت، من الخطأ تماما أن نخلط رفض الامتياز الهيغيلي للتاريخ بإعادة تثمين الأحداث والوقائعية، هل هذا ما تقصده؟
ميشيل فوكو: أو ربما على العكس من ذلك -لن أتحدث بطبيعة الحال باسم ليفي ستروس، إذ يمكنه أن يتحدث عن نفسه بالطبع، فقد جاء هنا بالمناسبة من أجل أن يتحدث عن نفسه-، أعتقد في كل الأحوال، أنه على العكس من ذلك، طريقة معينة لإبراز الحدث وللقيام بتحليلات تاريخية؛ لقد قيل بأنني كنت بنيويا وأنني لست مؤرخا، والحال أنه لا علاقة لي بالبنيوية وأنني مؤرخ. لكنني أتناول بالتحديد كموضوع للتاريخ؛ أي كموضوع لتحليل يجري في الزمن، أو بعبارة أخرى، فإنني أحاول أن أتناول هذه الأحداث التي تشكل تنظيما وتخطيطا لبعض الفضاءات الثقافية كموضوع يحظى بنوع من الامتياز؛ إذن فهذا هو موضوع تحليلي الأول.
من هنا يحصل اللبس، فكما تعلم، النقاد في فرنسا - لا أدري كيف يحدث هذا في اليابان- متسرعون بعض الشيء، فهم يخلطون بكل بساطة ما نتحدث عنه بما قلناه. يكفي إذن أن نتحدث عن المكان، حتى ينظروا إلينا كدعاة لنزعة التمركز حول المكان، وكمنكرين للتاريخ والزمان؛ إنها سخافات.
وتناب: هناك أصداء مباشرة لهذا في اليابان أيضا.
ميشيل فوكو: لنترك هذا جانبا، صحيح أن خمسينيات هذا القرن قد عرفت شكلا من الابتعاد عن أسلوب معتاد في كتابة التاريخ، وهذا ليس من أجل إنكار التاريخ أو رفضه أو انتقاد المؤرخين، ولكن من أجل كتابة التاريخ على نحو مغاير. انظروا إلى رولان بارتBarthes [30]، فهو مؤرخ من وجهة نظري، غير أنه لم يكتب التاريخ على النحو نفسه الذي كُتِب به إلى هذه اللحظة، وقد اعتُبر ذلك كرفض للتاريخ.
ما كان مثيرا للاهتمام، هو رؤية أن هذا الأمر قد اعتُبر من طرف الفلاسفة كرفض للتاريخ؛ غير أن المؤرخين أنفسهم لم يسقطوا في هذا الشرك، إذ إنهم اطلعوا على الأعمال التي أنجزناها، الأعمال التي أنجزها أولئك الملقبون بالبنيويين، وقد قاموا بقراءتها اليوم كأعمال تاريخية؛ وقد وافقوا عليها، وقاموا بتقديرها، وقاموا بانتقادها كأعمال تاريخية.
وتناب: نعلم أنكم تحيلون كثيرا على المؤرخ فرنارد برودلFernand braudel [31] وعلى أعماله حول العالم المتوسطي.
ميشيل فوكو: صحيح، كما أحيل كذلك على جميع المؤرخين الكبار المنتمين إلى ما نسميه في فرنسا بمدرسة الحوليات، أعلم أنني لا أذكرهم جميعا، وأنني غالبا ما أحيل على أكبرهم، والذي كان واحدا من المؤسسين لهذه المدرسة. إنه مارك بلوخ[32]Marc bloch الذي اهتم في الحقيقة بالمجال القروي، حيث حاول كتابة تاريخه. إنه لمن المهم كون البنيوية، أو ما نطلق عليه اسم النزعة البنيوية، قد حاولت الإفصاح عن نوع مختلف من الزمن؛ بمعنى آخر، ليس هناك زمن واحد على الطريقة الهيغيلية أو البرغسونية؛ أي ذلك التدفق الكبير الذي يأخذ كل شيء، هناك تواريخ مختلفة، تواريخ يوجد بعضها فوق بعض. وقد قام فرناند برودل بأعمال مثيرة للاهتمام بخصوص هذه المُدد المختلفة: نجد بعض العناصر تظل مستقرة لزمن طويل، في الوقت الذي تتراجع فيه أخرى، وفي النهاية لدينا بعض الأحداث التي تكون آثارها أو تبعاتها ذات قيم وحمولات مختلفة تماما. هناك إذن زمن وجيز ومُدد طويلة، وهكذا يكمن المشكل في إجراء تحليل لهذه الألعاب داخل الزمان.
وتناب: لا أعلم ما إذا كان هذا مجرد صدفة بسيطة أم هو ضرورة تاريخية، لكن هذا الانبعاث لإشكالية المكان توافق مع نهاية العهد الاستعماري لفرنسا.
ميشيل فوكو: بالطبع. إنها ملاحظة لم أنتبه إليها، ولكن أعتقد أنه بإمكاننا أن نربط نهاية العصر الاستعماري مع انبعاث إشكالية المكان. وهذا يعني أولا، أن المكان الأوروبي ليس هو المكان في كليته، وأننا نعيش في سلسلة من الفضاءات المتعددة الأشكال. وثانيا، هناك فكرة مفادها أنه ليس هناك تاريخ واحد فقط بل هناك أكثر من ذلك، هناك أزمنة عديدة ومُدد عديدة وسرعات عديدة تتشابك مع بعضها وتتداخل فيما بينها، لتشكل بالتحديد الأحداث؛ الحدث ليس جزءا من الزمن فحسب، بل إنه في العمق نقطة تقاطع بين مُدتين وسرعتين وتطورين، وبين خطين للتاريخ.
وتناب: في نهاية المطاف، فقد كان الاستعمار الإمبريالي نسخا لهاجس زمن متواطئ على مكان مختلف، والذي ينبغي أن يتحول وفق النموذج الغربي.
ميشيل فوكو: إن موضوع تاريخي هو نوعا ما الاستعمار الإمبريالي داخل المكان الأوروبي نفسه؛ بأية طريقة تم إرساء أشكال الهيمنة والسيطرة على الأفراد أو على فئات معينة من الأفراد، وكيف استطاعت تشغيل المجتمعات الغربية أو المجتمعات الحديثة.
هناك مثال لم يُدرس أبدا عن كثب، ولكنه يثير اهتمامي وكان لي بمثابة حلقة وصل، على الرغم من أنني لم أوفه بعد حقه من التحليل. إنها مشكلة الجيش، مشكلة الجيش في أوروبا؛ في الواقع، لم تكن أوروبا قبل الأزمنة الحديثة مؤلفة من دول عسكرية؛ فالفيودالية لم تكن نظاما عسكريا تماما، ولكنها كانت نظاما قانونيا معقدا كان فيه بعض الأفراد ملزمين، في بعض الأوقات، بمزاولة وظيفة الحرب، لكنهم لم يكونوا عسكريين؛ فإذا كانت وظيفتهم بامتياز هي الحرب، فإنهم لم يمارسوا هذه الوظيفة كمهنة، والمجتمع نفسه لم يكن منظما كجيش كبير، ولم يكن منظما على نموذج الجيش النظامي. شيء ما مثل الفيلق الروماني، والذي خدم روما كنموذج للاستعمار، نجد فيه تنظيما في التوزيع المكاني للمستوطنات الرومانية المشيدة مثلا على طول نهر الدانوب، أو في رومانيا، أو على حافة نهر الراين؛ كل هذا لم يكن موجودا، فالتنظيم المكاني للفيودالية لم يكن تنظيما عسكريا، ولو أن الشخصيات الرئيسة في المجتمع وحتى أولئك الذين يمتلكون السلطة، كانوا دائما محاربين في الوقت نفسه. لقد كانت الجيوش الأوروبية عابرة ومؤقتة، إذ تأتي لحظة أو موسم، غالبا ما كان موسم الصيف، حيث تنخرط هذه الجيوش في الحرب؛ لذلك فإننا نقوم بتجميع أناس سرعان ما يرحلون بمجرد أن تنتهي الحرب، أو غالبا قبل أن تنتهي، حين تُكسب أو تضيع المعركة، وحين تتوقف الحملة. لهذا، فقد كنا دائما في حرب وفي نفس الوقت كنا في سلام، فقد كانت هناك لحظات للحرب، ولكن لم يكن هناك مكان عسكري، فالجيوش كانت تُشيَّد ثم يتم إصلاحها فتُشيَّد من جديد.
ابتداء من القرن السابع عشر، بدأنا من جهة في الحصول على جيوش نظامية، وفي اللحظة التي تصير فيها نظامية، ينبغي موضعتها في مكان ما داخل البلاد؛ ومن جهة أخرى، لدينا أسلحة خاصة، فهناك مدافع وبالأخص بنادق، تستلزم بالضرورة أن تكون المناورات ومواقع الفيالق العسكرية والاستعداد للحرب، موضوعا لحساب ولتأمل دقيق للغاية. وهكذا نصل إلى "موكنة" مزدوجة للجيش: فهو موجود على الدوام، وينبغي توزيعه على البلد بأكمله، وأن يتم تنظيمه بطريقة تجعل تحركاته وانتشاره وطريقته في القتال تخضع لقواعد مكانية مضبوطة. هنا يتدخل نظام الجيش والتدريب من أجل قلب الجبهة، من أجل تحويل الخط إلى جبهة...
لقد صار الجيش نوعا من النموذج المكاني؛ فمثلا: أصبحت التصاميم المربعة للمعسكرات نموذجا للمدن، المدن المربعة التي ظهرت خلال عصر النهضة في إيطاليا وبعدها في السويد وفرنسا وألمانيا أيضا خلال القرن السابع عشر. فقد كان هناك ميل قوي أعرب عنه صناع المشاريع في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر بالخصوص، وذلك من أجل تشكيل مجتمع على غرار نموذج الجيش، مجتمع مؤطر بالكامل من طرف الجيش. لقد كان هناك حلم في تكوين مجتمع عسكري، وهذا ما نستشفه حقا من خلال نموذج الدولة النابوليونية من جهة، والدولة البروسية من جهة أخرى. هنا لدينا مشكلة رائعة تخص تاريخ المكان.
وتناب: هناك مقال رائع جدا لجيل دولوز[33] Deleuz بعنوان "ليس بكاتب، بل خرائطي جديد"[34]. لقد أصر دولوز على صنف من التحول وقع بين كتابيك "أركيولوجيا المعرفة"[35] و"المراقبة والمعاقبة": فإلى حدود أركيولوجيا المعرفة، كان موضوع تحليلك هو العبارات أو الأشياء المقولة، بينما استهدف تحليلك في كتاب المراقبة والمعاقبة المكان أو الأرضية التي ارتبطت بها هذه العبارات؛ أي المساحة التي ظهرت فوقها على تخوم اللغة، والمكان والأرضية والمساحة التي نؤطرها كرسم بياني. لم يعد موضوع تحليلك يقتصر على ما قيل في لحظة ما من التاريخ، وإنما امتد إلى ما تم القيام به في هذه اللحظة بالذات؛ فقد صارت مهمة تحليلك هي الكشف عن محايثة علاقات السلطة، والتي جعلت مثل هذا الإنتاج للعبارات ممكنا.
ميشيل فوكو: صحيح. لنقل إن وجهة نظري، أن أول موضوع لي كان هو تاريخ العلوم ذاته؛ لم يطرح هذا مشكلا للفينومنولوجيا، ولن تجد هذا عند سارتر[36] Sartre، ولن تجده أيضا عند ميرلوبونتي[37] Merleau-Ponty في تحليلاته المتعلقة بتكوين المعارف العلمية. ليس هذا نقدا، وإنما ملاحظة، هذا كل شيء.
لقد كنت طالبا لمؤرخي العلوم، طالبا مثلا لجورج كانغيليم[38] Canguilhem، ومشكلتي كانت هي معرفة ما إذا كان من الممكن القيام بتاريخ للعلوم يحاول إعادة تملك ميلاد وتطور وتنظيم علم معين، ليس انطلاقا من بنياته العقلية الداخلية، بل انطلاقا من عناصر خارجية يمكنها في الحقيقة أن تخدمه كسند.
على الرغم من أنني ترددت على الدوام، أو بالأحرى كنت مترددا في فترة ما، بين التحليل الداخلي للخطابات العلمية، وتحليل شروط تطورها الخارجية. ففي كتابي "تاريخ الجنون"، حاولت في آن واحد إظهار كيف تطور طب الأمراض العقلية، وما هي الثيمات التي تناولها، وما الموضوعات التي عالجها، وما هي المفاهيم التي استخدمها؛ وفي نفس الوقت، حاولت القبض من جديد على الأرضية التاريخية التي أقيمت فيها كل هذه الأشياء، أي ممارسات الاحتجاز وتحول الشروط الاجتماعية والاقتصادية في القرن السابع عشر. بعد ذلك، حاولت في كتابي "الكلمات والأشياء" استعادة هذا المشكل، ولكن استعادة مشكل الخطاب العلمي نفسه دون أن أولي أي اهتمام للسياق التاريخي الذي أقيم فيه؛ فالتحليل في كتاب "الكلمات والأشياء" هو في الأساس تحليل للأشياء المَقُولَة، وتحليل لقواعد تكَوُّن هذه الأشياء.
غير أن هناك جزءا آخر ظل معلقا - لقد قيل لي هذا كثيرا، لكنني كنت على وعي به-، إنه تحليل الشروط الخارجية لوجود وطريقة اشتغال وتطور هذه الخطابات العلمية. ببساطة، فالتفسيرات التي قدمناها في ذلك الوقت، والتي اقترحوها علي وعاتبوني لعدم استخدامها، لم ترضني على الإطلاق. يبدو لي، أنه ليس بإمكاننا حل هذا المشكل بالإحالة على علاقات الإنتاج أو إلى إيديولوجيا طبقة مهيمنة. وفي الحقيقة، فمثال الجنون أو مثال المرض - مثال طب الأمراض العقلية ومثال الطب العام -، هي أمور بدت لي أنها تشير إلى أنه ينبغي علينا أن نعثر على نقطة التجذر الخارجية لتنظيم وتطور معرفة ما، انطلاقا من علاقات السلطة الموجودة داخل المجتمع.
عندما كنت أفكر مليا، استغرقت وقتا طويلا لفهم كل هذا؛ ولكن في نهاية المطاف، اتضح لي أنه انطلاقا من العلاقات الموجودة بين المعرفة والسلطة، تمكنا من القيام بكتابة تاريخ لمسرحة الحقيقة هاته، تاريخ لمسرح الحقيقة هذا الذي تتحدثون عنه. ما الذي وضع تاريخ الحقيقة في الغرب داخل مشهد؟ أعتقد أنها ليست السلطة مفهومة بمعنى جهاز الدولة، ولكنها علاقات السلطة، والتي هي نفسها، يقينا، مرتبطة أشد الارتباط بكل العلاقات الاقتصادية وعلاقات الإنتاج. إنها في الأساس علاقات السلطة التي تُشكل هذا المسرح، حيث تتخذ العقلانية الغربية وقواعد الحقيقة مكانا للعب أدوارها.
وتناب: في الجزء الأول من "تاريخ الجنسانية"، "إرادة المعرفة"؛ أقمتم تمييزا بين العبارة والخطاب، الخطاب، وخاصة إذا تعلق الأمر بالخطابات النظرية، يفترض ويستلزم شيئا يتجاوز مستوى العبارة.
585
ميشيل فوكو: بالتأكيد، إذا أردتم، محاولا في هذه المرحلة كتابة تاريخ الخطابات العلمية، درست عن قرب الفلسفة الأنغلوساكسونية والفلسفة التحليلية، والتي طبقت سلسلة كاملة من التحليلات المتميزة على العبارات وعلى المجموعات العبارية لا يمكننا إنكارها. لكن مشكلتي مختلفة بعض الشيء، مشكلتي لم تكن هي معرفة كيف تَتَشكَّل هذه العبارة، أو ما هو شرط إمكان صحتها؛ ولكنها تمثلت في معالجة وحدات أوسع من العبارة - معالجة عبارات أوسع لا يعني معالجتها بصرامة أقل-، لقد كان المشكل يتعلق بالطريقة التي يمكن أن ينشأ بها خطاب ما، وكيف أنه في داخل هذا النوع من الخطاب، هناك قواعد تَلعب، والتي من دونها لا يمكن أن تتشكل العبارة، أي أن العبارة لا يمكن أن تنتمي إلى هذا الخطاب. لنأخذ مثالا بسيطا للغاية، إلى حدود نهاية القرن الثامن عشر في فرنسا، لم يكن هناك حقا أي اختلافات بين خطاب الدجال وخطاب الطبيب، الاختلافات كانت بالأحرى في النجاح أو الفشل، في الدراسات المُنجزة أو غير المُنجزة من طرف الذات، لم تكن طبيعة الأشياء التي صرحوا بها مختلفة تماما، ونوع الخطاب كان هو ذاته تقريبا؛ ثم أتت اللحظة التي انتظم فيها الخطاب الطبي وفقا لعدد من المعايير والقواعد التي تمكننا بصورة مباشرة من معرفة ليس فقط ما إذا كان الطبيب جيدا أم سيئا، ولكن ما إذا كان طبيبا أم دجالا، لأنه لن يتحدث عن نفس الشيء، ولن يستند على نوع السببية نفسه، ولن يستخدم المفهوم نفسه. مرة أخرى، هذا لا يعني أنه ليس بإمكان شخص ما تقليد الخطاب الطبي بشكل مثالي وأن يتفادى قول الخطأ، وأنه ليس بمقدوره أن يكون طبيبا جيدا، بل دجالا في النهاية؛ ولكن أعني أن الخطاب الذي سيستمر، يتعين عليه أن ينضبط إلى معايير أخرى تختلف عن المعايير التي يتميز بها خطاب الدجال. ما الذي ينبغي على خطاب ما أن يتحدث عنه، الخطاب الطبي على سبيل المثال، لكي يصبح خطابا علميا بالفعل ويُعرف كخطاب طبي، ما هي المفاهيم التي يتعين عليه العمل عليها، وما نوع النظرية التي ينبغي أن يحيل نفسه عليها. كانت هذه هي المشاكل التي حاولت معالجتها في كتاب "الكلمات والأشياء"، والتي طرحتها على كل حال في "الكلمات والأشياء" وفي "أركيولوجيا المعرفة".
وتناب: في البداية تحدثنا عن المكان والسلطة، وبعد ذلك تحدثنا عن الخطاب والسلطة؛ ولكن، بين هذين المصطلحين، اللذين يطرحان سلسلة من التساؤلات، تأتي إشكالية الجسد. لقد عاصرنا لحظة إعادة تثمين الجسد في الممارسة المسرحية منذ الستينيات، وفي هذه الطلائعية المسرحية التي منحت للجسد امتيازا، اتخذت ظاهرة الاشتغال على الجسد والتساؤل حول جسد الممثل بعدا عالميا. المنظرون يقرّون أنه في رَدِّ الاعتبار للجسد أطروحة استراتيجية مضادة تجاه المركزية الغربية؛ ففي اليابان، لا زال هناك طقس للممارسة الجسدية في الميادين التقليدية للثقافة، طقس رأى فيه بعض رجال المسرح، نقطة انطلاق أساسية لفضح الاستلاب السياسي والثقافي الذي عانى منه اليابانيون طوال ثلاثة أرباع قرن من التحديث الغربي للبلد.
لن أكرر ما حدثتكم عنه أكثر من مرة، ولكن تكنولوجيا الجسد في الممارسات الثقافية التقليدية، إضافة إلى فنون القتال في مسرح كابيكي Kabuki، أعدت بدون شك الأرضية من أجل الترويض المعاصر للجسد، بغية استنبات سلسلة كاملة من القواعد التأديبية المركزة حول ما تسمونه "التكنولوجيا السياسية للجسد". ومن المفارق، أنه في الطلائعية المسرحية اليابانية، كان إغراء الجسد والمعرفة الجسدية أوسع نطاقا من استغلال النظام العسكري للتكنولوجيا السياسية للجسد، والتي نمت إلى حد العبث.
وعلى كل حال، فقد كان الجسد حاضرا في مؤلفاتك منذ البداية، فالاحتجاز الكبير استهدف الحضور الجسدي للمجانين، وانشغلت العيادة بأجساد المرضى. وإذا جاز لي القول، فقد ظهر الجسد، قبل صدور كتابك "المراقبة والمعاقبة"، كعلامة لا مرئية؛ وبالتحديد، فمع هذا الكتاب المختص بالجرائم والضوابط الإصلاحية، تمكن الجسد من اتخاذ موقع له بشكل لا يخلو من الآثار المدهشة.
ميشيل فوكو: بدا لي في الحقيقة، أن هنا يكمن شيء على قدر كبير من الأهمية، ليس فقط في التاريخ السياسي والاقتصادي، بل أيضا في التاريخ الميتافيزيقي والفلسفي للغرب. كيف سأصل في الواقع إلى هذا الشيء، محاولا تعقب تاريخ العلوم الإنسانية هذا انطلاقا من علاقات السلطة؟ كيف صار الإنسان في المجتمعات الغربية موضوع قلق وانهمام - سؤال تقليدي-، بل أيضا موضوعا للعلوم التي أرادت أن تظهر كعلوم موجهة بشكل خاص لمعرفة ماذا كان الإنسان، ومماذا يتألف، وكيف كان سلوكه قابلا للتنبؤ. إذن، في أي اتجاه نبحث عن هذا؟
هنا دخل مشكل المكان وبدا لي مفتاحا مهما؛ في مجتمع فيودالي، جسد الأفراد مهم بكل تأكيد. إذن، كيف تُمارس السلطة السياسية والاقتصادية والدينية على الأجساد؟ أعتقد أنها تُمارس على ثلاثة أوجه؛ أولا، إننا نطلب من جسد الذات أن يزود وينتج ويروج علامات: علامات احترام، علامات إخلاص، وعلامات إخضاع وإذعان، هذه العلامات تُعطى عن طريق السلوكيات وأشكال اللباس. ثانيا، الجسد موضوع للسلطة، وبهذا فنحن نمتلك الحق الكامل في ممارسة أشكال العنف عليه حتى الموت، فالحق في الحياة والموت هو جزء من مظاهر السيادة، وليس ذلك كيفما اتفق بل حسب قواعد معينة. ثالثا، بإمكاننا أن نفرض العمل.
ومع ذلك، فإن السلطة في مجتمع فيودالي غير مكترثة بالباقي: أي بواقع أن الناس في صحة جيدة أم لا، وبحقيقة أن الناس يتناسلون أو لا يتناسلون، فهي لا تهتم بالطريقة التي يعيش ويتصرف ويعمل ويشتغل وفقها الناس.
في المقابل، وكما ترى، أنه ابتداء من القرن السابع عشر، نمت في المجتمعات الغربية سلسلة كاملة من التقنيات التي تهدف إلى ترويض ومراقبة الأفراد في سلوكياتهم الجسدية، والمدرسة خير دليل على ذلك؛ ما هو إذن دور المدرسة في الماضي؟ لقد لقنت للناس عددا معينا من الأشياء. ففي المدارس، وحتى مطلع القرن التاسع عشر، كان المتمدرسون يندفعون حول المعلم الذي يوجد في الوسط، عيونهم مفتوحة، مشكلين حلقة صغيرة حوله، ملتقطين ما يرغبون فيه من أقوال المعلم؛ وقد رأينا، أنه ابتداء من القرن السادس عشر وإلى غاية القرن السابع عشر، نمت سلسلة كاملة من التقنيات الرامية إلى تعليم الناس طريقة معينة في المكوث والتصرف، كما صارت المدرسة في نفس الوقت ترويضا جسديا. لقد طالبنا شيئا فشيئا من المتمدرسين بأن يتخذوا مكانهم في صف، مصطفين أمام المعلم لكي يتمكن مدير المدرسة من أن يرى في كل لحظة ما يقوم به الطلاب، ما إذا كانوا شاردين أم لا، ما إذا كانوا يسمعون ويكتبون جيدا ما يُملى عليهم، كل هذا ما هو إلا ترويض جسدي. نفس الشيء بالنسبة للجيش: في الجيش سابقا، يكفي أن تعرف كيف تُصَوِّب بقوس الرماية، سواء بشكل جيد أو سيء؛ بعد ذلك، أتى التدرب على المناورات التي تحدثنا عنها سابقا، إضافة إلى التصويب بالبنادق وتحديد الهدف. نفس الشيء أيضا بالنسبة إلى العامل: لقد كان لدينا تقليد حرفي خاص بمعرفة مستمدة من الخبرة، وخاص بممارسات الإنتاج أيضا؛ بعد ذلك، أتت لحظة فرضنا فيها على الأشخاص إرهاب العمل في شبكة.
هكذا نرى، وهنا تكمن المفاجأة، أن السلطة السياسية والاقتصادية والثقافية في المجتمعات الغربية ومنذ القرن السابع عشر، قد اهتمت بالجسد على نمط جديد تماما، نمط اتخذ شكل ترويض، مراقبة دائمة، إضافة إلى تكثيف الأداءات؛ وهكذا ينبغي دائما بذل المزيد من الجهد، دائما المزيد وفي وقت تتزايد سرعته أكثر فأكثر. أعتقد أن تسارع إنتاجية الجسد كان الشرط التاريخي لتطور العلوم الإنسانية، علم الاجتماع وعلم النفس؛ من هنا أتت تكنولوجيا كاملة للجسد، تكنولوجيا يشكل طب الأمراض العقلية جانبا من جوانبها في النهاية، داخل الطب الحديث.
هذا التثمين للجسد على المستوى السياسي والاقتصادي وليس على المستوى الأخلاقي، كان واحدا من السمات الأساسية للغرب؛ ولكن ما هو غريب في الحقيقة، هو أن هذا التثمين السياسي والاقتصادي للجسد، هذه الأهمية التي منحناها للجسد، كانت مصحوبة بتحقير أخلاقي له ازدادت حدته بالتدريج؛ فلم يكن الجسد شيئا قطعا، بل كان شرا، كان ذلك الشيء الذي كنا نعمل على إخفائه، الشيء الذي اعتدنا أن نعتبره باعثا على الخجل. وقد وصلنا في القرن التاسع عشر وقبل الفترة المسماة بالفكتورية، إلى نوع من التفكك والانفصال كان الأصل في العديد من الاضطرابات النفسية الفردية، وربما أيضا في الاضطرابات الجماعية والثقافية الأكثر اتساعا: جسد مُثَمَّن اقتصاديا، إلا أنه في الجانب الأخلاقي لا يعرف أي تثمين.
وتناب: كما أبديت أمس في ندوتك في جامعة طوكيو، الموقف السلبي تجاه الجسد لم يكن اختراعا للمسيحية كما كنا نتخيل في غالب الأحيان - حقيقة شائعة -، بل إن هذا الموقف السلبي من الجسد وُجد سلفا عند الرواقيين الرومان؛ فالمسيحية أدخلت وعممت تكنولوجيا للسلطة مركزة حول الجسد وحول الجنس، وهذا ما تصطلحون عليه بـ "السلطة الرعوية".
ميشيل فوكو: هذا صحيح.
وتناب: ملاحظتك حول المدرسة تذكرني بمسرحية "يقظة الربيع" Le Réveil du printemps لبنيامين فرانكلين فيديكاند[39] Wedekind التي رأيتها منذ سنوات في سينما لوديون؛ مسرحية ويديكاند ليست نوعا من الصور الكاريكاتورية "لمدرسة الإنسانية المثالية" [40](Philanthropinum)، والتي قمت بتحليل وظيفتها في كتابك إرادة المعرفة.
ميشيل فوكو: بالطبع. نجد في المسرح الألماني تقليدا كاملا للمسرح التربوي نعرفه غالبا على نحو سيء، مسرح يجعل من المدرسة خشبة للعب أدواره؛ نجد حكاية "المدرس" Le Précepteur للمسرحي جاكوب ميشيل لينز[41] Lenz مرتبطة بشكل مباشر بمدرسة الإنسانية المثالية. لقد كتب لينز نصه هذا اعتمادا على التجارب التربوية للقرن الثامن عشر، ولسوء الحظ، فالمخرجون المسرحيون الفرنسيون الذين صعدوا لم يكونوا على وعي بذلك؛ إنها مسرحية مرتبطة بشكل مباشر بمستجد يكاد يكون تقنيا: إصلاح التعليم. فيقظة الربيع لويديكاند استمرت في طرح نفس المشكل بعد قرن من الزمن.
وتناب: بما أننا قد استحضرنا للتو اسم لينز، أود أن أتحدث عن مخرج فرنسي شاب بدأ عمله منذ خمسة عشر سنة مع العمل المسرحي "جنود لينز" - حتما، لا يمكننا هذا المساء أن نبتعد عن الجيش ومن الانضباط -، أقصد باتريس شيرو[42] Patrice Chereau. لقد أخبرتموني أنكم حضرتم في السنة الماضية عروض راينغ Ring في بيروت Bayreuth والمؤطرة من طرف فرقة شيرو- بوليز[43]. في مسرحية "يقظة الربيع"، والتي أشرتُ إليها سابقا، سمعنا كذلك بعض القطع لريتشارد فاغنر[44] Richard Wagner بوصفها عنصرا من عناصر الإخراج.
لقد حان الوقت ربما لكي يصل حوارنا إلى نهايته، لنتجه نحو أوركسترا "أفول الآلهة" لريتشارد فاغنر. ولكن قبل أن نأتي إلى فاغنر، أتود أن تحدثنا قليلا عن أصدقائك؟ مثلا، عن جيل دولوز الذي ذُكر اسمه في بداية مقابلتنا، أو بيير كلوسوفسكي، أو أيضا جورج بتاي وموريس بلانشو، الذين تتلألأ أسماؤهم في سماء كتبك ككوكبة نجوم سحرية؛ أو أن تحدثنا عن كلود مورياك[45] الذي، رغما عن خصوصيته، ذكر في كتابه "يا لعنف الأمل"[46] Et comme L’espérance est violente الأشكال غير المتوقعة لبعض المفكرين الباريسيين، لاسيما في أنشطتهم السياسية - التحقيقات التي أجريتموها بخصوص الاعتقال غير الشرعي للعمال المهاجرين أو نشاط فرقة الإعلام الخاص بالسجون- شهادات شخصية في غاية الأهمية حول ما تقوم به بصفتك ناشطا سياسيا.
ميشيل فوكو: لنتحدث إذن عن الأصدقاء، ولكنني لن أحدثكم عن الأصدقاء بوصفهم أصدقاء. إنني أنتمي ربما إلى جيل قديم بعض الشيء، تُعد الصداقة بالنسبة إليه شيئا أساسيا وغامضا في نفس الوقت؛ وأعترف أنني لطالما واجهت صعوبة في وضع أو تشكيل علاقات ودية مع منظمات أو تجمعات سياسية، أو مدارس فكرية أو حلقات أكاديمية معينة. إن الصداقة بالنسبة إلي هي نوع من الماسونية السرية، ولكنها تملك نقاطا مرئية. لقد تحدثتم عن دولوز والذي يمثل بالنسبة إلي شخصا في غاية الأهمية، إذ أعتبره كواحد من أكبر فلاسفة فرنسا في الوقت الراهن.
وتناب: ماذا بخصوص عبارتك الشهيرة "سيصير القرن المقبل دولوزيا"؟
ميشيل فوكو: اسمح لي بأن أقوم بتعديل بسيط، ينبغي أن نتخيل المناخ الجدلي الذي عشنا فيه في باريس، أتذكر جيدا المعنى الذي استخدمت به هذه العبارة، ولكن حقيقة هذه العبارة حاليا هي هذه: ففي سنة 1970، كان هناك عدد قليل جدا من الناس يعرفون دولوز، وفقط بعض المطلعين أدركوا أهميته، ولكن سيأتي ربما يوم "يصبح فيه القرن دولوزيا"، أي "القرن" بالمعنى المسيحي للكلمة، فالرأي العام معارض للنخبة، وسأقول أن هذا لم يمنع من أن يكون دولوز فيلسوفا مهما. لقد استخدمت هنا كلمة "قرن" بمعناها القدحي. أكيد أن دولوز يعتبر شخصا في غاية الأهمية بالنسبة إلي، كما هو الشأن بالنسبة إلى كل من كلوسوفسكي وبتاي وبلانشو، وأخشى كثيرا أن تفتقر كتاباتي إلى نصيب كافٍ من الأثر الذي كان لهم عليَّ؛ وأعتقد أنني لم أفعل ذلك بدافع نكران الجميل، وإنما بدافع من الخجل. أقول بدافع من الخجل، لأنني أعتبر أعمالهم الأدبية أو الفلسفية أكثر أهمية ممّا يمكنني القيام به، كما أجد في تثمين القليل ممّا أحاول القيام به مزيّة سيئة، بوضعه تحث تأثير، تحت نقوش أسمائهم كما لو أنني أحتمي بألوهية ما، وأنا لا أريد أن أحتمي، خصوصا من الناس الذين أعتبرهم أسمى من أن أدعوهم إلى رعايتي.
في الوقت الراهن، يحدث لي أن أقابل طلابا ويسألونني حينما أذكر اسم موريس بلانشو: "من يكون هذا"؟
وتناب: إلى هذا الحد! هذا مشين!
ميشيل فوكو: غلوسوفسكي يعرفونه قليلا، نفس الشيء بالنسبة إلى جورج بتاي؛ ولكن، أدركت في النهاية أنني أنا بالذات إضافة إلى آخرين، لم نظهر كفاية الدَّين الذي ندين لهم به. وعلى أي حال، فقد كان هؤلاء الأشخاص من الأوائل الذين عملوا على تخليصنا من الافتتان الهيغيلي الذي كنا سجينه وكنا نميل إليه، وكان ذلك سنة 1950؛ ثانيا، فهؤلاء هم أول من عملوا على إظهار مشكل الذات كمشكل أساسي بالنسبة للفلسفة وللتفكير الحديث. بعبارة أخرى، فمنذ ديكارت وإلى حدود سارتر - أنا لا أقول هذا بطريقة سجالية -، بدا لي أن الذات اعتُبرت كشيء أساسي، إلا أننا لم نقترب منه: لقد كانت الذات في الحقيقة المسألة التي لم نضعها قط موضع سؤال. من هنا على الأرجح، وهذا ما لاحظه جاك لكان[47] Lacan، لم يتقبل سارتر أبدا فكرة اللاوعي بالمعنى الفرويدي. لم تنبثق الفكرة القائلة بأن الذات ليست الشكل الأساسي والأصلي، وأنها تتشكل انطلاقا من عدد معين من العمليات، عمليات لا تنتمي لنظام الذاتية، بل لنظام من الصعب جدا تسميته وإظهاره، لكنه أساسي وأصلي أكثر من الذات نفسها. فالذات لها نشأة، لها تكوين، لها تاريخ، وليست أصلية.
الأكثر من ذلك "من قال هذا"؟ إنه بدون شك سيغموند فرويد[48] Freud، ولكن كان ينبغي على لاكان أن يظهره بشكل واضح، ومن هنا تأتي أهميته. كما عمل أيضا كل من بتاي وبلانشو وغلوسوفسكي في اعتقادي، كل بطريقته الخاصة، على تفكيك هذه البداهة الأصلية للذات، كما عملوا على إبراز أشكال الخبرة التي ضمنها يكشف تفكك الذات، انهيارها، مواجهة حدودها، وعدم استمرارها خارج هذه الحدود، على أنها لا تملك هذا الشكل الأصلي والمكتفي بذاته، والذي افترضته فيها الفلسفة الكلاسيكية. هذا الطابع غير الأساسي وغير الأصلي للذات، يُعتبر في اعتقادي القاسم المشترك بين كل من أسميناهم بالبنيويين، والذي أثار ضجة عارمة بالنسبة إلى الجيل السابق أو بالنسبة إلى ممثليه. وهذا ما نستشفه في التحليل النفسي لجاك لاكان، وفي بنيوية ليفي ستراوس، وأيضا في تحليلات رولان بارت وفي ما قام به لوي ألتوسير[49] Althusser، وكذلك في ما حاولت القيام به من جهتي وبطريقتي الخاصة. فقد كنا جميعا متفقين بخصوص هذه النقطة القائلة بأنه لا ينبغي أن ننطلق من الذات؛ أي الذات بالمعنى الديكارتي كنقطة أصلية ينبغي أن يصدر عنها كل شيء، فالذات نفسها لها نشأة. ومن هنا يتجدد تواصلنا مع نيتشه.
وتناب: لقد وضعت مقابلتنا تحت أثر المسرح، ولكن ليس فقط من خلال الإحالة على المسرح كما يُمارس، بل من خلال التفكير في نيتشه بالتحديد، نيتشه الذي ما يزال ظله، كما يبدو، مخيما على كل تفكير مسرحي حالي. أنتم كذلك، وفي كتابكم الرائع "نيتشه، الجينالوجيا، التاريخ"[50]، وكذلك دولوز أو غلوسوفسكي في كتاباتهم حول نيتشه، أصررتم على أهمية مشكل المسرح في فكر نيتشه.
أود العودة في هذا السياق إلى عروض الراينغ لشيرو وبوليز التي شاهدتموها؛ أنا أيضا، حظيت بفرصة مشاهدة هذه العروض والاستماع إليها خلال الذكرى المئوية لقصر المهرجانات ببيروت "Festspielhaus"، وأود العودة إلى هذه العروض مجددا هذه السنة. تحدثنا في السابق عن عمل باتريس شيرو بخصوص إخراجه لمسرحية "النزاع" La Dispute للكاتب الفرنسي ماريفو[51] Marivaux، هو عمل مؤثر للغاية، يعيد وَضْعَ مسرحية ماريفو في السياق التاريخي والفلسفي للقرن السابع عشر الفرنسي، وفي أفق، إذا جاز القول، حيث تبادل روسو[52] Rousseau وساد[53] Sade أفكارهما حول التربية وحول ترويض الجسد والنفس، وحول العنف، وإن من وجهة نظر تربوية. وإذا أسعفتني الذاكرة، فمؤلف البرولوج الذي أضافه شيرو في إخراجه كان شخصا تعرفه جيدا، إنه فرانسوا رينو[54] François Regnault والذي شارك أيضا في عروض الراينغ على هامش الذكرى المئوية.
ميشيل فوكو: بالفعل، إنه فرانسوا رينو. أعرفه منذ عشر سنوات.
وتناب: إنه شقيق آن ديلبي[55] Anne Delbée، مخرجة مسرحية "الصفقة" L’échange لبول كلودل.
ميشيل فوكو: صحيح.
وتناب: وكيف وجدت عروض الراينغ؟
ميشيل فوكو: بوليز، أعرفه منذ زمن طويل، إذ إننا نمتلك نفس السن، كما أنني التقيت به عندما كان سن الواحد منا اثنين وعشرين سنة والآخر ثلاثا وعشرين سنة. في هذه الفترة، كنت مهتما كثيرا بالموسيقى؛ فإذا كنت قد حضرت دورة فاغنر - صحيح أن بوليز قام بدعوتي، لكن ليس هذا هو السبب الوحيد -، فهذا لأن العمل الذي قام به كل من شيرو وبوليز كان مثيرا للاهتمام لعدة أسباب. أولا، لقد كان هناك دائما في الثقافة الغربية وبخصوص عروض الراينغ، هذا الجهل بقيم المسرح وهذا الاختزال من الناحية المسرحية لعمل فاغنر لصالح بعده الموسيقي الوحيد. فقد كنا نسمع فاغنر ولا نراه، فالوظيفة الجوهرية للإنتاجات الرائعة جدا لفايلاند فاغنر[56] هي تمجيد الموسيقى، وتشكيل نوع من الدعم المرئي لموسيقى أراد لها فاغنر أن تتوارى مكانيا.
وتناب: فسواء تعلق الأمر بالأوبرا أو بالدراما الموسيقية، فإنه يلزمنا مشاهدتها: إنها مسرح.
ميشيل فوكو: هذا صحيح، وعلى الرغم من كون الموسيقى متوارية مكانيا، فإنه ينبغي عليها أن تنبعث من المشهد حيث توجد شخصيات مرئية؛ وينبغي ألا يكون هناك أيضا هذا النوع من الستار بين المشاهدين - المستمعين والمشهد كما هو الحال في الأوبرا الكلاسيكية.
وعلى كل حال، فقد رأى شيرو هذا بشكل جيد، وسنقول إن هذا هو عمله، وأنه يقوم بما يطالبه هذا العمل بأن يقوم به. ولكن، ما كان مثيرا للإعجاب، أن بوليز القائد والموسيقي الكبير، إذا كان كذلك في الوقت الراهن، قد وافق تماما على أخذ غمار هذه اللعبة.
ثانيا، يتعلق الأمر بمشكل معارضي الهيغيلية الذين عرفهم القرن التاسع عشر. فاغنر ونيتشه ومنذ أن سطع نجمهم في الثقافة الغربية، دائما ما لعبا دورا غامضا نوعا ما؛ فالهيغيلية، بعد أن كانت فكرا يمينيا، صارت مرتبطة أشد الارتباط بالفكر اليساري الذي كان معارضا لهيغل. في نهاية المطاف، بدأنا ندرك أن نيتشه على الرغم من كونه كتب أشياء معادية للسامية في حد ذاتها، إلا أن فكره في النهاية لا يمكن أن يقال عنه ببساطة. إنه فكر يميني، وهذا ما يمكننا أن نستشفه في الوقت الراهن.
نفس الشيء بالنسبة إلى فاغنر، فعلى الرغم من الخلافات الموجودة بينه وبين نيتشه، إلا أن فاغنر كان في العمق فوضويا؛ وعلى أية حال، فقد كان فكره السياسي مختلفا تماما. وأعتقد أن شيرو قام بشيء على قدر كبير من الأهمية بفهمه لهذا الأمر وتمكينه لنا، عبر إخراجه المسرحي، من العودة إلى نصوص فاغنر، باعتبارها نصوصا مهمة جدا. إن مسرح فاغنر ليس ببساطة مجرد نوع من الخطابة الأسطورية الرجعية نوعا ما، والمستخدمة كدعم وكسند للموسيقى الرائعة، بل هي أعمال درامية مهمة تحمل معنى تاريخيا عمل شيرو على إظهاره بامتياز. وثالثا، فاغنر مثله مثل شوبنهاور[57] Schopenhauer ونيتشه، هو واحد من القلائل الذين طرحوا مشكل الذات بمفردات لا ديكارتية، فقد حاول أن يرى كيف كان التصور الغربي للذات تصورا محدودا جدا، وأن هذا التصور لا يمكنه أن يُستخدم كأساس لامشروط لكل فكر. في هذه النقطة بالذات نلتقي مع الشرق، كما أن انحلال الذاتية الأوروبية، الذاتية الملزِمة التي فرضتها ثقافتنا علينا منذ القرن التاسع عشر، تعتبر في اعتقادي واحدة من رهانات الصراعات الراهنة؛ هنا يكمن اهتمامي ببوذية زن Zen.
وتناب: فعلا، قيل إنك قضيت بعض الأيام في دير زن؛ وبالتالي سيتوجب علينا العودة إلى إشكالية الجسد...
ميشيل فوكو: حقا، ففي التاريخ الذي حاولت كتابته بخصوص تقنيات السلطة في الغرب، التقنيات التي تتناول الأجساد والأفراد، السلوك وأرواح الأفراد؛ انجذبت في الحقيقة إلى جعل الضوابط المسيحية تحتل مكانة مهمة جدا، وإلى المسيحية باعتبارها مسؤولة عن تشكيل الفردية والذاتية الغربيتين؛ وأود كثيرا لكي أكون صادقا معك، مقارنة هذه التقنيات المسيحية بتقنيات الروحانية البوذية أو روحانية الشرق الأقصى، مقارنة تقنيات تتقارب إلى حد ما. ومع ذلك، فالرهبنة الغربية والرهبنة المسيحية طبعتا ووسمتا الرهبنة البوذية، ولكن وقعهما كان مختلفا تماما، بما أن قواعد الروحانية البوذية ينبغي عليها أن تنزع إلى التخلي عن الفردنة والتذييت، وإلى نقل الفردية نحو حدودها، وإلى ما وراء هذه الحدود، سعيا إلى انعتاق حيال الذات. سيكون مشروعي في البداية هو تقديم تمهيد لهذا الموضوع، ورؤية كيف أنه عن طريق تقنيات التنسك والتأمل المتشابهة ظاهريا، عن طريق هذا التشابه الشامل نصل إلى نتائج مختلفة تماما؛ بدون شك لأن هناك تقنيات تخص بعض الأشياء المختلفة بالضرورة، هذه هي النقطة الأولى؛ ولكي أكون صريحا معك، فإن النقطة الثانية تتعلق بإمكانية إيجاد أناس داخل بلد من بلدان الشرق الأقصى يهتمون أيضا بهذا النوع من المشاكل لكي نستطيع القيام، إذا كان هذا الأمر ممكنا، بدراسات إن لم تكن موازية، تكون متقاطعة على الأقل، دراسات بمقدورها أن تحدث صدى، صدى لبعضها البعض، بخصوص انضباط الجسد أو بخصوص تأسيس الفردية.
وتناب: كما تعلمون، فالروحانية اليابانية تَمُرَّ دائما عبر الجسد، وحصة اللغة فيها كانت مختلفة تماما مقارنة بالروحانية المسيحية، هذه هي النقطة الأولى. وبعد ذلك، فإنه في المجتمع الياباني الحديث الذي أُسِّسَ طبقا للنموذج الغربي للقرن التاسع عشر، - بمعنى التحديث والتغريب حسب المعايير السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتعلقة بالمجتمع الغربي في القرن التاسع عشر -، انشغل اليابانيون على الخصوص بإقامة الذات الغربية الديكارتية.
بعد الاستغلال الرجعي لتكنولوجيا الجسد من طرف النظام الفاشي، اعتُبر تشكيل الذات الحديثة في الغرب بمثابة تحرُّر مقارنة بالإخضاع الامبريالي، وبمثابة رهان أساسي لدَمَقْرَطَة البلد، من هنا كان نجاح الوجودية، والتي ظلت قائمة في اليابان لفترة طويلة مقارنة بفرنسا. لكننا نتساءل أيضا بخصوص الثغرة الأكثر أهمية في إقامة الفردية الحديثة، الفردية المسيحية.
إن المشكل الذي طرحتم سيسلط الضوء على هذا النوع من الثغرات، التي ليست فقط ذات نظام تاريخي، ولكنها ذات نظام ثقافي أيضا. وعلى أية حال، فقد افتتحتم محاضرتكم بالأمس في جامعة طوكيو بملاحظة حول الظاهرة المزدوجة التي نلمسها خلال القرن التاسع عشر في الغرب في ميدان الجنسانية: رفض رغبتنا الخاصة والذي يتجلى كهستيريا، ووفرة المعرفة حول الجنسانية، جعل من الممكن قيام سلسلة كاملة من العلوم الجنسانية. في كتابكم إرادة المعرفة، أصررتم على أننا لا ينبغي أن ننكر الجانب الايجابي للتقنيات السياسية للجسد، بوصفه جهازا منتجا للمعرفة حول الجسد وحول الجنسانية؛ لقد كان من الضروري تقويض الأسطورة التي تسميها "بالفرضية القمعية". فبين غياب الخطاب أو الصمت المفروض على الجنس من جهة، والحض على الخطاب المتعلق بالجنس من جهة أخرى، تكمن الظاهرة الثانية التي تشكل العنصر الأساسي لجهاز السلطة.
لا نملك للأسف، وقتا كافيا للاستطراد في الحديث بخصوص الحض على الخطاب المتعلق بالجنس والرقابة، والمتقادم بما يكفي، باعتباره ظاهرة يابانية بامتياز. ولكن، على أي حال، ما هو الدور الذي تسنده للمفكرين في مجتمع يُخيل إليه أنه مشبع بالمعلومات والمعرفة؟
ميشيل فوكو: هذا إلى حد ما هو الموضوع الذي أود أن أتحدث عن بعض منه غدا في أساهي Asahi[58]. سأقول بإيجاز إن المفكر على ما يبدو لي في الراهن، لا يضطلع تماما بدور قول الحقائق، قول حقائق نبوئية من أجل المستقبل؛ ربما مشخص الحاضر، كما قلت للتو، بمقدوره أن يعرض للناس ما يجري، وبالتحديد في المجالات التي يكون فيها المفكر كفؤا ربما؛ فمن خلال الفعل البسيط المتمثل في تحريك النظرة، فهو يجعل المرئي مرئيا، ويُظهر ما هو أكثر قربا ومباشرة، ما هو مرتبط بنا، والذي بفعل هذا لا نراه. إذن، فدور المفكر أقرب كثيرا من دور المفكر الذي أطلقنا عليه اسم "الفيلسوف" في القرن الثامن عشر.
وتناب: هذا ما تسميه المفكر النوعي في مقابل المفكر الكوني.
ميشيل فوكو: هذا صحيح، تحدث حاليا أشياء في تنظيم الصحة، في الرقابة وفي تحرير الجنسانية، وأيضا في شؤون البيئة أو الأيكولوجيا. لديكم هنا سلسلة كاملة من الأحداث التي أعتقد أنها من اختصاص المفكر؛ فالفيزيائي الذري، والبيولوجي المهتم بالبيئة، والطبيب المهتم بالطب، عليهم أن يتدخلوا للإبلاغ عما يجري من خلال تشخيصه، بغية الإفصاح عن المخاطر وليس فقط من أجل انتقاده بصفة منهجية ولامشروطة وشاملة.
أعتقد أن المعرفة في مجتمعاتنا اليوم هي شيء واسع ومعقد جدا، لدرجة أنها أصبحت في الحقيقة اللاوعي الخاص بمجتمعاتنا. نحن لا نعرف ما نعرف، لا نعرف ما هي آثار المعرفة. يبدو لي إذن، أن المفكر بإمكانه أن يَتَجَّشَم دور ذلك الشخص الذي يعمل على تحويل هذه المعرفة التي تسود كلاوعي خاص بمجتمعنا إلى وعي.
وتناب: مع وضع النظرة والدور الأخلاقي المسند إلى عملها، أفضى حوارنا، بعد سير حلزوني طويل، إلى النقطة التي انطلقنا منها، إلى تساؤلاتنا حول النظرة في الفلسفة والنظرة في المسرح، شكرا جزيلا.
[1]- la scène de la philosophie, entretien avec M. Watanabe, le 22 avril 1978, sekai, juillet, 1978, pp. 312-332
Michel Foucault, Dits Et écrit 1954-1988, Tome 3, 1976-1979, Gallimard
[2]- رولان بارت: (1915-1980)، فيلسوف فرنسي، ناقد أدبي دلالي ومنظر اجتماعي. (م)
[3]- المراقبة والمعاقبة: هو كتاب للفيلسوف والباحث الاجتماعي الفرنسي ميشيل فوكو، نشر في فرنسا 1975 بعنوان:
Surveiller et punir, naissance de la prison. (م)
[4]- إرادة المعرفة، هو كتاب للمؤلف نفسه، نشر في فرنسا عام 1976، ويعد هذا الكتاب بمثابة جزء أول من دراسة أوسع لميشيل فوكو تحت عنوان: تاريخ الجنسانية Histoire de la sexualité. (م)
[5]- الكلمات والأشياء: هو كتاب لميشيل فوكو، صدر سنة 1966، وهو عبارة عن بحث حفري في العلوم الإنسانية. (م)
[6]- جان راسين: (1639-1699) شاعر وكاتب مسرحي فرنسي. (م)
[7]- هم دعاة مدرسة فلسفية انتشرت في إطار الثقافة اليونانية في القرن الرابع قبل الميلاد، تحت تأثير الأفكار التي تدعو إلى المواطنة العالمية، وتحت تأثير الأفكار ذات النزعة الفردية، وتحت تأثير التطورات التقنية التي فرضها التوسع في المعرفة الرياضية.(م)
[8]- ميلاد العيادة: هو كتاب لميشيل فوكو، نشر عام 1963 في فرنسا، يقتفي هذا الكتاب آثار مهنة الطب و"العيادة" على وجه الخصوص. (م)
[9]- تاريخ الجنون: هو كتاب لميشيل فوكو، نشر عام 1961 بعنوان: Folie et déraison: Histoire de le folie à l’âge classique(م)
[10]- ستيفان ملارميه: (1842-1898) شاعر فرنسي.
[11]- Voir supra N° 82(إحالة وردت في المقال).
[12]- هولدرلين: (1770-1843) شاعر وروائي ألماني. (م)
[13]- موريس بلانشو: (1907-2003)، ناقد أدبي وفيلسوف فرنسي. (م)
[14]- جورج بتاي: (1897-1962)، كاتب فرنسي. (م)
[15]- بيير كلوسوفسكي: (1905-2001)، فليسوف فرنسي، روائي، مفكر، مترجم، كاتب وممثل. (م)
[16]- جيريمي بنتام: (1748-1832) هو عالم قانون وفيلسوف إنجليزي، ومصلح قانوني واجتماعي، ويشتهر بدعواته إلى النفعية وحقوق الحيوان، وفكرة سجن البانوبتيك. (م)
[17]- Voir infra N° 360 (إحالة وردت في المقال).
[18]- Voir supra N° 195 (إحالة وردت في المقال).
[19]- بول كلوديل: (1868-1955) كاتب مسرحي وشاعر ومفكر وديبلوماسي فرنسي. (م)
[20]- أنتونين أرتو: (1896-1948) منظر مسرحي، ممثل ومفكر وكاتب وشاعر مسرحي. (م)
[21]- برتولت بريشت: (1898-1956) كاتب ومخرج وناقد مسرحي ألماني. (م)
[22]- جيرزي غروتوفسكي: (1933-1999) مخرج ومنظر مسرحي بولوني. (م)
[23]- نسبة إلى جان جاك روسو، فيلسوف عصر الأنوار. (م)
[24]- اميل دور كهايم: (1858-1917) فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي. (م)
[25]- مرسيل موس: (1872-1950) فيلسوف وأنثروبولوجي فرنسي. (م)
[26]- , L’espace littéraire, paris, Gallimard, 1955 (M) Blanchot (إحالة وردت في المقال).
[27]- جون لوك غودار: ولد ستة 1930، هو مخرج أفلام فرنسي وأحد أبرز أعضاء حركة الموجة الجديدة السينمائية. (م)
[28]- 1965 (إحالة وردت في المقال).
[29]- كلود ليفي ستراوس: (1908-2009) عالم اجتماع فرنسي. (م)
[30]- رولان بارت: (1915-1980) فيلسوف فرنسي، ناقد أدبي دلالي ومنظر اجتماعي. (م)
[31]- فرنارد بروديل: (1902-1985) مؤرخ فرنسي، وزعيم من زعماء أنال في التاريخ. (م)
[32]- مارك بلوخ: (1886-1944) مؤرخ فرنسي، ومؤسس مدرسة الحوليات المؤثرة للغاية في التاريخ الاجتماعي الفرنسي. (م)
[33]- جيل دولوز: (1925-1995) فيلسوف وناقد أدبي وسينمائي فرنسي. (م)
[34]- In critique, n° 343, décembre 1975, pp. 1207-1227 (إحالة وردت في المقال).
[35]- أركيولوجيا المعرفة: هو كتاب لميشيل فوكو، صدر سنة 1969. (م)
[36]- جون بول سارتر: (1905-1980) فيلسوف وروائي وكاتب مسرحي وناقد أدبي وناشط سياسي فرنسي. (م)
[37]- موريس ميرلوبونتي: (1908-1961) فيلسوف فرنسي تأثر بفينومنولوجيا هوسرل. (م)
[38]- جورج كانغيليم: (1904-1995) فيلسوف ومؤرخ وطبيب فرنسي. (م)
[39]- بنيامين فرانكلين فيديكاند: (1864-1918) كاتب مسرحي وشاعر ألماني. (م)
[40]- Allusion à une fête de l’éducation sexuelle organisée par Basedow en 1776 dans son collège philanthropique (إحالة وردت في المقال).
[41]- جاكوب ميشيل لينز: (1571-1792) كاتب مسرحي ألماني. (م)
[42]- باتريس شيرو: (1944-2013) مخرج مسرحي ومنتج أفلام وكاتب وممثل سينمائي فرنسي. (م)
[43]- بيير بوليز: (1925-2016) ملحن موسيقي وقائد أوركسترا فرنسي. (م)
[44]- ريتشارد فاغنر: (1813-1883) ملحن ومدير مسرح وكاتب وقائد أوركسترا ألماني. (م)
[45]- كلود مورياك: (1914-1996) كاتب وصحفي فرنسي. (م)
[46]- , Et comme l’espérance est violente, Paris, Grasset, 1976.(C)Mauriac (إحالة وردت في المقال).
[47]- جاك لاكان: (1901-1981) محلل نفسي فرنسي ولد في باريس وتوفي بها. (م)
[48]- سيغموند فرويد: (1856-1939) هو طبيب ومفكر نمساوي، يعتبر مؤسس علم التحليل النفسي. (م)
[49]- لوي ألتوسير: (1918-1990) فيلسوف ماركسي وأحد أهم المنظرين الماركسيين في القرن العشرين. (م)
[50]- Voir supra n° 84 (إحالة وردت في المقال).
[51]- ماريفو: (1688-1763) كاتب فرنسي. (م)
[52]- روسو: (1712-1778) كاتب وأديب وفيلسوف وعالم نبات جنيفي، يعد من أهم كتاب عصر التنوير. (م)
[53]- ساد: (1740-1814) رجل معرفة، روائي وفيلسوف وسياسي فرنسي. (م)
[54]- فرانسوا رينو: وُلد سنة 1938، وهو أستاذ للفلسفة ومحاضر في شعبة التحليل النفسي في جامعة باريس. (م)
[55]- آن ديبلي: وُلدت سنة 1946، ممثلة كوميدية ومخرجة فرنسية. (م)
-[56]فايلاند فاغنر: (1917-1966) مخرج ومدير مهرجان موسيقي ووكيل مواهب ألماني. (م)
[57]- أرتور شوبنهاور: (1780-1860) فيلسوف ألماني، معروف بفلسفته التشاؤمية. (م)
[58]- Cf. supra n° 232 (إحالة وردت في المقال).