معارك ما بعد الثورات
فئة : مقالات
طفت معارك كثيرة على السطح بعد مرحلة التجريب الأولي لثورات الربيع العربي، اختلطت فيها رائحة السياسة بالأيديولوجيا والفكر والدين والاقتصاد، حتى أضحى من الصعب على المواطن الفرد التمييز بين مصداقية هذه المعارك وجدَّتها ووفائها لشعار الحرية والبناء الديمقراطي. ربما يقول الدارسون للتحولات التاريخية أن هذه الصراعات طبيعية، بالنظر إلى رغبة كل قوة من هذه القوى بإعادة ترتيب صفوفها وتقوية مواقعها وفرض وجودها والتأثير في صناعة مستقبل القرار السياسي الوطني والإقليمي، حتى تحظى بحصة تمثيلية في المشهد السياسي والفكري والديني والاقتصادي الذي يضمن حماية مصالحها المتعددة، ومستقبل مصالحها ومصالح الدول الحليفة. هذا ما يحدث في الوطن العربي اليوم، ضغط شعبي من أجل التغيير السياسي تجابهه قوى مضادة تستعين بقوة المال والعسكر وغطاء الحلفاء، ونخب متوترة وحائرة بين دعم الحرية ومقاومة الاستبداد وبين دفء الاستقرار في ظل نعومة الأموال التي تتلقاها من هنا وهناك، ومؤسسات دينية تستغيث بالمخزون الفقهي السلطوي لكي تدعم مرشحًا هنا وانقلابًا هناك وفتوى هنا وفتوى هناك، وأيديولوجيات مُقولَبة تَتلوَّن مع ميزان القوى أينما اتَّجه، ثم مؤسسات فكرية تحاول الإجابة عن سؤال التنوير الفكري.
ليس غريباً أن تظهر هذه المعارك الطاحنة في بيئة عربية محتقَنة إيديولوجيًا وفكريًا ومذهبيًا وعرقيًا ولغويًا، وليس غريبًا أيضًا أن ترتفع حصيلة الضحايا المدنيين في الحروب المفتعلة في العديد من الدول العربية التي شهدت حراكًا سلميًا، كما أنه ليس بغريب أن تتصدر جماعات الإسلام السياسي جل الانتخابات التي عرفتها بلدان ثورات الربيع ما بعد الإطاحة برموز الأنظمة السابقة. لكن الغريب حقًا هو درجة الأدلجة الطافحة التي جعلت نخبًا فكريًا بارزة وإيديولوجيات تنويرية ومؤسسات دينية تقليدية تُشرعن الاستبداد وإلغاء الآخر والعنف ومقاومة مطالب التغيير الشعبي وبناء المؤسسات الحرة الديمقراطية. هنا وقعت الصدمة الكبرى، فكيف أمكن لهذه النخب والمؤسسات أن تستغيث بالظلم لمطالب الشعوب؟
الصيغة الوحيدة لتفسير هذا الخلل يرجع لصدمة هذه القوى التقليدية مجتمعة من صعود الإسلام السياسي واكتساحه المشهد الانتخابي وانتعاش الجماعات السلفية والجهادية في العديد من مناطق ثورات الربيع العربي، وبالتالي فأسرع وأنجع وسيلة لتدارك هذا الخطر هو في الاجتثاث المسلح لهذه الجماعات ثم القيام بتقديم صورة ناعمة لهذا الاجتثاث. هذا التخريج يحتمل نوعين من المغالطات الدفينة: أما الأولى، فهي أن الأنظمة السياسية العربية أو العسكرية، إن صح التعبير، التي تدعمها هذه النخب بعمى شديد، هي التي رعت وكوَّنت جل الجهاديات الإسلامية الممكنة قبل أن تنفجر في بلدان عربية عديدة. بينما تكمن المغالطة الثانية في أن تبرير دعم الثورات المضادة بمحاربة الفاشيات الدينية ما هو إلا تبرير مُقولب من أجل دحض كل عمليات الثورة على الأنظمة الشمولية العربية. يبقى السؤال الذي أثقل كاهل العديد من النخب الفكرية، وهو: لماذا لم تثمر عمليات نقد الموروث الديني والثقافي العربي التي امتدت لثلاثة عقود عن حركة تنويرية حديثة، بينما ظهرت وانتعشت حركات الإسلام السياسي المازجة بين الخلافة الفقهية والسياسية؟
من المعلوم أن حركات الإسلام السياسي نشأت حركاتٍ دينيةٍ تحديثيةٍ ضد التقليد الديني ورد فعل فكري ضد الدولة القومية الوطنية وضد عمليات العلمنة الصلبة التي شهدتها بعض الدول العربية، ثم ضد الفكرة الليبرالية والعولمة الثقافية؛ أي أنها ثورة ضد التقليد وفي الوقت نفسه تستقر في مربع التقليد، لذلك خلقت لنفسها نوعين من الخصوم: أما الأول فهو المؤسسة الدينية التقليدية الرسمية وغير الرسمية، والثاني هو مجموع الإيديولوجيات الحديثة، سواء اليسارية أو العلمانية أو الليبرالية أو حتى اليمينية التقليدية. وما جعلها تحظى بنوع من الرفض من كلا الخصمين هو احتكارها للديني والسياسي، ما يعني أنها تنسف ضمنيًا مشاريع التقليد الديني والتحديث السياسي وترسم خطًا توفيقيًا بين التدين التاريخي الفقهي السياسي وبين المحافظة السياسية القيمية. وبالتالي عندما بدأت مشاريع نقد الدين المنتج لدين تاريخاني ومحاولة قراءة النص المقدس من جديد حلاً وحيدًا وحاسمًا من أجل إحداث قفزة تنويرية جادة، ومن أجل نسف مشاريع الإسلام السياسي الذي يعيد التاريخ الإسلامي الفقهي فقط، حدثت معادلة غير متوقعة؛ فقد تقوَّت حركات الإسلام السياسي شعبيًا بتقديمها خطابًا دينيًا عاطفيًا يستوعبه العامة، فيما بقيت مشاريع نقد الدين ونقد نقد الدين والسِجالات المعرفية التي رافقتها حبيسة الصالونات النخبوية.
لكن الحدث الربيعي الذي انطلق منذ ثلاث سنوات وهو بالتأكيد يستمر بمعادلات جديدة وسيناريوهات مختلفة، رغم موجة رجوع الأنظمة العميقة، استطاع أن يتجاوز حسابات القوى الإيديولوجية العربية المتعددة ومداخل التحديث التي تطرحها النخبة الفكرية العربية، وذلك بطرح مداخل جديدة للفعل التحديثي والمتمثل في نسف الاستبداد بالعصيان المدني والاحتجاج السلمي ثم برفع شعار الحرية أولاً والديمقراطية ثانيًا كرد فعل، بدأت التنظيمات الإسلامية تطرح مفهوم الدولة المدنية في سجالاتها مع خصومها الإيديولوجيين، فيما النخب الفكرية بدأت مصدومة حيال واقع متناقض فكريًا وسياسيًا. فلا هي استساغت ركوب الإسلاميين على ثورات الربيع العربي ولا استحسنت بزوغ جيل شبابي ميداني تواصلي ومتحرر بدون أية مقدمات تنويرية ثقافية. لذلك كانت سِجالات شباب الثورات حول الدولة الديمقراطية الحديثة وليس الدولة المدنية ولا دولة الأنوار؛ أي دولة الحريات والمؤسسات الحرة المفتوحة والشفافة والمساواة والعدل والتعددية الدينية ثم المحاسبة والتداول السلمي على السلطة، بمعنى تجاوز تضاد الديني والسياسي والفكري والسياسي الذي تضعهما المنظومتان الدينية المحافظة والسياسية الحداثية.
ولا يعني هذا أن مشاريع نقد الدين أو عقلنة الدين التي انطلقت مع المدرسة الإصلاحية العربية واستمرت مع نخب فكرية عربية تنويرية، لم تقدم قيمة مضافة لمسار تحديث المنظومة الفكرية والثقافية العربية المعاصرة، بل العكس، استطاعت أن تفرز نخب فكرية ودينية جديدة ومنظومة أفكار نقدية للموروث الديني وانتعاش مناهج معرفية نقدية تفكيكية جديدة في الساحة العربية، ثم وقفت العملية هنا. وبالموازاة لم تزدهر فكرة القطيعة الإبستمولوجية مع الموروث الديني بشكل نهائي باعتباره المعيق التاريخي لعملية التحديث الحضارية المنشودة، لأنها اكتست طابعًا مؤدلجًا سواء لدى العلمانيين العرب أو لدى اليسار بشكل عام، ولأن القيم المجتمعية العربية مازالت تحتكم للدين مؤهلاً حضاريًا وإنسانيًا وموروثًا لا يمكن الانفكاك منه. ولم تستطع المؤسسات الدينية التقليدية، من جهة أخرى، أن تحفظ الدين من استغلال السلطة الحاكمة له كداعم لشرعية الحكم السياسي، ولا استطاعت أن تحفظه من تمييع الحركات الإسلامية والسلفية والجهادية له وتقديم صور جديدة له، ولا استطاعت أيضًا أن تجدد خطابها الديني وتؤسس لفعل اجتهادي حقيقي من داخل المنظومة الدينية.
ما زال الصراع على الدين مستمرًا إذن بين السلطة السياسية والمؤسسات التقليدية والحركات الدينية المختلفة وبين التنويريين الدينيين، لكن رهان المرحلة يقتضي الالتفاف حول قيم الديمقراطية والحرية التي تستوعب هذه الصراعات في خانة التعددية الدينية والعقدية إذ تتلاءم أطروحات علمنة الدين وخصخصة الدين وأنسنة الدين وعقلنة الدين وفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، والكل يحتكم لقيم الحق والقانون والتسامح والعدل. وعليه، فالمدخل سياسي وليس فكريًا ولا دينيًا.