معتز الخطيب: الإرهاب مفهوم سائل ومتجدّد وقابل للتشكيل حسب المصالح والصراعات، ومحاربته هي احتكار شرعيّة ممارسته
فئة : حوارات
تظلّ الكثير من عوائق التفاعل مع التحدّيات المعاصرة مرتبطة بتفكيك المفاهيم بدايةً من أجل صياغة استراتيجيات التعامل معها وتجاوز مشكلاتها. ومن أبرز هذه الإشكاليات المفاهيمية ما يتعلّق بقضايا الجهاد في الفكر الإٍسلامي وما تعكسه هذه القضايا من إشكالات متعلقة باستعارة المفاهيم الفقهية وتكييفها واقعيًّا في ظلّ الجدل الدولي الذي لم يُحسم بعد حول مفاهيم كالإرهاب والجهاد، إضافة إلى نشاط الجماعات الجهادية المتزايد وظاهرة "الدولة الإسلامية"، وما يطرحه كل ذلك من إشكالات التطبيق الفقهي في ضوء تطبيقات الجهاد المختلفة ووجود مفاهيم، مثل الجهاد المدني وأسلمة اللاّعنف والمقاومة المدنية.
ومن أجل محاولة تفيكك هذه الإشكاليات كان اللقاء مع د. معتز الخطيب، وهو باحث سوري، من مواليد دمشق عام 1976، حاصل على الدكتوراه في "السُنّة وعلوم الحديث"، يعمل أستاذا للمنهجية والأخلاق في مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، وكلية الدراسات الإسلامية في جامعة حمد بن خليفة - قطر، وهو أستاذ محاضر في عدد من الجامعات كجامعة برنستون وفلوريدا وأوكسفورد وميونيخ وتوبنغن، ويعمل باحثا زائرا في مركز الدراسات الشرقية، في مركز الدراسات العابرة للأقاليم في برلين.
له العديد من المقالات والبحوث المنشورة في الدوريات العلمية، إضافة إلى عدة كتب تأليفا وتحقيقا ومن أبرز مؤلفاته: الغضب الإسلامي: تفكيك العنف - دراسة نقدية، مأزق الدولة بين الإسلاميين والعلمانيين (تحرير ومشاركة)، خطاب التجديد الإسلامي: الأزمنة والأسئلة (بالاشتراك)، رد الحديث من جهة المتن: دراسة في مناهج المحدثين والأصوليين، سيد قطب والتكفير (تحرير ومشاركة)، العنف المستباح: الشريعة في مواجهة الأمة والدولة (الصادر حديثًا)
نص الحوار:
أحمد زغلول شلاطة: من أبرز المفاهيم التي أثارت جدلا دوليا لم يحسم بعد، منذ ما يقرب من عقدين، وتحديدا بعد هجمات 11 سبتمبر 2001؛ مفاهيم كالإرهاب والجهاد والعنف. وعلى الرغم من كثرة التعريفات المقدمة، إلا أن الخلط وتحميل المصطلحات أكثر مما تحتمل، عقَّد الأزمة وأطال أمد الصراع وحصره في مواجهة الإسلام بصورة مباشرة أو غير مباشرة ... كيف تفكك هذا الجدل المفاهيمي؟.
معتز الخطيب: مشكلة المفاهيم مسألة مركزية فيما جرى ويجري، ولكن لا بد من الوعي بأنّ هذه المشكلة ليست مفهومية بحتة؛ بمعنى أن المشكلة لا تَنتج فقط عن حالة التباس أو سوء فهم، فجزءٌ منها يتصل بسطوة التسمية واستراتيجية الغموض كما هو الحال مع مصطلح "الإرهاب" الذي تستخدمه دولٌ لإدانة أي مخالف لها وتبرير تصفيته معنويًّا بل ماديًّا أحيانًا خارج إطار القانون؛ فـ"الإرهابي" تَحَول إلى حكم قيمة يُفتَرَض فيه البداهة؛ فلا تتم مساءلته أو البحث عن مسوغاته، أي أنه يُستَعمَل بهدف الإرهاب؛ لأنه تحوّل في بعض الأحيان إلى لعبة سياسية مخاتلة!. ولا بدّ من التذكير بأن أمريكا منذ عهد بوش الابن رفضت التواضع على تعريف محدّد له؛ لأنه لا يُستَعمل هنا بوصفه مصطلحًا قانونيًّا يتم الاتفاق على مدلوله وفرض عقوبات واضحة على مرتكبيه، كما أنه منذ أحداث سبتمبر، لم يَعد المفهوم محصورًا في حدود الدولة القومية، ولذلك تمّت صياغة مفهوم "الحرب على الإرهاب"؛ للإمعان في هذه السيولة التي يتم تكييفها وفق مصالح مختلف الأطراف، لأننا لا نبحث في مسألة قانونية، كما أننا لا نناقش هنا مفهوما أخلاقيّا، وإنما نناقش معايير سائلة تحدّدها مصالح الدول والجماعات وموازين القوى التي تسعى لسحب شرعية أية معارضة أو احتجاج عبر وصمها بالإرهاب. فالتواطؤ على عدم وجود تعريف محدّد للإرهاب ليس مسألة نظرية تتصل بالمفاهيم المجرّدة، بل تتعلق بجوهر الموقف العملي تجاه هذا السلوك أو ذاك مما يوصف بأنه إرهاب، ما يعني أنّ المفهوم المرن والسائل للإرهاب يحتوي في ذاته على عوامل تُمدّه بالحيوية والحركة والاستمرارية، ومن ثمّ فإن أي حديث عن مُحاربته ينطوي - في ذاته - على فاعلية واستمرار الإرهاب؛ لأن تلك الحرب تُشنّ على مفهوم سائل ومتجدد وقابل للتشكيل حسب المصالح والصراعات المتغيرة، كما أن حديث الأنظمة والقوى الدولية عن "مكافحة الإرهاب" أو الحرب عليه ينطوي على اعتقاد ممجوج ببراءة النفس وطهارة تلك النظم من ممارسة هذا النوع من العمل والفكر، وهذا يعني أنّ هذه المحاربة هي في حقيقة الأمر من أجل "احتكار" شرعيّة ممارسته وليس نفيه بالمطلق.
أمّا مفهوم الجهاد فمشكلته مختلفة، فجزءٌ منها يرجع إلى التباسات مفهومية حين يتم قَصْره على المعنى القتالي فقط؛ لأنّ الجهاد بالمصطلح القرآني أوسع من ذلك بكثير، اهتم الفقهاء بالمعنى القتالي فقط (مجاهدة العدو) لأنه يتصل بتخصصهم، واهتم المتصوفة بجانب آخر، وهو (مجاهدة النفس والشيطان)، كما أن جزءًا آخر منه يتصل بالتطورات التي طرأت على المفهوم مع اختلاف الأزمنة والسياقات كما فعلت الجماعات المنتسبة للجهاد اليوم حين حولته من مفهومه الوظيفي الفقهي إلى معنى ثوري انقلابي على الأنظمة والعالم وعبأته بمضامين جديدة لم تكن معهودة للفقهاء السابقين، وجعلت منه ركنًا من أركان الإسلام. والجهاد في مدلوله الأصلي مفهومٌ يقابل ولا يساوي الحرب؛ لأن الجهاد يستند إلى مقاصد وغايات أخلاقية، وهو فعلٌ مشروطٌ قبل وأثناء وبعد قتال العدو؛ بخلاف الحرب التي تقوم على مصالح الدول أو ما تراه هي مصالحَ حيوية لها؛ خصوصًا مع تطور أدوات الحرب ووسائلها في العصر الحديث واتساع قدرتها على التدمير والتنكيل. فالإشكال الحقيقي ينشأ من الممارسات الحديثة لما يُسمى "الجهاد" التي تتصل وتلتبس بالعنف بفعل عوامل مختلفة لعلنا نوضحها أثناء هذا الحوار، ولكن هذا الالتباس سيبقى قائمًا في ظل الصراع والإحباطات، وفي ظل فشل مشروع الدولة القومية والتعقيدات التي أحاطت بتطبيق مفهوم الجهاد في ظلها، مع الاعتراف بأن جزءًا من المشكلة قائم لدى فئة من الناس تريد أن تعيد رسم العالم على صورة المجتمع الإسلامي الأول في المدينة المنورة قبل قرون، وتَعتبر الجهاد الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك؛ أي أنها حولت الجهاد من فعل الجماعة دفاعًا عن وجودها وحقوقها إلى فعل مجموعات معزولة ضد الجماعة المسلمة ولتحقيق أيديولوجيات خاصة بالقوة.
أحمد زغلول شلاطة: يثير مفهوم الجهاد الكثير من الخلط سواء لدى المسلمين أو غير المسلمين في ظل حرص تنظيمات العنف على توفير مشروعية دينية لممارساتها، ومستند فقهي كلاسيكي، مما يدفع الكثير من الملاحظين إلى ربط الإسلام بالعنف؛ كيف ترى أسباب استمرار هذا الخلط؟
معتز الخطيب: لقد شرحت - بتوسع - مسألة صلة جماعات العنف بالنص الديني والتقليد الفقهي في كتابي الأحدث "العنف المستباح"، ولكنني أصوغ جوابي هنا بطريقة مختلفة ألخصها في أمور عدة:
الأمر الأول: أنه لا بد من اعتبار السياق الذي تقع فيه هذه الممارسات العنيفة، فلو قلنا: إن العنف نصيّ؛ فالسؤال الطبيعي هو أن هذه النصوص قديمة، وكان يُفتَرض بها أن تُنتج هذا العنف بطريقة آلية وباستمرار، ولكن ظاهرة العنف ظاهرةٌ حديثةٌ نشأت في ظل الدولة القومية أو ما تسمى بالدولة الوطنية، وهذا ما دفع عددًا ممن درسوا الظاهرة إلى عدّها جزءًا من الحداثة على مستوى المفاهيم والأدوات والسرديات، وقد توسعتُ في هذا في كتابي؛ فهذه الحركات أخذت شكلاً من أشكال التلاؤم مع "الدولة الحديثة" التي لديها نزوعٌ دائمٌ لتشكيل الأفكار وإدارة الناس في حياتهم وموتهم، وبعضها كان من اختصاص الفقهاء والقضاة تاريخيًّا وليس من اختصاص السلطة السياسية؛ فهي حركاتٌ حديثة من جهة المراهنة على الدولة كسلطة مركزية، ومن جهة استعارة الوسائل والتقنيات والمفاهيم والصيغ الفكرية الحديثة، لذلك لم يكن غريبًا أنه حين يدّعي أبو بكر البغدادي أنه "خليفة" يسمي تنظيمه نفسه ب"الدولة الإسلامية"، وهذا الخلط الفكري بين الدولة الحديثة والتصورات السياسية الكلاسيكية هو طريقة الإخوان المسلمين كما أوضحت ذلك بتوسع في دراستي "الوسطية الإسلامية وفقه الدولة" (مجلة تبين، عدد9، المركز العربي).
ولو ذهبنا إلى التركيز على خصوصية كل تنظيم أو مفكر من هؤلاء الذين نظّروا لهذه الأفكار الرئيسة، سنكتشف سياقًا خاصًّا يساعدنا على فهم الأفكار بعمق؛ فبيئة الصراع مع الأنظمة كانت بيئة مواتية لتشكل تلك الأفكار، ولم تكن (مجرّد) استنباط وتخريج على أصول الفقهاء أو استعادة لتراث فقهي سابق، ولذلك فانقلاب دار الإسلام إلى دار كفر جرّ إلى تحول الجهاد إلى جهاد ضد الداخل بعد أن كان في أصله الفقهي جهادًا ضد الخارج. كما أن مفهوم "الحاكمية" الذي تحول - مع سيد قطب - إلى قرين شهادة التوحيد "لا إله إلا الله" وأحد مقتضياتها، كان أبو الأعلى المودودي قد صاغه في سياق صراع الهنود المسلمين لإنشاء كيان سياسي خاص بهم في باكستان؛ أي أننا أمام أشكال متعددة من السياق: سياق خاص، وسياق كلي، وهو الأزمنة الحديثة التي قلبت الواقع وجعل من الموروث الفقهي الذي تَشَكَّل في الأزمنة الكلاسيكية جزءًا من التاريخ، فاستعادته في سياق غير سياقه الذي تَشَكل فيه وأُنتج له هي استعادةٌ تأويلية، وحين تحدث من قبل أشخاص يفتقرون إلى هذا الوعي التاريخي المركب، فستخرج النتائج، إما كارثية (كما في استعادة مفاهيم الجهاد ودار الحرب) أو كاريكاتورية (كما في فتوى إرضاع الكبير).
ما أودّ قوله: أن تفسير ظاهرة العنف يكمن في تحليل مركّب على مستوى الفكر الإسلامي، وفي سياق تفاعله مع التحوّلات العالمية، ومن التبسيط المُخلّ قَصْرها على مجرّد فئة ضالة انحرفت، أو ظاهرة إسلامية أيديولوجية مع تجاهل حركة العالم، والنظام السياسي الداخلي وتفاعلاته أيضًا.
أما الأمر الثاني: فهو أنّ السياق وحده لا يكفي؛ لأنه قد يخلط - أحيانًا - بين الفهم والتبرير أو التسويغ، وإن كان الفهم لا يعني التسويغ إلا خارج حقل الفكر والبحث كما حصل بعد 11 سبتمبر حين تمت إدانة أية محاولة لتفسير ما جرى، وعليه فلا بد من دراسة خطاب العنف نفسه ومنهجه في الاستدلال؛ لأن مجرد الاقتباس من النص أو الموروث لا يكفي للقول: إن هذا الخطاب يعبر عن التقليد الفقهي، أو أنّه يستند إليه، فلا بد أن نتذكر أنّ الاستدلال بالنصوص هو منهجٌ سلكه كل أصحاب المذاهب الفقهية والفرق الكلامية منذ القرن الأول الهجري، ولكن المقياس هو "أن يأخذ الاستدلال مأخذ أهله العارفين بكلام العرب وكليات الشريعة ومقاصدها" كما يقول الشاطبي الذي جعل من علامات منهج "أهل البدع والأهواء" أنّهم يستدلون بالنصوص على غير طريقة "الراسخين في العلم"، ولذلك ناقشت في كتابي "العنف المستباح: الشريعة في مواجهة الأمّة والدولة" طرائق استدلال جماعات العنف وأنها تندرج في خمسة أمور: اتباع المتشابهات، وتحريف المناطات، وتحميل الآيات ما لا تحتمله، والتمسك بالأحاديث الواهية، وأخذ الأدلة ببادي الرأي.
الأمر الثالث: أنّ تيار العنف راكمَ لنفسه "أدبيات نظرية" وتجربة عملية عبر العقود الماضية، ولذلك كوّنوا لأنفسهم مفكّرين ورموزًا وفقهاء خاصين بهم منذ الستينيات من القرن الماضي، وهذه الأدبيات خليطٌ من مكونات مختلفة وانتقائية وخارج سياقاتها النصية والتاريخية.
أحمد زغلول شلاطة: لكن لماذا لم تحظَ اجتهادات معاصرين اشتبكوا مع فقه الجهاد في إحداث تأثير على مسار العنف وتفكيك أطروحاته، والدليل هنا هو استمرار نفس أطروحات المودودي وقطب من قبل الجماعات المختلفة في تبرير ممارساتها؟
معتز الخطيب: يرجع هذا إلى أمور؛ الأول: ما سبق ذِكره هنا من أنّ العنف ظاهرةٌ حديثة تعكس مأزق الدولة التحديثية أوّلاً، والتي حاولت فرض الحداثة من أعلى وبالقوة، فدمّرت البنى التقليدية لمجتمعاتنا ونتج عنها كلّ هذه الفوضى؛ فالانتقال من الأزمنة الكلاسيكية إلى الأزمنة الحديثة لم يكن انتقالاً منظّمًا أو مدروسًا، وإنما عبْر قَسْر وإكراهٍ وصراعات. والثاني: الدولة القمعية العنيفة التي ورثت الاستعمار وسيطر عليها العسكرُ خلال العقود الماضية، والتي تأسست شرعيتها على الانقلابات العسكرية وقمع الناس؛ لأن نشوء هذه الدولة أصلاً لم يكن نتاج تطور داخلي في مجتمعاتنا، وقد قامت مشاريع عديدة لمواجهة هذه الدولة القمعية بعضها سياسي وبعضها عنيف. الثالث: أن خطاب التقليد الحالي فشل في الدفاع عن التقليد الفقهي، فلم تَتَنبه الردود الفقهية والدينية على كتابات العنف إلى أنّ المشروع الجهادي يُعيد اكتشاف الإسلام ويتجاوز التقليد؛ شأنه شأن جماعات الإسلام السياسيّ، ولذلك أخفقت في الإمساك بجوهر الإشكال أو "بالبراديغم" الجهادي. فمثلاً كانت هناك رسالة مفتوحة وُجّهت إلى البغدادي وقّعها (126) شخصيةً إسلامية، وهي رسالة هزيلةٌ أخفقت في الإمساك بالإشكال الرئيس لدى تنظيم الدولة وجماعات العنف هو كيفية تعامل الجهاديين - عامة - مع الموروث الديني والفقهي ومع التقليد في الزمن الحديث، وهو ما يتصل بما تسمّيه الرسالة نفسها "فقه الواقع"؛ فمنظّرو ما يُسمّى بـ "تنظيم الدولة" يرون أنفسهم أدرى بالواقع ويتبنّون تصوّرات مغايرة عن هذا الواقع المعقّد في تركيبته وصراعاته الطائفية والسياسية المحلية والدولية، وهو - في نظرهم - واقع صراعي، الحربُ على الإسلام والمسلمين مكوّنٌ رئيسٌ فيه، ويفتقر فيه المسلمون إلى العزة والكيان الجامع والهويّة المميّزة تحت وطأة العدوّ الخارجي المقاتل على طول الخط والعدوّ الداخلي القاهر والمعطِّل لشرع الله والمُعِين للعدو الخارجي، والمسلمون ضحية عدوان خارجي وقهر داخلي يمنعهم من تنفيذ "أمر الله" والعيش وفق هديه. وجماعات العنف ترى وفق هذه الرؤية أنها تملك مشروعًا متكاملاً لمعالجة هذا الواقع المأزوم، وهو أفضل من كل المشاريع الأخرى المطروحة!.
***
أحمد زغلول شلاطة: أدّى غياب الدولة الإسلامية التي دوّن فيها الفقه الإسلامي مقابل حضور الدولة العلمانية في مختلف الأقطار المسلمة إلى عدد من الإشكالات المتعلّقة باستعارة المفاهيم الفقهية وتكييفها واقعيًّا، فما هي أبرز إشكالات التطبيق الفقهي في ضوء تطبيقات الجهاد المختلفة، وكيف اشتبك منظّروها مع اختلاف السياق التاريخي؟
معتز الخطيب: "الدولة القومية" من المفاهيم المركزية التي تركت تأثيرًا كبيرًا على التفكير الإسلامي، خصوصًا السياسي منه؛ لأنّ شريعة ما قبل الأزمنة الحديثة، إنّما استقامت ونضجت في ظلّ نظام الخلافة، وكانت متسقة ومتلائمة مع ما أسمّيه "نسق الأزمنة الكلاسيكية"، ولكن مع ظهور الدولة القومية وتحوّل "دار الإسلام" إلى "دول" علمانيّة تفصل بينها حدود وقوانين تتناقض وتتصارع وتتحارب وتشكّل هويات مختلفة، أصبح تطبيق شريعة نظام الخلافة في ظل الدولة يفرض الكثير من الإشكالات، من أبرزها اليوم مفهوم الجهاد الذي انقلبت فيه تصوّرات النسق التقليدي عن النسق الحديث؛ فالجهاد كان يشتغل ضمن منظومة ثلاثية الأبعاد:
(1) رؤية محدّدة للعالم (دار الإسلام ودار الكفر) وما ينبني عليها من تقسيمات للبشر (مسلم، ذمّي، كافر، محارب، معاهد، مستأمَن)؛ أي أنّ الرابطة فيه كانت رابطة دينية، والأصل في العلاقات في الأزمنة الكلاسيكية، الحرب.
(2) نظام الإمامة بوصفه يحيل إلى السلطة، والخلافة بوصفها منظومة.
(3) الهجرة الواجبة على المسلمين من دار الكفر إلى دار الإسلام.
مع الدولة القومية تبدّلت هذه الرؤية جذريًّا، حتى أصبحت استعارة الجهاد في الأزمنة الحديثة تثير الكثير من الإشكالات، فأهم إنجازات الدولة الحديثة أنّها تولّت تنظيم حياة الأفراد واحتكرت ممارسة العنف المشروع في الداخل، كما تولت قرار الحرب في الخارج للدفاع عن السيادة أو عما تراه مصالح حيوية واستراتيجية لها، وهي جزءٌ من نظام دوليّ جديد خاضع لقوانين ومعاهدات تنظم علاقات الدول فيما بينها، وتخضع لموازين القوة والهيمنة. ويُضاف إلى ذلك الأنظمة الاستبدادية التي تسلمت السلطة في العالم الإسلامي في مرحلة ما بعد الاستعمار وبعد سقوط الخلافة العثمانية، وهي التي يُعبّر عنها عادةً بالدولة الوطنية أو الدولة القومية، والتي أخذت علاقتها بالدين أشكالاً شتّى ما بين العداء والاستتباع والتجاهل، ولكن الأهم أنّ الجهاد لم يعد ينتمي إلى قاموسها.
أحمد زغلول شلاطة: كيف تنظر إلى مسارات مفهوم التوحيد المتناقضة بين خطّه الإسلاميّ الذي يعود إلى الإمامين مالك وأبي حنيفة وصولاً إلى محمّد شلتوت والمسار الذي ينبع منه التأويل الجهادي، والذي تعود أصوله إلى ابن تيميّة وصولاً إلى أبي محمّد المقدسيّ؟
معتز الخطيب: مفهوم التوحيد مفهومٌ مركزيٌّ لدى جماعات العنف كما هو مركزي لدى الفِرَق الكلامية الكلاسيكية أيضًا، ولكن الإشكال الرئيس عند منظّري العنف يكمن في (النواقض العملية) للإيمان؛ فهم يرون أن سَنّ القانون والحكم به دليلٌ على استحلال مخالفة الشريعة، وهو - عندهم - ناقضٌ عمليٌّ للإيمان يوجب التكفير، وكذلك موالاة الكفار. ومسألة التكفير بالذنوب العملية وقع فيها الخلاف، ولكن الذي بيّنه الأئمّة السابقون أنّ الأصل عدم التكفير بـ(الفعل)، واستثنَوا من ذلك أحوالاً محدودة رأَوا فيها أنّ الفعل معبِّر عن صريح الاعتقاد، فلم يسألوا الفاعل عن قَصْده، ونطاقُ هذا ضيّق جدًّا؛ فالحكم مَنوطٌ بالتهاون في الدين حصرًا، وهي "استهانةٌ مخصوصة في أحوال مخصوصة" أجمع الفقهاء على أنّها صريحة، ولم تقم القرائن على عكسها. ثم إنّ جماعات العنف خلطت بين مباحث الفقه ومباحث العقيدة، ونقلت مفهوم "الحكم" من القضاء إلى السياسة والسلطة (الحاكمية)، فانتقلت من التعبّد إلى التسيّد - لو استعملنا تعبيرات أستاذنا طه عبد الرحمن - والمتسيّد يندفع إلى ممارسة أقصى درجات العنف لفرض تصوّراته وإخضاع الآخرين لها، في حين أنّ شأن الاعتقاد الديني؛ متى كان صادقًا وخالصًا، أن يَلزمَ منه اللطف والرحمة؛ فالشريعة كلّها موصوفة ودائرة على الرحمة. أما إذا شابت الاعتقادَ الديني دلائلُ العنف، فيكون ذلك بسبب ازدواج هذا الاعتقاد بالمصلحة السياسية المتمثلة في طلب التَّسَيُّد، فتكون هذه المصلحة المادية هي التي نَفَثت في هذا الاعتقاد المعنوي روحَ التطرّف، فكيف إذا تَحَوّل الاعتقاد الديني نفسه إلى عنف خالص مع مثل تلك الجماعات؟! وإذا كان تَدَاخل الاجتهادات الدينية مع الآراء التَّسَيُّدية يُنشئ صراعًا مُركّبًا لم تَألفه أنظمة التدبير التسيّدي الحديثة، فإنّ الصراع على السلطة قد يَشتدّ إلى درجة أن يَنبذ المفاهيم الأخلاقية نَبْذًا، ولذلك وجدنا الحركات المنتسبة إلى الجهاد لا تتحلّل من الانضباط الأخلاقي فقط، بل تسعى إلى العبث بالمفاهيم الأخلاقية؛ إذ تُحوّل الشريعة إلى شدّة وغلظة وسفك للدماء تنظيرًا وممارسة، وتأخذ بأسباب القوّة والمصلحة الخاصة، أو تتوسّل بالدين لطلب التسيّد لنفسها باسم الحاكمية. ولا أَدَلّ على ذلك من تَمَحورهم حول الحكم وطلَبهم له واصطراعهم على الإمارة تحت مسمّى تكفير الحكّام والأنظمة، وذلك أنّهم يرون أنّ الشريعة لا تتأسّس إلا على السلطة، وأنّ السلطة لا يُتَوَصَّل إليها إلاّ بالعنف، وهو فرعٌ عن تحويلهم الشريعةَ إلى قانون بوصفه سلطة قهرية، وتَبنّيهم لتصوّرات الحداثة عن القوة والسلطة والقانون، في حين أنّ الشريعة كانت عبر التاريخ نتاج تفاعل الجماعة مع النصّ، ويمكن أن نلحظ الفارق بين هذين المعنيين في اختلاف التنظير للحاكمية بين سيّد قطب وطه عبد الرحمن على سبيل التقابل، فقد تحوّلت الحاكمية مع سيد قطب إلى حركات جهادية للثورة على العالم، بينما تحوّلت فكرة الحاكمية بمفهوم طه عبد الرحمن إلى عمل تزكوي يُنهي التسيّد ويتّخذ موقفًا نقديًّا جذريًّا من الدولة والسلطة؛ لأنه قابَلَ بين التعبّد والتسيد؛ فالتعبّد طريقه التدبير الديني والتسيّد طريقُه التدبير السياسي.
أحمد زغلول شلاطة: وماذا عمّا لم يحسمه الفقه المعاصر من إشكاليّات ظهرت مقابل فقه التنظيمات الجهادية، مثل: دار الحرب ودار الإسلام، دار الكفر ودار الإسلام، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
معتز الخطيب: اتضح من كلامي السابق أنّ مفاهيم مثل (دار الإسلام ودار الكفر) تعبّر عن الرؤية الكلاسيكية للعالم، بمعنى أنّ هذه القسمة هي قسمةٌ تاريخيةٌ عبّرت عن واقع تاريخي، ولم تكن حكمًا شرعيًّا أو قيميًّا، بل كانت مفهومًا تحليليًّا يعكس تصوّرات الأزمنة الكلاسيكية، ويتغلغل في تفاصيل الفقه السياسي المتصل بالآخر وبتوصيف العلاقات وما شابه، ولذلك رفضتُ في محاضرة لي منطق الاجتهاد الفقهي القائم على "فقه النوازل"؛ لأنه يتعامل مع المتغيّرات على أنّها تغيرات جزئية ولا يعي أنّ النسق تحوّل كليًّا، ولا ينفع معه التفكير على مستوى "النوازل"، وهذه إحدى المشكلات الرئيسة في الاجتهاد المعاصر اليوم، فقد اتسع الخرق على الراقع وما عاد منهج التلاؤم والتوليف أو الترقيع مُجديًا، يجب أن نفكّر على مستوى الرؤية الكلّية والتصوّرات الكبرى، وأن نكفّ عن ملاحقة النوازل الجزئية لتسكينها في النسق الكلاسيكي المُتَخَيَّل، لصالح ابتكار منهجية جديدة تساعدنا على التفكير في الكلّيات وتستوعب كلّ الجزئيات المختلفة فيها، فما حصل مثلاً في "الاقتصاد الإسلامي" أسلمة للاقتصاد الرأسمالي؛ لأنه لا يسائل فلسفة الاقتصاد نفسها، ولا يفكّر في الرؤى الكلّية وينشغل طول الوقت بمعالجة الجزئيات التي أفرزها الاقتصاد الرأسمالي لإيجاد الحلول والمخارج الفقهية لها، وتوسيع مساحة الحلال على أرضٍ حرامٍ في وعيه!.
أمّا مفاهيم مثل "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فهي مفاهيم أخلاقية مركزية لا تاريخية، تُحيل إلى البنية الأخلاقية المركزية في الإسلام كدين، وقد درس مايكل كوك (Michael Cook) هذا المفهوم في كتاب فريد وضخم لفهم فلسفة الإسلام الكامنة وراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن المشكلة في تأويل هذا الأمر واستخدامه وكيفيات تطبيقه؛ لأنه لا يشتغل إلاّ ضمن منظومة أخلاقية وفي ظلّ نظام سياسي مُحدد ومجتمع مُتسق ومُنسجم يشغل "المعروف" و"المنكر" فيه حيزًا ثابتًا ومستقرًّا وليس كبعض مجتمعاتنا اليوم التي تعج بأنماط حياة متغايرة تحيل إلى منظومات متوازية ومتجاورة من القيم في المدينة الواحدة. وكان ثمة جدلٌ قديمٌ بين مختلف المذاهب الكلامية حول تحديد المعروف والمنكر، وهل مرجعيّته العقل أم مرجعيّته الشرع؟ واختلفت المعتزلة (العقل) والأشاعرة (الشرع)، ولكنّنا اليوم، نحن في حاجة إلى إعادة صياغة منظومة أخلاقية يحتكم إليها الناس، ولكن ذلك لا يتم إلاّ عبر تطوير النقاش الأخلاقي في المجال العام، والذي يسهم فيه الجميع، وعبر إخراج الأخلاق من حيز الوعظ وخُطَب الجمعة إلى ساحة بناء معايير قويمة يتمّ الاحتكام إليها، بل والتنافس على الاحتكام إليها والتزامها. فالأخلاق هي تلك "المسائل التي تُعنى بواقعة العيش معًا وفق معايير قويمة" كما يعبّر عنها يورغان هابرماس (J. Habermas).
أحمد زغلول شلاطة: كيف ترى مفاهيم مثل الجهاد المدني وأسلمة اللاعنف والمقاومة المدنية وتأثيراتها على ركن الجهاد، وهل هي تمييع له بهدف تفريغه من مضمونه في سبيل تفكيك أطروحات التنظيمات الجهادية؟
معتز الخطيب: لا بدّ من التذكير هنا بالمفهوم الواسع للجهاد بمعناه القرآني، ومن هنا نجد أنّ الجهاد والاجتهاد مشتقّان من الجذر نفسه؛ لأن فيهما بذلَ أقصى جهدٍ ممكن، وهذا الجهد المبذول تتنوّع ميادينه ومستوياته، ما بين جهد ذهني وفكري (الاجتهاد) وجهد مادي (الجهاد)، والجهاد يكون بالقلب واليد واللسان والسِّنان، فلو غادرنا المصطلح الفقهي للجهاد بمعنى "قتال العدوّ" فنحن أمام فضاء واسع من ممارسات الجهاد ولكنّه يبقى خارج اصطلاح الجهاد الذي يتّصل بمنظومة أخرى من المفاهيم والأحكام (الشهادة وأحكامها).
والحديث عن ممارسة "الجهاد المدني" يمكن أن يُفهم على أنّه نتاج متغيّرات الموقف من الدولة؛ فقد راهنت النخبة بعد الاستقلال – على اختلاف توجّهاتها الأيديولوجية – على دور الدولة في إحداث التحوّلات الكبرى وتحقيق النهضة، لكن النتائج الكارثية التي حملتها التجارب القائمة والأخرى المجهضة – سواء أكانت لجهة الحريات والسلم الداخلي، أم لجهة مواجهة العدو والتحدّي الأجنبي– أفرزت دعوات "المجتمع المدني" التي ظهرت في أوائل الثمانينيات أيضًا، ويأتي "الجهاد المدني" في محاولة لاستثمار المصطلح الشرعي في سياق جديد يحمل توجّهات ليبرالية بالاتكاء على استحقاقات تجربة المواجهة العنيفة مع الدولة، مع الوعي بالخطورة التي تختزنها الدولة بأجهزتها الأمنية والعسكرية، وهنا نجد أن "الجهاد المدني" يعبّر عن صيغة مقابلة "للخروج" يُراد لها أن تكون شكلاً مختلفًا "يتفق والواقع الراهن الذي لم يسبق له مثيل في تاريخها"؛ ومن ثم يكون "تحرير الأبنية والمؤسسات والهياكل هو ساحة الجهاد الأولى ومجال الخروج بهدف استعادة سلطان الأمة وحاكمية الشريعة"، وتكون "ساحة التنمية هي أقرب ساحات العمل الجهادي وأولها " كما عبّرت هبة رؤوف مرةً منذ سنوات طويلة، ما يجعل منه نتاج مرحلة تأزم العمل السياسي المباشر من جهة، والعمل العنيف من جهة أخرى. لكن يبقى أن تركيب "الجهاد المدني" تركيب فسيفسائي؛ فهو استعارة لمفهومين ينتمي كل منهما لمنظومة فكرية مغايرة؛ فـ "المدني" باستعارته من التصور الكلي الغربي إلى السياق الإسلامي من شأنه أن يُخرج الجهاد عن مجاله الديني الخالص (شهادة، حياة أبدية، عظَم الثواب الموصل إلى الجنة، شراء الله لنفوس المؤمنين مقابل القتال في سبيله ...) وحين يكون الجهاد في سبيل الله ببَذْل الأرواح وتقديم التضحية بالنفس في سبيل نصرته ورغبة في حياة أخروية، يكون "الجهاد المدني" – في بعض صوره – سعيًا من أجل حياة دنيوية رغيدة.
***
أحمد زغلول شلاطة: أشرتم في كتابات سابقة إلى أنّ العلاقة بين الفقه والسياسة في الوعي الفقهي الكلاسيكي ظلّت محصورة بما سُمّي بـ(السياسة الشرعية) قبل انفصال السلطة عن الشريعة، أمّا بعد ذلك، فإنّ عمل الفقيه توسّع مع التحوّل الذي طرأ على فكرة (النظام الشامل)، فنشأت الفتاوى السياسيّة التي يخاطب بها الجمهور. كيف تقرؤون هذه الجدلية؟
معتز الخطيب: هذه المسألة تعيدنا مجدّدًا إلى تبدّل النسق بين الأزمنة الكلاسيكية والحديثة، وإلى نشوء فكرة "الدولة القومية" ونشوء الحقل السياسي، فمفهوم السياسة مفهوم حديثٌ بالمعنى الذي تشير إليه، كان اللفظ مستعملاً في التراث ولكن بدلالات مغايرة، ولكن المفهوم الحديث للسياسة هو جزء من قاموس الحداثة ودولتها، ولذلك وجدنا كارل شميت (K. Smith) كتب كتابه "مفهوم السياسي" وماكس فيبر (M. Weber) كتب كتابه "السياسة كحرفة" وهكذا، ففي الدولة الحديثة لا يمكن الحديث عن السياسة بمعزل عن العلمانية وموقف محدّد من الدين وعن استقلالية الإنسان التي تتحقق في أجلى صورة في تشريع الإنسان لنفسه، بينما المسألة في نظام الخلافة مغايرة تمامًا فالتشريع كان من سلطة الفقهاء لا الخليفة، والفقهاء لا يشرّعون من تلقاء أنفسهم، بل يجتهدون في معرفة حكم الله في الوقائع بناء على منهجيات تطورت عبر قرون. الذي حصل في الأزمنة الحديثة أنّ غياب الخلافة ونشوء الدولة دفع بعض الحركات الإسلامية إلى تعويض هذا الفراغ الذي وقع منذ سقوط الخلافة والدخول في نظام الدولة القومية وجسر الهوّة التي فصلتنا عن تراثنا الهائل والفقهي منه خاصة الذي بقي خارج تشكيلات هذه الدولة الناشئة وعلى هوامشها هذا إذا لم تتلاعب به وتستثمره لتدعيم سلطانها، وهو ما وقع بالفعل. ومن هنا قلت في كتابي المشار إليه إنّ الحركات الإسلامية هي شكل من أشكال التلاؤم مع الدولة الحديثة، وإن كان بعضها صريحًا في العداء للحداثة ولكنه متلبّسٌ بها؛ فالدولة الحديثة لديها نزوع دائم للضبط والتقنين كما سبق، وسبق لي أن رصدت ثلاثة أشكال من الاستجابة للحداثة ممثلةً بفكرة الدولة، وهي ما أسميته بالفقيه التقليدي، والفقيه الحركي، وفقيه الجهاد. ذلك أنّ جميعهم يراهن على الدولة بشكل مركزي كأساس للسلطة وكمصدر للضبط والتشريع واتخاذ القرار بطرائق، إمّا كانت غير مقنّنة قبل الدولة الحديثة أو كانت مَنوطة بأطراف أخرى كالفقهاء والمفتين والقضاة وغيرهم، فلمّا جاءت الدولة الحديثة استولت على تفاصيل هذه الشؤون وتجاوبت معها تلك الحركات في مشاريعها ورؤاها، وإن اختلفت مرجعيّاتها وأفكارها.
أحمد زغلول شلاطة: كيف ترى التناقض بين الإفتاء الرسمي وغير الرسمي في ضوء فتاوى وجوب/عدم وجوب الجهاد في أزمات معاصرة مثل أفغانستان، العراق، سوريا، ... إلخ.
معتز الخطيب: للأسف لم يقدّم الفقه المعاصر تصوّرات ملائمة حول الجهاد في سياق الدولة، وهو الذي انشغل كثيرًا بفقه النوازل في مجالات عديدة؛ ففي حين انشغل الجهاديّون باستعادة الجهاد على طريقتهم وبمفهومهم، انشغل فقهاء الحركة بأسلمة الدولة وتقنين الشريعة والعمل على شرعنة وسائلها وأدواتها؛ أي بذلوا جهدهم في التفكير بالدولة من الداخل، ولم يفكّروا في علاقاتها مع الخارج وكيفية عملها ضمن المنظومة الدولية في العالم الجديد، واكتفوا بإدانة ممارسات الحركات الجهادية العنيفة وتفنيد أطروحاتها. وقد تورّطوا هم ومُفتو الدولة بإعلان الجهاد والدعوة إليه - بمعناه القديم - في بعض الأحيان، ولكنهم لم يتنبهوا إلى الإشكالات الناجمة عن نشوء الدولة القومية التي جعلت تَحققه أمرًا بعيد المنال، كما أنّهم لم يتنبهوا إلى أنّهم بدعوتهم تلك خرجوا عن إطار التقليد الفقهي الإسلامي القديم. فالتحوّل التاريخي المشار إليه أدّى إلى عدد من الإشكالات في استعارة المفاهيم الفقهية وتكييفها في الواقع الجديد؛ فتمَّ استحضار مفاهيم، وانتزاع تصوّرات تراثية من إطارها الكلي لتطبيقها على سياق تاريخي مختلف كليًّا. فإذا كان قرار الجهاد في الفقه بيد الإمام؛ فإنه مع وجود الدولة القومية (العلمانية في الغالب) أصبح الفقيه أو المفتي هو الذي يصدر فتوى أو إعلانًا بوجوب الجهاد ويوجهه إلى الناس، وإذا كان قرار الجهاد منوطا بالإمام/الخليفة لكونه يملك الأمر والسلطة؛ فإنّه تحوّل مع المفتي إلى مجرّد "إعلان"؛ لأنه لا يملك من أمر السلطة شيئًا، بل هو - في حالة المفتي الرسمي - جزء من مؤسسة السلطة وموظّف لديها يأتمر بأمرها ولا نجده إلاّ حيث تريد هي. وإذا كان جهاد الدفع المقصود به الدفاع عن دار الإسلام (أرض الخلافة)؛ فمع الدولة القومية أصبحنا بإزاء مجموعة من الدول التي تقوم كلٌ منها على فكرة السيادة على أراضيها وعلى مصالحها القومية؛ أي أننا أصبحنا أمام دُور إسلام تحرّك كل واحدة منها مصلحتها القُطرية، ومن الطبيعي أن تصطدم المصالح (في حالة الحرب على العراق 2003 خذ مثلاً الكويت وسوريا).
وإذا كانت شؤون الجهاد مَنُوطة بالإمام الذي يجمع بين "الديني والسياسي" في نظام الخلافة التي هي "حراسة الدين وسياسة الدنيا به"، وهي منصبٌ ديني سياسيٌّ؛ فإننا مع الدولة القومية أمام دولة علمانية تفصل بين الدين والسياسة ولو ظاهريا، ولذلك تشظّت الفتاوى الدينية كتشظّي القرارات السياسية بين فقهاء الدولة وفقهاء الحركة الإسلامية وفقهاء الجهاد. ومع المفتين الرسميين، انقلب الفعل للسياسي وردّ الفعل للمفتي (الذي يمثّل الديني في الدولة القومية)، فيصعب الفصل بين الديني والسياسي حين يريد السياسي توظيف الدين في خدمة مصالحه السياسية. (تأمّلْ مواقف علماء الكويت والعراق، وموقف مفتي سوريا مثلا من الحرب على العراق 2003).
وسيبقى هذا الاختلاف قائمًا ما لم نصل إلى صياغة جديدة على مستوى الأنساق الكبرى تُخرجنا من هذا المأزق العميق بين موروثنا الإسلامي والفقهي على وجه الخصوص، وبين واقع العالم اليوم، ولكن يحول دون ذلك ضعف تأهيل كثير من الشيوخ واختلاف المصالح والصراع على الدولة والسلطة.