معمــارية الدولـــــة الكليــــــانية (الجزء الثاني)
فئة : أبحاث عامة
الدولة الكليانيّة مكنة معقّدة، قوامها الازدواجية في الأدوار والتراتبيّة السلطويّة، بهدف إرساء ستار حديديّ يطمس التعدديّة، ويصادر الفضاء العمومي للحريّة والتضامن، ويكرّس سلطان الكاريزم (Arendt, Hannah ,1972, p.212 ). بيد أنّ هذه النتيجة لا تتحقق قبل أن تتجلّى مقدّماتها الخمس : التذرية الشاملة للمجتمع، نظام الحزب الواحد، الانتشار الإيديولوجي الشامل، والدعاية الحزبيّة، والرعب. وعلى منوال أرنت، يعتبر ريمون آرون أنّ النظام السياسي الكلياني، يتوفّر على المواصفات التالية: ’’نظام الحزب الواحد المسلّح بإيديولوجيا هي عبارة عن الحقيقة الرسميّة للدولة التي تحتكر وسائل القوّة والإقناع. تراهن هذه الدولة في النهاية على استتباب الرعب الإيديولوجي والبوليسي,, ( Aron, Raymond, 1965, p.285. أما كارل فريدريش، فيحدّد ست خصائص للنظام الكلياني: ’’ إيديولوجيا كليانية، وحزب واحد، وبوليس سياسي جدّ متطوّر؛ ويتحكّم هذا الثالوث بدوره في: الإعلام الجماهيري ووسائل القوّة والهياكل الاقتصادية,,.(Birnbaum, Paul, 1990, p. 2619)
أيّة وجاهة تحقّقها ازدواجية السلطة وتراتبيّتها في تجسيد المثل العليا للحركة الكليانية ؟
* الدولة الكليانية: ازدواجيّة الأدوار
تتجلّى ازدواجيّة الأدوار في النظام السياسي الكلياني في مستويين:
أ- الوظائف الشكلانية والبروتوكولية للدولة الكليانية:
تمثل مؤسّسات الدولة الكليانية واجهة خارجية بروتوكولية محدودة الصلاحيات بالنظر لدوائر التسيير الفعلي الذي تضطلع به أجهزة البوليس السياسي والاستخباراتي. ويفسّر ذلك بالطابع السريّ الذي يلازم الحركات السياسية الكليانية، سواء أكانت خارج السلطة أو داخلها. كما تفسّرها أرنت بهيمنة ذهنيّة المؤامرة الشاملة التي تصنّف كلّ من لا ينتمي الى إيديولوجيا الحركة أو هياكلها بالعدوّ الافتراضي( Arendt, Hannah ,1972, p.108 ).
ب- التداخل بين الدولة والحزب وأجهزة الاستخبارات:
تمثل الدولة في النظام الكلياني مجرّد واجهة خارجية، تسيّرها إيديولوجيا حزبية أحادية وحديديةArendt, Hannah ,1972, p.125) )؛ لكنّ النفوذ الحقيقي والعملي ليس مرئيّا بقدر ما هو سريّ، فأجهزة البوليس السريّ هي الأدوات التنفيذية الحقيقيّة لقرارات الحزب والدولة؛ وهنا بلا شك مكمن قوة الأنظمة الكليانية واستمراريّتها.
وهكذا، فانصهار الهيئات الثلاثة، والتأرجح بين سلطة مرئية تارة وخفية تارة أخرى، هو ما يترجم نسقيّة النظام الكلياني المحكم الإغلاق. إنّ مثل هذا النظام لا يستمرّ إلاّ بالتصفية الدائمة لأعدائه الواقعيين كما الافتراضيّين، كما يصادر بقوّة وعنف قيم التعدّديّة والتنوّع السياسي؛ لكون الوجود الكلياني يفترض التجانس المطلق بين أفراد الأمة والالتفاف حول قيم الحزب الواحد. ويتعيّن على كلّ فرد من الأمّة أن يتمثّل ذاته كجزء في خدمة الكلّ وكأداة قربانيّة يتجلّى من خلالها المثل الأعلى الإيديولوجيّ للدولة-الأمّة. ويترتّب عليه تخلّي الأفراد عن حقوقهم المواطنيّة في الحريّة والاستقلاليّة والكرامة.
*الدولة الكليانية: التراتبية السلطوية
تبرز هرمية النظام الكلياني في الثالوث التالي:
- الكاريزم
- النخبة
- أجهزة القمع
أ – الكاريزم
الدولة الكليانية، وعلى خلاف أنماط الدول الاستبدادية، لا يحكمها فعليّا حاكم مفرد؛ ولكنّ وجوده على رأس هذا النظام أمر أساسيّ، ولا يعدّ وجوده أمرا شكليّا. وهنا المفارقة، فهذا الحاكم ’’هو بمثابة المحرّك الذي يبثّ الطاقة في خلايا النظام الكلياني.’’Arendt, Hannah ,1972, p.101)(،وهو محاط ببطانة تحيطه بهالة من القداسة تجعل منه مصدرا للحكمة الكليانيّة.
يستمدّ حاكم الدولة الكليانية شرعيته من الهالة القدسية ومن الحكمة التي يجسّدها من خلال أفكاره حول مآلات الحركة التاريخيّة، ومن خلال قدرته وحنكته في تسيير دواليب الحركة، وخاصّة تصفيته لأعدائه داخل الحزب وخارجه. يستمدّ الزعيم الكليانيّ بريقه من "قدراته الفائقة على حسن إدارة الصراعات الحزبيّة، وليس من خصاله الديماغوجيّة أو الإدارية" (Arendt, Hannah ,1972, p.108)
تمتدّ سلطة الكاريزم إلى كلّ فرد يعتنق مبادئ الدولة الكليانيّة؛ حيث يكون هو المسؤول الأوّل عن الأخطاء التي يرتكبها أتباعه لكونهم يتكلمون باسمه، ويردّدون تعاليمه وحكمه. إنّ هذا الحلول الكليّ في أفئدة الأتباع هو الذي يميّز الحاكم الكلياني عن أنماط الحكام في الأنظمة الاستبداديّة الكلاسيكيّة. فإذا كان هؤلاء مستعدّين للتضحية بأتباعهم متى أصبحوا خطرا على استمرارا نفوذهم، فإنّ الحاكم الكلياني لا يسمح بالمساس بأتباعه لأنّهم يجسّدون عمليّا إراداته. ولهذا، فالخطأ غير مسموح به لكونه يلمس مباشرة عصمة الكاريزم. تبرز هذه العصمة في نجاعة أداء أتباعه باعتبارهم المخوّلين بترجمة الأقوال إلى أفعال. (Arendt, Hannah ,1972, p.116)
ب- النخبة
هي الحلقة الوسيطة بين الجماهير التابعة وهيئات النظام الكلياني: الكاريزم/الدولة/ أجهزة الاستخبارات. إنّها أدوات الدعاية والتبسيط البيداغوجي الجماهيري لتعاليم الحركة؛ لهذا يعتبرهم ستالين الركن الأساسي للحركة الشيوعيّة، بل هم الكنز الأثمن الذي لا تضاهيه كلّ ثروات الاتحاد السوفياتي ((Arendt, Hannah ,1972, p.149 . وبالمثل كان هتلر يتباهى بالإنجاز العظيم للدولة النازيّة، عندما يصطفّ أمامه ’’ستون ألف رجل تحسبهم حين تراهم رجلا واحدا، متجانسين في أفكارهم وفي تعبيرات وجوههم’’. (Arendt, Hannah ,1972, pp.148-149)
النخبة إذن، هي الحلقة الوسيطة بين الخيال والواقع؛ لكنّ تكوينها المذهبي الصارم وشدة انضباطها بتعاليم الحركة، لا يخوّل لها التمييز بين الواقع والخيال وبين الصواب والخطأ؛ حيث عندما تتعامل النخبة الأكاديمية مثلا مع تعاليم الحركة تقرأها وكأنّها واقعات قابلة للتحقق إن لم يكن حينيا فمستقبليّا. فالأفكار بوصفها تمثّلات وفرضيّات نظريّة تتمتّع في منظور النخبة بمنسوب عال من اليقينية- الواقعيّة. وعبثا يحاول الشكّاك من أعداء الحركة إبطال الطاقة اليقينية الرهيبة التي يتّسم بها خطاب النخبة الكليانيّة. يعتبر كلّ تشكيك أو نقد مهما كانت مرجعيّاته تآمرا على أمن الدولة الكليانيّة ويتطلّب تدخّلا قمعيّا من طراز غير مسبوق.
ت- أجهزة القمع: المحتشدات
إنّها مخابر تنقية المجتمع الكلياني من كلّ ما يمكن أن يشوبه من اختلافات أو تعدديّات مثيرة للحسّ المواطنيّ وللحسّ النقديّ. تفوق هذه المحتشدات الشهيرة في فظاعتها قدرات التخيل البشري لكون ما يحدث داخلها هي تجارب غير مسبوقة تراهن على استئصال إنسانيّة الإنسان.
يتجلّى هذا الأمر، حينما يفقد المعتقل شعوره الغريزيّ والحيويبالحياة كما بالموت. ويتحوّل من ثمّة إلى كائن هجين ليس هو بالكائن الحيّ ولا بالميّت، بل في منزلة بين المنزلتين، حتّى يغدو الموت عنده أمنية عزيزة لم تعد من حقّه.M.Véto, 1982, pp.577-578)).
تقوم استراتيجية المحتشدات الكليانيّة على إلغاء الفوارق الموضوعيّة بين الواقع والخيال وبين الإنسانيّ والحيوانيّ وما دون ذلك. يتحقّق هذا الهدف من خلال عمليات تجريد الإرث الثقافي والتربوي للسجين- المعتقل، ومن خلال إفراغ الموت والحياة من رمزيّتهما، وكذلك من خلال طمس رمزيّة الشهادة والشهيد عبر امتهان مجهوليّة الموت وإخفاء الجثث بحرقها وتذويبها (Arendt, Hannah ,1972, p.191). ويترتّب عن ذلك ضياع الشهادات والشواهد، فضلا عن الشهود. وهكذا تنزع محتشدات الموت حقّ الموت من السجين؛ حيث حالما يشعر السجين بأنّ موته لا يعنيه، ينتابه شعور بأنّه لم يكن شيئا في هذا العالم. وحالما نصل هذه المرحلة، تبلغ صيرورة "الإفناء" l’anéantissement الملازمة لبنية النظام الكليانيّ مرماها الأخير. (Arendt,Hannah ,1972, p.193).
للاطلاع على الجزء الاول من الدراسة اضغط هنا
* د مصطفى بن تمسك: أستاذ باحث في الفلسفة
المصادر والمراجع
1-Arendt , Hannah(1968) , Condition de l’homme moderne, Paris, Calmann- Lévy
2- Arendt,Hannah, (1990), Nature du totalitarisme : essai sur la compréhension, Paris, Payot
3- Arendt, Hannah, (1972), Le Système totalitaire,, seuil, Paris.
4- Aron, Raymond, ( 1965), Démocratie et totalitarisme, Gallimard, Paris.
5- Bruehl, Young , ( 1986), Hannah Arendt, Anthropos, Paris.
6- Birnbaum, Paul, (1990), « Totalitarisme », article ,in Dictionnaire les notions philosophiques, T2, P.U.F, Paris.
7- Deleuze, Gille et .Guattari, Félix ( 1993), Qu’est –ce que la philosophie., Cérès. Tunis.
8- Energén André,) 1996 ( « Totalitarisme », in : Dictionnaire de philosophie politique,
9- Laval ,Guy,( 1995), Malaise dans la pensée (Essai sur la pensée totalitaire), Publisch .
10 - Léotard, François, (1989), « Le Survivant » ,article , in Actes du colloque H.Arendt Politique et ontologie ,Ed, tierce.
11-La barrière, J.Louis, ( 1996 ) , « tyrannie et despotisme », in Dictionnaire de philosophie politique
12- Montesquieu ( 1969 ) , De l’esprit des lois, Ed sociales,. Paris.
13- Vetö, Mélos,(1982), «Cohérence et terreur , introduction à la philosophie politique de H .Arendt» in Archives de philosophie .