مُفارقات الأزمنة المُعاصرة
فئة : مقالات
مُفارقات الأزمنة المُعاصرة:
بين الهُوية والغَيْرِية
عثمان لكعشمي
"يبقى الغريب بالنسبة للآخر غريباً دائماً، لكنه يظل بينهما ذلك "الآخر- الكل "le tout-autre، تلك العبارة الثالثة، تلك العلاقة التي تسمهما بتفردهما، والتي تكون بطريقة أو بأخرى غير قابلة للترجمة intraduisible"[1].
يرمي هذا المقال المكثف إلى تسليط الضوء على إحدى أهم المسائل التي تطرحها العَوْلَمَة الجديدة وأزمنتها المُعاصرة، ألا وهي مسألة الهوية والغيرية، بماهي مسألة مركزية في الأزمنة المُعاصرة، إنْ لم تكن مفعولاً مركزياً من مفعولاتها.
طالما حظيت إشكالية الهوية والغيرية بمكانة مهمة في تاريخ الفكر الفلسفي، منذ أفلاطون إلى هيغل، ومنذ كانط إلى نيتشه وهايدغر، وصولاً إلى دريدا، وغيرهم من الفلاسفة الذين اهتموا بالوجود البشري للإنسان كشخص أو "أنا" في علاقته بالغير كـ "أنا آخر"، سواء أكان تفكيراً ميتافيزيقياً، أم أنطولوجياً، أم فينومينولوجياً، أم تفكيكياً...إلخ. لكن هذا الاهتمام لم يقتصر على الفلسفة فحسب، بقدر ما طال مختلف ميادين العلوم الاجتماعية أيضاً، خاصة الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع.
***
لقد لازم اهتمام كلّ من الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا بإشكالية الهوية والغيرية، منذ نشأتهما إلى اليوم. لكنها لم تتحول إلى موضوع مركزي للأنثروبولوجيا كميدان بحثي، إلا في الأزمنة المعاصرة، تلك الأزمنة التي تمخضت عن سيرورتي العولمة la mondialisation والكوكبة la globalisation.
أما العولمة بما هي جعل الشيء عالمياً، فهي ظاهرة تاريخية، ليست جديدة كما قد يعتقد الكثير من المثقفين عندنا. وإنما تعود إلى غزوات ما قبل العصر الحديث، مرروراً بالنهضة الأوروبية، وصولاً إلى المجتمعات الصناعية الحديثة، بما هي تعميم للمجتمع الصناعي، منذ نهاية القرن الثامن عشر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، حيث تعززت أكثر فأكثر مع الحركة الاستعمارية، فصارت مرادفاً للتحديث أو بالأحرى "تعميم الحداثة الغربية" أو لنقل تعميم نمط الإنتاج الرأسمالي الحديث على باقي مجتمعات المعمورة، خاصة المستعمَرة منها.
وأما الكَوْكَبَة، فهي عبارة مستحدثة وجديدة néologisme، تتعالق بشكل جذري مع الرأسمالية الجديدة وما تقوم عليه من إيديولوجيا ليبرالية جديدة. يتعلق الأمر إذن بظاهرة جديدة؛ انطلقت شرارتها الفعلية الأولى في ثمانينيات القرن المنصرم، وترمي بظلالها إلى العصر الراهن، حيث بلغت أشدها مع الثورة الثالثة بماهي ثورة رقمية. إنها ليست مجرد ظاهرة اقتصادية تتعلق بتحرير السوق العالمية، وتدفق البضائع وتضخم الرساميل، وإنما هي بشكل أو بآخر ظاهرة اجتماعية وثقافية بالدرجة الأولى. إنها سيرورة تاريخية واجتماعية وثقافية لا تنفك عن التوقف. بفضلها، وبفضل التكنولوجيات الجديدة، صار العالم "متروبولاً مكبراً" أو لنقل صارت الميغابول "عالماً مصغراً". إن الكوكبة في نهاية المطاف هي الشكل الجديد للعولمة، أو بالأحرى شكلاً من أشكال الحداثة الجديدة، أو الحداثة الفائقة l’hypermodernité. تلك الحداثة التي تأخد اليوم عدة تسميات: ما بعد الحداثة، الحداثة السائلة، ما فوق الحداثة...وهلم جرا. تلك التسميات والنعوت والتوصيفات، التي تتعدد اليوم بتعدد التصورات والخلفيات والسياقات والوضعيات والميادين المعرفية المختلفة. لعل هذه العولمة الجديدة، تجسد مفارقة العالَم الراهن: بين الانفتاح الكوني والانغلاق الهوياتي المحلي.
في الوقت الذي يعرف فيه العالم نوعاً من الهيمنة الجديدة والشاملة لنمط الإنتاج المعلوماتي والتواصلي، فضلاً عن تعزيز التنميط المعمم لأنماط وأشكال الوجود البشري برمته، أو هكذا يقدم لنا على الأقل، وكذا تعزيز فكرة حقوق الإنسان التي غدت تؤكد شيئاً فشيئاً على فرديتها. ففي الوقت الذي تُعلن فيه المجتمعات المعاصرة، بما هي مجتمعات تواصلية، عن كوكبة العالَم، يلاحظ في الوقت نفسه تصاعد متزايد باستمرار في مستويات التطرف والانكماش الهوياتي على الذات، ليس في مجتمعات الهامش فحسب، بل في عمق مجتمعات المركز نفسها. هذا وبغض النظر عن التطور الاقتصادي والعلمي للصين على سبيل المثال لا الحصر، الذي قد يعزز بشكل أو بآخر تصاعد الأنظمة الشمولية.
إننا أمام أزمنة جديدة، إننا في قلب الأزمنة المًعاصرة، بماهي أزمنة مُفَارِقَة: بين المحلّي والكوني، بين الهوية والغيرية. إنها العوالم المُعاصرة، تلك العوالم التي تشكل اليوم موضوعاً لأنثروبولوجيا العوالم المُعاصرة؛ أنثروبولوجيا اللاأمكنة؛ أنثروبولوجيا ما فوق الحداثة. فبعدما كانت الأنثروبولوجيا تدرس المجتمعات المسماة بدائية، فالمُستعمَرة، ها هي اليوم تدرس المجتمعات المُعاصرة؛ بعدما كان الأنثروبولوجي الغربي يدرس البعيد، ها هو اليوم يدرس القريب؛ بعدما كان ينظر إلى الآخر كغريب، ها هو اليوم يدرس ذاته كمألوف.
ماذا عن السوسيولوجيا؟ الأمر نفسه وقع مع علم الاجتماع؛ فعلى ضوء المجتمعات الفائقة الحداثة، لم يعد مستساغاً اليوم الحديث عن هوية جماعية أو مجتمعية كهوية نهائية، فمع بروز الفردانيات الجديدة والسيرورات الفردية والتفردية، غدت السوسيولوجيا تدرس الهوية الذاتية للفاعلين الاجتماعيين كذوات فاعلة حاملة لحقوق كونية، فردية كانت أم جماعية كما هو حال الحركات الاجتماعية الجديدة من قبيل الحركات النسوية والإيكولوجية وغيرها. إننا أمام سوسيولوجيا جديدة لعالَم جديد، عالَم الذوات الفاعلة أكثر منه عالم الموضوعات أو المجتمعات التي غدت: مجتمعات للذوات البشرية.
***
السؤال الذي يطرح نفسه والحالة هذه، هو: ما موقعنا "نحن" العرب وغير العرب من المجتمعات الثالثية ضمن هذه التحولات العولمية الجديدة؟ طالما كانت وما زالت علاقتنا "نحن" العرب مع العولمة، كما هي علاقتنا مع الحداثة، بمثابة علاقة متوترة مع المجتمعات الغربية الحديثة وما فوق الحديثة، كآخر، تلك المجتمعات المُستعمِرة والمُهيمِنة والمتمركزة حول ذاتها الغربية المتعالية، سليلة الإنسان اليوناني "العظيم"، وبنت الحداثة الغربية "المتعاظمة". هذه هي مفارقة المُعاصرة: ففي الوقت الذي يتجه فيه العالمُ نحو الانفتاح الشامل، من انفجار الحدود الجغرافية والثقافية إلى نهاية الاجتماعي، ها هي مجتمعاتنا أو بالأحرى محلياتنا العربية تدعونا إلى الانغلاق الهوياتي، الانكماش في هويات قومية، اجتماعية وثقافية كانت أم أخلاقية وسياسية.
صحيح أن هناك تغيرات بنيوية قد حصلت، منذ السبعينيات إلى التسعينيات من القرن المُنصرم، وصولاً إلى الألفية الثالثة، التي انفجرت فيما سمي بالربيع العربي سنة 2011، في المغرب العربي بخاصة وفي العالم العربي بعامة. لكن سُرعان ما انقلبت الأوضاع لصالح الدعويين أو الإسلام السياسي كما هو الأمر في تونس ومصر والمغرب، أو إلى صالح العسكرية لاحقاً كما هو شأن مصر والجزائر، الشيء الذي انعكس سلباً على سياسات دول المنطقة ومجتمعاتها.
على الرغم من ذلك، ثمة تحولات جذرية في المنطقة العربية، يتعذر على المرء إغفالها، وإنْ كانت تبدو صامتة في الكثير من الأحيان، مع تسجيل اختلاف بين المشارق والمغارب. فالمجتمعات العربية اليوم ليست هي ما قبل الكوكبة. لقد أصبحت متعددة ومتنوعة أكثر فأكثر: في ظل التحولات العولمية الراهنة، لم يعد مقبولاً النظر إلى الهوية كمطابقة ووحدة ثابتة ومُنكمشة على ذاتها، بقدر ما غدت هوية متحولة ورحالة؛ لم يعد مقبولاً للإنسان الغربي النظر إلى الآخر غير الغربي كإنسان متوحش أو كإنسان من درجة ثانية، خاصة مع كونية حقوق الإنسان، كما لم يعد مقبولاً لدى الإنسان العربي على سبيل المثال لا الحصر، أو المُستعمرات السابقة، النظر إلى الغربي كـ "آخر"... لأنه، أردنا أم أبينا، صار يسكننا على نحو غريب كغير في حد ذاته، سواء من خلال الاستعمار سابقاً، أو من خلال العولمة الجديدة حالياً.
وعلى هذا النحو، يمكن القول: إننا في حاجة إلى إعادة النظر في هُويتنا العربية ككلية منغلقة على ذاتها، وإعادة صياغة الذات العربية على نحو مغاير. إن ذلك لن يتأتى إلا بواسطة نقد الأسس التيولوجية الإسلامية والقومية العربية، فضلاً عن نقد مقومات تمركز الذات الغربية، وما يترتب عليها من أشكال جديدة من الهيمنة الراهنة المُتمخضة عن حركة العولمة الجديدة؛ ذلك هو السبيل إلى تعزيز فكرة الهامش عوض الإعراض عنها؛ إنسان الهامش: الهامش الفعال. الكفيل بتأزيم إنسان المركز، الفاعل، أو "الخالق"، تأزيمه بأسلحته، والعمل في اللحظة نفسها على التأزيم الذاتي لإنسان الهامش، المنفعل، أو "المخلوق": ومن ثم خلق أفق جديد، طريق ثالث. طريق أو بالأحرى درب مغاير، يُمكنه أنْ يحرّرنا من تمجيد ماضينا أو الارتماء في أحضان غيرنا، من خلال تعزيز قدرتنا على الفعالية الذاتية في أنطولوجيا الحاضر الراهن؛ من خلال تفجير ماضينا في مستقبلنا.
[1]- Abdelkbir Khatibi: Figures de l'étranger dans la littérature française. Paris: Denoël, 1987. P. 201