مفهوم التسامح بين الاعتراف والتحرر؟ قراءة تحليلية في موقف راينير فورست

فئة :  مقالات

مفهوم التسامح بين الاعتراف والتحرر؟ قراءة تحليلية في موقف راينير فورست

مفهوم التسامح بين الاعتراف والتحرر؟

قراءة تحليلية في موقف راينير فورست

سأستهل هذا الموضوع بالانطلاق من القرار الأخير لقاضي الأمور المستعجلة بمجلس الدولة الفرنسي[1] الذي رفض الطعن المقدم من جمعية "العمل من أجل حقوق المسلمين"، وصادق على قرار منع ارتداء العباءة في المدارس الحكومية والكليات والمدارس الثانوية، مضيفًا أن الحظر المفروض على ارتداء هذه الملابس لا يشكل اعتداءً خطيرًا وغير قانوني على إحدى الحريات الأساسية. وسأحاول مقاربة هذه المسألة في ضوء المقال الشهير لراينير فورست[2]، والذي أشرف على ترجمته الدكتور محمد عبد السلام الأشهب.[3] ومن هذا المنطلق، كيف نظر راينير فورست لمفهوم التسامح؟ وهل التسامح اعتراف متبادل أم تحرر أيضا؟

يثير مفهوم التسامح، حسب راينر فورست، مفارقة كبيرة من حيث مدلوله، بين من يحسبه دالا على التعايش والاعتراف والسلم المتبادل، وبين من يرى فيه مقابلا للسلطة والهيمنة والإقصاء. ولتعميق النقاش أكثر في هذا المفهوم، قدم راينر فورست قولة لغوته[4] مفادها: "فالتسامح ينبغي أن يكون مؤقتا فقط: يجب عليه أن يقود إلى الاعتراف. فالتسامح إهانة". ولتوضيح مغزى هذا القول، أشار راينير فورست إلى روايتين متباينتين عن مفهوم التسامح، كمفهوم مزدوج بين كونه اعترافًا متبادلًا من جهة، وكونه تعبيرًا عن الازدراء والهيمنة من جهة أخرى.

يفتقر مفهوم التسامح إلى ماهية تحدد شكله ومعالمه؛ لأن خاصيته غير مستقرة تتلون بتعدد سياقات التبرير. ولهذا السبب، يصعب الحديث عن معيار للتسامح. لذلك يمكن القول إن مفهوم التسامح تابع معياريًا، حيث لا يعتمد على تبريرات مختلفة، وأمام هذا التعدد في تبريرات التسامح ينتهي الأمر بالتسامح إلى صراع وتنازع يغيب معه المفهوم بوصفه قيمة في ذاته.

تتنازع تأويلات التسامح سياقات متعددة، حيث يكون منّة من الحاكم[5]، وقد يكون تعاطفًا انفعاليًا، وقد يكون سلطة قمعية، وقد يكون ضعفا، وقد يكون تعبيرا عن حب واحترام، وقد يكون فضيلة أخلاقية، وقد يكون تعبيرا عن أنانية أو عن ثقة الشخصية وقوتها. ويمكن للتسامح -حسب راينر فورست- أن يمارس بمحبة، أو لأسباب براغماتية أو لأسباب تقوم على احترام متبادل. يتحدد التسامح من خلال العلاقات والمؤسسات والتعاقدات، أو من خلال الجماعة أو المجتمع أو الدولة، وهذه المظاهر المختلفة لفعل التسامح تعطي انطباعًا أن هناك صراعًا داخل مفهوم التسامح ذاته. أن يحدث التسامح بين طرفين غير متعادلين على مستوى موازين السلطة المادية والرمزية، يعني أن المفهوم يكتسي بعدًا خاصًّا. وقد تنقلب الموازين في سياقات أخرى، فيتوارى المفهوم ليكتسي معنى آخر؛ إذ لا يمكن فهم التسامح إلا بكونه ممارسة للسلطة. وسلطة التسامح لا تمتلكها إلا الأغلبية لكونها مدعمة بسلطة الإكراه، في حين أن تسامح الأقلية لا يندرج ضمن منظومة القيم المهيمنة. وفي إطار هذه الموازين المختلة لفعل التسامح، فإن التعايش يظل جزئيا؛ إذ لا يمكن للتسامح أن ينزع فتيل الصراع؛ لأن الوعد بالتسامح هو تعايش في خلاف ممكن[6]. فالحياد ليس صفة ملازمة للتسامح، لا لشيء سوى لأن التسامح نفسه متورط في الصراع.

لقد تعرض هذا التصور للتسامح بوصفه تضمنا وإقصاء، من طرف فلاسفة الأنوار، نذكر من بينهم كانط وغوته وميرابو[7]، الذين بينوا أن هذا النوع من التسامح يحمل في طياته نقيضه، فهو يتخذ آثارا قمعية وتحررية وتأديبية. لكن هذه الصورة القاتمة حول التسامح، لا تزال حاضرة -حسب فورست- في المجتمعات المعاصرة، ويتعلق الأمر بحالات اجتماعية متفرقة، كشفت عن قوة أو هشاشة التسامح على مستوى التبرير الأخلاقي:

1- في العام 1955 حاول مسؤول بمؤسسة مدرسية بألمانيا أن يعلق أيقونة الصليب المسيح فوق جدران الأقسام العمومية، فاعتبر هذا السلوك منافيا، بموجب قرار المحكمة الدستورية الفدرالية، للقيم العلمانية الألمانية.

2_ في 30 سبتمبر 2003 اعتبرت المحكمة الدستورية الألمانية أن سلوك فيريشطا لودا Fereshta Ludin، وهي مدرسة ومواطنة ألمانية من أصول أفغانية، يتعارض مع فصول من القانون الألماني المتعلق بالمساواة داخل المؤسسات العمومية، والسلوك المقصود هنا أن لودا قررت أن تدرس داخل الفصل الدراسي مرتدية الحجاب.

3_ سنة 2001 سمحت الحكومة الألمانية باتحاد مدني للمثليين، يوفر قانونًا لحماية المساواة القانونية والسياسية، وقد أصدرت المحكمة الدستورية الألمانية أحكامًا لفائدة المساواة في الحقوق بين الأجناس من نفس الجنس، لكن تم تغيير هذا القانون من قبل الائتلاف الحاكم.

يظهر تنازع للمواقف أمام هذه الظواهر الاجتماعية المتفرقة؛ فهناك من يدافع عن قيم التسامح إزاء الحجاب والأيقونات الدينية وحقوق المثليين.. وهناك من يعارض هذه الظواهر من خلال إبداء مظاهر العنف والتعصب. فالتسامح ربما لا يحتاج إلى مساواة قانونية، وبالتالي فهناك حدود للتسامح. فأي تبرير للتسامح إذن؟ وعلى أي أساس يقوم؟

تسمح الظواهر السابقة بمقاربة عدة مفاهيم للتسامح، كما حددها فورست:

• مفهوم الترخيص: ومعناه أن ترخص سلطة الأغلبية للأقلية المقهورة رخصة ممارسة هامش من الحرية، تجسد على إثرها قناعاتها الدينية[8]. فمفهوم الترخيص يجمع بين المرونة والقمع.

• مفهوم التعايش: يجب على القضايا الاجتماعية ألا تشكل مستوى من الصراع؛ إذ تحاول الأغلبية كما الأقلية الحرص على تفادي الصراع، وتبني السلم الاجتماعي وفق قواعد التسوية المؤقتة.

• مفهوم الاحترام: يقوم على أساس مقولة" المساواة للجميع" لكن وفق مبدأ الاحترام بين الأطراف المتسامحة التي تشكلت تحت سيادة القانون والمعايير المشتركة والمقبولة من طرف الجميع. وهذا المستوى من التقدم يعتبر قفزة نوعية عن مفهوم التعايش؛ لأن التسامح ينبثق من علاقات الاحترام التبادلية ومن الأساس القانوني الأخلاقي، ومن مبدأ المساواة، لذلك فإن أي حجاب أو نزوع مثلي.. لا يشكل منسوبًا ثقافيًا وجنسيًا متقدمًا عن باقي الظواهر الثقافية والجنسية الأخرى. فالآخر يجب أن يحظى بنفس الاحترام والاستقلالية الأخلاقية والحق في التبرير شأنه شأن الجميع. فشخصية الآخر محترمة كما أن قناعته وأفعاله موضوع للتسامح[9].

• مفهوم التقدير: من خلال تقدير معتقدات الآخرين وممارساتهم كقيمة أخلاقية، ولا يتوقف الأمر على احترام ثقافات ومعتقداتهم، بل على مبدأ تقدير هذه الثقافات.

• عدالة تبرير التسامح: تحاول النظرية النقدية لدى فورست تقديم منعطف جديد للتسامح، يستوعب المنعطفات التاريخية ويتجاوزه في ذات الوقت، وينتج تصورًا نقديًا معاصرًا مبنيًا على التبرير التبادلي والعمومي بدل سلطة الإكراه لدى الأغلبية. وبالتالي الانتقال من مفهوم الترخيص للتسامح إلى مفهوم الاحترام والمساواة بين المتسامحين.

نخلص إلى القول إن تفعيل مبدأ التبادلية[10] يتوقف على فكرة تقاسم القناعات المشتركة تفاعليا؛ أي تبادل المبررات بين الأطراف المعنية في حوار خطابي مبني على قواسم مشتركة مستقلة على نحو متوازن خال من سلطة الإكراه. أما مبدأ العمومية، فيعنى تلك المعقولية التي تحظى باتفاق الجميع؛ أي أن تكون دعاوى القواعد الأساسية العامة ذات صلاحية مشتركة.

يتوجه فورست نحو بناء خطاب أخلاقي (الحق في التبرير) نظير خطاب السلطة (سلطة المعيار)، وفي خضم هذه السيرورة التي تتطلع إلى الاعتراف تتبلور الأسئلة التالية: لماذا فعلت بي هذا؟ أو لماذا هذا القانون، وليس قانونا آخر؟ أو لماذا هذه الصياغة، وليست صياغة أخرى؟ تتطلب هذه الأسئلة معنيين: معنى يخص طلب تفسير حقيقي: "ماذا سبب لي فعلك؟". ومعنى يتطلب تبريرًا أخلاقيًا "لماذا فكرت في هذا؟". فإذن، كل شخص أخلاقي له حق ضد أفعال أو معايير غير مبررة أخلاقيا، كما له الحق في أن يثبت ويطالب بالأسباب الملائمة.

هكذا يظهر أن التصور النقدي لراينر فورست يمثل منعطفا سياسيا مهما لنظرية التبرير، والتبرير البينذاتي على وجه الخصوص بوصفه شكلا ديمقراطيًا للتسامح.

[1] القرار الصادر بتاريخ 7 شتنبر 2023 من طرف مجلس الدولة الفرنسي.

[2] فيلسوف ألماني من ممثلي الجيل الرابع لمدرسة فرنكفورت، ولد سنة 1964، يعتبر من أهم الفلاسفة المعاصرين الذين ناقشوا مفهوم التسامح والاعتراف..

[3] راينر فورست، التسامح، الاعتراف والتحرر، ترجمه عن الألمانية محمد عبد السلام الأشهب، مجلة التفاهم، عدد 52، أبريل 2016

[4] وهو أشهر أدباء ألمانيا المتميزين 1749-1832

[5] الرواية الأولى التي يرويها فورست حول التسامح والاعتراف في فرنسا القرن السادس عشر، والذي تزامن مع إصدار مرسوم نانت من طرف هنري الرابع والذي اعترف بالهوغونت (وهم كالفينيين بروتستانتيين) بوصفهم مواطنين فرنسيين لكن من درجة ثانية. ويعتبر هذا المرسوم أول اعتراف رسمي بالتسامح الديني.

[6] مثال آخر يقدمه راينر فورست وهو مرسوم التسامح الإنجليزي 1698، الذي أعفى الرعايا البروتستانتيين المحالفين والمنشقين عن الكنيسة الإنجليزية من العقوبات الجنائية، وهو مرسوم يقدم صورة معقدة من التضمن والإقصاء.

[7] ميرابو: خطيب الثورة الفرنسية. 1749_1791

[8] فحالات الحجاب أو تعليق أيقونة المسيح أو مرسوم نانت...إلخ هي إبداء نوع من المرونة على مستوى التسامح من جانب واحد اتجاه أقلية منزوعة السلطة.

[9] في هذا الإطار يميز فورست بين المساواة الشكلية، أي أن الاختلافات بين المواطنين يجب أن تنحصر في دائرة الفضاء الخاص. وبين المساواة النوعية، التي تفترض فضاء عموميا يعرف حضورا لسلوكيات صراعية وعنصرية لا متسامحة تجاه الاختلاف. فهذا النموذج يقاوم قواعد الفصل بين العام والخاص ويحاول مد الجسور بينهما لتسريب التعصب والعنصرية إلى الفضاءين معا.

[10] يعني مبدأ التبادلية أنه لا يجوز لأحد إعمال دعاوى معينة وينفيها عن الاخرين، ولا يجوز للمرء أن يفترض ببساطة أن الآخرين يتقاسمون معه أفقه وقيمه وقناعاته ومصالحه وحاجاته.