مفهوم الحاكمية أو السيادة عند التكفيريين
فئة : مقالات
مفهوم الحاكمية أو السيادة عند التكفيريين([1])
وعلاقته بمفهوم التكفير والهجرة
بقلم: د. مبروك بوطقوقة
بالعودة إلى التاريخ الإسلامي الطويل، نجد أن مفهوم الحاكمية كان على الدوام مفهوما غامضا وهلاميا، وهو ما جعله مصدرا للكثير من الانحرافات والتجاوزات التي انجرت عنها فتن ومظالم وأزهقت بسببها الأرواح، واستحلت الدماء والأموال، وانتشر الفساد في الأرض وكثرت الفتن ساد الهرج والمرج، ولا نزال إلى اليوم نعاني من تبعات هذا الأمر، ثم كان أن اختفى المصطلح من الساحة الإسلامية لمدة أربعة عشر قرنا، ثم تم بعثه من جديد في بدايات القرن العشرين، ليشكل منذ ظهوره مسرحا لسجال عقدي وفقهي وسياسي بين فريقين متعارضين؛ فريق يرى فيه أصلا من أصول الدين ويربطه بالإمامة العظمى ويساوي بينه وبين توحيد الألوهية، وفريق يعتبره مجرد فرع فقهي يجوز فيه الاختلاف واجتهاد سياسي يقبل الخطأ والصواب، وحاول كل فريق استدعاء ما أمكنه من نصوص من أجل إثبات وجهة نظره، لكن المصطلح تم توظيفه من طرف الجماعات الإسلامية المتطرفة لتسويغ غلوها في الدين وانحرافاتها الفكرية وإضفاء الشرعية على ممارساتها العنفية، ولعل جماعة "الهجرة والتكفير" كانت أحد الشرور الكبيرة التي نبتت من فكرة الحاكمية وسليلتها فكرة الجاهلية، فبنت على الأولى تكفير المسلمين، وبنت على الثانية هجرتهم، ووظفتها تلك الأفكار لتكفير الأمة والخروج على الحكام واعتزال المجتمعات وهجرها، ثم فرخت عشرات المجموعات التكفيرية والإرهابية التي عاثت فسادا في بلاد المسلمين وبلاد غير المسلمين، تحت غطاء الدين وبحجة الجهاد في سبيل الله، لذا وجب تفكيك هذا الارتباط وفهم آلياته وامتداداته، وتتبع ظهوره وبداياته، وتفنيد حججه وادعاءاته، والمساهمة في توضيح غموضه والتباساته.
لعل أول انحراف في الإسلام كان مصدره فكرة "الحاكمية" التي تسربت إلى المجال السياسي مع ظهور الخوارج، عندما رفع أهل الشام المصاحف على أسنة الرماح في معركة صفين التي كانت نتيجة للخلاف الذي دب بين علي ومعاوية رضي الله عنهما بخصوص مسألة الإمامة، وكان سند الخوارج قوله تعالى: "إن الحكم إلا لله" (سورة، 40)، وهذه الآية أحد النصوص القرآنية التي بنيت عليها فكرة الحاكمية في الفكر الإسلامي، إلا أن الخوارج فسروا الآية تفسيرا سياسيا، يفتقر لأدنى متطلبات التفسير العلمي، ويتميز بالسذاجة والسطحية في التعامل مع النصوص والجهل بمقاصدها والتعصب للرأي وكثرة الاختلاف، لذلك رفضت الأمة شذوذهم فلم ترفع لهم راية، ولم تقم دولة على مدى التاريخ الإسلامي.
الحاكمية عند المودودي
بداية نشير إلى ما ذكره الدكتور الهادي نسيرة من أن مصطلح الحاكمية لم يرد ذكره في التراث الفقهي سوى مرة واحدة عند كاتب مجهول، "لا يزال نصه مخطوطاً لم ينشر، وهو طوغان شيخ المحمدي في كتابه "المقدمة السلطانية في السياسة الشرعية"، إلا أننا لا نجد له أثراً ولا شهرة، وهو ما يؤكد هامشيته وعدم أصالته، ونؤكد أنه لم يستبق الاستناد إلى هذا المفهوم ولا ورد ذكره في كتب أصول الدين المختلفة والاعتقاد، وتبقى محاولة إثبات أن أصالته محاولة تأويلية وغير صحيحة".[2]
وهو نفس الرأي الذي ذهب إليه المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المستشار حسن الهضيبي الذي ألف كتابا سماه "دعاة لا قضاة"، رد فيه على الفصيل المنشق عن الجماعة، والذي تذرع بفكرة الحاكمية التي عرفت رواجا بعد التنكيل بالجماعة من طرف النظام المصري في الخمسينيات، حيث غذى التعذيب الذي تعرضوا له فكرة "التكفير"، وخاصة بين شباب المعتقلين الذين صدموا مما تعرضوا له من وحشية، يقول الهضيبي: "ونحن على يقين أن لفظة الحاكمية لم ترد بأية آية من آيات الذكر الحكيم ونحن في بحثنا في الصحيح من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام لم نجد منها حديثاً قد تضمن تلك اللفظة فضلاً عن إضافتها إلى المولى عز وجل".[3]
لم يتبلور مفهوم "الحاكمية" كمصطلح إلا في القرن العشرين لدى مفكري الهند، كرد فعل على الاضطهاد الديني الذي كان يمارسه الهندوس على المسلمين في سنوات الثلاثينيات، وكان أبو الأعلى المودودي هو الذي بعث المصطلح من جديد في مؤلفاته التي كتبها في الثلاثينيات وخاصة كتاب "الحكومة الإسلامية" وكتاب "الإسلام والمدنية الحديثة"، ومن المودودي تلقف سيد قطب المصطلح وزرعه في تربة غير تربته ونشره في بيئة غير بيئته، ومن سيد قطب انتقل إلى معظم قيادات الإحياء الإسلامي المعاصر في مصر في الستينيات والسبعينيات[4]، وبهذا يتضح أن المصطلح نبت في تربة غير إسلامية وفي ظروف مكانية وزمانية شاذة، فقد كانت الهند كدولة يسيطر عليها الاستعمار البريطاني، ويعيث فيها الهندوس تنكيلا واضطهادا للمسلمين، الذين تحولوا إلى أقلية بعد أن حكموا الهند لمدة سبعة قرون، وهذا الأمر لم يؤخذ في الحسبان عند التعامل مع هذا المصطلح وهو ما تسبب في انحرافات خطيرة كما سنبينه فيما بعد.
وقد عرف المودودي الحاكمية، باعتبارها كل احتكام لغير شريعة الله على أساس أن الخالق هو الذي له السلطة المطلقة للتصرف فيما خلقه، وأن الإنسان ليس له من الأمر شيء سوى الإذعان المطلق للخالق، وهذا الإذعان لا يقتصر على الأحوال الشخصية والاجتماعية، بل يشمل كذلك الأحوال القانونية والسياسية من خلال تطبيق الشريعة، "إن تصور الإسلام للحاكمية واضح لا تشوبه شائبة، فهو ينص على أن الله وحده خالق الكون، وحاكمه الأعلى وأن السلطة العليا المطلقة له وحده. أما الإنسان، فهو خليفة هذا الحاكم الأعلى ونائبه والنظام السياسي لابد وأن يكون تابعاً للحاكم الأعلى ومهمة الخليفة تطبيق قانون الحاكم الأعلى في كل شيء وإدارة النظام السياسي طبقاً لأحكامه"[5]. ويقول في موضع آخر، إن الحاكمية في هذا الكون ليست لأحد غير الله، "ولا يمكن أن تكون لأحد سواه وليس لأحد أن يكون له نصيب منها"[6]. وبهذا جرد المودودي الإنسان من كل حق في الأمر والتشريع والتقنين، بل والتنفيذ، فرداً كان هذا الإنسان أو جماعة بل وحتى الأمة[7]، وهذا لعمري تطرف لا يخفى على أحد.
وقد تراجع المودودي عن هذا التطرف في فكرة الحاكمية بعد انفصال باكستان عن الهند، بل دخل المعترك السياسي وشاركت الجماعة الإسلامية التي أسسها في الانتخابات النيابية على أساس الأغلبية، ضمن ما سماه "الديمقراطية الإسلامية العريقة التي لا يعارضها عاقل"، انطلاقا من "أنه ليس من سبيل في نظام ديمقراطي إلا خوض معارك الانتخابات، وذلك أن نربي الرأي العام في البلاد، ونغير مقياس الناس في انتخابهم لممثليهم، ونصلح طرق الانتخابات ونطهرها من اللصوصية والغش والتزوير، ثم نسلم مقاليد الحكم والسلطة إلى رجال صالحين، يحبّون أن ينهضوا بنظام البلاد على أسس الإسلام الخالص"[8]، وبهذا تحوّل المودودي من رفض منح الإنسان أية صلاحيات للحكم أو تنفيذ الأحكام فضلا عن التشريع إلى القول باستخلاف الإنسان في الأرض، وأن هناك حاكمية شعبية إسلامية تتحرك في نطاق الشريعة الإسلامية، و"أن الله قد أقر نيابة الشعب واستخلافه عن الله في ظل سيادته وحاكميته؛ أي أن الله قد خول للمسلمين حاكمية شعبية مقيدة"[9]، وأن "الأمة نائبة عن الله، وهي تنتخب حاكمها ونوابه بطريقة ديمقراطية، الأمر الذي يجعل الخلافة الإسلامية، ديمقراطية متقيدة بقانون الله"[10]، إلا أن هذا التراجع لم ينل حظه من الاهتمام، بل تم إهماله وتجاهله عمدا وبقيت النصوص الأولى للمودودي تتداول على نطاق واسع، ويتم الاستشهاد بها كلما تم التطرق لموضوع الحاكمية، وهو ما يؤكد أن هناك نية مسبقة لتوظيف تلك النصوص لخدمة التوجهات الفكرية المتطرفة لأصحابها.
الحاكمية عند سيد قطب
وعلى نهج المودودي سار سيد قطب لكنه انتقل بمفهوم الحاكمية من نطاق الاجتهاد السياسي الذي أملته الظروف المحلية في الهند إلى نطاق العقيدة والتوحيد، فالحاكمية عند سيد قطب هي جزء لا يتجزأ من توحيد الألوهية، باعتبارها "إفراد الله سبحانه وتعالى بالحكم والتشريع والقوامة والسلطان، واستمداد التشريعات والمناهج والنظم والقيم والموازين والعادات والتقاليد من الله وحده، وتطبيق شريعته على كافة مناهج الحياة"[11].
وينفي سيد قطب عن الناس أية قدرة على التفكير أو التحرك أو التنفيذ خارج دائرة الحاكمية، بل يعتبر أي شيء من هذا القبيل قدحا في التوحيد ومنازعة لله في ألوهيته، فيقول: "والحاكمية والتشريع ابتداء في حياة البشر لا تكون إلا لله، وإن هذه الأمور من خصائص الألوهية التي يتفرد بها الله، وأن من يدعى لنفسه هذه الحقوق ويزاولها، فإنما يدعى أولى خصائص الألوهية وأن من يقره على ادعاء هذه الحقوق ومزاولتها ويتحاكم إلى ما يسنه من شرائع ونظم وأوضاع وقيم وموازين بغير سلطان من الله"[12]، وبهذا تحول مجرد النقاش في قضية الحاكمية مظنة للتكفير وسببا في الخروج من الملة، وهو تحول خطير حول المصطلح إلى أداة جاهزة لتوزيع صكوك التكفير على من يحاول مجرد مناقشة الموضوع.
ومن الواضح أن سيد قطب ومن تبعه نسوا أو تناسوا أن المصطلح ابن وفيٌ لبيئته، وأن مصطلح "الحاكمية" يجب أن يُفهم في إطار واقعه الاجتماعي وفي إطار سياقه الفكري وفي إطار ظروفه السياسية، ولو تم ذلك لجنبنا شرور التطرف والغلو والتكفير والإرهاب التي انجرت عن الفهم الخاطئ لهذا المصطلح من طرف الجماعات التكفيرية المتطرفة، وقد وضح هذا الأمر المفكر محمد عمارة قائلا: "لقد بدأت هذه الجماعات من "بعض" عبارات المودودي التي كتبها في واقع هندي وهندوكي له ملابسات سياسية وحضارية خاصة، كان المسلمون فيها 25 بالمائة من سكان الهند -قبل التقسيم- وكانت الحاكمية البشرية في ذلك الواقع، إما سلطة الاحتلال الإنجليزي الكافر أو السلطة الهندوكية الكافرة، وكلتاهما عازمتان على سحق الهوية الإسلامية للمسلمين الهنود، لذلك ولهذه الملابسات الهندية الخاصة، رفض المودودي –في بعض نصوص- الحاكمية البشرية، التي رآها نقيضا للحاكمية البشرية"[13].
وأحسن محمد عمارة حين ذهب إلى أن أصحاب الغلو والتطرف من الإسلاميين أخطأوا خطأ مزدوجا عند نقلهم المصطلح من الهند إلى البلاد العربية، يتمثل الخطأ الأول في تجريد عبارات المودودي عن الحاكمية عن ملابساتها السياسية الخاصة التي أفرزتها، وتحويلها إلى "دين ثابت" صالح للتطبيق في كل زمان ومكان. أما الخطأ الثاني، فهو انتزاع النصوص الملتبسة والموهمة والمجتزأة من كلام المودودي حول الحاكمية عن سياقها العام في المشروع الفكري للرجل الذي يضبط المصطلح ويحدد مجالات استعماله، [14] ويبرئه من تهمة المسؤولية عن الفكر التكفيري المتطرف.
الجاهلية سليلة الحاكمية
ومن مصطلح الحاكمية ظهر مصطلح الجاهلية، ولكن ليس بالصيغة المتعارف عليها إسلاميا، باعتبارها "مرحلة تاريخية"، وهي المرحلة ما قبل النبوية التي ساد فيها الشرك وعبادة الأوثان، لكن تم طرح المصطلح بمفهوم جديد، وهو أن الجاهلية "حالة موضوعية" تغيب فيها الحاكمية الإلهية، ويتم استبدالها بالحاكمية البشرية، حيث إن كل من لا يحتكم لله فهو في جاهلية، وهو أمر يصدق على الأفراد والمجتمعات والدول، لأن الحاكمية هي ترجمة عملية للنطق بالشهادتين، يقول سيد قطب محاولا تعريف المجتمع الجاهلي، "إنه كل مجتمع لا يخلص عبوديته وحده لله متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي، وفي الشعائر التعبدية وفي الشرائع القانونية، وبهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار المجتمع الجاهلي جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلا"[15]، وهذه النتيجة أدت إلى تغير جذري في تحديد طريقة النظر والتعامل مع المجتمعات الإسلامية، فقد كان في الماضي ينظر إليها على أنها مجتمعات فاسدة وعاصية تستوجب العمل على إصلاحها وإعادتها إلى جادة الصواب، لكن مع الحكم عليها بالجاهلية أصبحت أقطارها أرض كفر، لأنه بحسب سيد قطب لا وجود إلا لدارين، دار إسلام أو دار كفر، "إنه لا إسلام في أرض لا يحكمها الإسلام ولا تقوم فيه شريعته، ولا دار إسلام إلا التي يهيمن عليها الإسلام بمنهجه وقانونه، وليس وراء الإيمان إلا الكفر، وليس دون الإسلام إلا الجاهلية وليس بعد الحق إلا الضلال"[16]. وبما أن المجتمعات الإسلامية مجتمعات جاهلية تعيش في دار كفر ترتب عن ذلك وجوب اعتزال تلك المجتمعات ومقاطعتها بجميع صورها وهيئاتها ومؤسساتها، يقول سيد قطب: "إن أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته"[17]، وفي مرحلة ثانية يجب العمل على إعادة إدخال هذه المجتمعات في الإسلام ولو بالقوة.
من الحاكمية إلى الهجرة والتكفير
شكلت هذه الأفكار الأساس الذي بنت عليه جماعة الهجرة والتكفير منظومتها النظرية والتنظيمية، وهي جماعة إسلامية غالية تبنت منهج الخوارج في التكفير بالمعصية[18]، وساعد الصدام الذي حدث بين حركة الإخوان والنظام المصري والقمع الشديد الذي تعرض له شباب الحركة في السجون المصرية، بالإضافة إلى الاخفاقات الكثيرة للدولة القطرية الناشئة في المنطقة العربية وانتشار الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في توفير مناخ مناسب لتفريخ الغلو وانتشار الأفكار التكفيرية المتطرفة، وقد تشكلت الحركة في سجون مصر سنة 1965م بقيادة الشيخ علي إسماعيل ماهر، وعبد العزيز زناتي، وشكري أحمد مصطفى، وشكل إعدام سيد قطب دفعة قوية لانتشار أفكار الحركة بعد أن ساهم في تكثيف رمزيته وتطهير كاريزميته لدى الجيل الجديد من الشباب المسلم، مما ساعد على انتشار الحركة في صفوف طلبة الجامعات وخاصة جامعة أسيوط، ثم توسع تأثيرها ليصل إلى الدول العربية كالأردن واليمن والجزائر والمغرب.[19]
انطلاقا من مفهوم الحاكمية والجاهلية، وضع أصحاب الهجرة والتكفير مجموعة من القواعد الأصولية الفاسدة التي بنوا عليها عقيدتهم في التكفير والهجرة، وهي:
- الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وتكفي المعصية في انتفائه بالكلية.
- الأصل في عامة المسلمين الكفر، ولا يحكم بإيمان أحد حتى يتبين أمره.
- حكام المسلمين جميعهم كفار، وكل من رضي بحكمهم، فهو في حكمهم.
- بلاد المسلمين دار كفر، فلا يجوز الإقامة بها، والواجب هجرتها ولو هجرة معنوية.
وبالتمعن في هذه الأصول، نجد أن أفكار الحركة تنهض على مرتكزين أساسيين:
الأول: التكفير المبني على مبدأ الحاكمية: حيث تم تكفير الحكام، لأنهم لا يحتكمون للشريعة الإسلامية، وتكفير المحكومين لأنهم رضوا بذلك، ولم يعترضوا عليه، وتكفير العلماء لأنهم لم يكفروا الحكام وسكتوا عن تطبيق القوانين الوضعية، إعمالا لأصلهم في أن من لم يكفر الكافر فهو كافر، وتكفير كل من يقل بمقولاتهم ولم يعتنق مذهبهم. أما من انضم إلى جماعتهم ثم تركها، فهو مرتد حلال الدم، وعلى ذلك فالجماعات الإسلامية إذا بلغتها دعوتهم ولم تبايع إمامهم فهي كافرة، وكل من أخذ بأقوال الأئمة أو بالإجماع حتى ولو كان إجماع الصحابة أو بالقياس أو بالمصلحة المرسلة أو بالاستحسان ونحوها فهو في نظرهم مشرك كافر، والعصور الإسلامية بعد القرن الرابع الهجري كلها عصور كفر وجاهلية لتقديسها لصنم التقليد المعبود من دون الله تعالى، فعلى المسلم أن يعرف الأحكام بأدلتها، ولا يجوز لديهم التقليد في أي أمر من أمور الدين، كما ذهبوا مذهب الخوارج في تكفير صاحب الكبيرة، وأن الإيمان وحدة لا تقبل التجزئة[20].
الثاني: الهجرة المبنية على مبدأ الجاهلية: أي تطبيق مبدأ العزلة عن المجتمع الذي نعتوه بالكفر والخروج عن الملة، والعزلة المعنية عندهم عزلة مكانية وعزلة شعورية ومفاصلة كلية، وبما أنه لا يمكن إصلاح المجتمع الجاهلي من داخله، فلا بد من الهجرة منه إلى مكان ليس خاضعًا للطاغوت، واختار أعضاء الحركة الهجرة مسلكا للهروب من عالم الجاهلية والفساد، وقاموا بإسقاط بعض التكاليف الشرعية، وحرموا الصلاة في المساجد، لأنها معابد الجاهلية ومساجد الضرار، وقاموا بتعطيل صلاة الجمعة إلى أن يمكن الله لجماعتهم في الأرض، فلا جمعة في الاستضعاف، وحرموا التعليم في المدارس الحكومية لأنها مراكز للكفر والجاهلية، وحرموا العمل في المؤسسات الحكومية حتى ولو كان العمل في ذاته مباحًا، لأن في ذلك دعم للمجتمع الكافر[21].
وهكذا اتضح لنا أن العلاقة بين مفهوم الحاكمية والتكفير هي علاقة أساسية لكنها في الوقت نفسه بنيت على تحريف المفهوم، وتم فيها ابتسار النصوص من سياقها واجتزائها من أصولها واستخدامها في غير محلها واستدعائها في غير مكانها، وساعد على ذلك الجهل بالقواعد الأصولية والأصول الشرعية التي تضبط التعامل مع النصوص وتساعد في فهمها واستنباط الأحكام منها، وسهل المناخ السياسي والاجتماعي والفكري الذي ساد في الستينيات في إيجاد التربة الملائمة لنمو وانتشار هذه الأفكار التكفيرية المتطرفة.
وعلى الرغم من أن جماعة الهجرة والتكفير تجاوزها الزمن، فقد ساهم ظهورها في تفريخ عشرات الجماعات التكفيرية الأخرى التي تبنت العنف والعمل المسلح تحت مسمى الجهاد كسبيل لتغيير أنظمة الحكم التي لا تحكم بما أنزل الله، مثل تنظيم القاعدة وتنظيم داعش وغيرها، ولم تكتفي تلك الجماعات بالتواجد المحلي والقطري، بل توسعت وتطورت لتصبح ذات بعد عالمي ولم تقتصر على محاربة العدو القريب أي الحكومات، بل امتدت لتحارب العالم أجمع، وقد كان لهذه الجماعات عواقب وخيمة على المسلمين، وأصبحت من أشدها ضررا عليهم بعدما استباحت دماءهم وأموالهم.
علينا لهزيمة هذا الفكر التكفيري أن نعود إلى أصوله الأولى، وهي مفاهيم الحاكمية والجاهلية، ونعمل على توضيح حقيقتها وتصويب الأخطاء المتعلقة بها ودحض الشبهات المحيطة بها، باستخدام الأدلة الشرعية والعلمية وشرح النصوص القرآنية والأحاديث الواردة في بابها، خاصة أن أصحاب هذا الفكر من النصوصيين الذين أوقفوا عقولهم عن التفكير وتشبثوا بظواهر النصوص دون النظر إلى مقاصدها وسياقاتها وغاياتها، ويبقى الهدف هو حماية الشباب المسلم من هؤلاء الخوارج الذين يقومون باستهدافهم مستغلين قلة بضاعتهم من العلوم الشرعية وسخطهم على الأوضاع الاجتماعية والسياسية.
[2]- الهادي نسيرة. فهم التراث ومشاكل الجهاديين: ابن تيمية والسلفية الجهادية نموذجا، المستقبل العربي، عدد 440، 2015، ص 84
[3]- حسن الهضيبي. دعاة لا قضاة، دار الدعوة، 1977, ص 91
[4]- حسن حنفي. الدين والثورة في مصر: 1952-1981، مطبعة مدبولي، القاهرة، 1988، ص 191
[5]- أبو الأعلى المودودي. ترجمة: أحمد ادريس، الحكومة الإسلامية، دار المختار الإسلامي للطباعة والنشر، القاهرة، 1977، ص 71
[6]- أبو الأعلى المودودي. ترجمة: أحمد إدريس، الخلافة والملك، دار القلم، الكويت، 1978، ص 10
[7]- محمد عمارة. أبو الأعلى المودودي والصحوة الإسلامية، دار الوحدة للطباعة والنشر, 1986، ص 193
[8]- أبو الأعلى المودودي. بين يدي الشباب، مكتبة الرشد، الرياض، ط2، 1983، ص25
[9]- أبو الأعلى المودودي، الحكومة الإسلامية، مرجع سابق، ص 84
[10]- نفس المرجع، ص 84
[11]- صلاح عبد الفتاح الخالدي. في ظلال القرآن في الميزان، دار عمار، الأردن، 2000، ص 173
[12]- سيد قطب، العدالة الاجتماعية في الإسلام، دار الشروق، بيروت، 1975، ص 104
[13]- محمد عمارة. مقالات في الغلو الديني واللاديني، مكتبة الشروق الدولية، 2004، ص 14
[14]- نفس المرجع، ص ص 14-15
[15]- سيد قطب. معالم في الطريق، دار الشروق، ط 6، 1983، ص 98
[16]- نفس المرجع، ص 161
[17]- نفس المرجع، ص 22
[18]- مانع بن جماد الجهني وآخرون، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، دار الندوة العالمية، ط4، ج2، ص 333
[19]- نفس المرجع، ص 333
[20]- نفس المرجع، ص336
[21]- نفس المرجع، ص337