مفهوم الحرية بين الإسلام والغرب
فئة : مقالات
مفهوم الحرية بين الإسلام والغرب
لبنى بن البوعزاوي
تقديم
لم تكن الحرية مصب اهتمام الفكر الإنساني إلى حين قيام الدولة الحديثة، حيث أضحت الحرية أكثر المفاهيم إثارة في العصر الحديث، وإن شئنا تخصيصا، فلنقل بدءا من القرن السابع عشر وصولا إلى القرن العشرين، حيث أسست الفلسفة الغربية للحرية من خلال مفهوم الذات ومفهوم الفرد. فالحرية بهذا المعنى، لم تكن قيمة إنسانية بارزة المعالم، إلا عندما انتقلنا مع ديكارت من الوجود كموضوع إلى الوجود كذات، ومن تم أضحت الذات قضية من القضايا التي طرحت العديد من الاشكالات باعتبارها أم القضايا الفلسفية الحديثة، ومن بين هذه القضايا نجد قضية الرغبة في الحرية بما هي رغبة ذاتية. وهذه الأخيرة تعبر عن نزعة أصلية عميقة إلى الحرية في وجود الذات الإنسانية الطويل. فإذا كان لهذا العصر شعار ومبدأ يمكننا اختزاله فيه، فهو البحث عن الحرية، حرية الفرد على مستوى الدولة، وعلى مستوى المجتمع.
لقد قطع الغرب شوطا طويلا على طريق الحريات إسهاما نظريا، وواقعا عمليا معاشا، إذ استطاعت نظرياتهم في الحرية التي تكونت في أعقاب الثورة الفرنسية أن تغزو شعوبا وثقافات أخرى تتطلع بدورها لغد أفضل للحصول على حرياتها المستلبة، ولضمان حقوقها المخولة لها. في المقابل، ظن بعض المستشرقين العرب والمسلمين أن الحرية منعدمة في المجتمع العربي الإسلامي، حيث يخلو التاريخ والتراث العربي الإسلامي العريق من الحرية والكتابة عنها؛ باعتبار بدايات الانفتاح العربي على أفكار الحريات كانت بعد ترجمة الموروث اليوناني في غضون العصر العباسي. لذلك، لما اقترن مصطلح الحرية بالإسلام في سياق المجتمع العربي الإسلامي ساور البعض الكثير من الشك والريبة والتوجس، مما أثار جدلا واسع النطاق ما برح غير منفك من عقال هذا المد الجدلي إلى الوقت الراهن.
فالحرية بالنسبة إلى بعض السياسيين العرب قد تعني التمرد والثورة وشق عصا الطاعة، وبالنسبة إلى بعض أهل الشرع قد تعني الانفلات من كل ضابط شرعي أو فقهي أو أخلاقي، وتجاوز المحذورات الدينية، إن لم نقل تجاوز حدود الدين نفسه. أما على المستوى الاجتماعي، فقد يجري تأويلها في حرية الجسد والانحراف، وفي العلاقات الجنسية غير المشروعة.
يختلف الفقهاء والعلماء والمفكرون والباحثون والفلاسفة والمؤرخون والحالة هذه، في سياق المجتمع العربي الإسلامي حول الحرية؛ فمنهم من يرى أن الإسلام دين الحرية، وأنه جاء ليحرر الناس ويرفع عنهم الأغلال والقيود ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومنهم من يرى أن لا وجود للحرية في الشريعة الإسلامية، وإنما هي زندقة وبدعة غربية مبتدعة ومستوردة، دخيلة فاسدة ومفسدة، لم تنبت في تربة الحضارة العربية الإسلامية. فما الحرية إذن؟ وكيف هي نظرة المجتمع العربي الإسلامي لها؟ وهل يمكن أن نجمع بين التقيد بأحكام الشرع والتحرر العقيدي والفكري والسياسي والاجتماعي في السياق الإسلامي؟ ثم ما الفارق بين التصور العربي الإسلامي والتصور الغربي الأوروبي للحرية؟
غياب الحرية في المجتمع العربي الإسلامي
قبل الخوض في جزئيات الحديث عن الحرية في المجتمع العربي الإسلامي، لابد لنا من الوقوف عند حدود المعنى اللغوي لكلمة حرية، حيث اللغة انعكاس لثقافة المجتمع ونتاج لها، لذلك لا ينبغي بحال إنكار أهمية التحليل اللغوي، فواجب الانتباه إلى حدوده يعد شرطا مطلوبا وضرورة لا مندوحة عنها لمن أراد تقصي الموضوع والإحاطة بجميع جوانبه. فإذا عدنا إلى قاموس "المعاني" العربي، نجد كلمة الحرية تشير إلى تلك الحالة التي يكون عليها الكائن الحي غير خاضع لقهر أو قيد أو غلبة، ويتصرف طبقا لإرادته وطبيعته خلافا للعبودية، وهي من فعل حرر يحرر والمصدر تحريرا. وتأسيسا على ذلك، نرى أن كلمة "حر" حمالة أوجه ومعان، يمكن تحديدها في أربع دلالات: الأولى خلقية، والثانية قانونية، والثالثة اجتماعية، والرابعة صوفية الدلالة والمعنى. أما الأولى: فتحيل على المعنى الذي كان سائدا عند العرب إبان العصر الجاهلي، وهو الحسن والكرم، فالحرة على سبيل المثال "تعني الكريمة، ويقال ما هذا منك بحر أي بحسن"[1] أما الثانية، فقد ارتبطت بعتق الرقاب من العبودية وخلاصها، وهو ذات المعنى الذي نجده في النص القرآني في سور النساء {وتحرير رقبة مؤمنة}(النساء: 92). أما على المستوى الاجتماعي، فقد كانت كلمة "حر" صفة تلحق بكل شخص يكون معفيا من الضرائب والضوابط والقوانين التي تفرضها سلطة ما. أما عن المعنى الصوفي: فقد "كانت الحرية في اصطلاح أهل الحقيقة هي الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق والأغيار، وهي على مراتب."[2]
لقد عمد بنا هذا التحليل اللغوي لكلمة حرية إلى مجالين ثقافيين؛ هما: الشرعي الفقهي، والأخلاقي القيمي. كما يبدو، فإن كلمة حرية في النص المؤسس للثقافة العربية الإسلامية أي القرآن، لم ترد بالمعنى الدارج والحديث للكلمة اليوم، ولا بالمفهوم الذي يطابق ما يفهمه الغرب من الحرية -الحريّة في الغرب مفهوم متعالي عن النصّوص الدينية، فهو يرى أنّ قرار كلّ إنسان بيده، وأنّ ما من شيء يُلزم الإنسان إلا قناعاته الذاتية أو قناعاته المجتمعيّة في حدود حريّة الآخرين وحقوقهم، إذ للإنسان الحقّ في اختيار أيّ سلوك أو دين أو عقيدة، شريطة أن لا يتنافى ذلك مع حريّة الآخرين وحقوقهم وفقاً لعقدٍ اجتماعي عام- وإنما جاء في سياق اجتماعي قانوني ينص على الحكم الذي ينبغي أن يسري على كل مسلم قتل مؤمنا دون سبق إصرار، حيث يتوجب عليه تحرير رقبة، للتكفير عن فعله: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ}(النساء: 92). بهذا المعنى يرى المسلمون العرب أن الشريعة أنزلت لمصلحة الانسان ولحماية الانسان في الدنيا والآخرة، ولحمايته حتى من الحرية التي يسوق لها الغرب؛ وذلك بالتقوى والامتثال لأوامر الله وسنة رسوله. فخلافاتنا كمجتمع عربي اسلامي مع الغرب تكمن في رؤيتنا للسلوكيات الغربية – كالعلاقات الجنسية الرضائية خارج إطار الزواج، شرب الرجل والمرأة الخمر، المثلية الجنسية، التعري في اللباس بالنسبة إلى المرأة ... وهلم جرا- بعيون عربية مسلمة، باعتبارها سلوكيات مخالفة ومعارضة لما هو سائد ومقبول ومباح دينيا وأخلاقيا واجتماعيا، إذ ينبغي على كل قول أو فعل أو سلوك، أن يكون متفقا مع ما يوحي به الشرع والدين، وإذا جاء معارضا لمنظومة الأحكام الشرعية الدينية، وللنظم القيمية للمجتمع، يعتبر كفرا وعصيانا لأوامر الله. وفي هذا الصدد نستحضر قول ورد عن المؤرخ المغربي أحمد الناصري1835-1897م يقول: "واعلم أن هذه الحرية التي أحدثها الفرنج في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعا لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأسا ... وأعلم أن الحرية الشرعية هي التي ذكرها الله في كتابه وبينها رسول الله لأمته وحررها الفقهاء في باب الحجر من كتبهم."[3]
لقد قدم الفقه مفهوم الحرية في المجتمعات العربية الإسلامية بعامة والتقليدية بخاصة على نحو مجزأ، كون المجتمع الذي يصوره الشرع، يرى الحرية بمستويات؛ الرجال، النساء، الرجل المحكوم، الرجل الحاكم. إنه عين ما عبر عنه عبد الله العروي في كتابه "مفهوم الحرية" بمجتمع مجزأ إلى أحرار ورقيق أي إلى أحرار وعبيد، الأمر الذي يحيل على أن السلم الاجتماعي في مجال الفقه الإسلامي يبدأ بالأقل حرية ومروءة وعقلا، وينتهي بالأكثر قدرة على التصرف شرعا. حيث توجد المرأة المسترقة في الدرجة السفلى بذريعة مفادها أن حالة العبد والمرأة تجلب نقصانا في العقل، وفي المروءة التي تتمثل في قدرة الفرد على الحظوة بشرف التكليف. مرد ذلك، إلى جعل التشريع الإسلامي العقل، مناط التكليف. أما عن الدرجة العليا، فإن الحاكم هو من يحظى بشرفها، والذي يشترط أن يكون ذكرا حرا، وعاقلا بالغا. إن الحرية بالتعريف وتبعا لما تقدم هي "الاتفاق مع ما يوحي به الشرع والعقل. فهي حكم شرعي، لكنها في نفس الوقت اثبات واقع: مدى قدرة الفرد على تحقيق العقل في حياته. على هذا النحو يكون التطابق بين الشرع والعقل والحرية، هو العدل الذي يقوم عليه الكون عند العرب المسلمين."[4]
يظهر على نحو بين أن الحرية في المجتمعات العربية الإسلامية وفقا لما تقدم في المتن التحليلي، تصدر ممارستها من الشخص الحاكم، في حين تمارس العبودية على بقية السلم. أما عن الاتفاق مع ما يوحي به الشرع والعقل، فقد ظل في تصورنا عنصر ثالث لم يذكر، بينما إثارته لا تقل أهمية عما ذكر من العناصر. إنه قانون الحياة الاجتماعية للمجتمع العربي، فضلا عن كونه، الضابط والمشرع الثاني إن لم نقل الأول للأحكام الأخلاقية والاجتماعية، إنها "الأعراف والعادات والتقاليد". من غير الممكن بمكان أن نذهل عن هذا العنصر المهم، بوصفه عنصرا، يحيل في ثناياه إلى ذاك السلوك الجماعي الذي يألفه الناس، ويترسخ بحكم تكراره ليتحول إلى قاعدة، كما يغدو في أحيان كثيرة قوام القانون الاجتماعي العام، وسرعان ما يصير مرجعا أخلاقيا لحياة الأفراد داخل المجتمع. فالحرية في المجتمع العربي الإسلامي بهذا المعنى هي أن تتصرف وفق ما يمليه عليك الدين والشرع والقانون والأعراف والتقاليد أولا، ثم وفق ما يمليه عليك العقل ثانيا، حتى لو كان الدين الإسلامي في هذا النطاق يحث على تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض.
إن المجتمع العربي الإسلامي التقليدي والحالة هذه، لم يكن بحاجة إلى الحرية حسب ما يدعيه البعض، لأنه في الأصل كان حرا، لذلك لم يُعالَج مفهوم الحرية تراثيا وتاريخيا كنظرية في السياق العربي الإسلامي حيث كان هناك فائض في الحرية قبل تأسيس الدولة، بدعوى أن الحرية تطلب عندما يكون هناك نظام سياسي جائر متحكم في كل تفاصيل حياة الأفراد داخل المجتمع. أما عندما يكون الفرد داخل القبيلة، فإن الإشكالية التي تكون مطروحة بالأساس هي إشكالية الدولة، وليس إشكالية الحرية. بهذا المعنى تكون حياة البدواة، أحد الرموز والدلالات التي من خلالها مارس الفرد العربي حريته بشكل واسع ومطلق، كونها ترمز إلى الحرية والحياة الحرة الطلقة، على حد تعبير عبد الله العروي. تجدر الإشارة هنا، إلى مسألة أساسية، وهي أن هناك بونا شاسعا بالنسبة إلى عبد الله العروي بين "البداوة كواقع بما هي خضوع للأنواء والغرائز والعادات، وبين البداوة كرمز في ذهن الحضري، بما هي تعبير على فض جميع القيود المبتدعة. إنها لا ترادف كلمة الحرية في القاموس، لكن إذا نظرنا إليها كرمز، وكفكرة مجردة في الذهن، وخاصة في ذهن الشعراء والأدباء والمؤرخين العرب، فإننا مضطرون إلى الاعتراف بأنها كانت تجسد على مدى قرون ما تطلع إليه الناس من سعة في العيش وفسحة في التصرف."[5]
ترمز البداوة والحالة هذه عند العروي، إلى اللادولة؛ أي إلى حياة خارج القوانين الوضعية، لكنها في ذات الآن داخل قوانين "العشيرة" على خلاف حياة الحضر. الأمر الذي دفع الأفراد في المدن إلى الركون للتصوف، حيث يعيش الفرد حرية نفسية ووجدانية داخلية، عن طريق خلق عوالم روحية يسبح فيها الفرد ويجول ويتمتع بحرية مطلقة كتعويض عن الحرية المفقودة في العالم الخارجي، وكهروب من القوانين المستبدة القائمة على مستوى الدولة. فالتصوف على هذا النحو، "تجربة فردية ذهنية تتلخص في تمثل الحرية المطلقة بعد الانسلاخ عن كل المؤثرات الخارجية، الطبيعية والاجتماعية والنفسانية. إنه يشير تبعا لما تقدم إلى حرية وجدانية مطلقة داخل الدولة المستبدة. من هنا يتبين، أن الفرد المتصوف في المدن، يعي تمام الوعي أنه في أسفل درجات العبودية، لذلك يتمثل فكرة الحرية المطلقة."[6]
لن نعزب النظر عن "رمز العشيرة"[7]، فأول معنى يطرأ على ذهن الإنسان حين يحاول تعريفها هو معنى القبيلة، أو الجماعة التي تحمي الفرد وتضمن له الحرية والحماية من نفوذ السلطان وأوامره، في حال تعارضت هاته الأوامر مع قانون العشيرة وعاداتها التي تكون مفروضة على الفرد المنتمي إليها. إنها تحد من مبادرات الفرد نعم، لكنها في نفس الوقت تعارض أوامر السلطان التعسفية، وتضمن للفرد حقوقا معروفة وثابتة. على هذا الأساس، يكون الفرد في نطاق المجتمع العربي التقليدي يفضل الخضوع للعادة الموروثة على اتباع الأمر السلطاني. إن العادة قديمة وقارة إلى الدرجة التي تبدو وكأنها قسم من الطبيعة، فهي جزء من الذات بالنسبة إلى الفرد العربي التقليدي، لذلك كان قانون العشيرة يعرض قانون الدولة في المجتمع العربي القديم؛ فبقدر ما يناقض قانون الدولة حرية الفرد، بقدر ما يعين قانون العشيرة، في عين الفرد حسب العروي، على تحقيق الحرية بالمحافظة على الحقوق المكتسبة والامتيازات الموروثة.
قد يحيلنا رمز العشيرة هذا، إلى مفهوم العصبية عند ابن خلدون1332-1406م في كتابه الشهير "المقدمة"، حيث اعتبرها شرطا لمن أراد أن يقيم دولة. فقد عُرف فكر ابن خلدون بارتكازه على مفهوم العصبية كمفهوم مؤسس في تفسيره لسيرورة التاريخ وصيرورته بين الولادة والهرم، ولاسيما ولادة الدول وهرمها، حيث ارتبط مفهوم الدولة في الفكر الخلدوني ارتباطا وثيقا بنظريته عن العصبية التي تلازم الاجتماع البشري بوصفه ظاهرة سوسيولوجية. ويقصد بالعصبية جماعة متحدة من الناس، أما في الأصل، فمعناها هو الاتصال الذي يكون بين الجنس البشري، وبين العائلة وأصلها الأول -النسب-. ويعتبر هذا المفهوم من المفاهيم الرئيسية عند ابن خلدون، باعتباره مفهوما يعبر عن روح القبيلة ويؤسس في حياة البداوة لمعنى التضامن والتلاحم والتعاون والدفاع. لقد كان للعصبية دورا أساسيا من وجهة نظر ابن خلدون في بروز نجم الدول وأصولها؛ لأنها توقد شرارة الشجاعة في النفوس وتحفز على الحرب وتعمل على هزم العدو باتحاد أفرادها وتآزرهم؛ كونهم يمثلون الوحدة التي تنتج القوة، بالمعنى الذي تنطوي عليه فكرة أن كلما استظل الفرد بظلال العشيرة أو القبيلة، كلما زادت قوته واستماتته والعكس صحيح. لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل الانسان العربي كان يعيش هذه الحرية التي رمز إليها العروي على مستوى البداوة، فعلا وممارسة، أم أنها كانت مجرد رموز للحياة الطلقة في ذهن الفرد الحضري؟
كرد عن هذا السؤال، ينبغي التذكير، بأن مجال الحرية هو التطبيق والواقع والممارسة وليس الذهن، فالبحث عن الحرية في الرموز كما فعل العروي يحيل على غياب تمظهراتها على مستوى الفعل والسلوك والتصرف. فإذا لم يترجم هذا الرمز إلى سلوك، وإذا لم يكن هناك تجلي فعلي للحرية على مستوى الفعل، فلا مجال للبحث عنها في الرموز والأفكار، والدلالات المجردة في الذهن. فالقول بأن المجتمع العربي يفضل الخضوع للعادة الموروثة يعني على نحو صريح أن هامش حرية الفرد يظل ضيقا، حتى وإن كان الأمر متعلقا برمز البداوة -كرمز إلى الحرية والحياة الحرة الطلقة- الذي لا يختلف من منظورنا عن رمز العشيرة، لأن الفرد على حد علمنا لا يعيش بداوته بمعزل ومفصل عن العشيرة.
الحرية في الإسلام
لقد تشكل الإسلام كرسالة في مجتمع حر، ونعني بالمجتمع الحر في هذا السياق، مجتمع لم تكن تحكمه أنظمة استبدادية، كما أن الحديث آنذاك عن الدولة لم يكن ممكنا، ولا سيما الدولة بمفهومها الحديث. فالدولة رغم تعريفاتها الكثيرة التي لا تنفك عن التناسل، إلا أن امكانية عرض خصائصها تظل ممكنة غير مستعصية، وتأسيسا على ذلك، تتحدد خصائصها في ثلاث: أما الأولى فهي اختصاصات الحاكم: التي تضم أصحاب القرار والادارة المنفذة للقرار، وتتحدد الخاصية الثانية في تمركز الإكراه: ويعني وجود قرار شرعي يفرض قراراته على إقليم الدولة. أما الخاصية الثالثة، فتتمثل في: مأسسة السلطة العامة، إذ غدت الدولة تخضع للقوانين التي تنظم حقوق وواجبات الحاكم والمحكومين، وهو ما أسماه ماكس فيبر بالسلطة الشرعية العقلانية. فالحديث إذن عن الدولة بهذا المعنى، في نطاق حياة القبيلة لم يكن ممكنا؛ لأنه كان بعيدا جدا وغريبا عن ثقافة القبيلة ونمط عيشها وأسلوب حياتها.
لقد كانت القبائل لحظة تشكل الإسلام حرة لا تخضع إلى سلطان خارج سلطان القبيلة، لذلك لم تكن إشكالية الحرية إشكالية سياسية مرتبطة بالدولة. لكن عندما أعطى الإسلام قانون الإيمان "العقيدة" وأعطى ثانيا قانون المجتمع أي "الشريعة"، انحصر الحديث عن الحرية عند المسلمين فيما يتعلق غالبا باختيار الإنسان والنقاش الجدلي الذي جرى تاريخيا في تراثنا حول: هل الإنسان مخير أم مسير؟ ثم هل هو قادر على تشكيل مستقبله كما يشاء؟ أم إنه محكوم بأقدار مسبقة؟
فإذا عدنا مثلا إلى "مذهب الاكتساب الحتمي"[8] مع الأشاعرة، ونعني بها فرقة المتكلمين الأشاعرة المنتسبة إلى أبي الحسن الأشعري 874-936هـ -كأحد أعلام أهل السنة والجماعة، إنها الفرقة التي تنطلق من مبدأ: الشريعة وحدها هي الكفيلة على النحو التام بالنظر في الأمور الدينية، بل وحتى الدنيوية- نجد أن أفعال الإنسان، مخلوقة تعود في الأصل إلى الله، حيث يرى هذا المذهب أن الفعل الواحد يأتي من فاعلين أحدهما يخلقه، وهو الله، والثاني يكتسبه، وهو الإنسان. ومن جملة ما يعنيه هذا القول، أن الله هو فاعل أفعال البشر، وأن البشر هم وسائل فعلها في الواقع؛ مما يحيل على أن أفعال البشر جميعها تعود إلى الله، ولكن الإنسان يكتسب القدرة والإرادة لفعل هذه الأفعال، فهي من إرادة الله. من هذا المنطلق يمكن القول، إن مذهب الاكتساب يرى الله والإنسان مسؤولين كليهما عن أفعال البشر. إنه من جهة يحافظ على القدرة الربانية كاملة غير ناقصة، بيد أنه من جهة ثانية يجعل مسؤولية الإنسان غير واضحة المعالم. علاوة على ذلك، نرى أن خطاب النص الديني (القرآن الكريم) المؤسس للثقافة العربية الإسلامية كان حاسما وصريحا فيما يتعلق بالخيرة في الأمر، أي فيما يتعلق بالاختيار بالنسبة إلى الشخص المسلم؛ وذلك استنادا على ما جاء في سورة الأحزاب "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا" (الأحزاب: 36). فتبعا لهذا المتن، يبدو أن حرية الفرد في الاسلام شبه مفقودة إن لم نقل غائبة ومنعدمة.
قد يحدث أن يأتي شخص مسلم ويزعم بأن النص القرآني ينص على الحريات الفردية، وقد يذهب به الأمر لا ريب إلى تفنيد التصور القائل بانعدام الحرية في الاسلام، فيقدم حجته ويستدل بالآيتين اللتين تنطويين ضمنيا على حرية الاعتقاد وتنتصران في نظر المسلمين للحرية، حيث تحول دون فرض العقائد على الناس، باعتبارهما دليلا بالغا لإقناع المخالف والمعارض في الرأي: "قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف: 29) والآية الثانية: "لا إكراه في الدين" (البقرة: 256).
لا يمكن بحال أن نغض طرفنا عما جاء في تتمة الآية الأولى، وعما أتت به آيات أخريات في نفس النطاق، والغريب هو كونها تضرب وتفند هذا المفهوم المغلوط الذي يتغنى به البعض من المسلمين. فإذا عدنا للآية 29 من سورة الكهف في مجملها، سنرى أن الجزئية الثانية منها تتوعد الظالم وتترصد له عذاب النار: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا" (الكهف: 29). وإذا ذهبنا إلى تفسير "ابن الكثير الدمشقي" للآية نجده يقول بالحرف: "يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس: هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، هذا من باب التهديد والوعيد الشديد؛ ولهذا قال: إنا أعتدنا أي: أرصدنا للظالمين وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه نارا أحاط بهم سرادقها أي: سورها." أما إذا عدنا إلى الآية القائلة بلا إكراه في الدين، فيمكن أن ننقدها بآيات أخرى من داخل النص القرآني عينه. تتمثل الأولى في سورة التوبة: "قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" (التوبة: 29) أما الثانية فتتجلى في الآية 5 من نفس السورة: "فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (التوبة: 5).
أما الدليل الثالث، فيمكن الإحالة إليه من خلال هاتين الآيتين: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" (آل عمران: 85) ثم الآية من نفس السورة "إن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران: 19).
نلاحظ إذن أن حرية الاعتقاد بالمفهوم الذي يروج له الفقهاء والعرب المسلمون في سياق الإسلام منعدمة تماما. قد يبدو ظاهريا أن الأمر فيه خيرة وحرية، لكن عندما يتبعه تهديد ووعيد وترهيب وتخويف، فكما لو أنه يضيق من أفق حرية المعتقد إن لم نقل يلغيها. قد لا نبالغ، إذا قلنا إن الأمر شبيه بذاك الذي يحرر السجين من زنزانته، غير أنه بالرغم من ذلك لا يبرح سجينا داخل السجن؛ فهو خارج الزنزانة نعم، لكنه بقي مسجونا داخل السجن.
إن معيار القول بالحرية في تصورنا يجب أن يقاس بحرية الاعتقاد؛ لأن هذه الأخيرة هي التي تؤسس بدورها لحريات أخرى قد تسمح للفرد بأن يعيش حياته وفق قناعاته وأفكاره واعتقاداته الخاصة. لكن يبقى الأمر غير ممكن في نطاق الحديث عن المجتمع العربي الإسلامي؛ لأن "الديني" (الشريعة) يقع في صميم الثقافي (منظومة القيم الأخلاقية الاجتماعية) بل ويشكل حتى مفاصله الرئيسة؛ وذلك يتمظهر بالأساس في تصور المجتمع لنفسه من خلال الدين. إنه تصور ينطوي على بعدين ميتافيزيقيين ورمزيين: الأول هو الاعتقاد بأن مصدر التشريع والتقرير يأتي من خارج المجتمع ومن قوة مخالفة لقوة المجتمع، أما الثاني فيتجلى في كون هذا المجتمع قد سلم نفسه لتلك القوة المدبرة التي تملك وحدها حق التقرير. إنها محاولة الجماعة منع ارتهان الإنسان للإنسان، بمعنى: ما دمنا كلنا انسان ليس من حق أي انسان أن يمارس على أخيه الإنسان سلطة ما. ولعل هذا ما دفع طلب المساواة عن طريق الارتهان للغيب، بوصفه القوة المدبرة.
على هذا النحو تكون سلطة الدين في المجتمع العربي الإسلامي سلطة متسمة بالقداسة؛ لذلك، أضحى المجتمع يستخدم الدين كآلية وكأداة سلطة يحقق من خلالها شرعية معتقداته وعاداته وتقاليده وأعرافه ونظمه وضوابطه التي لا تختلف كثيرا عن ضوابط الدين، لا من حيث الشكل، ولا من حيث الطبيعة. الأمر الذي يفسر حتى تلك العلاقة المتقاطعة أحيانا والمتوازية أحيانا أخرى بين الديني والسياسي في المجتمعات الإسلامية.
من الضروري بمكان التذكير بمسألة أساسية ألا وهي: أن الإسلام يشتمل على أحكام شرعية تقتضي التنفيذ، بوصفه وضعا إلهيا، ومشروعا يصبو إلى إسعاد الناس دنيا وآخرة كما هو معروف عند أهل السنة، ووسيلة لتنظيم العلاقة بين الشعب وحكامه. لهذه الأسباب وغيرها، أصبح الإسلام هو المؤسس للسياسة وللحياة داخل المجتمع، من خلال وضع المبادئ والأحكام والقيم والمعايير التي من شأنها أن تقيم المجتمع على أسس وقواعد تحقق له القوة والنصرة.
بناء على ما سبق، يمكن التعبير عن قضية الدين والدولة، في سياق المجتمع العربي الإسلامي بالقول: إن الدين الإسلامي يتضمن أحكاما ينبغي أن تنفذ، وأن الدولة هي السلطة التي يجب أن تتولى التنفيذ. "إلا أنه يبقى من الضروري التمييز بين السلطة المنفذة للأحكام الشرعية، وبين الهيئة الاجتماعية المسماة بالدولة."[9] فالتمييز والتفريق بين الدين والمجتمع والدولة ليس ممكنا في هذا النطاق؛ لأن الدين نجده منصهرا داخل المنوال الثقافي للمجتمعات الإسلامية، ومرتبطا بتصوراتها عن الدين وعن المجتمع. كما هو واضح، فالمجتمع العربي الإسلامي يرمي من خلال الدين إلى تحقيق الوحدة والقوة والعزة، وإلى المناعة ضد ما هو دخيل عن التربة العربية الإسلامية: الحرية أنموذجا.
الحرية في الغرب؛ نظرية الوجودية نموذجا
تعتبر كلمة حرية أكثر الكلمات استعمالا في أوروبا، فلا عجب إذا رأينا شعار الحرية مرفوعا عند الأوروبيين في كل ميدان من ميادين النشاط الإنساني، "فبقدر ما كانت الدولة توشك أن تغطي المجتمع بأكمله، بقدر ما أصبحت التجربة الإنسانية كلها تجربة سياسية مرتبطة أساسا بالدولة. وبما أن الحدود المفروضة على التصرف لا تنفك تتسع وتتنوع. يجرب المرء في كل ميدان وفي كل ظرف، وفي كل عهد من عهود حياته، الحد من التصرف، أي اللاحرية، فهو محتاج إذن إلى مفهوم الحرية وإلى الكلمة. فالوعي بضرورة الحرية ليس دليل على وجود الحرية، وإنما هو في الواقع دليل على صحة شعار الحرية؛ لأن رفع شعار الحرية يعين المرء بالفعل على تحقيق أهداف معينة."[10] أما المجتمعات العربية الإسلامية، فلم يرفع شعار الحرية عندها إلا بعد حين، بعدما تم الانفتاح على نظريات الحرية التي تشكلت وتكونت لبناتها الأساسية في أعقاب الثورة الفرنسية، والتي هدفت إلى الرفع من أهمية الإنسان وقيمته، كرد على تلك النكبات والنكسات والمساوئ التي خلفها التاريخ. ومن بين هاته النظريات نجد: نظرية الوجودية التي تأسست على يد كيركغارد الذي هاجم أفكار الفلاسفة معاصريه، خاصة الأفكار التي قللت من قيمة الانسان وحريتة، كفريدريك هيغل مثلا الذي عبر عن تصور مفاده أن كل شيء خارج الوجدان، بينما يمثل هذا الأخير -الوجدان- معطا جوهريا وأساسيا في الفلسفة الوجودية. وفي هذا المقام يؤكد جون بول سارتر 1905-1980م أننا لا ندرك ذواتنا إلا من خلال اختياراتنا، وليست الحرية سوى كون اختياراتنا دائما اختيارات غير مشروطة.
فإذا كانت ماهية الإنسان في سياق الإسلام أسبق من وجوده أي محكوم بأقدار مسبقة قبلا، فإن الأمر يختلف تماما مع نظرية الوجودية في الحرية، فهي تقوم على مبدأ يناقض ويعارض كليا ما في الإسلام، حيث تنطلق من فكرة الوجود أسبق من الماهية؛ بمعنى أن الإنسان يوجد أولا ويلاقي ذاته، ثم بعد ذلك يختار طبيعته بنفسه. فمن هنا تستمد فكرة جون بول سارتر "الإنسان مشروع" جذورها. فالإنسان مشروع، حيث يتحدد انطلاقا من المستقبل ومما سيكون وليس مما هو كائن. إن الإنسان بهذا المعنى ومن داخل هذه النظرية حر بإطلاق في اختيار شخصه ونمط وجوده الخاص؛ لأن وجوده يسبق ماهيته، وهذا ما يجعل منه مشروعا منفتحا على المستقبل؛ بمعنى أنه يتحدد انطلاقا من المستقبل ومن اختياراته هو وليس من الماضي، ومن قوى مفارقة غير بشرية كما يدعي الفقهاء المسلمون. إنه دائما تجاوزي لوضعيته الأصلية، ودائما انفلاتي من مبدأ الهوية -الذي يجعله في تطابق مع ذاته- من أجل التموضع عن طريق الشغل والفعل والحركة في وضعية جديدة. هذه الوضعية التي سيجد فيها نفسه أمام حقل من الإمكانات، يحقق بعضها ويترك البعض الآخر حسب اختياره وإرادته. فبهذه الكيفية تعيد الذات إنتاج ذاتها باستمرار، وهو ما عبر عنه جون بول سارتر بالقول: "يعرف الإنسان بمشروعه. هذا الكائن المادي يتجاوز دائما الوضعية التي يوجد فيها ويحددها بالتعالي عليها لكي يتموضع. وهذه الوثبة نحو التموضع تتخذ أشكالا متنوعة بحسب الأفراد، وبما أنها تلقي بنا داخل مجال من الإمكانات نحقق البعض منها دون البعض الآخر، فإننا نسميها كذلك اختيارا وحرية."[11]
تضع النظرية الوجودية الفرد أمام كينونته، وتلقي عليه مسؤولية اختياراته. فالإنسان حرّ في اختيار شخصه ومسؤول عن اختياراته، إلا أن مسؤوليته تتجاوز مستوى الذات الفردية، ليغدو مسؤولا عن الإنسانية جمعاء، إذ حينما يختار فهو يختار لذاته أولا ولبقية الناس ثانيا؛ أي إنه يساهم باختياره في خلق صورة الإنسان كما يجب أن يكون في واجب وجوده.
ألا يمكن القول بأن الحرية المطلقة التي لا حدود لها قد تتحول إلى فوضى منعدمة الحدود، ما دام ليس هناك حدود لحرية كل فرد؟ ألا يمكن القول أيضا إن هذه الحرية المرتبطة بالوجود المنبثق، هي حرية مجانية، حيث هذه الأخيرة غالبا ما تفقد معناها وقيمتها. ألا يمكن القول إن الحرية يجب أن تكون محددة بشروط ؟
كجواب عن الأسئلة المطروحة نجد "إيمانويل مونيي" في كتابه "الشخصانية" يؤكد أن الشخص يختلف عن الفرد البشري. فالشخص كائن واع بكل الإكراهات التي يفرضها عليه وجوده داخل العالم، ومع الآخرين؛ إنه مدرك بوعيه -الوعي هو وعد وبادرة للتحرر- لكل الإكراهات المحيطة به، بيد أن ذلك لا يمنعه من التعالي والتجاوز، لاختيار نمط وجوده بنفسه. لذلك نجده يتراوح ويتأرجح بين الحرية والضرورة، إلا أن مراعاته لمجموعة من الضرورات لا ينفي ولا يقلل من الكرامة والحرية التي يتمتع بها الشخص دون غيره من الكائنات الأخرى، والتي تفرض على كل واحد التعامل معه باحترام وتقدير. ولا تنفي أيضا امتلاك الإنسان لهوية شخصية تجعله متطابقا مع ذاته باستمرار ومختلفا عن الآخرين. وفي هذا السياق، يقول إيمانويل مونيي: "إن حريتنا حرية إنسان في موقف، وهي كذلك حرية شخص تعطى له قيمة. أنا لست حرا؛ لأني أمارس عفويتي فقط، بل أصبح حرا عندما أوجه هذه العفوية في اتجاه التحرر أي في اتجاه شخصنة العالم ونفسي. فثمة مسافة تمتد من الوجود المنبثق إلى الحرية. وهكذا فأنا لا أستعمل حريتي دون جدوى، بالرغم من أن النقطة التي ألتحم فيها بتلك الحرية متباعدة في ذاتي. وليست حريتي تدفقا فحسب، بل هي منظمة، أو بعبارة أفضل هي مطلوبة بنداء."[12] فللشخص إذن حرية مشروطة بالوضع الواقعي للإنسان، إلا أن هذا الوضع المشروط لا يعني البتة الخضوع للضرورة.
إن الإنسان حسب ما ورد عن نظرية الوجودية صانع نفسه بنفسه، بل والأكثر من ذلك، إن سؤال ما الإنسان في تصور الوجودية يظل رهينا ومنوطا بما سيصيره هذا الإنسان كفاعل وكصانع، باعتبار علاقته مع الطبيعة لا تتحدد ولا تقوم على كونه مجرد مفعولا به، وإنما تقوم على كونه فاعلا وصانعا، حتى فيما يخص علاقته بالآخرين وبالغير. إنها كذلك، علاقات فاعلة وواعية، لا علاقات آلية مسيرة من قبل قوى ميتافيزيقية خارجة عن منظومة الطبيعة. فالإنسان على هذا المنوال بوصفه شخصا، يملك من الحرية ما يجعله قادرا على صنع ذاته وحياته وفق ما تمليه عليه خياراته. إنه حر من جهة، ومسؤول من جهة ثانية. بهذا المعنى يكون مفهوم الحرية الوجودي يجعل معالم مسؤولية الانسان على بينة ووضوح، خلافا لمذهب الاكتساب العائد للأشاعرة.
خاتمة
علاوة على ما تقدم، يمكن القول: إن الإنسان في سياق المجتمع العربي الإسلامي، لا يسعى إلى الحرية بقدر ما يسعى إلى العبودية. فالإنسان في الإسلام لا يعتبر حرا، بل عبدا، عبدا لله. قد تختلف العبودية بهذا المفهوم حتما، من ديانة لأخرى ومن مجتمع لآخر ومن ثقافة لأخرى، في حين أن الحريةإ رغم اختلاف وتعدد مفاهيمها التي لا تنفك عن التناسل، تظل قيمة إنسانية وأخلاقية رغم التعدد. كما أن التنظير للحرية يقتضي التفكير بحرية؛ فما يفسر غياب نظريات الحرية في المجتمع العربي الإسلامي على خلاف الأنداد الأوروبيين، هو غياب الحرية عينها في السياق ذاته. إن الحرية في سياق المجتمع العربي الإسلامي ستبدأ، عندما تقتنع أن ليس كل ما يقنعنك يقنعني بالضرورة، والعكس صحيح. وإذا فكرنا يوما بأن ننزع من الإنسان الحق في الحرية والاختلاف، فكما لو أننا بذلك ننزع منه إنسانيته. على هذا النحو إذن، تكون الحرية في صميم مفهوم الإنسان.
المصادر والمراجع:
- عبد الله، العروي، مفهوم الحرية، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي 2008، الطبعة الرابعة.
- أحمد، بن خالد الناصري، الاستقصا، الرباط، المؤسسة الناصرية للثقافة والعلم 1945
- محمد عابد، الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة: من أجل إعادة بناء الفكر السياسي في الاسلام، الدار البيضاء، دار النشر المغربية 2004
- جون بول، سارتر، نقد العقل الجدلي، غاليمار1960
- إيمانويل، مونيي، الشخصانية، باريس، المنشورات الجامعية الفرنسية 1995
- توبي، هف، فجر العلم الحديث، الكويت، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب 2000، ترجمة محمد عصفور.
[1] عبد الله، العروي، مفهوم الحرية، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي 2008، الطبعة الرابعة، ص 16
[3] أحمد، بن خالد الناصري، الاستقصا، الرباط، المؤسسة الناصرية للثقافة والعلم 1945، ص ص 114-115
[4] استلهمنا هذه الفكرة من عند عبد الله، العروي، مفهوم الحرية، "المرجع السابق".
[5] عبد الله، العروي، مفهوم الحرية، مرجع سابق، ص ص24-25
[6] "المرجع السابق" ص 25
[7] "المرجع السابق"، ص 25
[8] توبي، هف، فجر العلم الحديث، الكويت، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب 2000، ترجمة محمد عصفور، ص ص 129-130
[9] محمد عابد، الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة: من أجل إعادة بناء الفكر السياسي في الاسلام، الدار البيضاء، دار النشر المغربية 2004، ص11
[10] عبد الله، العروي، مفهوم الحرية، "المرجع السابق"، ص6-41
[11] جون بول، سارتر، نقد العقل الجدلي، غاليمار1960، ص 95
[12] إيمانويل، مونيي، الشخصانية، باريس، المنشورات الجامعية الفرنسية 1995، ص 71-74