مفهوم "الحياة" عند برجسون «La vie débord L’intelligence»
فئة : مقالات
عالج الفيلسوف برجسون مشكلة الحياة، باعتبارها مفهوماً حاملاً معانيَ متراكمةً ودلالات متقاطعةً، بأسلوبه العلمي التحليلي الدقيق، فقدّم البراهين التحليليّة الهادفة إلى إثبات أفكاره، معتمداً على الأدلة المقنعة والأمثلة الصائبة، بعد أن توضّح له أنّ آراء العلماء الذين تناقشوا حول أسباب الحياة وطبيعتها ودلالاتها، كانت نقاشات ملتبسة وغامضة؛ فمقاس أنصار الحتمية وخصومهم، على سبيل المثال، ينطوي على التباس مسبق لكلّ من الديمومة مع الامتداد، وللتتابع مع التزامن، ثم للكيف مع الكم- وهذه كلّها خصائص مميّزة للحياة- فبمجرّد زوال هذا الالتباس، سنشهد ربّما انتفاء الاعتراضات المرفوعة ضد الحرّيّة؛ أي ضدّ الحياة.[1]
بناء على ذلك كيف حدّد برغسون الحياة؟ وهل استطاع فعلا برجسون أن يحلّ مشكلة الحياة اعتماداً على أطروحته حدس الديمومة الخلاّقة[2]، باعتبارها أساس الحياة ونسيجها؟ وما طبيعة العلاقة بين الذات والخلق في تفسير الحياة؟
إذا اعتبرنا، من وجهة نظر معيّنة، أنّ مفهوم الحياة يحتلّ مكانة جوهريّة في الفلسفة البرجسونيّة، فإنّ ذلك يعبّر عمّا اهتم به برجسون، وهو منكبّ على دراسة الرياضيات، من نقاشات حامية الوطيس، ما سماه بــ "حدس الديمومة الخلاّقة"، "L’intuition de la durée créatrice" إنّه تصوّر حيوي يجد زمن الديمومة المبدعة في جلّ زوايا الحياة، بل إنّه جوهرها وأساس تقدّمها. وما ينبغي علينا فهمه هو أنّ الزمان تراكم ونموّ ودوام، والدوام هو استمرار تقدّم الماضي الذي تتزايد أحداثه شيئا فشيئا إلى أن يتضخّم، ويكون المستقبل.
هكذا فالحالات النفسية إذا توقّفت عن التغير توقّفت ديمومتها،[3] هنا يقدّم لنا برجسون مثالا يشمل هذا القول "لنأخذ أشدّ الحالات الداخليّة ثبوتا. كالإدراك البصري لشيء خارجي ساكن،... فإنّ رؤيتي إيّاه الآن مختلفة عن رؤيتي إياه آنفا،...وسبب ذلك أنّ ذاكرتي تدفع في هذا الحاضر شيئا من ذلك الماضي، وأنّ حالتي النفسية كلما تقدّمت في طريق الزمان تضخّمت بالديمومة التي تجمعها تضخّما متّصلا، كأنّها إذا صحّ القول كرة من الثلج تدور على نفسها."[4] إذن يظهر من خلال هذا المثال أنّ هناك تداخلا وتشابكا داخل الحياة، والخيط الناظم لهذا التداخل "الصراع الشاق،"[5] هو الزمان المتّسم بطبيعته الحيويّة والمبدعة، بين الماضي والحاضر والمستقبل، هكذا فالذي يقلب سواد الناس ويؤرّقهم ويعذّبهم لا يحتلّ المكانة الأولى في تأمّلات الميتافيزيقيّين: من أين جئنا؟ ومن نحن؟ وإلى أين المصير؟
إنّها أسئلة زمنيّة تفرض ذاتها على الإنسان بشكل دائم، بل إنّها أسئلة تنبع من داخل ذواتنا، وأعماق حياتنا وأغوار وجودنا بطبيعتها الحيويّة، وسيروراتها المتعاقبة طالما هناك حياة. من هنا يتّضح أنّ لبرجسون تصوّراً جديدا لمشكلة الحياة، إنّه تصوّر الديمومة أو الزمان النفسي الحقيقي، باعتباره نسيج الحياة، بمعنى آخر نجده يحاول، وذلك بعناء، أن يكشف النقاب، ويميط اللثام عن الجانب الحيوي والشعوري للحياة.
إنّ الحياة- حسب برجسون- تستلزم وجود العقل والمادة على أساس أنّ المعقوليّة والماديّة هما من طبيعة واحدة، وحاصلتان بطريقة واحدة،[6] وهو يؤكّد في موضع آخر أنّ "... بين العقل والمادة تناظرا وتطابقا وتقابلا...،"[7] فالانسجام والتطابق الحاصل بين العقل والمادة، يكافئ استحالة فصل أحدهما عن الآخر، كاستحالة عزل البياض عن الثلج أو فصل الوردة عن عطرها، أضف إلى ذلك إمكانيّة عدم استحالة وجود الحياة بغياب توافق العقل مع المادة وانسجامهما. وبهذا يكون للعقل دور نفعي في الحياة، حيث تعمل وظيفة الدماغ على انتخاب الذكرى التي تنفع في إنجاز العمل الراهن، وإبعاد كل ما لا يساهم في ذلك العمل.[8] حيث أقام في إطار العلاقة بين المادة والروح انسجاماً مع رؤيته للعقل. هكذا نلمس إذن مع تصور برجسون طابعا آخر للحياة، إنّه الطابع النفعي والعملي، بناء على ذلك يظهر رفضه التام والمطلق، أن تكون الحياة محكومة بالحتميّة والآليّة، لأنّ من شأن ذلك أن يفضي إلى النظر لحقيقة الحياة على أنّها متعيّنة بشكل مسبق، وأنّ العالم معطى قبليّا.[9]
ويرى برجسون بدلاً من ذلك أنّ "... جزءا من هذه الحوادث يمكن التنبّؤ به وجزءا آخر كبيرا لا يمكن التنبّؤ به"،[10] فثمّة أحداث تبدع في كل آن شيئا جديدا، وتأبى الدخول في القوننة والترميز، ومن تم فالعقل الإنساني قادر على التنبؤ ببعض الأشياء وتحليلها وقياسها، قد لا تشمل الإبداع الحقيقي في الحياة، لأنّه غير قابل للتحليل العقلي، بهذا فخصائص الحياة في صورتها العامة، من انفعالات وعواطف وأحاسيس وأفكار... لا تتحقّق تحقّقا تاما، بل هي دائما في سبيلها نحو التحقّق، لأنّها ليست حالات،[11] وإنّما نزاعات[12]، إذن من صفات الحياة، أن تبحث عن الفردية وأن تنزع إلى تأليف منظومات معزولة ومغلقة بالطبع، وهذا يعني أنّ تعاملنا مع الأجسام الجامدة؛ أي الموجودة في العالم الخارجي، دائماً تقطع من نسيج الطبيعة بمقص إدراك حسّي يتتبّع نقاط الخطوط التي يمر بها الفعل في طريقه.[13]إذ تصبح الحياة النفسيّة تيّارا متّصلا من الظواهر المتنوّعة، لأنّها تقدّم متتالٍ من الكيفيّات المتداخلة، بخلاف الظواهر المادية التي هي كثرة من الأحداث المتمايزة والمتعاقبة.
فلو افترضنا مثلا، أنّ وجودنا في مجموعه الكلّي مركّب من حالات منفصلة تربط فيما بينها ذات عديمة التأثّر، لفقدنا الديمومة، لأنّ الذات التي لا تتغيّر لا تدوم، وبناء على ذلك لن نحصل إلاّ على تقليد مصطنع للحياة الداخليّة. ذلك لأنّنا نهمل الزمان الواقعي الذي هو نسيج الحياة النفسيّة، إذن فديمومة الذات ليست آنا يحلّ محلّ آن آخر، وإلاّ لما كان هناك الحاضر، ولما تحقّق امتداد الماضي في الحاضر، أي لما كان التطوّر الذي هو ميزة الحياة. إذن فمجال الذات - من هذا المنظور- أكثر اتّصالاً وانسجاماً، مع ما يمكن أن نسمّيه بالزمن الشعوري الحيّ في مقابل الزمان العلمي الفزيائي.[14] وأهمّ ما يفهم من الزمن الشعوري، أنّه شعور واحد يملأ النفس التي تمضي وتنتقل من الماضي إلى الحاضر، حاملة معها هذا الماضي، وهي التي تجمعه في وحدة حيويّة متدفّقة ومندفعة بذاتها في اتّجاه المستقبل. بهذا نجد أحوال النفس متّصلة ومستمرّة ومختلطة ومتداخلة كيفيّا، هكذا إذن فحياتنا تنمو وتنضج دون انقطاع، بهذا النموّ وهذا النضج، تكسب شيئا لا يمكن أن نتنبّأ به من قبل، لأنّ التنبّؤ معناه إسقاط في المستقبل لما أدرك في الماضي، أو تصوّر تركيب جديد لعناصر قد أدركت سابقاً.
انطلاقا من هذه المقاربة البرجسونيّة للحياة، يمكن القول إنّ مواقفه الفلسفيّة جاءت مليئة بالانتقادات العنيفة والجذريّة للتصوّرات الماديّة، حيث جعلت الحياة سجينة القوانين الميكانيكيّة والفيزيائيّة الصارمة، وخلافا لما جاءت به هذه التصوّرات، يرى برجسون أنّ تفسير الحياة يجب ترجمته إلى ديمومة سيكولوجيّة، هي الإبداع الكامن وراء وعي الذات بذاتها وبمحيطها؛ أي بالعالم الخارجي.
فالعاطفة مثلا، كائن يعيش وينمو ويتغيّر دون توقّف، فأين القوانين الميكانيكيّة من هذا كلّه؟ بل يجب القول بالحتمية السيكولوجيّة بدلا من الحتميّة الفيزيائيّة، لأنّها مرتبطة بذلك الجانب الإبداعي الخلاّق الذي تعرفه الذات، إنّه الإبداع الداخلي، باعتباره نشاطا اغتنائيّا، وبالتالي يشدّنا هذا، إلى فهم استحالة تعارض بين الحرّيّة والسببيّة السيكولوجيّة، لأنّ السببيّة لا تختزل في التفسير الآلي وحده، وإنّما هي تأكيد للديناميّة المبدعة للحياة، بما يجعل من الحرّيّة نفسها سببيّة مبدعة، من ثمّ فإنّ المعلول ليس متضمّنا كلّيّا في علّته، طالما أنّه ينطوي على شيء جديد يفاجئ الحياة.
اعتماداً على ذلك، قد نصل إلى أنّ الصلة بين تجربة الإبداع وفعاليّة الجهد، تجعل من الذات والحياة والكون، امتلاءً كلّيّا خاليا من أيّة فجوة أنطولوجيّة أو فراغات روحيّة.[15] وهذا ما يعني أنّ الحرّيّة ليست حركيّة وجدانيّة وعاطفيّة وروحيّة فحسب، وإنّما كذلك تقوم على واقعة الترقّي المستمرّ لشخصيّتنا الحرّة، إذن فنزوع الإنسان إلى الإبداع، لا يتمّ إلاّ عن طريق بلوغ الحرّيّة باعتبارها جوهر وعي الإنسان.
وهذا لمّا كان من غير الممكن وغير المعقول، تكميم الحياة النفسيّة وترييضها،[16] فإنّ الحياة تسري في باطنها "الحيويّة والتغيّر واستمراريّة السيلان وانثيال المشاعر، إذ تجعل من الحياة النفسيّة سمفونيّة عظيمة، فإذا ببرجسون فيلسوفا موسيقيّا يوقّع على خطى والده بمجازاته لحن الروح في درجاته الصوتيّة المتنوّعة، وهو باستعاراته ينظم قصيدة الحياة، فتأتي بأسلوبها وإيحاءاتها وغموضها على شاكلة الشعر يتغنّى بمعجزة الفرح والخلق".[17] بهذا نفهم أنّ الاندفاع الذي نشعر به في أعماقنا على شكل تطلّع إلى الحياة، يحملنا على مقاومة الموت في كلّ لحظة وعلى بذل الجهود الضرورية، لأنّه يحاول تلقائيّا وبشتى الوسائل تذليل العقبات التي تصادفه في طريقه، وفي هذا السياق يقول دولوز[18]: "ماذا يعني برجسون عندما يتحدّث عن اندفاع حيوي؟ إنّ الأمر يتعلّق دائما بإمكانيّة فعل في طور التفعّل، ببساطة في طور التمايز، بجملة في طور الانقسام: هذا هو جوهر الحياة أن يجري العمل."[19] هكذا يتبيّن لنا، حسب دولوز، أنّ تصوّر هنري برجسون حول الحياة، مرتبط بمفهوم الاندفاع الحيوي، باعتباره أمراً له علاقة بإمكانيّة الفعل الحر، ولعلّ هذا هو جوهر الحياة وأساسها، بمعنى العمل المستمر بالزمان الحقيقي زمان الديمومة الخلاّقة، وبصورة أخرى؛ فالإبداع معطى شعوري ومباشر، يكشف عن الحدس الناتج عن جهد كبير وتفكير عسير وعصارة ما توصّل إليه الوعي.
من خلال هذه المقاربة الفلسفيّة البرجسونية لمفهوم الحياة، يتسنّى لنا في النهاية التأكيد أنّ تفسيرات حياة الإنسان كما صوّرها الماديون، لا تحظى برؤية حيويّة إبداعيّة للحياة. فالإنسان ليس آلة ميكانيكية لا حول لها ولا قوة، بل مركز قوّة منبّهة، وقوّة خالقة متطوّرة، إنّه كائن مدرك، حرّ الإرادة، قادر على اختيار سلوك معيّن، والاختيار خلق وإنشاء، إنّ حياة الإنسان بهذا المعنى ليست حياة رتيبة، كما هو الحال عند الحيوان المحدود بغرائزه. هكذا يمكن القول إنّ التصوّر الفلسفي البرغسوني للحياة تحرير للإنسان بواسطة فعل الإبداع والخلق والابتكار والانبثاق، إنّها خصائص تميّز مشاعرنا وعواطفنا وأحاسيسنا.
[1]- راجع: P.U.F Essai sur les données immédiates de la conscience
[2]- يقول برجسون في رسالة له بعث بها إلى المفكّر الدنمركي H.Hoffding سنة 1916: "في رأيي، إنّ كلّ خلاصة لوجهة نظري تغيّر معناها في مجموعها، وتعرضها لشتّى الاعتراضات، لذلك يقتضي لمن ينتقدها أن ينطلق أوّلا وأن يرجع أخيرا إلى ما أعتبره أنا، كنقطة الدائرة في فلسفتي، أي إلى حدس الديمومة الخلاقة".
Cf. Mélanges, P.U.F Paris, 1972, p 1148-1149, Lettre de Bergson à H.Hoffding.
[3]- هنري برجسون، التطوّر المبدع، ترجمة جمال صليبا، المكتبة الشرقية ص. ب 1986 بيروت، لبنان، ص 7
[4]- المرجع نفسه، ص 8
[5]- هو مفهوم قد حاولت بناءه، اعتمادا على ما أقامه برغسون نفسه لمعنى الوعي باعتباره حلقة وصل بين ما كان في الماضي وما سوف يكون في المستقبل.
[6]- المرجع السابق ص 199
[7]- برجسون، الفكر والواقع المتحرك، ترجمة سامي الدروبي، دار الأوابد دمشق [د.ت] ص 35
[8]- بمعنى تقوم بعملية تفحّص الأحداث المادية، وتحاول تقديم الأنفع منها.
[9]- بمعنى منظّم بشكل مسبق، وجاهز وما على العقل الإنساني إلاّ اكتشافه والسيطرة عليه.
[10]- برجسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة سامي الدروبي، وعبد الله عبد الدائم، دار العلم للملايين، بيروت طبعة2، 1984 ص 159
[11]- بمعنى الحالة الشعوريّة، أي الحادث النفسي الشعوري، كالإحساس والعاطفة والإرادة، وهناك الحالة النفسيّة فهي الكيفيّة التي تكون عليها النفس في وقت معين.
[12]- وهي الميولات، أي ما نريد تحقيقه، ولذلك قيل إنّ النزعة ميل الشيء إلى الحركة في اتجاه واحد، كنزوع الجسم إلى السقوط، وقيل إنّ النزعة قوّة مشتقّة من إرادة الحياة، توجّه نشاط الإنسان، إلى غايات يريد الوصول إليها. "راجع المعجم الفلسفي، جمال صليبا، مفهوم النزعة Tendance ص 463
[13]- التطوّر المبدع، ص 16
[14]- يميّز برجسون بين زمانين، الزمان الفيزيائي الطبيعي الذي نحسبه انطلاقا من دقائق وساعات وأيام، والزمان النفسي السيكولوجي الذي تعيشه الأنا وتتمتّع به.
[15]- على أساس أنّ الحياة النفسيّة امتلاء بالزمان أي الديمومة.
[16]- راجع كتاب، بحث في المعطيات المباشرة للوعي، ترجمة الحسين الزاوي، الفصل الأول، عن شدة الحالات النفسية.
[17]- للتوسّع في هذه الفكرة، راجع:
Marcel G. bergsonisme et musique, une revue musicale paris 1er mars 1925, p 219-229
[18]- Cf. Deleuze G, Le bergsonisme, P.U.F, paris, 1968, p 109
[19]- المرجع نفسه، ص 109