مفهوم السيادة عند جورج بطاي
فئة : مقالات
1- مقدمة
يدرج الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس، الفيلسوف الفرنسي جورج بطاي (1897 ــ 1962) في كتابه "الخطاب الفلسفي للحداثة discours philosophique de la modernité" ضمن ذلك الجيل من الفلاسفة المصنفين في إطار ما يسمى بـ "فلاسفة ما بعد الحداثة"، والذين جعلوا كمهمة لهم نقد الحداثة.[1] إنه كتاب يروم من خلاله هابرماس، كما يقول، في مقدمة كتابه هذا، إعادة بناء تدريجية للخطاب الفلسفي للحداثة، وذلك انطلاقا من فرضية أساسية هي "الحداثة مشروع غير مكتمل." وبحكم كونها كذلك، فإنها في حاجة لأن تجد في ذاتها ضمانات تحققها وتجاوز ما يعيق هذا التحقق[2]. وهكذا ومن منطلق هذه الفرضية، سيعمل هابرماس على دراسة مجموعة من الفلاسفة الذين سيجعلون من الحداثة كتيمة فلسفية، انطلاقا من إخضاعهم العقل الحداثي للنقد. وقد كان هاجس صاحب "الخطاب الفلسفي للحداثة"، هو الكشف عن الإحراجات التي وقع فيها أنصار هذا الخطاب، والتي بموجبها ظلوا، في نظره، متشبتين بالعقل الحداثي، رغم ادعائهم تجاوزه.
و في هذا الإطار، سيخصص هابرماس المحاضرة الثامنة من كتابه هذا للحديث عن فلسفة جورج بطاي، وذلك تحت عنوان: "بين الإيروتيكا والاقتصاد العام"، حيث سيعتبر بأن المشروع الفلسفي الباطوي، بحكم المنصب الذي كان يشغله صاحبه كمحافظ للمكتبة الوطنية في فرنسا، سيتسم بالطبع الموسوعي، لدرجة أنه سيسم الثقافة الفرنسية المعاصرة بميسمه الخاص. إنه مشروع يمتح من أكثر من مصدر، من الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس والأدب، إضافة إلى الفلسفة. هذا مع استفادته في مشروعه هذا من، تجربتين أساسيتين: الأولى جمالية بناها انطلاقا من تشبعه بالأدب السوريالي، كما عبر عن نفسه في إنتاجات الماركيز دو صاد وأرطو وأندري بروطن ..... أما التجربة الأخرى، فهي سياسية اكتسبها بطاي من خلال علاقته باليسار الراديكالي. فهذه كلها عوامل ستسعف بطاي لاحتلال موقع خاص به في الخطاب الفلسفي للحداثة. موقع سيعمل هابرماس على تحديده وإضاءته، انطلاقا من رصده لعلاقات التقاطع والاختلاف بين بطاي وغيره من الفلاسفة الذين يصنفون أنفسهم ضمن ما بعد الحداثة، وعلى رأسهم الفيلسوف هيدجر. ونظرا لكون صاحب الخطاب الفلسفي للحداثة يعتبر بأن بطاي وهيدجر ينتميان لنفس الاتجاه الفلسفي، والذي هو نقد ميتافيزيقا الحداثة، فإنه سيخصص حيزا مهما في محاضرته حول بطاي هذا، لرصد موقع هذا الأخير من فلسفة هيدجر، ليبين كيف أن الأول، أي بطاي، يولي في نقده للميتافيزيقا أهمية للسيادة، بدلا عن الوجود كما هو الأمر مع هيدجر.[3]
2- موقع المشروع الفلسفي الباطوي من فلسفة هيدجر.
في إطار تحديده لموقع فلسفة بطاي من فلسفة هيدجر، يرى هابرماس بأن هذين الأخيرين ينزعان معا إلى الانفلات والخروج من ذلك العالم المنغلق الذي نحته العقل الغربي الأنواري والحداثي، من خلال إنجازاته العلمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية، وبالتالي فإنهما معا يريدان الانتصار على تلك العقلانية الذاتية التي تثقل العالم بعنفها المشيء وعقلها الحاسب والبارد، لكنهما مع ذلك فهناك اختلافات مهمة بينهما. فجورج بطاي لا يهاجم العقل انطلاقا من أسس العقلانية المعرفية، أو انطلاقا من تلك الفرضيات المسبقة الموجهة لأنطولوجيا العلم والتقنية، كما هو الحال عند هيدجر، بل إنه ينتقد هذا العقل كما يحضر في، ما يسميه ماكس فيبر، إيتيقا النظام الاقتصادي الرأسمالي، والتي تخضع الحياة الاجتماعية في مجموعها لإكراهات الشغل المستلب، وإلى سيرورة تراكم الثروة[4]. فبطاي من خلال التزامه بنقد هذه الإيتيقا، فهو يعتبر بأن مهمته تتجلى في تفكيك حدود الذاتية الرأسمالية وإذابتها، والكشف عن أشكال الخروج عنها كردود فعل على انغلاقها، باعتبارها تقدم نفسها وكأنها جوهر منغلق على ذاته شبيه بـ "مونادا" الفيلسوف "ليبنتز". وهكذا وبموجب فكرة "اللاحدود"؛ أي لا حدود الذات، سينفتح بطاي على أفق مخالف لأفق "هيدجر". فالذاتية عند بطاي كذاتية تخرق ذاتها بذاتها، ليست ذاتية مسلوبة من موقعها ومن سلطتها لصالح مصير وجود أصيل أعلى، كما هو الأمر مع هيدجر، بل إنها ذاتية محررة من سلطة العقل وقدسيته وسيادته المطلقة، ومن مختلف أشكال الاستلاب. وبالتالي، ذاتية تجسد "السيادة الحقة"، بما هي انتهاك لسيادة العقل وقدسيته، حيث ستفسح المجال لقوى الغرائز ومختلف أشكال الانتشاء التي تم احتقارها وإخفاؤها وإقصاؤها في المجتمع الرأسمالي باسم العقل، كالضحك والبكاء والجنس والتضحية ..... وبكل ما يجعل الذات منفتحة على آخرها ومتواصلة معه[5].
وبنزوع فلسفة بطاي لمواجهة التشيؤ وما يحيل عليه من سيادة، تكبل الذات وتستلب إرادتها وتحول دونها ودون الارتماء في أحضان السيادة الحقة، فإنها فلسفة ستعطي الكلمة الأخيرة للسيادة souveraineté la وليس للوجود، كما هو الحال مع هيدجر.[6]
3- مفهوم السيادة
من منطلق انتمائه لليسار الراديكالي، واستلهامه لفلسفة البراكسيس الماركسية، إلى جانب الفن السوريالي كتجربة باطنية، فإن بطاي سيعيد بناء مفهوم السيادة كما عبر عن نفسه في المجتمع الرأسمالي، وذلك من خلال معالجة ذلك السؤال الذي ظل مطروحا منذ مجموعة فرانكفورت؛ أي أنصار النظرية النقدية أمثال هرركهايمر وآدورنو .... وهو: كيف يمكن تفسير تحول التشيؤ إلى سيادة في المجتمع الرأسمالي؟[7]، إنها معالجة تجد تحققها في كتابات جورج بطاي حول ما يسميه "الاقتصاد العام"، والتي ستعبر عن نفسها في مجموعة من المؤلفات على رأسها مؤلفين هما: "مفهوم الإنفاق" و"القسمة الممقوتة" /ففي هذين الكتابين سيميز بين السيادة المزيفة والسيادة الحقة.
يعتقد جورج بطاي بأن ما يميز كل أشكال السيادة عبر التاريخ هي قدرتها على تصنيف الناس إلى رتب تتمايز وتختلف في درجتها وقيمتها. والملاحظ هو أنه غالبا ما يتم ربط هذه السيادة بالأنظمة السياسية التقليدية والعسكرية، وكأن المجتمع البورجوازي قد اختفت منه هذه السيادة. هذا مع العلم أن الفرق بينه وبين هذه الأنظمة هو أن السيادة فيها مستمدة من تقديس الذات هذا مع تسخير عالم الاقتصاد كعالم أشياء لخدمة هذه السيادة. أما في المجتمع البورجوازي، فإن السيادة تستمد من عالم الأشياء هذا ممثلا في الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والتي لا تجزئ المجتمع فقط إلى طبقات، وإنما تحدد أيضا نظاما للامتيازات تتحدد وفقه المرتبة الاجتماعية للإنسان. حقيقة أن هذه التمايزات والتراتبات قد فقدت طابعها السياسي في هذا المجتمع، ولكنها بدلا من أن تتكون انطلاقا من المساهمة في الهيمنة السياسية، فإنها تتأسس انطلاقا من الموقع في سيرورة الإنتاج[8] ويعتبر جورج بطاي هذه السيادة مزيفة في مقابل ما يعتبره سيادة حقة، فكيف ذلك؟
أ- السيادة المزيفة
يسم جورج بطاي السيادة التي تبشر بها الحداثة في المجتمع الرأسمالي بكونها سيادة مزيفة، لأن في إطارها يفقد الإنسان شرط وجوده كإنسان؛ فهي سيادة تتداخل فيها السلطة على الأشياء مع السلطة على البشر. إنها مرتبطة بسلطة المال والحكم، التي تجسدها الطبقة الرأسمالية من خلال تحكمها أولا في أنشطة الإنتاج، وثانيا في الاستهلاك أو الإنفاق.
فعلى مستوى تحكمها في أنشطة الإنتاج، ممثلة في عالم الشغل، فإن هذه الطبقة اعتبرت، كما يقول بطاي، بأن هذا العالم يقتضي "سلوكا يكون فيه حساب الجهد ثابتا بالنسبة إلى مستوى الإنتاجية. فهناك سلوك متعقل لامجال فيه للحركات الصاخبة التي تفلت من عقالها، في الاحتفال، وفي اللعب عموما. وإذا لم نستطع كبح هذه الحركات، فلن نكون مؤهلين للشغل .... إن هذه الحركات تمكن من يستسلم لها من الحصول على لذة فورية. وعلى العكس من ذلك، فإن الشغل يعد من يسيطر على تلك الحركات، بربح لاحق لا جدال في أهميته"[9]. وهكذا، فإن "المجموعة البشرية المنصرفة في جزء منها (أي الطبقة العاملة) إلى الشغل، تجد تحديدا لها في الموانع التي لم تكن ليصبح بدونها عالم الشغل هذا الذي هو ذاتها بالأساس."[10] فمن خلال الشغل المأجور والخضوع لموانعه، بما هي عنوان لعقلنته، تحقق الطبقة العاملة ذاتها وسيادتها بشكل يجعل منها عامل انسجام في المجتمع الرأسمالي كمجتمع معقلن، وليس عامل انتهاك لهذه السيادة.
أما على مستوى تحكم الطبقة الرأسمالية في أنشطة الإنفاق والاستهلاك، فقد ربطتهما هذه الطبقة بضرورات حياة عالم الشغل هاته. وما يقتضيه من إعادة إنتاج استغلال الطبقة العاملة واستلابها على صعيد إنفاقها. وهذا ما أشار إليه بطاي من خلال ترديده للمقولة الماركسية: "إن هدف النشاط العمالي هو الإنتاج من أجل العيش، ولكن هدف نشاط الباطرونا هو الإنتاج من أجل تكريس الانحطاط الشنيع للعمال المنتجين."[11] وبهذا، فإن بطاي يرى بأن مجال الإنفاق أو الاستهلاك في العالم الرأسمالي تتخلله مفارقة تضعنا بين نوعين من الاستهلاك: استهلاك يرتبط بالإنفاق المنتج؛ أي ذلك الإنفاق الأدنى والضروري من أجل الاستمرار في الحياة والنشاط المنتج، أي المساهم في إعادة إنتاج فائض القيمة وتراكم الثروة وتثبيت الملكية الخاصة، وهذا ما يقوم عليه المجتمع الرأسمالي ويدعو إليه باسم عقلنة عالم الإنفاق. وبموجب هذا النوع من الإنفاق تكون السيادة عنوانا لتشييئ الإنسان، وذلك لأنها تختزل النشاط الإنساني في الإنتاج والادخار دون غيره من الأبعاد والأنشطة، والتي من خلالها يمكنه أن يتحرر من هذا التشيؤ. أما النوع الثاني من الاستهلاك، فهو ذلك الذي تصنفه الطبقة الرأسمالية ضمن الإنفاق الغير المنتج واللاعقلاني، ويتمثل في مختلف أشكال التبذير والبذخ، كالحروب والمآتم والطقوس الدينية وعروض الفرجة والنشاط الجنسي الغير الموجه نحو الإنجاب.[12] وهذا النوع من الإنفاق ليس ضربا من اللاعقل، وتجاوزا للذات وذهولا عنها فقط، حسب هذه الطبقة، بل هو أيضا خرق لموانع الشغل والإنفاق وبالتالي خرق للسيادة.
فالطبقة الرأسمالية بتصورها هذا للشغل والإنقاق، كتصور أرادت له أن يكون عقلانيا ومسيجا بمجموعة من الموانع التي تهدد انسجام المجتمع الرأسمالي كمجتمع للأشياء وليس للأشخاص[13]، فإنها بذلك لا ترى، حسب بطاي، أية مفارقة بين السيادة والتشيؤ؛ فالشيء (السلعة مثلا) المقوم نقدا في هذا المجتمع، قيمته تفوق قيمة الذات التي عندما تكون تابعة للأشياء تفقد حقيقة وجودها وكرامتها[14] وبموجب هذه القيمة التي تعطى لعالم الأشياء (عالم الاقتصاد)على حساب الإنسان تصبح السيادة في هذا المجتمع عنوانا لتقديس، كل خرق أو انتهاك له يسقط صاحبه في عالم اللاعقل كعالم مدنس.
وسيستند جورج بطاي في رصد ظاهرة التقديس هاته، التي أضفاها المجتمع البورجوازي على السيادة، على تلك الدراسات الإتنولوجية والأنثروبولوجية الدينية التي أنجزها كل من ليريس ومارسيل موس ودوركهايم ....فإنه سيعتبر بأن الطبقة الرأسمالية ستعتمد على استراتيجية إيتيقية قوامها تواطؤ الدين والاقتصاد في العالم الرأسمالي، حيث إنهما يجسدان ذلك التطور الذي انتهت إليه الأخلاق، والمتمثل في عقلنة الدين، كعقلنة قوامها اختزال المقدس وعدم استحضاره في تعقده وأبعاده الروحانية والاجتماعية، حيث ستتم فردنته ومركزته حول الله، مما كانت نتيجته توسيع مجال المدنس من جهة وتسويغ التشيؤ من جهة أخرى باسم تحصين المقدس. وبالاستناد إلى التصور الذي تقدمه الأنثربولوجيا الدينية، فإنها تكشف لنا كيف أن الإنسان لم يتجاوز حياة الحيوانية في البدء، انطلاقا من ولوجه لعالم الشغل فقط، وإنما أيضا من خلال تمثله لمجموعة من الممنوعات الأخلاقية، والتي شكلت حاجزا أمام الحياة الباذخة المرتبطة بالحياة الغريزية للإنسان، والتي صنفت ضمن الإنفاق غير المنتج، وبالتالي ضمن ما هو مدنس. وهذا أيضا ما أصبح يجسده عالم الشغل، فهو بدوره كما رأينا يقوم على ضوابط وموانع تحول دون تحقيق طبيعته، وما تحيل عليه من رغبات غريزية تحرر الذات من هيمنة العقل. [15] وقد كانت نتيجته هذا التواطؤ التاريخي بين الاقتصاد والدين بمثابة إعلان عن إخضاع السيادة للتقديس كقوة جذب وإخضاع من جهة، وكقوة رعب وإقصاء من جهة أخرى كما يقول دوركهايم[16].
وهكذا، فإن مفهوم السيادة في المجتمع الرأسمالي يحيلنا على تواطؤ العقل والدين من أجل تحويل الإنسان إلى أحد أشياء هذا العالم، وبالتالي من أجل تكريس انحطاط هذا الإنسان وإفقاده كرامته وسيادته الحقة. وهذا ما سيجعل هذا الأخير يجهد في كل زمان انتهاك هذه السيادة، وما تحيل عليه من تقديس، وذلك بحثا عن تلك السيادة الحقة والمقدسة على طريقتها الخاصة، والتي تتعارض مع التشيؤ.
ب- السيادة الحقة
إن السيادة الحقة كما يتصورها بطاي، إنما تجد تحققها خارج عالمي الشغل والإنفاق كعنوان للتشيؤ. ففي عالم الشغل يجب ألا يتم اختزال الإنسان إلى شيء، كما هو الحال في المجتمع الرأسمالي، كمجتمع للأشياء المقومة نقدا، وليس مجتمعا للأشخاص. ومن هنا كان المجتمع الاشتراكي في المرحلة الستالينية بالخصوص[17]، قد عمل على تحقيق هذه السادة الحقة، وذلك لأن النظام الاشتراكي استاليني قد فصل لأول مرة في التاريخ بين السلطة والسيادة وذلك بحكم غياب التراتبية الاجتماعية كغياب كانت نتيجته استئصال السيادة من عالم الشغل الاجتماعي، حيث ستصبح هذه السيادة عنوانا لتلك الإرادة الجماعية لمجتمع اشتراكي يقوم على المساواة؛ إذ بدلا عن السعي لهيمنة الإنسان على الإنسان سيتم السعي للهيمنة على الأشياء.[18]
وبالنظر لما كان يعتري النظام الاشتراكي من مفارقات، أحد مظاهرها وصول الحركة الوطنية الاشتراكية إلى الحكم بقيادة هتلر[19]، وتلك الخيبة أيضا التي طالت ذلك الأمل الذي كان معقودا على الثورة الاشتراكية، والذي رهنت الماركسية نفسها للتنظير والتبشير به، عندما انتهت إلى تكريس السيادة القائمة في المجتمع الرأسمالي[20]، فإن جورج بطاي سيرى بأن استرجاع الإنسان لسيادته المفقودة يجب أن يتم خارج قيم اقتصاد الربح؛ أي قيم الإنتاج والاستهلاك؛ وذلك بإقامة اقتصاد الخسارة l’économie de perte واستنفاذ الطاقة consumation بدل استهلاك البضاعة consommation وهذا ما يمكنه أن يتحقق في ممارسة الإنسان لما يطلق عليه بطاي "التجربة الباطنية"؛ فهذه التجربة "هي التي ستكشف عن جوهر الإنسان الذي توارى خلف ترسبات التشيؤ، وهذ التجربة هي التي ستكشف أيضا عن الوجود وممكنات الإنسان التي أحبطها اقتصاد الربح والاستهلاك. لذا، فاستعادة الإنسان لهويته تتم بالسفر إلى أقصى ممكناته"[21]. لهذا، فالسيادة الحقة لا يمكن للذات أن تحققها إلا في لحظات الانتشاء الروحاني والوجداني والعاطفي؛ أي لحظات تجاوز هذه الذات لنفسها ولعزلتها عن الطبيعة وعالم الأشياء والناس وانخراطها في علاقة حميمية معها. إنها سيادة تقتضي الفصل بين "السلطة" و"السيادة" حتى لا تتحول هذه الأخيرة إلى عنوان للتراتبية الاجتماعية، وما تحيل عليه من فوارق طبقية مهينة لكرامة الإنسان. وهذه السيادة، بما هي تتويج للتجربة الباطنية، هي ما سيشيد بها السورياليون أمثال: "ساد" و"بودلير" وأرطو artaud ... وذلك بحكم معارضتهم ومواجهتهم لأخلاقيات المجتمع الرأسمالي القائمة على قيم الاستهلاك والإنتاج والمنفعة، ولقيم القناعة la sobriete. فقد كان هؤلاء الكتاب، وكرد فعل منهم على أخلاقيات هذا المجتمع، يريدون نشر قوى السكر l'ivresse والحلم l'onirisme والغريزة والانتشاء الروحاني، وذلك من أجل إعطاء معنى لما فقد معناه في ظل هذه الأخلاقيات العقلانية الحداثية؛ أي لكيفيات إدراك وعيش العالم من طرف الذات بشكل يضمن سيادتها، والتي تم تدجينها باسم العقل. وهكذا، فإن ممارسة السيادة من طرف الشخص تغدو في هذه الحالة شبيهة بذلك الامتثال للواجب الأخلاقي الكانطي، كامتثال يحقق للفرد وجوده كشخص؛ أي كذات لها كرامتها. فالسيادة في حقيقتها تتماهى مع مقدس غير ذاك الذي يتماهى معه المجتمع الرأسمالي.
ومن هنا واستنادا إلى الدراسات التي أنجزها علم النفس الاجتماعي على يد "مارسيل موس"، وكذا تلك التي أنجزها "إيميل دوركهايم" في مجال الأنثروبولوجيا، سيعيد بطاي بناء مفهوم "المقدس" حيث سيعتبره مرادفا للتواصل. والتواصل بالنسبة إليه هو بمثابة خرق لعزلة الذات ولانغلاقها على ذاتها. وهذا ما تحققه الذات في الجنس والبكاء والضحك وتذوق الفن والتضحية .... فأن نتواصل حسب بطاي معناه أن نتيه ونتمرد على العزلة، ونذوب في الآخر، إنه انتشاء ممزوج بالألم والكآبة. فالتواصل ممقوت ضرورة، لأنه لا يتحقق إلا في خرق الحدود الفاصلة بين الأفراد، ومن هنا ارتباطه بالألم كتجربة مشروعة، من حيث إنها تشكل مناسبة للتحرر الشامل للممكن الإنساني. فالتضحية le sacrifce مثلا، كتواصل، وبالتالي كتجربة باطنية مقدسة، تتجلى فضيلتها في إيصال الكآبة إلى الآخرين؛ أي إلى كل الذين يحضرون موت المضحي، وتعمل على توحيدهم، وإخراجهم من عزلتهم القاتلة، وتحقيقهم نتيجة لذلك للسيادة الحقة، بما هي انفتاح الذات عل ممكناتها وتجاوزها لعزلتها وتمركزها حول ذاتها. وهذا ما عمل بطاي على الكشف عنه من خلال اهتمامه بظاهرة البوتلاتش potlatche كمثال لذلك الاستهلاك غير المنتج في المجتمعات القبلية[22] إضافة إلى دراساته القيمة لطقوس التضحية لدى شعب الأزطيك[23]، وكذا من خلال مواظبته، عندما كان بمدينتي "نيم" nime ومدريد، على حضور مصارعة الثيران، لأنها تجسد في نظره التضحية كمظهر للسيادة الحقة وللتقديس.
وبهذا، فإن عالم المقدس الذي في إطاره تتحقق السيادة الحقة، حسب بطاي، يغذو عنوانا للانتهاك[24] la transgression، انتهاك كل الممنوعات التي سيجت بها البورجوازية مفهومها للسيادة باسم العقل.
5- خاتمة
هكذا إذن، ينتهي بنا بطاي، حسب هابرماس، إلى أن السيادة الحقة هي بمثابة ذلك الآخر للعقل؛ أي إنها تشكل النقيض المباشر للعقل الحداثي الأداتي والمشيء، حيث تعبر عن نفسها في كل ما ينفلت من قبضة هذا العقل؛ ففي السيادة الحقة يتماهى الإنسان مع لا محدوديته الحرة. إنه ذلك السيد الذي كان يراهن عليه "نيتشه" عندما اعتبر بأن السيد هو ذلك الإنسان الحديث الذي سيكتشف كم هم تقليديون أولئك الذين استلبوا طموحاته باسم العقل أو الدين، وبالتالي باسم سيادة مزيفة تقوم على تداخل السيادي مع السلطوي، وعلى قمع قوى التنافر الكامنة فيه. بما هي عنوان لتحرره وتماهيه مع تجربته الباطنية.
لكن السؤال الذي يمكن أن نطرحه مع هابرماس، على جورج بطاي، هو: هل تركه الحل الأخير لمشاكل الحداثة في بعدها الأخلاقي والميتافيزيقي بيد "السيادة"، قد مكنه من الانفلات من قبضة العقلانية الذاتية التي تقوم عليها الحداثة؟ ألا يمكن القول كما يقول هابرماس بأن هذا النقد الباطوي، لم يعمل سوى على استبدال ميتافيزيقا أخلاقية ذاتية منغلقة ومنسجمة، بأخرى منشطرة ومتنافرة؟ ثم ألا يفيد هذا النقد الباطوي بأنه كان محكوما بهاجس تحرير هذه العقلانية الذاتية وتلطيفها، وليس بإذابتها كما يدعي، خصوصا وأن ما هو متنافر مصدره هذه الذات نفسها، مما يفيد بأن الأمر يتعلق هنا بذاتية تتجاوز ذاتها بذاتها؟
وهكذا، وانطلاقا من هذه الإحراجات التي وقع فيها النقد الباطوي للحداثة ومن خلالها للسيادة، يرى هابرماس بأنها إحراجات سيقع فيها كل نقد جذري للحداثة، كنقد يختزل هذه الأخيرة في بعدها السلبي، هذا مع العلم أن الحداثة هي مشروع غير مكتمل. وهذا ما كشفه لنا تاريخ الحداثة، عندما بين لنا بأن مشاكل الحداثة تجد حلها من داخل الحداثة وليس من خارجها.
[1] تجدر الإشارة هنا إلى أننا سنركز في هذه الدراسة على القراءة الهابرماسية لبطاي، والتي ضمنها كتابه: الخطاب الفلسفي للحداثة في المحاضرة الثامنة، والتي تحمل عنوان: بين الإيروتيكا والاقتصاد العام لدي بجورج بطاي.
[2] habermas le dscours philosophique de la modernitè traduction christian bomchindhomme et ratmer rochlitz gallimard p 9
[3] Ibid p 253
[4] Ibid p 252
[5] Ibid p 252-253
[6] Ibid p 253
[7] Ibid p 262
[8] Ibid p 267
[9] Georges batailles L’EroTisme Ed minuit 1957 p 46
[10] Ibid p 47
[11] Ibid p 262
[12] Ibid p 263
[13] Ibid p 265
[14] ibid p 265
[15] Ibid p 275 - 276
[16] Ibid p 258
[17] سيخصص جورج بطاي كتابه "سيكولوجية الجماهير وتحليل الأنا" لدراسة الفاشية في كل من إيطاليا وألمانيا
[18] Discours philosophique de la modernité p 270
[19] Ibid p 255
[20] Ibid p 257
[21] محمد مزوز "أزمة الحداثة وعودة ديونيزوس" مجلة فكر ونقد المغربية، عن الموقع الإلكتروني: حكمه: من أجل اجتهاد ثقافي وفلسفي/ 2010
[22] Ibid p 271
[23] Ibid p 266
[24] يرى هابرماس بأن اهتمام بطاي بأشكال الانتهاك التي تعرضت لها الإيتيقاا الرأسمالية، بما هي انتهاكات للسيادة وللقداسة التي تحيل عليها، جعله يؤسس علما جديدا أطلق عليه "علم التنافر Hétérologie'L" وهو علم ما هو آخر، أي ما هو مقصي ومهمش؛ فالمتنافر l'hétérogene لا يعرف إلا بالسلب أي إلا بكل ما يهدد الانسجام ويقوضه ويفككه. وبما أن النظام الرأسمالي قد عرف ردود فعل مختلفة انتهت إلى التنافر معه، ورفض للاندماج في نمط الحياة التي يقوم عليها، عبرت عن نفسها في أشكال مختلفة ممثلة في الثورة الاشتراكية والحركة الفاشية إضافة إلى الحركة السوريالية , فإن بطاي سيحاول وضع حدود فاصلة في مجال التنافر بموجبها يميز بين المتنافر ذي الطابع السامي كالحركة السوريالية والثورة الاشتراكية، والمتنافر ذي الطابع المنحط والمتمثل في الحركة الفاشية التي كان يناضل ضدها. وهكذا سينتهي به الأمر في الثلاثينيات من القرن الماضي إلى المناداة بتأسيس علم التنافر يمكن، في نظره، "من التنبؤ بمجموع ردود الفعل العاطفية والاجتماعية التي تطال البنية الفوقية ــ ربما إلى درجة تهييئ نسق من المعارف ترتبط بالحركات الاجتماعية المولدة للفتنة والاشمئزاز" discours philosophique de la modernitè p 261