مفهوم العقل عند لالاند وصداه عند الجابري
فئة : مقالات
شاعت مقولة «العقل العربي»، منذ أواخر القرن الماضي، في مقابل عقول أخرى، كالعقل الإسلامي، والعقل اليوناني، والعقل الغربي الحديث... إلخ، حتى بات متوسطو التعليم يستعملونها جزافاً، للمدح والذم، ولتبكيت الذات، بوجه خاص. وكان لانتشار مشروع محمد عابد الجابري (نقد العقل العربي) أثر في شيوع المقولة، دونما فحص أو نقد. وإذ استند الجابري إلى مفهوم العقل ومقولتي: العقل المكوِّن والعقل المكوَّن، عند أندريه لالاند، (1876-1963)، وجب أن نعرض دلالات المفهوم عند لالاند ودواعي قسمته عقلاً منشِئاً (مكوِّناً)، وعقلاً منشَأً (مكوَّناً)، لفهم استراتيجية التأويل عند الجابري.
عرف لالاند العقل بأنّه «قوة عظيمة للعمل، آثارها بادية لنا، ولكنها لا تتكشف إلا في فعلها الذي تمارسه في ما تعمل فيه، وفي نجاح محاولاتها أو فشلها. وفي وسعنا أن نجعل العقل يطبق على نفسه التحليل التراجعي، الذي يفسّر هو الطبيعة بوساطته، وأن يبحث عما هو مشترك في تطبيقاته المتباينة، كما في تعميمات المستوى المتوسط الذي بدأت تميل إليه أكثر العقول تأملاً لتفكيرها»[1]. وهذا هو العقل المنشئ أو المكوِّن، «الذي يسوي ديكارت بينه وبين البداهة السديدة، والذي يرمي إليه من يقول: إن فلاناً على حق، ... والإيمان بالعقل، بهذا المعنى، هو الاعتراف بأنّ لدى كلّ امرئ قدرة حقيقية (أو عينية) على إدراك أنّ قضايا معيّنة صائبة أو خاطئة، وتقدير فروق الاحتمالات، وتمييز الأفضل والأسوأ. ولا يتمّ هذا بصورة تأثرية فحسب، بضرب من الرأي الانطباعي... بل في صورة أفكار عامة وتوكيدات واعية، نطلقها بغير لبس، وتفرض ذاتها على الأذهان في علاقاتها العقلية ما بقيت صادقة النية، فتضعها فوق المناقشة. وهي منطوقات غير كاملة بطبيعة الحال، شأن كلّ ما هو بشري، بيد أنّها قابلة لهذا الضرب من الدقّة الذي نتطلّبه في الصيغ القضائية الجيدة، أو في القوانين المتعلقة بالظواهر الطبيعية.
والعمل بمقتضى العقل (أو العمل الرشيد) (هو) ألّا يكون حافزك الأوحد للفعل اندفاعات ومشاعر؛ بل تكون حيث تستطيع تفسير أفعالك لمن يقدرون على فهمها، مستعيناً بأفكار وقواعد يقرّون هم أيضاً حجِّيّتها. فالعقل، إذاً، عنصر جوهري من عناصر الشخصية الخُلُقية، من حيث هي غير قابلة للتفسير بالمصالح والانفعالات والأهواء الشخصية»[2].
وعرف العقل المنشأ أو المكوَّن، بقوله: «العقل المُنشأ (هو) العقل، على نحو ما يوجد في لحظة معيّنة. وعندما نتكلّم على هذا العقل المنشأ بصيغة المفرد يجب أن يُفهم من ذلك أنّ الأمر يتعلق بهذا العقل في حضارتنا وفي عصرنا. وإذا أردنا أن نكون غاية في الدقة وجب علينا أن نقول: في مهنتنا، لأنّ هذا العقل ليس هو تماماً لدى الرسامين ولدى العلماء؛ بل ولا لدى الفيزيائيين والمشتغلين بعلم الحياة. وعند الانتقال من بيئة إلى أخرى نضطر، في كثير من الأحيان، إلى تفسير أو إثبات ما هو جليّ في غير تلك الحالة بنفسه. ولكنّ هذا العقل، على ما هو عليه في كلّ لحظة، له سمتان عظيمتا الأهمية: فهو من جهة يؤكّد تماسك الجماعة (المتفاوتة الحجم) التي تنتسب إليه، ولكنّه يؤكد هذا التماسك بطريقة مختلفة تماماً عن الطريقة التي تنجم عن "تقسيم العمل الاجتماعي"؛ بل مضادة لها». إنّ طريقة التماسك التي يتّبعها العقل المنشأ ترمي إلى إيجاد "أنا آخر" في كلّ كائن من الكائنات التي توحد (هذه الطريقة)[3] بينها[4].
لم يتحدّث لالاند عن عقلٍ فرنسي أو أوربي أو شرقي أو غير ذلك؛ بل تحدث عن بداهة سديدة وملكة للحكم والتقدير متساوية لدى البشر. ولكنّه تحدث عن منتجات العقل؛ بل عن منتجات عقول الأفراد حين تصير ثقافة عامّة (وطنية أو قومية) وحضارة معيّنة، أوربية أو صينية أو عربية، من خلال التواصل والتفاعل والتبادل والتداول، وعدّ الثقافة أو الحضارة أو العقل المنشأ عاملاً من عوامل تماسك الجماعة (المتفاوتة الحجم)، يعمل على نحو مختلف عن التقسيم الاجتماعي للعمل، وعلى نحو مختلف عمّا يُسمى التبنين الطبقي والصراع الطبقي؛ لأن ميزة أيّ ثقافة هي عموميّتها، كليّتها وشمولها، وانفتاحها على سائر الثقافات، والمشاركة في الثقافة الإنسانية العامة. تصنيف الثقافة في ثقافة برجوازية وثقافة بروليتارية، على سبيل المثال، هراء محض، وتصنيف الجابري هراء مضاعف، ينمّ على عنصرية فجّة.
العقل قوّة عظيمة للعمل تتبدّى آثارها في عمل الزارع والصانع والتاجر والأديب والفنان والكاتب والباحث والفيلسوف... وفي مخرجات أعمالهم ونتائجها. ويتجلّى أيضاً في العمل الجماعي والحركات الاجتماعية، فيحدّد مصيرها. نريد أن نقول العقل قوّة محايثة للإنسان، الفرد، لا تنفصل عن سائر ملكاته واستعداداته الأخرى، ولا عن أحاسيسه ومشاعره وعواطفه وسلوكه ومعاملاته، ولا عن ذاكرته وخياله، بخلاف كلّ ما يوحي بعقل مجرد، وعقل مفارِق، أو «عقل كلي»، يشرق في العقول الفردية أو يفيض عليها.
فلا يُفهم العقلُ المُنشئ، بلغة لالاند (بحسب الترجمة، التي بين أيدينا لكتابه "العقل والمعايير")، أو العقل المكوِّن، بلغة الجابري، إلا بدلالة هذه المحايثة، لكي يُفهم العقل المُنشأ أو العقل المكوَّن على وجهه الصحيح بأنّه العام والمشترك (في تطبيقات العقل المنشئ) بين أفراد جماعة أو مجتمع، من معارف وأفكار وتصورات ومبادئ وقيم وأعراف وعادات وتقاليد وأنماط سلوك؛ أي ثقافة سائدة، لا معنى لسيادتها لولا وجود ثقافات مسُودة، كالثقافة الكوردية أو الأمازيغية... تنافسها أو تعيش على هامشها، هي ثقافة المغلوبين والمحرومين والمهمشين. فلا يجوز اعتبار أيّ ثقافة مرجعيّة وحيدة أو مرجعية عليا للأحكام والقيم، سواء كانت يونانية أم أوربية حديثة أم عربية.
فإذ ينشد العقل الحقيقةَ لذاتها، لا بُد من أن يدرك أنّ نصاب الحقيقة مقترنٌ بالعدالة في الحكم؛ أي بالموضوعية، وهذه ليست سوى العمومية والتفوق على الذات، بالاحتكام إلى معايير متّفق عليها، ونبذ التطرف، واقتران المعرفة بنشدان الحق والخير والجمال، أو اقترانها بالأخلاق. وإذ «الحرية هي السم المضاد للمساواة، أو للإفراط في المساواة»، بحسب توكفيل[5]، وعلى الرغم من كون «العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس»، بحسب ديكارت، فإنّ من الصعب التسليم بـ «وحدة العقل»، التي تضمن تماسك الجماعة والمجتمع، أو وحدة الأمة، إلا إذا كانت الوحدة المعنية هويةَ اختلاف واقعي، لا هوية تجانس وهمي، الأولى مؤسسة على عنصر العمومية الأنطولوجي في كلّ فرد إنساني، ومدى وعي العمومية، أو المعايير العقلية، لدى أفراد الجماعة المعنية والمجتمع المعني.
الاختلاف والتعارض هما ضمانتا وحدة المجتمع وتماسكه، وهما عاملا حيويّته ونموّه أو تقدّمه. التجانس هو الموت. ومعيار الانتماء إلى ثقافة هو المشاركة فيها، على أيّ وجه من وجوه المشاركة، وأي مقدار من مقاديرها. وعليه يكون الانتماء إلى الحضارة الإنسانية المعاصرة هو المشاركة فيها.
يضيف لالاند: «... يأخذ هذا العقل المنشأ وضع المطلق، لدى جميع مَن لم يكتسبوا، في مدرسة المؤرخين والفلاسفة، الروح النقدي اللازم». ويجب ألا ننسى أبداً أنّ كلّ صورة للماضي إنّما هي من صنع عقليتنا الراهنة. ولكنّها لا مناصَ منها في الواقع؛ فأيّ مشارك في العقل المنشأ يضع هذا العقل وضعاً، إلى أن يثبت العكس، باعتباره صالحاً لجميع الأزمنة والأمكنة التي يمكن أن تكون معروفة. فالمشارك في العقل المنشأ هو الذي يَعدّه صالحاً لجميع الأزمنة والأمكنة، إلى أن يثبت العكس[6].
لقد وضع الجابري «العقل المكوَّن» وضعاً، على هواه، واختزله في التراث «العربي الإسلامي»، الذي «تكون في عصر التدوين»، وتحول إلى «بنية» ثابتة، ليخلص من هذين (الوضع والاختزال) إلى ضرورة تدشين «عصر تدوين جديد»، باستعادة نقديّة ابن حزم، وعقلانيّة ابن رشد، وأصولية الشاطبي، وتاريخية ابن خلدون. فالموضوع، إذاً، هو تصور الجابري للتراث العربي الإسلامي على أنّه ماضٍ يؤطّر الحاضر، وقوقعة يجب جعلُها قميصاً، لا التراث ذاته كما هو في الواقع المعيش. مع أنّ التحولات التي تطرأ على العقل المكوَّن «تمكن من إنشاء لوحة بين عناصرها الزمان والمكان ووقائع وعلل وحقيقة وخطأ، منها (جميعاً) يسهل استخراج قائمة من قوائم المعقولات والبدهيات التي يثبِّت منها عقلنا الحالي، بارتداد مقلق، التغيُّر الذي أعاد تركيبه باسمهما على مدى التاريخ. فصيرورة العقل المكوَّن... هي تحولات يمكن تحديد اتجاهها فقط، ومن ثَمَّ فإن سيادة اتجاه بعينه أو تفوقه قد تبرّر قول من يعتقدون، وإن طبقوا اعتقادهم تطبيقاً سيئاً، بوجود سمة ثابتة ومطلقة للعقل: عندئذٍ تنتمي هذه السمة لا إلى القائمة الحالية للمقولات والمبادئ العقلية؛ بل إلى الاتجاه (التوجه) المستمرّ الذي يوعز بهذه القائمة ويقيس نجاحها»[7]. لذلك نعتقد أنّ اللازمانية واللاتاريخية هي التي حكمت عمل الجابري؛ ذلك أنّ اختلاف الأحوال تقدّماً أو تراجعاً واختلاف الأحكام يسمح باكتشاف سلّم من المعايير، تحدّد السمت، أو الاتجاه العام، ومن شأن ذلك أن يقيّد النزعات الإيديولوجية، من دون أن يقيّد حرية القراءة أو التأويل، الذي يكتسب نسبيَّةَ صدقيّته أو لاصدقيّته من قراءات أخرى للمقروء نفسه.
تجاهل الجابري الوظيفة التوحيدية للثقافة، بما هي عقل مكوَّن، وهي الفرضية الأساسية لكتاب لالاند (العقل والمعايير)؛ إذ بنى تحليله للعقل العربي على أساس قسمة هذا العقل وتشطيره، لا على أساس وحدته، بالمعنى اللالاندي. فبدلاً من أن يرد مختلف تجليات هذا العقل المكوَّن في المجالات المختلفة إلى البنية العضوية الواحدة، التي تصدر عنها هذه التجليات، بحسب جورج طرابيشي، عمد إلى تشطير العقل العربي وتصنيفه ثلاثة أصناف، أحدها بياني والآخر برهاني والثالث عرفاني[8]، أو عقل مستقيل.
إذا كان مفهوم الوحدة اللالاندي يذهب إلى ما في العقل المنشأ من عناصر عموميّة تشدّ وحدة الجماعة وتضمن تماسكها، هي المعايير العقلية، التي يعترف الجميع بحجيَّتها، فإنّ تشطير العقل يبدّد هذه العناصر المشتركة أو يخفيها أو يهملها، ويتّجه إلى المتجانس في كلّ شطر أو اتجاه. فالاتجاهات الفكرية والإيديولوجية المتعاكسة، على نحو ما تتجلى في الثقافة والسياسة، اليوم، تدلّ على بنى اجتماعية متفاصلة وتراثات متنافسة؛ بل متنازعة، تفاصُلُها وتنازعُها هما قوام لا عقلانيتها الناتجة من عدم الاحتكام إلى معايير مشتركة، على الرغم من وجود هذه المعايير بداهة، وإمكان الكشف عنها والعمل بمقتضاها.
لذلك ندّعي أنّ لمشروع الجابري سمتين أساسيتين هما الإحياء والتأصيل؛ أي السلفية والأصولية، ولو كان ابن رشد وابن خلدون من بعض السلف، فقد تجاوز الزمن عقلانيّة الأول وتاريخية الثاني. ونحن لا نقول أكثر مما قاله الجابري نفسه: «ما نشهده اليوم من تحديث للعقل العربي، وتجديد للفكر الإسلامي، يتوقف... ولربما بالدرجة الأولى، على مدى قدرتنا على استعادة نقدية ابن حزم، وعقلانية ابن رشد، وأصولية الشاطبي، وتاريخية ابن خلدون، هذه النزعات العقلية التي لا بد منها إذا أردنا أن نعيد ترتيب علاقتنا بتراثنا بصورة تمكّننا من الانتظام فيه انتظاماً يفتح المجال للإبداع، إبداع العقل العربي داخل الثقافة التي يتكوّن فيها. إنّه بدون التعامل النقدي العقلاني مع تراثنا لن نتمكن قط من تعميم الممارسة العقلانية على أوسع قطاع من فكرنا المعاصر، القطاع الذي يُنعت بالأصولي حيناً وبالسلفي حيناً آخر، كما أنّه بدون هذه الممارسة العقلانية على معطيات تراثنا لن يكون في إمكاننا قط تأصيل المعطيات الفكرية التي يقدمها أو يمكن أن يقدمها قطاع آخر من فكرنا العربي المعاصر، القطاع الذي يدعو إلى الحداثة والتجديد، (وبذلك) يمكن إعادة بنية العقل العربي من داخل الثقافة التي ينتمي إليها، ما يسمح بتوفير الشروط الضرورية لتدشين عصر تدوين جديد في هذه الثقافة»[9]. يبدو أن صفة «العربي» مرة و«الإسلامي» مرة أكلت العقل وعصفت بالمعقول.
[1]- لالاند، أندريه، العقل والمعايير، ترجمة نظمي لوقا، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1979، ص 95.
[2]- لالاند، ص 5.
[3]- الإضافة بين قوسين من عندنا.
[4]- لالاند، ص 12.
[5]- دي توكفيل، أليكسي، الديمقراطية في أمريكا، ترجمة إميل مرسي قنديل، الجزء الأول، عالم الكتب، القاهرة، (د.ت)، ص 58 وما بعدها.
[6]- هكذا نفهم العبارة، والعمدة على النص الفرنسي، لا على فهمنا.
[7]- راجع/ي: لالاند، ص 17.
[8]- راجع/ي: طرابيشي، جورج، نقد نقد العقل العربي، نظرية العقل، دار الساقي، بيروت، 1996، ص 19 – 20.
[9]- الجابري، بنية العقل العربي، ص 552