مقاربة العقل الفقهي للواقع السيّاسيّ: نموذج الغزالي
فئة : أبحاث محكمة
مقاربة العقل الفقهي للواقع السيّاسيّ: نموذج الغزالي
الملخص:
تروم هذه الدّراسة فهم الطريقة التي تناول بها العقل الفقهي موضوعات السيّاسة؛ وذلك من خلال التركيز على مسألة الإمامة وشروطها عند أبي حامد الغزالي، وسنعمل على مقاربة تلك المسألة وما يتّصل بها من قضايا (سياسية وشرعية) بالاستناد إلى منهج التحليل النقديّ. نقتحم عبرها مدارج فقه السياسة الشرعية في تاريخ الإسلام، كما سنلج بواسطتها إلى فكر الغزالي للتعرف على مختلف القضايا التي يطرق من خلالها موضوعات السيّاسة، وتتبّع مسارات تفكيره فيها؛ سعياً إلى إدراك منطق العقل الفقهي في التعاطي مع المشكلات السياسيّة التي يجد نفسه - في الكثير من الأحيان - مضطراً إلى الانخراط في حلّها لما له من سلطة رمزيّة، وبيان ما إذا كان هذا "العقل" يعتبر الإمامة موضوعاً سيّاسياًّ أم ينظر إليها كقضيّة كلاميّة دينيّة شرعيّة أم إنه يزاوج بين هذا وذاك في سبيل الحفاظ على وحدة الأمة وقوة الدّولة وتماسك المجتمع ودرء الفتنة. وسيكون سؤال: كيف تمّت مقاربة الواقع السيّاسي من طرف العقل الفقهي في تاريخ الإسلام؟ هو ما يؤطر هذا البحث. أما سؤال: هل الفقهاء تعاملوا بطوباوية أم بواقعية في نظرهم لسياسة الدّنيا، فهو الذي يوّجهه.
مقـدمة:
من يطالع التراث الإسلامي، يجد أنّ ثمّة أجناسا فكريّة عدّة تناولت المسألة السيّاسيّة (الدّولة والسّلطة والحكم، والإمامة والخلافة)؛ من بين أهمّها الفلسفة السيّاسيّة التي تتجسّد في أعمال أبي نصر الفارابي، الذي حاول تأسيس دولة طوباوية تستند إلى العقل الفلسفيّ، وهي المتمثّلة في "المدينة الفاضلة"، التي تخالف تماماً الدّولة السّلطانيّة التي كان يعيش في كنفها، ثم الأدب السيّاسيّ (=الآداب السّلطانيّة) المستلهم للنموذج الفارسيّ في حكم الدّولة. أمّا فيما يخص علاقة السّلطة السيّاسيّة بالسّلطة الدّينية فجرت مقاربتها في حقل الثقافة الإسلاميّة في إطار فقه السيّاسة الشرعيّة[1]، وهو جنس من الخطاب أو القول عمل فيه الفقهاء على ترشيد السيّاسة على أساس الشريعة الإسلاميّة درءاً للتعارض بينهما؛ وسعياً إلى تحقيق الانسجام بين منطوق النّصّ الدّينيّ والفعل السيّاسيّ. وغالباً ما ينتهون إلى إخضاع الشّرع لمقتضيات الواقع السياسيّ ومستجدّاته التي تفرض على العقل الفقهيّ الاجتهاد لإصدار أحكام توافق الظروف. وهذا ما يتناغم جوهرياًّ مع ما نجده في علم الكلام، الذي يركزّ أصحابه على الإمامة[2] باعتبارها مسألة سيّاسيّة من الفقهيّات لا بوصفها قضيّة عقديّة من العقائد والعبادات[3]* عند فرقة السنّة على الأقلّ. ومن باب الجدل الكلامي وفقه السيّاسة الشّرعيّة، سنحاول ملامسة الفكر السيّاسـيّ عند أبي حامد الغزالي، الذي استهدفتُ في البداية كتاباً له مخصوص هو "الاقتصاد في الاعتقاد"، غير أنّي سرعان ما انتبهت إلى أنّ هذه الموضوعة مطروقة عنده في كتب أخرى من بينها "التّبر المسبوك في نصيحة الملوك" و"فضائح الباطنيّة"، وهو المؤلف الذي يكنى أيضاً بـ"المستظهري"، ثم بشكل واضح وأكثر في "إحياء علوم الدّين". لهذا، سأحاول الوقوف عند هذه التأليفات لاستجلاء تصور الغزالي من الموضوعات السياسية؛ وذلك من خلال البث في إشكال الإمامة بين الشرع الديني والواقع السياسي عنده؛ لبيان الكيفية التي تعاطى بها العقل الفقهي - عموماً - مع تلك الموضوعات.
هكذا، تروم هذه الدراسة الوقوف عند المقاربة الفقهيّة لموضوعات السيّاسة، وبشكل خاص مسألة الإمامة وشروطها عند رجل فذ يجمع بين الفلسفة والفقه والتّصوّف، وسنعمل على تناول تلك المسألة وما يتصل بها من قضايا (الدّين والدّولة) بالاعتماد على منهجيّة تحليلية نقديّة. وحتى يتيسر الولوج إلى فقه السياسة الشرعية بعامة؛ وإلى فكر الغزالي بخاصة يمكننا الاسترشاد بالاستفهام التالي: ما هي القضايا التي يطرق من خلالها الغزالي موضوع السيّاسة؟ هل حديثه عن الإمامة كلام عنها بوصفها موضوع سيّاسيّ أم باعتبارها قضيّة كلاميّة دينيّة شرعيّة؟ وكيف تمّت مقاربة الإمامة عنده: هل بعقل الفقيه المتبصّر بأحوال الواقع أم برؤية الفيلسوف المعياري الحالم بإمامة يُخلف فيها الإمام الأول؟ وهل يراعي الغزالي الظروف التاريخيّة، وهو يقارب موضوعاً سيّاسياّ أم يقفز عليها؟ وكيف يحضر الشّرع (الدّيني) في الفكر السياسيّ (الدّنيويّ) للغزالي؟
[1]- أغلب ما كتب في صنف السيّاسة الشرعيّة في تاريخ الإسلام بنيّ على حديث "الأئمّة من قريش"، الذي من المرجّح أنّه اخترعه معاوية بن أبي سفيان، لكونه بدأ معه فجأة، حيث هو أوّل من وظفّه ضدّ خصومه من الشيعة الخوارج، دون أن نعثر له على أثر عند أصحاب المصادر التاريخيّة الكُبرى في تاريخ الإسلام: لا عند ابن إسحاق ولا عند ابن هشام ولا عند البلاذري ولا عند الطبري ولا عند المسعودي... ولا هو ذكره أحد الصحابة الكبار الذين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة(أبو بكر الصّديق أو عمر بن الخطاب أو أبو عبيدة الجراح..)، ولكنّنا نجده بعدها عند البخاري ومسلم والترمذي !
[2]- عند مطالعة تاريخ الفكر الإسلامي نجد أنّ ثمّة شبه إجماع عند "المسلمين" من فقهاء ومتكلّمين، عند الشيعة والسنّة، على أنّ الإمامة واجب شرعيّ؛ لأنّ حياة النّاس متوقّفة عليها، غير أنّ أساس هذا الوجوب اختلف الرّأي بشأنه بينها؛ ففرقة السّنة ترى هذا الأساس في الإجماع؛ بينما ترى الشيعة بأن سنده التفويض الإلهي لتنصيب الإمام المعصوم. أمّا المعتزلة فتذهب إلى أنّ العقل هو أساس الإجماع، غير أنّ من المعتزلة من يعتبر بأنّ أساس وجوب نصب الإمام مزدوج فهو عقلي وشرعي في ذات الآن.
[3]- على الرّغم من غيّاب التشريع الدّينيّ للمسألة السيّاسيّة نجد في تراث الإسلام من قال بذلك وهم الشيعة، الفرقة التي تقول بأنّ الإمامة تكون بالنّص، وهي استئناف للنبوّة لا في شقّها الدّنيويّ السيّاسيّ فحسب، بل أيضا في جانبها الدّينيّ. وبالتالي تحسبها من أركان الإسلام؛ إذ لا يكتمل الإيمان عند الشيعة إلاّ بالتسليم بالإمام المعصوم. على خلافها تذهب السنة إلى أنّ الامامة/الخلافة تتم بالاختيار؛ بحيث يترك لجماعة الناس أمر اختيار من يدبّر لها أمورها من خلال أهل الحلّ والعقد.
للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا