مقاربة في مسألة الهوية بالمعنى الواقعي: قوة الهوية في انفتاحها لا انغلاقها
فئة : مقالات
مقاربة في مسألة الهوية بالمعنى الواقعي: قوة الهوية في انفتاحها لا انغلاقها
تُشكّل الهوية الخاصة لأيّ مجتمع من المجتمعات ـ في الجانب الثقافي الخاص والحضاري العام - الإطار النفسي والفكري العام الذي يعبّر عن وجود الناس التاريخي والمعاصر المكونين لهذا المجتمع، وعن حالة الحراك الاجتماعي والسياسي العملي الذي يقومون به...إنها تأتي كنتيجة طبيعية للتفاعل الحاصل بين مجموعة من العوامل الفكرية والمعرفية التي تحكم سلوك أعضاء هذا المجتمع لتوجه حركتهم، وتحدد لهم مساراتهم المتنوعة في الحياة، وذلك على مستوى التأهيل الصحيح والواضح للشخصية العامة للفرد (والمجتمع ككل)، لتحكم على طبيعة العلاقة الكائنة بين الأنا وبين الآخر، بما تختزنه (هذه الهوية) في داخلها من قيم ولغة وعادات وتقاليد مشتركة، وتعبر عن ذات الجماعة التي تقوم بممارسة تلك المشتركات ضمن وطن واحد.
وبذلك تكون الهوية - بالمعنى المذكور أعلاه- مرتبطة بالوعي التاريخي للثقافة والفكر، حيث يكون هذا التاريخ مصدر علمها وثقافتها وانفتاحها وامتدادها إلى ساحات الحياة الإنسانية كلها. وطبيعي جداً ألا يكون هذا التعريف لموضوعة "الهوية" نهائياً وحاسماً، مما يفسح المجال للاختلاف والسجال والإضافة، لأنه لم يتم الاتفاق بعد - وهذا أمر صعب- على تحديد مفهوم دقيق واضح ونهائي بين الجماعة البشرية، يعرف ويوضح معنى الهوية.
وعلى ضوء ذلك، يمكن اعتبار الهوية الحضارية لأيّ مجتمع أو أمّة تعبيراً عن الناس، عن إرادتهم، ووعيهم، وطبائعهم وأمزجتهم، ومعتقداتهم ومختلف تصوراتهم عن الكون والوجود والحياة في سياق تحديدها لطبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة فيما بينهم، ومعايير السلوك ووسائل المشروعية، ونظام القيم الواجب الاتباع، أو علاقتهم ببيئتهم، أو بعالم ما فوق الطبيعة.
أمّا على صعيدنا العربي والإسلامي، فلا تزال النخب الثقافية والسياسية العربية تتحدث باستمرار عن أهمية وحيوية وعظمة الهويّة التاريخية العربية، وضرورة الالتزام بها وبمعطياتها، وتجسيدها سلوكاً واعياً من خلال ما تختزنه في داخلها من ثوابت العروبة والحضارة الإسلامية القائمة على قيم ومعاني التسامح والمحبة والسلام والعدالة، ومجمل القيم الإنسانية الأخرى التي لا تكاد تخلو منها أمّة من الأمم بطبيعة الحال... وبالتالي فهي ليست حكراً على حضارة دون أخرى، بالرغم مما عرفته البشرية من بعض الحضارات القوية الباطشة التي أقامت هويتها على معطيات ومعايير عنصرية فوقية سادت فترة من الزمن بتكاليف إنسانية باهظة، ولكنها سرعان ما انقرضت وانمحت حتى من ذاكرة الشعوب والأمم الأخرى إلا من زاوية الاعتبار والدرس التاريخي الدائم.
وقد عمل دعاة ونخب الحزبية القومية والدينية على حد سواء في مجتمعنا العربي، على تجسيد وتمثل وبناء هيكل الهوية العربية والإسلامية على ضوابط ومعايير تاريخية ولغوية وثقافية وجغرافية دينية، طالبونا بالاجتماع "الهوياتي" المغلق حولها، وسلكوا في سبيل تثبيتها في الوعي الجمعي طرق عمل غير منطقية وغير عقلانية، بل ومكلفة مادياً ومعنوياً، كما استخدموا أدوات ومناهج عمل سحرية طوطمية وهمية، حيث تكاد كتبنا المدرسية العربية لا تخلو من تجليات تلك الحالة الملتهبة غير الطبيعية لهويتنا العربية والمتركزة في هذا الكم من الادعاء المجتمعي العام بتفرد العرب والمسلمين، وتميزهم الإنساني، وعلو شأنهم وكعبهم على باقي الناس، وتمثّلهم للمجد والفخار والبطولة والرفعة العالية، وادعاء القيمومة على باقي الحضارات والأمم والشعوب.
وأجيالنا العربية والإسلامية التي لا تزال تربى على ثقافة التمجيد والتعظيم لسنن الآباء والأجداد، وتتلقى وتتلقن بلا وعي كثيراً من مظاهر وتجليات مثل هذه الأمجاد التاريخية أقوالاً وتواريخ فائتة، وتضخ في شرايينها ولا وعيها كميات هائلة من أحاديث وروايات وحكائيات ورمزيات وصور تحشيدية هائلة من هذا التاريخ العربي المكلل بالمجد والفخار والعزة والكرامة والنخوة على عكس كثير من المعاني والوقائع الحقيقية لهذا التاريخ التي نقلتها بعض العقول الواعية الموضوعية... نسأل: ماذا سيحدث لتلك الأجيال بعد أن تكبر وتفاجأ بواقعها القائم، وتنظر إلى واقعها المعاصر الذي تعيش فيه ومن خلاله في أتون المحرقة الحياتية اليومية بكل تعقيداتها ومستوياتها... فتشاهد وتعاين على الأرض العقم الحضاري المقيم، والفشل والخراب والحطام المجتمعي العام سياسةً واقتصاداً وتنمية؟.
أليس من باب الأمانة والصدق والمسؤولية ألا نكذب على هذه الأجيال، بل وضرورة وضعها أمام الحقائق الصحيحة والواضحة، وعدم تبييض صور التاريخ العربي بالكامل أمامها؟ أليس من الواجب تعليمها وتدريبها على قيم النقد والمساءلة لكثير من موضوعات وحقائق هذا التاريخ؟.
طبعاً هذا النقد لا يعني أنه ليس للعرب أو للمسلمين هوية أو معاني قيمية وسلوكية حضارية إنسانية معينة يعتزون بها، ويفخرون بمعاييرها ومبادئها بين باقي أمم وحضارات الأرض، وإنما نعني به مراجعة دفاتر التاريخ بوعي وعلم وموضوعية، ونقد هيمنة هذه الحالة المتصاعدة من المبالغة والتكلف الكبيرين في الدعوة إلى تبني والتزام، مثل هذه الهوية التاريخية العربية المعيارية الصلبة التي تحولت إلى ما يشبه المقدس الديني الثابت غير القابل للتحول والتغير والمساءلة، وعدم ممارسة أيّة عملية نقد حقيقي بشأن تكلفها وبعدها عن منطق التاريخ والسنن الطبيعية الموضوعة فيه.
ولا شك في أنّ أزمة أو مشكلة الهوية في عالمنا العربي ليست حديثة العهد، بل هي برزت للعلن منذ وقت طويل، وتسببت خلال مسيرة تحولها ـ كنتيجة طبيعية لطغيان قيم وأفكار التعصب والتزمت للرأي والمعتقد والمبدأ- في اندلاع صراعات وحروب واقتتالات أهلية عربية وإسلامية، برزت للعلن جراء انغلاق أتباع كل هوية فكرية أو سياسية أو دينية أو أقوامية أو إثنية أو طائفية، على مفاهيمهم ووعيهم "الهوياتي" العتيق... مع رفض وإنكار لهويات وانتماءات الآخرين التاريخية الحضارية.
بمعنى أنّ التعصب الأعمى للهوية والأنا "الهوياتية" التاريخية التقليدية، ورفض هويات الآخرين (وما يتفرع عن تلك الهوية من ثقافات وانتماءات وخطوط وتقاليد وعادات ونظم ومعاني فكرية وغير فكرية) كانت هي البوابة والمقدمة لاندلاع كثير من الصراعات التاريخية الدموية، ونشوء كثير من الأزمات العربية العربية اللاحقة في الداخل والخارج.
وحالياً على سبيل المثال، ما جرى ويجري في بعض بلداننا العربية أو الإسلامية التي ضربتها نسائم ما يسمى بـ"ثورات الربيع العربي"، ومنها سوريا، هو (أساساً وفي النهاية) حالة صراع هوياتي ثقافي تاريخي بين هويات متناقضة ذاتياً وموضوعياً، يظهر ميدانياً عبر صراع بين جماعات سياسية ثقافية، لها رأسمالها الرمزي، وعالمها الشعوري، وطقوسياتها السلوكية والثقافية، وتعبيراتها، ومصالحها الجمعية، وأشكال وأنماط تفكيرها وطرق تفاعلها مع الآخر... إنه صراع مصالح أيضاً بين تعدديات متكونة تاريخياً (هويات أقلوية شبه معزولة ومتخفية قوية كانت حاضرة، وأخرى أكثرية ظاهرة ضعيفة تريد وتسعى جاهدةً للحضور وإثبات الذات)، ويتم استغلال تبايناتها وخلافاتها العميقة وصراعاتها المستقطبة دينياً بصورة حادة للغاية، في لعبة المصالح الإقليمية والدولية، عبر إذكاء نيران الفتنة التاريخية والدينية في أتون محارقها الجاهزة دوماً.
وهذا كله أيضاً جعل للهوية مفاهيم وطروحات مغلقة صراعية تستدعي على الدوام حالات من الاستقطاب والاستنفار الفكري وغير الفكري بين مختلف الأفرقاء والخصوم على ساحتنا العربية التي تعج وتضج بكثير من أتباع تلك الهويات التاريخية الأقوامية والإثنية والدينية والعرقية... وكل خط من تلك الخطوط الهوياتية الفاصلة يريد أن يكوّن لنفسه هوية ذاتية شبه طاغية ومهيمنة على غيرها من الهويات الباقية.
وقد يقول البعض إنّ لمجتمعاتنا حالة خاصة، باعتبارها مجتمعات ذات هوية دينية ورسالة إنسانية، أوجدها انتماء المجتمعات إلى الدائرة الحضارية والتاريخية الإسلامية، وهي تشتمل على انتماء المسلمين إلى دائرة الإسلام، واتباعهم للقرآن، والنبي محمد... أي أنها عبارة عن هوية نهائية (تراث ثابت)... وبالتالي فهذا النوع من الهوية (التراثية) مقفل ونهائي وغير قابل للنقد والمساءلة... ولذلك، فعامل أو عنصر الزمن لا يستطيع أن يتدخل في مقومات تلك الهوية (الدينية)، ليعدل أو يغير باعتبار أنها تختزن في داخلها كل عناصر الثبات ومقومات الاستمرار.
طبعاً خصوصية الهوية للعرب والمسلمين، هي نفسها في الإطار العام ما نسمعه ونقرؤه من وجود خصوصية دينية أو فكرية لغيرهم من القوميات والحضارات والشعوب الأخرى التي يدعي كل منها أنّ له فرادة وتميزاً وخصوصية ما. وقد يبدو هذا الكلام صحيحاً من ناحية أنّ الهوية الدينية الثابتة (الكتاب-الوحي أو الإلهام-الرسول) هي هوية مقدسة غير قابلة للحوار والنقد، باعتبار أنّ معطيات العلم التجريبي غير قادرة على مساءلة تلك الثوابت تجريبياً، بل يمكن فقط مناقشتها عقلياً.
وفي مواجهة حالة الثبات والديمومة الهوياتية ـ إذا صح التعبير- تطرح متطلبات الحياة المتغيرة باستمرار أسئلة متعددة سياسياً وفكرياً ومعرفياً واجتماعياً، تتعلق بالعلاقة القائمة حالياً، أو التي يجب أن تقوم بينها وبين الهوية الثقافية والحضارية للمجتمعات التي صدمتها مختلف تطورات وتحولات وتحديات العصر بتعقيداتها وتشابكاتها المتعددة، ومنها مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
في الواقع، نحن نقبع حالياً في ظل عصر جديد ومتنوع في مفاهيمه وأساليبه ومعاملاته ومعاييره، وهو يختلف اختلافاً كبيراً ـ في الشكل والمضمون والمعنى- عن العصور السابقة، حيث نعايش فيه مشكلات وأزمات وتحديات وجودية "مصائرية" شديدة الغنى والتعقيد في كثافتها وألوانها وتنوعها، حيث إنها أحدثت فراغاً وجودياً هائلاً، وفتحت المجال الواسع لإثارة وطرح مجموعة كبيرة من الأسئلة المتعلقة بطبيعة النظم السياسية والاقتصادية، وبأنظمة المعنى ومعايير القيم والثقافات التي يمكن أن تمضي قدماً في مسيرة الإنسانية خلال القرن الحادي والعشرين. والواضح لنا جميعاً هنا أنّ مفردة "الصراع" عادت لتتحكم (وتسيطر) بقوة من جديد بمختلف الأوضاع الراهنة بمحددات وآليات عمل خارجية جديدة، أبقت على المضمون العنيف والمتوتر، وغيرت شكل التعامل فقط.
أي هناك حالة صراع وجودي قائم ومتجدد، وبالتالي لا بُدّ لنا عرباَ ومسلمين ـ على طريق وعي الهوية من الداخل كقيمة متحركة منفتحة وليس كقيمة تمامية مغلقة ثابتة- من التأسيس الجدي لفضاء معرفي وثقافي تعددي سلمي، يسمح لأصحاب كل تلك الخصوصيات والتنوعات الهوياتية الدينية وغير الدينية التي تزين تاريخنا وحضارتنا العربية بالتعبير عن قناعاتهم ومعتقداتهم وقيمهم ضمن مساحة الاعتراف بالآخرين والتسامح معهم في فضاءات التنوع المجتمعي الجميل.
بمثل هذه المعاني الوافرة للهوية المنفتحة الخالية من العقد الأيديولوجية الدينية وغير الدينية، يمكن هضم وتكييف تحولات وتطورات الحياة والعصر الهائلة، وبالتالي تتفتح الهوية أكثر فأكثر لتقبل الآخر روحياً ومادياً، فتعترف به نظيراً لها في الوجود والواقع، ويلاقيها من الموقع ذاته، لتحتك فيه وتتفاعل معه، وتأخذ منه، الأمر الذي يفسح المجال أمام مجتمعاتنا للعيش المنتج والحضور المؤثر في الحاضر والمستقبل.