مقامات العقل: بين حدوده مفكّراً وآفاقه قابلاً؛ قراءة تحاوريّة تجاوزيّة لمقترحات "محيي الدين بن عربي"
فئة : مقالات
يقول ابن عربي: "فإنّ للعقول حداً تقف عنده من حيث ما هي مفكرة لا من حيث ما هي قابلة، فنقول في الأمر الذي يستحيل عقلاً. قد لا يستحيل نسبة إلهية. كما نقول فيما يجوز عقلاً قد يستحيل نسبة إلهية". (الفتوحات: الجزء 1 ص 187)
وفي قول "ابن عربي" هذا ما يكاد يكون هدماً لركن أركان المذاهب الكلاميّة كلّها، وليس الأمر في حدّ العقل، بل في قبول ابن عربي لخرم القاعدة العقليّة الذهبيّة في أحكامها بالاستحالة والوجوب والإمكان، فإذا كانت الاستحالة العقليّة لا يلزم منها استحالة إلهية، لم يعد للمستحيل عقلاً دلالة وقيمة عياريّة إلا في حدود العقل الحاصل.
وهذا الذي يفعله ابن عربي هو نقل المسائل الاعتقاديّة المعرفيّة من طور "الأسئلة العقليّة" إلى طور "الأسئلة فوق العقلية"، وهذه النقلة تحتاج من ابن عربي تأسيساً، فحين نتجاوز العقل فإلى أي شيء نركن؟ وبأي شيء نعرف وندرك؟
وموقف ابن عربي من هذه القضية يمكن أن يكون عنواناً لفكر ابن عربي كلّه، ولعلّ عبارته المنقولة أعلاه، تومئ بمفتاح الإجابة، وذلك في قوله: "فإنّ للعقول حداً تقف عنده من حيث ما هي مفكرة لا من حيث ما هي قابلة". فابن عربي يميّز بين طورين من العقل:
1- "العقل الحاصل" من حيث ما هو مفكّر به، أي "الفكر" أو "العقل المنتَج". وهذا الفكر محدود، ومحدوديّة هذا الطور الفكريّ للعقل، يضعها العقل نفسه، فهي آتية من كون أنّ للعقل سلطات واسعة تمكنّه من القدرة على إظهار قدراته، ومنها قدرته على رسم حدود إبستمولوجيّة لنفسه، دون أن يخضع لإكراه خارجيّ، وكأنّ من ماهية العقل وحقيقته أن يقرّر هو قضيّة تناهيه وحدوده، ومن ثمّ رسم مجاله المشروع. هذا العقل الذي يتمكّن من بلوغ تناهيه يشهد على نفسه بأنّ له حدوداً.
فهذا عقل محدود بإقراره بحدوده في مراسه الفكري والإبستمولوجي، لكنه يستطيع الانتقال إلى طور آخر، إن اعترف بوجود قوّة فوق طوره، حينها يصير العقل إلى طور أعلى، طورٍ يُمكن وصفه بـ"ما فوق عقليّ" من منظور "ابن عربي".
2- "العقل القابل" من حيث قابليته، فمتى أقرّ العقل بعجزه عن الإحاطة بوجود الموجود، يصير عقلاً قابلاً مستعدّاً لتلقي الحقائق الآتية من وراء الحدود التي يحدّها ويرسمها بفكره، وما يأتي من هذا المافوق أو الماوراء يشكلّ الفيض الأنطولوجيّ العائم على اللغة وباللغة، ويُلزمها بأن لا تحمل الحقيقة إلا رمزاً يقود المتجهين نحو نسيان النسيان الذي أقامتهم اللغة فيه.
وبذلك، فإنّ العقل في طور القابلية والاستعداد يعتمد الحجة الوجوديّة الأنطولوجيّة، لا الحجة الإبستمولوجيّة البرهانية المجرّدة.
يقول ابن عربي: "أية مناسبة بين الحق الواجب الوجود بذاته، وبين الممكن -وإن كان واجباً به عند من يقول بذلك لاقتضاء الذات أو لاقتضاء العلم ومآخذها الفكرية- إنّما تقوم صحيحة من البراهين الوجودية. ولا بدّ بين الدليل والمدلول والبرهان والمبرهن عليه من وجه به يكون التعلّق له نسبة إلى الدليل، ونسبة إلى المدلول عليه بذلك الدليل. ولولا ذلك الوجه ما وصل دالّ إلى مدلول دليله أبداً. فلا يصح أن يجتمع الخلق والحق في وجه أبداً من حيث الذات. لكن من حيث إنّ هذه الذات منعوتة الألوهة، فهذا حكم آخر تستقل العقول بإدراكه، وكل ما يستقلّ العقل بإدراكه عندنا يمكن أن يتقدّم العلم به على شهوده. وذات الحق تعالى بائنة عن هذا الحكم، فإن شهودها يتقدم على العلم بها بل تُشهد ولا تُعلم كما أن الألوهة تعلم ولا تشهد. والذات تقابلها. وكم من عاقل ممن يدعي العقل الرصين من العلماء النّظار يقول إنّه حصل على معرفة الذات من حيث النظر الفكريّ، وهو غالط في ذلك".(الفتوحات: الجزء 1 ص ص 187-188)
إذن، فالبرهان العقليّ غايته "الألوهة"؛ فهي ممّا يُعلم ويستدلّ له بالعقل، لكن ذات الله لا تُعلم بل تُشهد، وهذا مقام لا تنفع فيه الأدلة العقليّة، بل تحتاج أدلة الوجود والأنطولوجيا، وبهذا يبدو كأنّ ابن عربي يحرّر العقل من الفكر، ويحرّر الفكر من العقل، لينتقل بهما إلى طور المشاهدة، حين يتجاوز بهما كهف اللغة والميتافيزيقيا. وهذه الرؤية للمنجز الأكبريّ أغرت الباحثين غرباً وعرباً بإلحاق ابن عربي في أطوار المابعد حداثة في سياقها الغربي والإنسانيّ، ابتداءً بنيتشه، وليس انتهاء بدريدا.
ومن وجهة نظري، فإنّ هذه الرؤية لا ينقصها الدليل والمقبوليّة. لكنها في الوقت نفسه لا تقدّم "الحلّ الشافيّ" للمأزق الإنسانيّ وجوديّاً ومعرفيّاً وعقليّاً ونفسيّاً، لما يفتقره المقترح الأكبريّ – نسبة إلى الشيخ الأكبر ابن عربي- من سمة التعدّي التعرّفيّ للآخر؛ فالشهود الوجوديّ الأنطولوجيّ -كما سأشير تالياً- يقوم على "الخبرة الخصوصيّة" للشاهد نفسه، فهي لا تقبل "النقل" للآخر بالأدلّة الملجئة أو المقنعة، بل بخوض كلّ إنسان هذه التجربة "الخاصة" والاطّلاع على فتوحات هذه التجربة من شهود ومشاهدات.
فإذا كان هذان الأصلان لزم السؤال: كيف يتحقّق الشهود الوجودي؟ الجواب عند "ابن عربي": بالكشف الإلهي.
يقول ابن عربي: "كنا حصرنا في كتاب المعرفة الأول ما للعقل من وجوه المعارف في العالم ولم ننبه من أين حصل لنا ذلك الحصر، فاعلم أنّ الذي ذكرناه كشفاً إلهياً لا يحيله دليل عقل، فيُتلقى تسليماً من قائله. أعني هذا كما تلقى من القائل الحكيم الاعتبارات الثلاثة –أي الواجب والممكن والمستحيل- التي للعقل الأول من غير دليل. لكن مصادرة. فهذا أولى من ذلك. فإنّ الحكيم يدّعي في ذلك النظر، فيدخل عليه بما قد ذكرناه في عيون المسائل في مسألة الدرة البيضاء الذي هو العقل الأول. وهذا الذي ذكرناه لا يلزم عليه دخل؛ فإنّا ما ادعيناه نظراً، وإنّما ادعيناه تعريفاً. فغاية المنكر أن يقول للقائل: تكذب. ليس له غير ذلك. كما يقول له المؤمن به صدقت. فهذا فرقان بيننا وبين القائلين بالاعتبارات الثلاثة وبالله التوفيق". (الفتوحات: الجزء 1 ص 208)
وهذا الذي ذكره ابن عربي يجعل "الكشف الإلهي" دليلاً وجوديّاً يُتلقّى بالتسليم من قائله، وهو غير مفتقر لمادة الجدل وهي النّظر والاستدلال، فليس للمتلقّي إلا أن يصدّق القائل ويسلّم له أو يكذّب. وهذا هو من وجهة نظر الباحث عمق المأزق الإبستمولوجي في الكشف الوجودي عند ابن عربي وأهل الكشف؛ فهو يُعيد المأزق إلى مربعه الأوّل حين يجعل التصديق سبيل المعرفة لا نتيجتها، كما أنّه يُفقد "المعرفة الكشفية" القدرة على تعدي صاحبها المكشوف له إلا بالتصديق به، وهذه بؤرة النزاع بين الدينيين متألهين ومتشرّعين من جهة، والعقلانيين العلمويين البرهانيين من جهة أخرى.
وهنا أستدعي الحوار الذي جرى بين "ابن عربي" و"ابن رشد" كما نقله "ابن عربي" في فتوحاته، فحين التقى "ابن رشد" بـ"ابن عربي" سأله: نعم؟ أي هل وافق الكشف الإلهيّ النّظرَ العقليّ؟ فقال "ابن عربي": نعم، ثمّ ما لبث أن قال: ولا. فاغتمت نفس "ابن رشد"!
هذه الغمة التي أصابت "ابن رشد" تنبئ عن ظاهرة إبستمولوجيّة قارة في الوعي العربيّ والخبرة المسلمة، وهي "ضرورة التواطؤ" في النتائج بين منهجيّات المعرفة ومرجعيّاتها المختلفة؛ فالنقل لا بدّ أن يتواطأ مع العقل، والنقل والعقل لا بدّ أن يتواطآ مع الكشف العرفانيّ. وهذا الالتزام بما لا يلزم بالضرورة من وجهة نظري جعل "ابن رشد" مسكوناً بتحقيق التواطؤ الكمّي والنوعيّ بين معرفة النّظر البرهانيّة التي يشتغل بها ومعرفة الشهود الكشفي التي يشتغل بها "ابن عربي"، وجعله مسكوناً بتراتبيّة مفترَضة تجعل "الحقيقة الكشفيّة" مقدّمة على "الحقيقة البرهانيّة" لذلك انقلب حال "ابن رشد" إلى الغمّ من قول "ابن عربيّ": "لا". هذا مع الإشارة إلى أنّنا نعتمد على صدق "ابن عربيّ" ودقّته في نقل ما جرى، فهو شاهدنا الوحيد.
هذه العلاقة الدورانيّة بين "المعرفة والتصديق" التي تجعل "ابن عربيّ" يتجاوز حدود المعرفة الحاصلة إلى آفاق المعرفة القابلة بالعبور عبر جسر "التصديق" قد تكون دائرة "مغلقة" تقوم على التتابع الآتي:
معرفة أولى بالنّظر تقود إلى تصديق أوّل، ثمّ إقرار بعجز المعرفة الأولى وعدم كفاية التصديق الأوّل ينقل صاحبه إلى آفاق المعرفة الثانية بالكشف والشهود عبر المجاهدة والرياضة الروحيّة وينتهي إلى التصديق الثاني، وهو تصديق نهائي كلّي، فتصبح الدائرة مغلقة محكمة الإغلاق.
إلا أنّ هذه الدورانيّة بين "التصديق والمعرفة" يًمكن أن تكون دورانيّة تصاعديّة مفتوحة؛ فالمعرفة الأولى تُنتج التصديق الأوّل، و"التصديق الأوّل" يُنتج "معرفة ثانية" التي بدورها تُنتج "التصديق الثاني" الذي يُنتج "معرفة ثالثة"، التي بدورها تُنتج تصديقاً ثالثاً، وهكذا حتى يبلغ العقل حدود المعرفة البشريّة الممكنة، أي العقل "الحاصل".
وهذه الدورانيّة التصاعديّة تحتاج "الإقرار" بحدود كلّ طور من المعرفة وتصديقاته الناتجة من جهة، والإقرار بقابليّة انفتاحه الدائم على أفق جديد لينطلق إلى المعرفة المابعد حاصلة، دون أن تنتهي بالضرورة كما هي عند ابن عربي في دورته التصاعديّة إلى "الشهود والكشف" الوجوديّ.
وفي محاولة لإعادة هذه الرؤية الأكبريّة إلى سياقات آفاق الزمان وحدوده، وقراءة مقترح ابن عربيّ في حدود ممكنات عصره، ثمّ نقله إلى راهن السؤال الإبستيمولوجي والأنطولوجي في العصر الحاضر ملاحظين سيرورة العقل الإنسانيّ وصيرورته، فإنّه يُمكن جعل "القابليّة" التي أحالها "ابن عربي" إلى الإقرار بحدود "العقل" من جهة، وانفتاحه على "الشهود الوجوديّ" المشروط بـ"الكشف الإلهيّ" من جهة أخرى، إلى "قابليّة" تاريخيّة تطوّريّة، تُزيح مفهوم العقل من "جمود المقاربة الجوهريّة" التي ترى "العقل" جوهراً ثابتاً قارّاً مطلقاً عن الزمان والمكان إلى مفهوم للعقل تطوّريّ، يرى "العقل" سيرورة وصيرورة، ينفتح نسقه البرهانيّ والاستدلاليّ على "المقدّمات المستجدّة" التي تنتج بالوسائل المستجدّة نتائج جديدة مستجدّة. فإذا كان "ابن عربي" يقف عند حدود "عقل زمانه الحاصل" لينفتح إلى "آفاق العقل القابل" بالكشف الإلهيّ والشهود الوجوديّ، فإنّ "العقل" الناجز بعد زمن "ابن عربي" يقف عند حدود أبعد من حدوده في آفاق زمن "ابن عربي"، وهذا الامتداد في الأفق لم يكن مُنتَج "العقل العربيّ" وسيرورته، بل "منتج العقل الغربيّ" وسيرورته، ولعلّ أهمّ أسباب هذه المفارقة من وجهة نظري هو ما فعله "ابن عربي" نفسه، أو بسبب "التلقيّ السكونيّ" لمقترحات ابن عربيّ في سياق الثقافة العربيّة؛ فـ"ابن عربي" بإحالته انفتاح طور "القابليّة" إلى "الكشف الوجوديّ" المشروط بـ"الكشف الإلهيّ"، جعل هذا الانفتاح مشروطاً بما هو "خارج العقل" نفسه، ولو أنّه وقف عند هذا الحدّ دون أن يُحيل هذا الخارج إلى "الإلهيّ" لكان بالإمكان أن يُعاد تأسيس "القابليّة" في السياق الزماني المكانيّ الطبيعيّ والمعرفيّ الذي يتحقّق بانفتاح المعرفة الإنسانيّة على الكون والطبيعة والإنسان. لكن هذه الإحالة كانت في أفق "ابن عربي" متعذّرة لأنّ حدود معرفة الإنسان بالكون والطبيعة والإنسان كانت منجزة نهائية في عصره، ولم تشهد النقلة الجذريّة الإبستيمولوجيّة والعلميّة التي شهدها "العقل الغربيّ" حين انفتح على "الكون والطبيعة والإنسان" بالعلم، فصارت آفاق قابليّة التطوّر في العقل الغربيّ مشروطة بالكشف العلميّ لا الكشف الإلهيّ، وجليّ أنّ "الكشف العلميّ" هو من وهب الإنسان للإنسان، بينما "الكشف الإلهيّ" هو من وهب "الله" للإنسان، وهذا الفرق الجذريّ يُفقد "القابليّة التطوريّة الإنسانيّة" بعض المزايا لكنه يُكسبه أخرى ليست للقابليّة الوهبيّة الإلهيّة، ولعلّ أوّل ما يفقده العقل التطوّري "إحساسُه بالمطلقيّة النهائيّة" وبلوغ مقامات "الارتواء السرمديّ" التي كان "الكشف الإلهيّ" يُقدّمها لأصحابه أو "مدّعيه". لكنّ هذه المزية سرعان ما تتحوّل إلى "نقص" إذا نظرنا إلى لازمها وهو "عدم قابليّة البرهنة والاختبار"، وبالانقلاب على هذه المزية للعقل الكشفي الإلهيّ التي يوازيها انقلاب على "نقيصة" عقل الكشف العلميّ الإنسانيّ، تصبح "قابليّة الاختبار والبرهان" بما تفتح من آفاق "التسديد" و"التجديد" و"التأييد" و"التفنيد" و"التأكيد" في سيرورة "العقل الإنسانيّ" مزيّة تُكسب "العقل الإنسانيّ" حركيّة وحيويّة مقابل "السكونيّة والجموديّة" التي تصيب العقل الغارق بوهم "جوهريّته".
كان "ابن عربي" منسجماً مع آفاق عصره، مدركاً لحدوده قابلاً لتجاوزها بما تحصّل من عقل وفكر وعبقريّة، فاختار "التصعيد الرأسيّ" إلى "السماء" ليقفز فوق جدران العقل وأسواره، لكنه باتّساق مع "الرؤية الصوفيّة" اختار الخلاص الفرديّ الذاتيّ بالإقامة في "السماء" دون الرجوع إلى الأرض، لكن دون أن نتجاوز عن شبه عودة أرضيّة في رحلة "ابن عربي" تتمثّل بـ"تعويمه التجربة الدينيّة الإنسانيّة" فتصبح "الحقيقة الدينيّة" مشتركاً مشاعاً بين جميع الأديان، فيصبح قلب ابن عربي قابلاً لكلّ صورة، عابراً حدود العقول الحواصل إلى آفاق العقول القوابل المقيمات في مقام "الحبّ الشهوديّ"، المحطّم لمظاهر الاختلاف الهائم متّجِهاً مع بواطن الائتلاف، ناجياً بنفسه وكلّ "عابد" - والكلُ عابدٌ - من مهلكة التمايز الديني إلى مفازة التماهي الإيمانيّ حين يتجلّى الواحد في الكلّ والكلُّ في الواحد.
لقدْ صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ فمَرْعًى لغِزْلاَنٍ وديرٌ لرُهْبانِ
وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائــفٍ، وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ رَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيمــاني
لكنه قبول لا يتحقّق إلا بالرحلة إلى السماء وشهود الكشف الإلهي وانكشاف الذات الإلهيّة، وتعويم "مقصور" على "الحقيقة الدينيّة" مفترضاً أنّ "السماء وما وراءها" ركن أصيل من سيرورة الوجود الإنسانيّ، فلا إنسان خارج الأديان، وهذه العودة الأرضيّة الملتبسة بالسماوي تنفتح على جدالات من جهة وآفاق من جهة أخرى؛ ففي الجدالات تواجَه هذه العودة برحلة "أرضيّة- أرضيّة" يقوم بها الإنسان عبر الكون والإنسان دون الحاجة إلى ركن السماء وما وراءها ركناً من أركان التجربة الإنسانيّة. وفي الآفاق، فإنّه ينفتح على ممكنات التجربة الدينيّة التي لا تجعل السماء وما وراءها أيّ الإلهي مصدر "استغناء عن التجربة الإنسانيّة" بل مصدر "إغناء للتجربة الإنسانيّة".
كانت محصلة الرحلة الأكبريّة انفتاحاً على قابليّة عقليّة مروحنة، تعوّم الدينيّ في فضاء الإنسانيّ، وتسيّل العقل والمعرفة في بحار الكشف الماورائيّ، محصلة "روحيّة" تتجاوز قصور العقل وحدوده لكن لا تغنيه بقوّة تحصيل تدفعه لدفع حدوده إلى الأمام.
وعليه، فإنّ هناك قراءات للتجربة الدينيّة تراها "استغناءً عن التجربة الإنسانيّة"، وقراءات أخرى تراها "إعاقة للتجربة الإنسانيّة"، وبينهما قراءات تراها "إغناءً للتجربة الإنسانيّة"، فيصبح السؤال سؤال "اختيار" لأحسن القراءات و"أحسن التأويلات" في مستوييها: التجربة الدّينيّة والتجربة الإنسانيّة، وفق أحسن ما يُمكننا من معايير اختيار وأدوات اختبار، لنكمل أركان "مقام الإحسان المعرفيّ والعقليّ والعمليّ" فنكون من {الذين يستمعون القول فيتّبعون "أحسنه"}[الزمر: 18].