مكانة الإلهة في أساطير وادي الرافدين
فئة : مقالات
مكانة الإلهة في أساطير وادي الرافدين
1- الأسطورة بحث في المصطلح
من الضروري الوقوف عند أبعاد مصطلح الأسطورة والأسطوري؛ لأنّ هناك لغطاً ما بين مفهوم الأسطورة ومفهوم الخرافة، والفرق بينهما كبير جداً، وقد يكون السياق القصصي والشكل الأدبي والمعلومات التي لا تنتمي للعالم الموضوعي قد جمعت ما بين المصطلحين إلا أن الأسطورة تختلف تماماً عن الخرافة من حيث المضمون والرمز والأهمية في علم الأنثروبولوجيا.
«فالخرافة حكاية بطولية ملآى بالمبالغات والخوارق، وأبطالها الرئيسيون من البشر أو الجن ولا دور للآلهة فيها، بينما الأسطورة حكاية مقدسة بمثابة سجل أفعال الآلهة. إنها مغامرة العقل الأولى مع الكون والقفزة الأولى نحو المعرفة، وأداة الإنسان الأولى في التفسير والتعليل واكتساب المعرفة، أدبه وشعره وفنه وشرعته وعرفه وقانونه وانعكاس خارجي لحقائقه النفسية الداخلية؛ فالأسطورة نظام فكري متكامل استوعب قلق الإنسان الوجودي وتوقه الأبدي لكشف الغوامض التي يطرحها محيطه، هي باختصار مجمع الحياة الفكرية والروحية للإنسان القديم» (السواح 1982: 15).
ووفقاً للسواح، كذلك، فإن الأسطورة تتمتع بالعناصر التالية:
1- من حيث الشكل، تحكم الأسطورة مبادئ السرد القصصي، وغالباً ما تكون في قالب شعري.
2- يحافظ النص الأسطوري على ثباته عبر فترة طويلة من الزمن.
3- لا تعرف الأسطورة مؤلفاً واحداً معيّناً؛ لأنها ظاهرة جماعية يخلقها الخيال المشترك.
4- تلعب الآلهة وأنصاف الآلهة الأدوار الرئيسة في الأسطورة، فإذا ظهر الإنسان على مسرح الأحداث كان ظهوره مكمّلاً لا رئيساً.
5- تتميز الموضوعات التي تدور حولها الأسطورة بالجدية والشمولية.
6- تجري الأسطورة في زمن مقدس، غير الزمن الحالي.
7- تتمتع الأسطورة بالسلطة المطلقة على عقول الناس ونفوسهم.
8- ترتبط الأسطورة بنظام ديني، كما تنهار بزواله (انظر السواح 2012: 12-14).
لقد شكلت الأساطير السومرية أولى الأساطير أهميةً، فمن جهة حُفِظت عن طريق الكتابة التي شكلت الألواح الطينية فيها العامل الأساسي بحفظها من التلف، ولولاها لكنا فقدنا أهم مخزون ثقافي يعكس حقيقة الأفكار والوعي والدين في تلك الحقبة الموغلة في التاريخ، ومن جهة ثانية فإن نظام الأرشيف الذي ابتدعه السومريون لعب دوراً مهمّاً في حفظ تلك الألواح. فقد كان لدى السومريين مكتبات تُحفظ فيها الرقم الفخارية تدعى بيوت الألواح، وكان لهم نظام للأرشيف يساعد خازن بيت الألواح على جرد محتوياته وخدمة المستفيدين منه (السواح 2012: 9). ولكن لم يفصل السومريون بين الألواح الخاصة بالأساطير عن تلك التي تخص النصوص الأدبية، لذا اجتهد علماء الأنثروبولوجيا في حصر وتوصيف الأساطير لتمييزها عن باقي النصوص نظراً لأهميتها.
إن تقاليد بلاد ما بين النهرين تحتوي على قصص عن الآلهة وتفاعلاتها مع بعضها الآخر ومع البشر. وفي حين أننا قد نشير إلى هذه الحكايات عرضاً على أنها أساطير، فإنها بالنسبة إلى شعوب بلاد الرافدين القديمة حقيقية كما التاريخ نفسه، فقط سقطت في الضبابية بسبب المرحلة التي حدثت فيها. لكن بالنسبة إلى الآلهة والإلهات أنفسهم، كانت وقائع ملموسة، حقيقية بقدر ماهي حقيقة تلك القوى غير المرئية التي جعلت النباتات والحيوانات تتكاثر، والبشر يتوقون للحب، والحياة تأتي إلى نهاية. وبمعجزة الكتابة، وبنفس الأهمية بمعجزة الأدب، قُدِّر لهذه الحكايات البقاء على قيد الحياة. وعلى الرغم من أن العديد منها قد فقدت إلى الأبد، يبقى الكثير ينتظر أن يتم استرداده من تحت الغبار (bertman 2003: 126).
ومع ذلك، فقد تم تخزين سجلات القصر والمعبد في المحفوظات. وبفضل قاعدة البيانات هذه، يمكننا التعرف على الحياة اليومية للعالم القديم، لتضاف إلى المعلومات التي ربحناها في أماكن أخرى من النقوش العامة المحفورة على الحجر (bertman 2003: 149).
وتذهب «ستيفان دالي» إلى القول: «من التهور أن نحاول التوصل إلى تعميمات شاملة حول تعريف الأسطورة، أو الملحمة، أو الميثة (myth)، أو أفضلية الميثة بالنسبة إلى الطقوس، وعليه يبقى أفضل وصف أو تصنيف للعمل هو العمل ذاته. وتستند ستيفاني في ذلك على ما بينته من أن أدب بلاد الرافدين تميز بسهولة التكيف ووضوح النَّحل الأدبي، لذلك ففي نظرها تبقى جميع المحاولات الحديثة لتحديد مختلف أنواع الكتابة ذات صدقية محدودة» (دالي 2011: 24).
وتبقى نصيحة دالي ماثلة، وذات وجاهة في دراسة النص نفسه بدلالاته وأسئلته التي تبقى أدلة وضعية وليست علمية مثبتة، إلا في حقيقة وجودها. ومن خلال هذه النصوص سيتم بلورة تصور لطبيعة المفاهيم والأفكار التي دوّنتها النصوص في تعبير عن المعتقد الأساسي للعالم المقدس.
2- الأسطورة ودورها في تاريخ وادي الرافدين
لعبت الأسطورة دوراً بارزاً في نقل التراث الثقافي في حضارة وادي الرافدين، حيث شهدت أول ثورة في تاريخ الإنسانية، وهي الثورة الزراعية وما تلاها من اكتشاف المعادن وما رافقها من فن الكتابة التصويرية لتكون حاضنة أول كتابة عرفها الإنسان بلغة مسمارية، حفظت لنا هذا التراث الثقافي وفتحت الباب على تاريخ غامض أو ملتبس توقف عند أسفار العهد القديم في روايته لأحداث الخليقة والآلهة وخلق الإنسان.
وما حفظته أرض حضارة وادي الرافدين من دلائل أركيولوجية شكلت كنزًا مهمّاً، ولكنه بقي في الظل إلى حين فك رموز الكتابة المسمارية في أربعينيات القرن التاسع عشر، ما أدى إلى نقلة هائلة، ومكن حل رموز جلجامش في الثالث من كانون الأول من عام (1872م)، على «يد عالم الآشوريات واسمه جورج سميث» (بوتيرو 1990: 36)، إلى إحداث ثورة مهمة دفعت الأنثروبولوجيين إلى إعادة النظر في الألواح الطينية التي سطرت عليها قصص الآلهة وبدء التكوين وخلق الانسان بتلك الأحرف المسمارية، حيث أمكن قراءة الكتاب المقدس بطريقة مختلفة بعد أن صُنِّف من ألفي عام أقدم كتاب فوق طبيعي.
وتسأل «هيلين مونساكريه»، وهي تحاور عالم الآشوريات «جان بوتيرو» الذي قضى خمسين عاماً من عمره يعمل على فك ألغاز أساطير الرافدين، «متى علينا القول إن علم الآشوريات قد بدأ؟ فيجيبها: في الحقيقة لا توجد ولادة حقيقية في التاريخ، أو ظهور مفاجىء، هناك شيء سابق على الدوام، ولد الاهتمام بهذه الحضارة من اعتياد طويل وبطيء على التفكير بها، وممكن أن نحدد ولادة العلم الذي نذر نفسه له في الوقت الذي بدأنا فيه نقول لأنفسنا لقد عثرنا على مفتاح مخزن الغلال القديم المنسي هذا!» (بوتيرو 2005: 94).
ومن خلال الأساطير استطاع الأنثروبولوجيون فهم طبيعة تفكير الإنسان في حضارة الرافدين، وكيفية فهمه الظواهر الطبيعية من حوله ومراحل تطور تفكيره، وما عكسته من العلاقات الاجتماعية والسياسية التي رمت بظلالها على أدوار ومقدرات الآلهة وتحولاتها، حيث بدأت بالإلهة الأم الكبرى وما يحيطها من مجمع للآلهة، لتنتهي بالإله الذكر المتفرد مع خمسين اسماً يُشكل كل منها ميزة وسمة ومقدرة، فكلما تعاظم دور الذكر في الحضارة منذ قيادته ثورة المعادن والتصنيع وسحبه الملكية من المرأة بتحويله مسار التوريث إلى أبنائه من صلبه عن طريق أحادية الزواج وقيادته الحروب والفتوحات وظهور العنف الجماعي، كلما أسس ذلك لتعاظم قوة الإله واندحار الإلهة الأنثى التي كانت أساس الكون، واندحرت لاحقاً حفيدتها التي مثلت إلهة الحب والجمال لتصبح أيضاً إلهة الحرب والقتال، ومن ثم لتصبح رمز الخداع والمراوغة، وتنسحب معها المؤسسة الدينية لصالح الرجل، وتنحدر مكانتها في المعبد من الكاهنة العظمى التي تبارك وترسم مستقبل الملك والبلاد، وتحدد مصير الخصب والنماء لمملكته، لتصبح بغياً ومومساً، ولتوصم بارتكاب الفحش وتصبح رمزاً وسبباً للخطيئة الأولى.
«لقد كانت الأساطير في بدايتها قبل 3000 ق.م شفاهية وغير مدونة، ثم بدأ السومريون تدوينها، ويرى كريمر أن أقدم الأساطير السومرية وصلنا مكتوباً باللغة السومرية على أسطوانة من الطين مقسمة إلى عشرين حقلاً وتعود إلى 2400 ق.م، وهي أسطورة تتعلق بالإله إنليل والإلهة ننخرساج» (الماجدي 1998: 62).
إن ما قدمه السومريون عبر اختراع الكتابة المسمارية كان من العوامل البالغة الأثر في جعل الثقافة السومرية تترك بصمتها على ثقافة الشرق الأدنى برمته، ولكن ليس بالكتابة وحدها، فقد كان السومريون سباقين في تطوير دين بدائي متكامل، انتقل بتأثيره إلى كل الثقافات التي تلت.
«لقد طور السومريون مبادئ دينية وروحية، وكانوا أول من وضع الملاحم الشعرية وأولى التراتيل الدينية والقصائد الدنيوية، وأولى التشريعات والقوانين والتنظيمات المدنية والسياسية وباختصار، يقول فراس السواح، فالتاريخ يبدأ من سومر» (السواح 1982: 25). أما خزعل الماجدي، فيرى «أن التاريخ البشري على مستوى الإنجاز الحضاري المادي والثقافي قد أمدّنا بثلاث معجزات نوعية كبرى، كانت كل معجزة منها الأساس لحقبة بشرية طويلة ظهرت فيها حضارات عديدة، وأولى هذه المعجزات كانت المعجزة السومرية، والتي دعاها معجزة التأسيس أو معجزة الأصول، فقد وضعت الأسس الأولى الراسخة والنوعية والمتينة المادية والثقافية والروحية التي سارت عليها البشرية، مثل الكتابة والتشريع والدين والعلوم والآداب والحرف والفنون والقيم الأخلاقية والطب والعمارة والري والفكر وغيرها، وقد أطلق السومريون على نواميس الحضارة هذه مصطلح الــــ (مي) التي أحصى منها الباحثون أكثر من مائة ناموس حضاري» (الماجدي 1998: 11).
سيتناول الفصل المقبل بالدرس تحليل الأساطير بمتابعة صورة الآلهة في مخيال إنسان هذه الحضارة ورؤيته أو تصوره عن الكيفية التي خلق فيها الكون، ومن وراء هذه القوى التي تحيط به، والتي أعجزه بعضها وعلى رأسها ظاهرة الموت، فراح يبحث للكشف عن حقيقة العالم الذي يحيط به وحقيقة الحياة وبداية الخلق، ووضع تفسيرات لها استناداً للمرحلة التاريخية التي وصل إليها ومجمل تطوراته التي أثرت في صياغة المعتقدات.
وحاول، كذلك، تقليد الطبيعة كنوع من ممارسة سحر معين يفرض من خلاله على الطبيعة الاستجابة دون الاستعانة بأي قوى خارقة، إلى أن فشل عند مرحلة معينة من السيطرة على أهوال كبيرة أنهكته وجعلته عاجزاً أمام جبروتها، فبدأ الشعور يتسرب لنفسه عن وجود قوى خارجية تقف وراء هذا العالم متحكمة فيه وفي مصائره، وأخذ يحاول التقرب من هذه القوى وبنفس الوقت استمالتها ونيل رضاها، فلا تغضب وتُغضب معها الطبيعة وتحل به الكوارث.
«في هذه الأثناء ظهر الدين بشقيه: الشق الأول اعتقادي يستخدم الأسطورة أداة للمعرفة والكشف والفهم، والثاني طقسي يستهدف استرضاء الآلهة والتعبد لها؛ فالأسطورة والحالة هذه، هي التفكير في القوى البدئية الفاعلة، الغائبة وراء هذا المظهر المتبدي للعالم وكيفية عملها وترابطها مع عالمنا وحياتنا. إنها أسلوب في المعرفة والكشف والتوصل للحقائق، ووضع نظام مفهوم ومعقول لوجود يقنع به الإنسان ويجد مكانه الحقيقي ضمنه، ودوره الفعال فيه. إنها الإطار الأسبق والأداة الأقدم للتفكير الإنساني المبدع الخلاق، الذي قادنا على طول الجادة الشاقة، التي انتهت بالعلوم الحديثة، والمنجزات التي تفخر بها حضارتنا القائمة» (السواح 1982: 9).
3- أساطير الخليقة في وادي الرافدين ومكانة الإلهة الأنثى
إن تتبع ورصد الأساطير في حضارة وادي الرافدين وانعكاسها على مسار الحضارات المختلفة التي تتابعت، سيظهر الانزياح الحاصل في مكانة الإلهة الأنثى على مستوى أساطير الخليقة التي تحدثت عن البدء وعن نشوء الكون وعن الآلهة وخلق الإنسان.
فالانزياح سيتبلور من خلال دراسة مقارنة ما بين الأساطير من سومر وآكد وبابل وآشور. إن دراسة هذه الأساطير سيشكل المنطلق الحقيقي لفهم حقيقة وجود الإلهة الأنثى في تاريخ الآلهة وعن تصورات الإنسان السومري عن الآلهة التي خلقت الكون، وكيفية خلقه، وكيفية خلق الإنسان، ومركزية دور الإلهة الأنثى.
ويقسم الماجدي أساطير الخليقة إلى ثلاثة أقسام، وهي أساطير خلق الآلهة، وأساطير خلق الكون، وأساطير خلق الإنسان.
أ- أساطير خلق الآلهة (ثيوغونيا)
وهي التي تعكس توالد الآلهة كما توالد الإنسان من جماع ما بين الآلهة المؤنثة مع الآلهة المذكرة وتخرج منهم شجرة الآلهة المتعددة، كما حصل في (الثيوغونيا الإنليلية)، وهي أسطورة إنليل وننليل التي أخرجت نانا إله القمر، و(الثيوغونيا الإنكية) وهي أسطورة إنكي وننخرساج وولادة ننسار سيدة الخضار والنباتات (انظرالماجدي 2013: 141).
ويتحدث الشواف عن الثيوغونيا الإنليلية فيروي توالد الآلهة مشيراً إلى أن «عملية ولادة الآلهة في معظم الأحيان تتم بنتيجة اتصال جنسي، كما يحدث ذلك بين رجل وامرأة. وهذا ما حصل في علاقة إنليل (enlil سيد الهواء، وهو رئيس مجمع الآلهة السومري). وننليل (ninlil سيدة الهواء وهي قرينة إنليل)، حيث إنليل بنتيجة اتصال أول يسكب في أحشائها 'بذرة ابنه سين ــــ أشيمبابار' (sin-ashimbabar الإله القمر الأكدي وأضيف إليه لقب بابار السومري، وهو لقب نانا السومري ومعناه، ذو الشروق المنير)، ومن ثم 'بذرة نرجال مِسلامتا- إيا' (nergal-meslamtaéa إله العالم السفلي)، وكذلك 'بذرة نين ــــ آزو' (nin-azou أحد آلهة العالم السفلي)، وأخيراً بذرة إنبيلولو (enbilolou المكلف بالسهر على الأقنية) 'المسؤول عن الأقنية'، وجميع هؤلاء الآلهة هم أبناء الإله إنليل» (الشواف، ج2 1997: 23).
ثم يشير الشواف إلى الثيوغونيا الإنكية التي فصّلت في توالد الآلهة من سلالة إنكي وبعملية جنسية كان هو بطلها «وأما الإله إنكي (enki) إله الخلق ومهارة الصنع السومري، وهو إيا الأكدي)، فلا يختلف عن إنليل من هذه الناحية؛ إذ يقول عنه النص المتعلق بإحياء بلاد دلمون:
'من أجل دامجال ــــ نونا[1] خصص أنكي منيّه،
وسكبه في حضن نين ــــ خورساج'[2]
.... بعد ذلك...
[نينتو][3] 'أم البلاد، كالزيت الناعم،
كالزيت الناعم، كالدهان الثمين،
ولدت نينسار[4] 'سيدة الخضار والنباتات التي تؤكل'
..........
احتوى نينسار بين ذراعيه وجامعها
سكب منيّه في حضنها،
وتلقّت في حضنها المنيّ، منيّ أنكي![5]
..........
ولدت نينكورا[6] 'سيدة النبات ذات الألياف» (الشواف، ج2 1997: 24).
و يظهر جلياً توالد الآلهة من إخصاب إنكي المتكرر.
عندما تساءل إنسان ما بين النهرين، ولم يكن الوحيد في هذا المضمار، عن أصول كل ما يحيط به وعن بدء ما يحيط به، قدم أجوبة كانت في أساس حوافزه لبناء حضارته. ووصل بعد ذلك، وبشكل طبيعي إلى طرح سؤال عن وجوده، وها هو يحاول قراءة فصل آخر من كتاب الكون: من بطل التكوين؟ ومن بطل الخلق؟ من كوّن ومن خلق؟.
«تعددت محاولات الإجابة عن هذا السؤال، فقد تم تصور إلهة-أم، ولدت جميع الآلهة، آلهة السماء وآلهة العالم السفلي، إنها الإلهة الأم مامي (mammi الإلهة-الأم البدئية) في قصيدة الصراع بين نينورتا (ninurta ابن إنليل، إله الحرب) والطائر أنزو (anzou الطائر الأسطوري الذي انتصر عليه نينورتا)، التي لقبت بسيدة جميع الآلهة، وهي التي أعلنت في النص الأكدي:
'أنا هي التي ولدت جميع الإيجيجي[7]
أنا التي خلقتهم بكاملهم،
هم ومجموعة الأنوناكي[8]، الآلهة ــــ العظام،
وأنا التي منحت السيادة لإنليل[9] أخي،
وعيّنت لآن[10] سلطته العليا في السماء» (الشواف، ج2 1997: 21).
وفي النص السومري عن الأحداث نفسها، نرى أن أم الإلهة هي ماخ:
أي مامّي الفائقة السمو[11]، ونينورتا هو نينجيرسو[12]:
«أمام الإلهين آنو[13] وداجان[14]
أثار آلهة الأرض مجتمعين
قضية سلطاتهم الإلهية
إذن فلتعلم بأنني، أنا مامي
ولدت الإيجيجو كلهم[15]:
[لذلك سوف أقاتل (؟)[16]
ضد عدو الآلهة!
أنا هي التي مَنَحت السيادة
لإنليل أخي وكذلك لآنو
[فمن الآن فصاعداً (؟) هذه السيادة
التي عينتها لهما شخصياً
سوف أنقلها (؟) إليك [...][17]
ولكن عليك أولاً، تحويل [هذه الكارثة] إلى نصر.
أعِدِ البهجة إلى قلوب الآلهة الذين خَلقْتُهم
أدخلْ معه في معركةٍ نهائية...» (الشواف، ج2 1997: 22).
«بعد أن أنجزت ولادة أو ولادات الآلهة، يمكننا القول، إن هؤلاء، قاموا في مرحلة ثانية، بإنجاز أعمال تكوينية، ذكّرت بها مقاطع مختلفة من النصوص التي وصلتنا، وتعددت بذلك قصص التكوين الجزئية، كما تعددت الآلهة التي نُسبت إليها هذه الأعمال، متراوحة بين الآلهة دون تحديد: إنكي/ إيا (enki/ea) وإنليل (enlil)، والثالوث: آنو ((anu، إنليل، إنكي. دون أن ننسى الإلهات: مامي/ ماخ (mammi/makh) آرورو (aruru) وبيليت-إيلي (belet-ili سيدة الآلهة)، وأخيراً الإله مردوخ (marduk إله أسطورة الخليقة البابلية الذي استأثر وحده بعملية التكوين الكاملة)» (الشواف، ج2 1997: 34).
وفي حين أننا نرصد مجمع للآلهة وتعدد في الثيوغونيا السومرية، نرى أن البابلية تتحدث عن تنازل للآلهة عن السلطة للإله مردوخ المتفرد الذي احتفظ لنفسه بأسمائهم، مما يعكس ما حصل في الأسطورة البابلية من سلب لصفات الآلهة وتهميشها وجعلها في مردوخ.
ب- أساطير خلق الكون (كوزموغونيا)
يشير الماجدي إلى أن الأساطير السومرية حين تحدثت عن بدء الخليقة اعتقدت بوجود الإلهة الأم الأولى، وهي «إلهة هيولية نمّو تحركت فيها إرادة الخلق وتصارعت الحركة مع السكون ونتج عن ذلك الكون (آن-كي) الذي يعني (السماء-الأرض) والزمن الأول الذي بدأ فيه الخلق هو (uria أوريا)، وبهذا الثالوث اكتمل خلق الكون عند السومريين. يتولد بعد ذلك إنليل سيد الهواء الذي ينمو ويكبر بين آن وكي ليفصل بينهما، فيرتفع الإله آن إله السماء عالياً وتنخفض كي إلهة الأرض إلى الأسفل، ويقوم آن بإخصاب كي عن طريق المطر فيلد إنكي إله الماء الذي سيصبح فيما بعد إله الأرض» (الماجدي 2013: 141).
وبولادة هؤلاء الآلهة الأربعة يكون الكون بمعناه البدئي قد اكتمل، حيث تميّز الآلهة «آن، كي، إنليل، إنكي» وأصبح كل منهم إلهاً لواحد من أوجه الطبيعة الأربعة «السماء، الأرض، الهواء، الماء»، وهي العناصر الأساسية الأربعة للكون كله.
أما الكوزموغونيا البابلية، فقد أظهرت أن الكون الأول يتألف من نوعين من المياه مالحة هي تيامت، والتي ترمز للأنوثة في الآلهة، والنوع الثاني إبسو ويرمز للمياه العذبة، ومن بعد ذلك خرج منهما الجيل الأول من الآلهة عن طريق الاندماج وليس هناك تصور لفعل جنسي. أما الأجيال اللاحقة، فتحصل بتزاوج كما البشر، ومن ثم يقوم الإله مردوخ وعبر صراع مع الإلهة الأم تيامت بتشكيل الكون من جسدها، بصورة مكتنزة بالرموز المعبرة عن تاريخ الانقلاب على المجتمع الأمومي.
ويمكننا تتبع ما حصل من انزياح وتهميش للإلهة الأنثى، عندما نرصد مقتلها في الإينوما إيليش، فبينما تبتعد في الأساطير السومرية عن الاهتمام والأهمية لصالح الإله إنليل ثم لصالح الإله إنكي، نرى في الإينوما إيليش كيف أنّ الإله مردوخ يزيحها بالعنف وبالسلاح، مؤسساً لمفهوم العنف الجماعي حين جمع الآلهة للقصاص من قائد جيوش الإلهة الأنثى، وكذلك سنشهد التحول نحو التفريد بعد أن وهبته الآلهة خمسين اسماً يرمز كل اسم لمقدرة يتمتع بها هذا الإله، وكذلك الانزياح بعملية الخلق حين منحه مجلس الآلهة إمكانية الخلق بالكلمة، فأضحى يخلق من فمه.
3- أساطير خلق الإنسان (إنثروبوغونيا)
تعددت أساطير خلق الإنسان ولعل الإنثربوغونيا الطينية المائية التي تجسدها أسطورة «إنكي ونمّو وننماخ وطين الأبسو» هي الأكثر شهرة بينها، وكذلك هناك الأسطورة التي تفترض الأصل النباتي للإنسان على يد الإله إنليل، وأسطورة الأصل الإلهي التي تفترض ذبح أحد الآلهة ومن دمه يُصنع الإنسان ليعمل بالنيابة عن باقي الآلهة، وهناك إشارات إلى أن السومريين عرفوا الأنثروبوغونيا اللوغوسية؛ أي إن الإنسان خُلق بمجرد نُطْق الآلهة مما يشير إلى عمق فكرة الخلق من الكلمة في التراث السومري (انظر الماجدي 2013: 149-153).
في الأنثروبوغونيا البابلية يتم خلق الإنسان أيضاً بعدة طرائق، من الطين ودم الآلهة وعن طريق الكلمة، ولكن الأسطورة الشائعة هي خلقه عن طريق مزج دماء آلهة العمل مع الصلصال، ويكون الدور في هذا للإله مردوخ (انظر الماجدي 2013: 250).
4- دور المرأة في حضارة وادي الرافدين على الصعيد الديني
أ- بذور الفكر الديني والطقس الديني في حضارة وادي الرافدين
منذ القدم، استشعر الإنسان وجود عالمين؛ هما العالم القدسي والعالم الدنيوي، وما التمثلات الدينية إلا وسائل تعبير عن طبيعة الأشياء المقدسة وعلاقتها ببعضها البعض وعلاقتها بالأشياء الدنيوية. «وكما يقول 'هربرت سبنسر': 'إنه حضور غامض وعصي على الفهم»، ويعرفه الفيلسوف الألماني «ماكس مولر» بقوله: «إن الدين هو كدح من أجل تصور ما لا يمكن تصوره، وقول ما لا يمكن التعبير عنه، إنه توق إلى اللانهائي». وأما «شلايرماخر f.schleirmacher» لاهوتي الأديان، فيقول: «إن الدين هو شعور باللانهائي واختبار له. وإن الخيال الفردي هو الذي يسير بفكرة الله إما نحو المفارقة والتوحيد، أو نحو نوع غير مشخص للألوهة يتسم بوحدة الوجود» (السواح 2002: 23).
«إن ما حدث في العصر النيوليتي من ظهور المدن الكبيرة ذات التنظيمات المدنية والسياسية والاقتصادية المعقدة انعكس على واقع الحياة الدينية، فمع انتقال السلطة في المجتمع نهائياً ليد الرجل وتكوين دولة قوية ذات نظام مركزي وهرم سلطوي وطبقي وتسلسل صارم، ظهر الآلهة الذكور وتشكل مجمع الآلهة برئاسة الإله الأكبر، هنا تجد الإلهة الأم نفسها وقد غدت إحدى آلهة المجمع بعد أن كانت الإلهة الواحدة لا يشاركها في السلطات سوى ابنها الذي نشأ منها، وكان مقدمة لظهور الآلهة الذكور» (انظر السواح 2002: 25-26).
ويضيف الماجدي إن «الثورة الكالكوليتية ثورة ذكورية نتج عنها مفردات دينية جديدة كثيرة، وحلت المدينة محل القرية وظهر المعبد مركزاً للمدينة، وازداد الدين تعقيداً وبدأ يتزحزح دور المرأة المركزي، فظهر إلى جانبها الإله الأب والإله الابن، وأصبح أبو السماء بأهمية الربة الأم -الأرض، وأصبح الناس في معتقدهم يعتبرون أن ماء السماء هو المني الذي يخصّب الأرض» (الماجدي 2013: 117). الإلهة الأم انسحبت أمام الإلهة الابنة إنانا لتشكل مع ديموزي الإلهين الحبيبين المسؤولين عن إنتاج الخصب والنماء والحياة متمثلاً، ما استدعى طقساً محاكياً هو طقس الزواج المقدس الذي يتم ما بين الملك ممثلاً في الإله ديموزي وما بين الكاهنة العظمى ممثلة في إنانا.
«ومن المعروف عن سكان وادي الرافدين أنهم جعلوا لكل مدينة إلهاً، وجعلوا له زوجة، ولذلك فقد كانوا يحتفلون سنوياً بزواج الإله من إلهة مدينتهم؛ وذلك إيماناً منهم بأنّ الزواج الإلهي سيحقق، على غرار زواج دموزي من إنانا، زيادة في العطاء والخيرات في مظاهر الحياة الطبيعية. وهنا يتعين التمييز بين نوعين من الزواج المقدس، أولهما وهو الأقدم ويمثل الزواج الإلهي الذي يتعلق بزواج إله المدينة من إلهتها، والثاني هو صورة عن الأول، وهو ما يسمى بالزواج المقدس (hieros gamos)، الذي يمثل فيه الملك دور الزوج - الإله بينما تقوم الكاهنة بدور الزوجة - الإلهة» (علي 1999: 107).
«لقد كانت هذه الفترة حاسمة في بلورة إحدى صيغ الأسطورة الرافدينية حول دور المرأة الذي يهمش دور الأم ويرفع دور البنت أو العذراء، إضافة إلى مشاركة الرجل للمرأة في الحكم والمركزية، مما جعل من غير الضرورة إقامة طقس المصارعة، ثم ليكتمل الانقلاب الذكوري بأن يصبح الرجل هو الملك الوحيد، وانعكس الأمر وأصبح اختيار الملكة يتم عن طريق الكهانة فقد أصبح انخراط المرأة في الرتب الدينية وتدرجها فيه هو الذي يمنحها الحق لتصل لمرتبة الكاهنة العليا لتصلح أن تكون من المختارات للاقتران الموسمي بالملك» (الماجدي 2013: 120).
ويلفت عالم السومريات المتميز «كريمر» في كتابه «طقوس الجنس المقدس عند السومريين»، إلى العقيدة الإيمانية للسومريين؛ إذ وجد من خلال الوثائق أن «السومريين كانوا يؤمنون بأن العالم قد خلقه ويدبر شؤونه آلهة يعملون مجتمعين برئاسة أربعة من الآلهة الخالقة، هي آلهة السماء والأرض والهواء والبحر، وهؤلاء الآلهة رسموا تصميم كل شيء لازم للكون وأخرجوه إلى الوجود، من شمس وقمر ونجوم وكواكب ورياح وعواصف وأنهار وجبال وأودية وبوادٍ، وعهدوا إلى واحد أو آخر من أبنائهم بمهمة تدبير شؤون كل منها. وما أن ظهر الإنسان على الأرض حتى اضطر الآلهة إلى وضع تصاميم للمدائن والعمران والسدود والري والمزارع والحقول ثم تنفيذها وإخراجها للوجود وتعيين الآلهة ذات الكفاءة من أجل الإشراف عليها، غير أن ما يحتاجه الإنسان والحيوان أكثر من كل شيء ضماناً لتناسلهما وتكاثرهما هو الحب العاطفي والشهوة التي تؤول إلى الاتحاد الجنسي وتولد المني المخصب في الرحم وهو ماء القلب، وقد وضعت هذه العواطف الرقيقة واللذيذة في عهدة إلهة الحب ذات الجاذبية والإغواء والنزعة الحسية الشهوانية، الإلهة إنانا التي كانت عبادتها في إحدى كبريات المدائن السومرية مدينة أوروك منذ حوالي 3000 ق.م أو منذ أقدم من هذا التاريخ» (كريمر 2006: 88).
ويصف كتاب ستيفن بيرتمان «كتاب حياة حضارة الرافدين القديمة» إنانا/ عشتار بأنها الإله الأكثر شعبية في بلاد الرافدين القديمة، وتمثل قوة الجاذبية الجنسية والمتعة الجسدية التي تخرج منها. ونظراً لتركيزها على الإشباع الفوري لحاجاتها الجنسية، لم تكن إلهة زواج ولا ولادة. كان الشهية الجنسية لها لا تنضب وعلاقاتها مع الرجال قصيرة المدى. عشاقها كثر لكن ضريبة عشقها كانت باهظة، ودوموزي منهم على وجه الخصوص، فقد أرسلته إلى الجحيم. بسبب وحشيتها وإصرارها أن تحقق ما تريد مهما كان الثمن للآخرين، لقد كانت إنانا/ عشتار أيضا إلهة الحرب وراعية لحكام السلالات. وكان لها الحيوان الأسد ورمزها النجم، وعرفت بنجمة الصباح والمساء، أي فينوس بحسب علم التنجيم. كانت معابدها الرئيسية في أوروك وكيش (في سومر)، agade (في أكد)، وأربيل ونينوى (في آشور)، ويُقال إنّ الكاهنات خدمنها من خلال طقوس الدعارة المقدسة. وأُدرج لها لائحة من الآباء الإلهيين، وهم: آن/ آنو، إنليل / ellil، إنكي/ إيا، أو نانا/ سين (إله القمر). والدتها، في بعض النصوص، هي زوجة إله القمر نينجال (ningal). ارتبطت إنانا/ عشتار بالقمر، إما بسبب التشابه ما بين تغير المزاج لديها وتغير أشكال القمر، أو بسبب الربط على التوازي ما بين دورته ودورتها الطمثية. كانت لها أخت واحدة هي ايرشكيجال المفزعة، ملكة المحرومين جنسياً من العالم السفلي (bertman 2003: 120).
ويكشف كريمر هاهنا أنّ الإلهة المسؤولة عن الحب والشهوة كانت هي الإلهة الأنثى ومنذ التاريخ القديم، وبالتالي فإنه ينبّه إلى أنه «لم تمض فترة على هذا التاريخ، أي تاريخ الاعتقاد بإلهة الحب، حتى راح بعض الكهنة ورجال اللاهوت المفكرون وذوو المخيلة في مدينة إيريك يعتنقون فكرة تدخل الاطمئنان والبهجة على القلب، وهي أن مليكهم قد أصبح عاشقاً وزوجاً للإلهة إنانا، وبذلك يشاركها قوتها وقدرتها على الإخصاب التي لا تقدر بثمن كما يشاركها الخلود. ويتابع كريمر: 'هذا مذهبنا في كيفية ظهور طقس الزواج المقدس الذي يضم ديموزي، الذي يعتقد بأنه كان أحد حكام إيريك المرموقين وإلهتها إنانا الشهوانية الشهية التي تحظى بكل احترام'» (كريمر 2006: 89).
وكان الماجدي نوّه في كتابه «إنكي» بأن عبادة الإلهة كانت تستدعي طقوساً منها طقس المصارعة الذي تقوم فيه المرأة التي تزعمت النشاط الاجتماعي والسياسي والديني، فكانت تختار زوجها أو ضجيعها عن طريق إجراء منافسة قوى بين الرجال الأشداء ليكون الزوج جديراً بالمرأة الزعيمة (انظر الماجدي 2013: 111).
ويكشف طقس الزواج المقدس أن الأدوار انقلبت، فكانت قصة ديموزي لا تعدو كونها بدعة أو خدعة، حيث يشارك الذكر الإلهة قوتها وقدرتها على الإخصاب الذي لا يقدر بثمن كيما يشاركها الخلود، ما يعني أن الزواج المقدس الذي كان مرماه الظاهري الالتحام بالإلهة، أخفى في باطنه نوايا لإقصاء الإلهة، والتفرد بالحكم بأمر الإله الذكر، وتطويع النساء لخدمته على الأرض، بدلاً من أن يتحكموا فيه بفعل التميز والتفرد بالرحم.
«إن الاتحاد الجنسي المقدس مع الكاهنة العليا منح الزوج الذكر وضعاً امتيازياً وطبقاً لما يقوله البروفسور ساغس، فإنه في سومر وبابل في الأحقاب التاريخية تحدد الربة بعد الزواج المقدس مصير الملك للسنة القادمة، لكن في الأيام الأكثر قدماً كان مركز الملكية أبعد من أن يستمر، فالذكر المختار يمارس حقوقه الملكية لفترة معينة من الزمن وفي نهاية هذا الزمن (ربما سنة تبدأ من الاحتفال الذي يجري سنوياً، ولكن تدل السجلات الأخرى على فترة أطول من مناطق معينة)، عندئذٍ يُضحَّى طقوسياً بهذا الفتى» (ستون 1998: 140).
ب- دور المرأة ككاهنة
إن المتتبع لخط سير المفاهيم الدينية عبر الأساطير سيربط ما بين هذه السيرورة وسيرورة مكانة المرأة في اللاهوت؛ ففي عبادة الإلهة الأنثى كانت الكاهنة العظمى هي السلطة الدينية العليا، بل هي المتحكمة في السلطة السياسية واختيار الملك وتحديد شكل فترة الحكم، والملك يتنحى بعد عام ويقتل، وهذا ما فسرته الفقرة السابقة، فمكانة الكاهنة سارت بالانحدار كلما ابتعدت المشاعر الدينية عن الإلهة الأنثى أمام مد الإله الذكر القادم مع الغزاة، وهذا ما استغرق عصوراً لكي يزيح الإلهة بشكل نهائي، فما حصل من ظهور العشيق أو الابن في الصورة مع الإلهة هو أحد تجليات هذا التحول للتمهيد للانقضاض على الإلهة، فاسترد الملك حياته وأخذ منها القوة ليبقى هو وتتبدل هي، ومن ثم ليتفرد هو.
ما حدث فيما بعد كان بمثابة «انقلاب» حقيقي على المرأة ومكانتها بدأ بانزياح في الميثولوجيا وظهور إنكي وإنليل والابتعاد عن أهمية الإلهة الأم لتظهر الإلهة الابنة إنانا في دور واحد هو دور الحب والمشاعر والشهوة والخصب، ومن ثم لتنتهي تماماً من الوجود في الأسطورة البابلية على يد مردوخ ومن بعده آشور، وليتم اختزال إنانا بإلهة للغواية والجنس المدنس تغتال عشاقها بعد أن تلهو بهم.
لقد حافظت الكاهنة على مكانة اجتماعية سامية من عصور عبادة الإلهة، وكانت الكاهنات ينحدرن من أسر مرموقة وبنات حكام وملوك نذرن أنفسهن للخدمة في المعبد منذ صغرهن، وبقي طقس ممارسة الجنس كطقس ديني له شرعيته في سومر، فكانت هناك كاهنات يتم اختيارهن لتقمص الربيع عبر أداء الطقس الجنسي الرمزي الذي يتم مع الملك وقد حل بجسده الإله ديموزي، إلى جانب طقوس الخصب وترتيل الأناشيد، والرقص التعبدي المتنوع الأشكال، حسبما دلت دراسة حركة الأجساد في الرسوم والمنحوتات. وعكست التراتبية في مكانة كل كاهنة وتدرج وظيفتها، التسلط الأبوي، فقد أصبحت الكاهنة تناضل لتعتلي مرتبة الكاهنة العظمى الذي ارتبط بمباركة الملك في ظل الإله الذكر، كما يتضح من الأمثلة الآتية:
*- «السيدة الإلهة (nin-dingir الكاهنة العظمى): وتسمى بالأكدية (إينتو) وتشغل أرفع وأسمى وأقدس رتبة، ولها مكانة اجتماعية ودينية عظيمة، وتعتبر قرينة الإله، ولها غرفة في أعلى المعبد، وهي المرشحة لطقوس الزواج المقدس. وبالإضافة لهذا تقوم باستطلاع الفأل والعرافة وعادة ما تكون ابنة أو أخت الملك.
*- الراهبة (لوكر luker): وتسمى بالأكدية ناديتو (naditu)؛ أي النادية وهي المرأة التي نذرها أبوها للخدمة في المعبد، وكان لكل إلهة نادية وكانت وظيفتها إدارية، وكان ممنوعاً على هذا النوع من الكاهنات الزواج أو الإنجاب.
*- القديسة (نوكك nu.gig): وتسمى بالأكدية (قديشتو (quadishtuوتعني الخالية من الأمراض باللغة السومرية، وترجمها بعض الباحثين ببغي المعبد مما أساء لها، وكان السبب في هذه المغالطة ترجمة عالم الآثار (jensen) للمكان الذي تسكنه الكاهنات الناديتو وهو (gagumi) فقال إنه (الماخور) مما صبغ عبادة هذه الكاهنة بالبغاء داخل المعبد.
*- المنذورة (نوبارnu.bar): وهن من ينحدرن من عوائل عريقة ولها حق الزواج، ولم تكن تعيش في المعبد، بل كان مسموحاً لها أن تعيش في بيت أبيها.
*- المرافقة (سوكي su.ge): وكان من مهامها المشاركة في احتفالات الزواج المقدس، وإنجاب الأطفال لصالح النادية التي كان محرّماً عليها الزواج.
*- الحاجبة (سال- زكروم sal.zikrum): وترجمها البعض المرأة الذكر أو الخنثى، وهي راهبة لها علاقة بالمبعد، وغير منذورة لإله معين، وتقوم بإحضار من يقومون بالخدمة في القصر أو المعبد؛ وذلك عن طريق التبني» (الماجدي 1998: 276-278).
وحتى نفهم جوهر العمل الذي كانت تقدمه الكاهنة في المعبد، سنتوقف عند تساؤل طرحه القمني، فقد بيّن أن ندرة القرابين الحية التي قدمت لإلهات إناث، مقابل ما تمتلئ به المصادر عن أنواع القرابين الحية التي كانت تقدم لآلهة ذكور، يثير سؤالاً مهمّاً: «أيّ قربان كان يليق بالأم المخصبة الشبقة الولود المنجية مانحة الحياة؟ والجواب كان من وجهة نظره هو في طقس الجنس الجماعي الذي كان يمارس في جوار معبد الآلهة، ويستشهد بقول جيمس فريزر: 'وكان مثل هذه العادة منتشراً في كثير من أصقاع آسيا الغربية ومهما يكن الدافع لذلك، فإنه لم يكن مجرد انغماس في الفسق الشهواني، بل كان واجباً دينياً خطيراً، يقام به خدمة للإلهة الأم العظمى» (القمني 1999: 119).
وقد تنبّه الماجدي في متون سومر إلى أن البغيّ هي امرأة عادية كانت تمارس فن الحب والجنس، وليس لها بالمعبد أيّ صلة لا من قريب أو من بعيد، وقد أتى إلصاق هذه التهمة بالكاهنات من ثلاثة مصادر:
1- «مما قاله هيرودتس من أنَّ على الكاهنات البابليات أو النساء البابليات جميعاً ممارسة البغاء ولو مرة في العمر، وهو لم يزر بابل قط بل كتب عنها متأثراً بالبيئة الإغريقية التي كانت تمتهن المرأة وتجبرها على أن تكون مومساً قبل الزواج.
2- ترجمة جينيس للدير على أنه الماخور.
3- الزواج المقدس الذي هو طقس مقدس يجري بين أعظم الكاهنات والإله الممثل بالملك، وقد وجد الباحثون الغربيون أن هذا الطقس نوع من البغاء عمموه على كاهنات العراق القديم» (الماجدي 1998: 278).
ويتفق هذا مع ما ذهبت إليه مارلين ستون إلى أن «بعض الأركيولوجيين يفترضون أن تلك العادات الجنسية للمعابد التي برزت وتكررت في دين الإلهة، وظهرت في المراحل التاريخية القديمة في الشرقين الأدنى والأوسط، يجب أن يُنظر إليها على أنها نمط من السحر الرمزي البدائي لتحريض الخصب في القطعان والنباتات كما في البشر أيضاً، ولكنها تعتقد أن هذه الممارسات تطورت نتيجة الوعي القديم جداً وفهم علاقة الجنس بإعادة الإنتاج، وبما أن هذا الارتباط لوحظ أولاً في النساء، فقد دخل في بنية الدين كوسيلة لضمان النسل بين النساء اللواتي اخترن الحياة والاهتمام بالأطفال داخل مجتمع المعبد، وكذلك يحتمل أيضاً أن يكون طريقة لحبلٍ منظم» (ستون 1998: 158)، وهذا الرأي أقرب إلى ما تصوّرته غيردا ليرنر وليفي ستروس اللذان بيّنا أن تبادل النساء كان من أجل النسل ومن أجل ضمان الولاء، وكلا الفعلين كانا تعبيراً عن الطريقة التي تم بها إخضاع النساء.
وثمة أدلة وثائقية من سومر وبابل وكنعان والأناضول وقبرص واليونان وحتى في التوراة تبيّن أنه على الرغم من أن الزواج كان معروفاً من أقدم السجلات المكتوبة؛ فقد استمرت النساء المتزوجات مثل المرأة المفردة في العيش لفترات من الزمن داخل مجمع المعابد مثبتات العادات الجنسية القديمة للربة، ولم تكن المسألة تنطوي، البتة، على أي مفهوم معياري أخلاقي.
[1] - (damgal. nunna) لقب قرينة إيا نينخورساج.
[2] - (nin-hursag) بمعنى السيدة الفائقة السمو وهو لقب نينتو.
[3] - (nintu© الأم البدئية، أم الآلهة.
[4] - (ninsar) الإلهة الأولى التي ولدتها نينتو بالاقتران مع أنكي.
[5] - ! تشير إلى اللجوء لمعنى محدد للمقطع أو الكلمة التي سبقت هذه العلامة.
[6] - (ninkura) الإلهة الثانية التي ولدتها نينسار بالاقتران مع أنكي.
[7] - (iggigi) هنا: مجموعة آلهة الأرض.
[8] - (annunaki) مجمع الآلهة السبعة العظمى.
[9] - (enlil) سيد مجمع الآلهة في سومر.
[10] - (an) إله السماء.
[11] - (mah) بمعنى السامية.
[12] - (ningirsu التسمية السومرية لنينورتا.
[13] - (anu) إله السماء.
[14] - (dagan) المقابل الأكادي لإنليل أُضيف بتأثير عموري.
[15] - (iggigu)) التسمية السومرية للإيجيجي وهم مجموعة آلهة العالم العلوي.
[16] - (؟) تشير إلى قراءة غير أكيدة للنص وهي تلي الاقتراح المحتمل للقراءة المعروضة.
[17] - [...] تعني فقدان كلمات أو مقاطع على اللوحة الأصلية.