من أجل رؤية عملية لصناعة إعلام إسلامي جديد
فئة : مقالات
من أجل رؤية عملية لصناعة إعلام إسلامي جديد*
لو كان ثمّة من "خاصية" جوهرية تميز ما يصطلح على تسميته بالإعلام الإسلامي، فهي حتماً وبالقطع خاصية القصور. والقصور المقصود في هذا الباب، كما في ثنايا هذه المقالة، إنما يطال مخرجات العملية الإعلامية، ويطال المدخلات أيضاً باعتبارها ترجمة للاستراتيجية الإعلامية التي يعتمدها هذا البلد الإسلامي أو ذاك.
ولذلك، فإنّ صناعة إعلام إسلامي جديد تستوجب تجاوز نقطتي القصور هاته، أي أن يعمد إلى صياغة الاستراتيجية الناجعة والكفيلة بضمان مخرجات يعتدّ بها، بمقاييس ما هو معمول به في التجارب الأجنبية المختلفة.
أولاً: في قصور الإعلام الإسلامي كقصور في المخرجات
لو كان لنا أن نقدّم تحديداً مختصراً للإعلام الإسلامي لقلنا التالي: إنه ذاك "الفرع" من الإعلام الذي يتخذ من الإسلام مرجعيته وموضوعاته، ويستشفّ من رسالته الإطار العام الذي يفعل فيه أو يتفاعل معه بهذا الشكل أو ذاك، سواء تمّ ذلك بالكلمة المكتوبة أو المسموعة أو المرئية أو المقتنية للشبكات الرقمية، على شكل بوابات أو مواقع أو مدونات على شبكة الإنترنيت أو غيرها.
الإعلام الإسلامي هنا لا يختلف كثيراً عن باقي أشكال الإعلام التقليدية والمعاصرة، سواء من ناحية أساليب المعالجة أو من زاوية انتقاء المواضيع والإشكالات، لكنه يختلف عنها كثيراً من زاوية خاصياته المستمدة من روح الشريعة الإسلامية والقيم الأصيلة المتأتية من التراث العقائدي والفكري للمجتمع الإسلامي[1].
ومعنى هذا أنّ "العملية الإعلامية الإسلامية" لا تختلف في أهدافها أو في واقع تمحورها حول ثلاثية "الإخبار والتثقيف والترفيه" الذي تنشده باقي العمليات الإعلامية (السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الرياضية....)، بقدر ما تختلف معها في المرجعية التي يرتكن إليها الإعلام الإسلامي ويحتكم.
الإعلام الإسلامي (الإعلام الديني ذو المرجعية الإسلامية كما يقول بعضهم) لم يحظ بالاهتمام الكافي من لدن الجامعات أو المعاهد أو مراكز البحوث المتخصصة في مختلف أصقاع العالم الإسلامي، ولكنّه استطاع حقاً (لا سيّما في العقدين الأخيرين) مجاراة الثورة الرقمية بقوة لصناعة وتمرير "رسالة" لطالما اقتصرت على الروافد المكتوبة ذات الأثر المحدود والتأثير العابر. بل أفردت له نتيجة ذلك وفي أعقابه وحدات بحثية في العديد من الجامعات والمعاهد العليا والكليّات، فأضحى مجالاً للبحث والتدريس والتكوين، شأنه في ذلك شأن باقي فروع الإعلام الأخرى[2].
بيد أنّ مقابل هذا "الاعتراف" بالإعلام الإسلامي (والديني بوجه عام) جعل من هذا الأخير رهينة جدران المعاهد المختصة وكليّات الدراسات الإسلامية، تلقيناً وتدريساً وبحوثاً أكاديمية، وذلك على خلفية من اعتقادين أساسيين اثنين:
الاعتقاد الأول يعتبر أنّ الدين الإسلامي هو من المجال الخاص الصرف، أي المجال الذي يجب ألّا يطرح بالفضاء العام من لدن الفقهاء أو علماء الدين أو الشريعة أو غيرهم. وآيتهم في ذلك هو القول إنّ المقدّس أمر يخصّ المرء وخالقه، ولا حقّ لأحد، حتى وإن أوتي العلم الواسع، أن يتدخل فيه، فما بالك أن يطرحه للنقاش من خلال هذا المنبر أو ذاك[3]؟ أمّا الاعتقاد الثاني فيعتبر أنّ الدين الإسلامي يجب ألّا يكون مادة للتداول الإعلامي (لا سيما التناول التلفزيوني) كما هو الشأن مع السياسة أو مع قضايا المجتمع أو سواها. وحجتهم في هذا القول هي الادعاء أنّ الدين لا يمكن أن يكون مادة معالجة إعلامية، هي بالبداية وبالمحصلة النهائية معالجة لا تخلو من عناصر تجارية وسلعية، يستوجبها مبدأ الاستقطاب الإعلامي، وتفترضها إكراهات العمل الإعلامي، حيث المعالجة سطحية عابرة وآنية في العديد من أوجهها[4].
وإذا كان الرأي الراجح بداية هو أن يبقى المجال الديني خارج التجاذبات والمزايدات بين الباحثين وفقهاء الشريعة تحديداّ، فإنّ الرأي ذاته قد تقوّض إلى حد كبير، من خلال ظاهرتين قويتين كان لهما وقع كبير على مستوى هذا التمثل، تمثل أن يبقى الدين خارج نطاق المعالجة الإعلامية الموجّهة للجماهير:
ـ الظاهرة الأولى: وتتمثل في الطفرة التكنولوجية التي حملتها الثورة الرقمية، والتي لم يكن من شأنها فقط التجاوز على واقع الندرة الذي ميز مرحلة التقنيات التشابهية، وحال لعقود طويلة دون إمكانية استنبات المشاريع الإعلامية، بل أيضاً تكسير الاحتكار الذي لطالما تخفى خلفه الاعتقادان السابقان لإبقاء المجال الديني حكراً على جهة دون أخرى، أو طرف دون آخر.
إنّ بروز الفضائيات في هذا الباب، لا سيما الفضائيات الدينية، قد فتح للإعلام الإسلامي فضاءات واسعة لم تكن مباحة ولا متاحة من ذي قبل. في الوقت ذاته، وفرت الشبكات الرقمية (وخصوصاً الإنترنيت) مساحات كبيرة للإعلام، اختط لنفسه من خلالها آفاقاً جديدة في الرواج والانتشار[5].
ـ الظاهرة الثانية: وتكمن فيما يمكن تسميته بـ"عودة الأديان" للواجهة، ليس فقط كرمز للهويّة وعلامة للانتماء، بل أيضاً كملجأ للاحتماء من انفتاح الحدود الجغرافية، وتقدّم البعد المادي للعولمة، من تزايد النعرات الاستهلاكية، ومن هيمنة الفردانية كخيط ناظم جديد للسلوك الفردي والجماعي[6].
ليس ثمة من شك أنّ هاتين الظاهرتين قد أسهمتا بقوة في بروز إعلام إسلامي "جديد"، لم يعد مقتصراً على المسجد أو الحلقة النقاشية الضيقة أو المؤتمرات أو الجرائد أو الكتب أو المجلات، بل اقتنى روافد جديدة (لا سيما الفضائيات وشبكات الإعلام الجديد) منحته سبل الانتشار الواسع، وإمكانات التفاعل ومقومات التأثير.
بيد أنّ هذا الاتساع في المجال الذي بات يغطيه الإعلام الإسلامي على مستوى البنى التحتية المنشأة، وامتلاكه لأقوى تقنيات الإنتاج والبث الرقمي على الأقمار الصناعية، لم توازه مخرجات معتبرة، على الأقل بالمقارنة مع ما تقدّمه باقي أصناف الإعلام، الجامع منه والمتخصص على حد سواء.
بالتالي، وبالارتكاز على هذه الزاوية، يبدو لنا أنّ الخطاب الإعلامي الإسلامي (وهو المظهر الأقوى تعبيراً عن هذه المخرجات) يبيّن العديد من مظاهر القصور على مستوى إنتاج وتصميم وتقديم المادة الدينية الإسلامية، بمقياس المضامين المقدّمة، وبمقياس شكل هذه المضامين والقوالب المؤطرة لها.
وعلى هذا الأساس، وبنظرة عامة على مفاصل هذا الخطاب، تبدو لنا مكامن القصور في الجوانب التالية:
أولاً: اختزال الإعلام للإسلام في بعده الديني الخالص (طقوس وعبادات بالأساس)، في حين أنّ الإعلام الإسلامي لا يقتصر على الإعلام الديني المتمحور حول الإسلام قرآناً وسُنّة فحسب.
إنّ الإعلام الديني هو "الجزء المتخصص في قضايا الوعظ والإرشاد والتبليغ وتعليم الناس الأمور الخاصة بدينهم، أي هو الإعلام والخطاب الديني المرتبط بالفروع وليس بالأصول، لأنّ الأصول هي من مهمة الإعلام الإسلامي ككل. أمّا الإعلام الإسلامي فهو إعلام شامل وكامل بشمول وكمال العقيدة الإسلامية، ولا يرتبط بالقضايا الدينية فقط، وإنّما يتعداها إلى جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية...إلخ"[7].
الإعلام من هذه الزاوية هو "إسلامي في صدق أخباره، وإسلامي في الترويح والتسلية، وإسلامي في إعلاناته، وإسلامي في تعليمه، وإسلامي في شرح الأخبار وتفسيرها، أي أنّ الهاجس القيمي ينبغي أن يتوفر في كلّ البرامج، وليس في البرامج الدينية فقط"[8].
هذا الخلط بين الإعلام الديني والإعلام الإسلامي لم يقتصر على الوسائل المكتوبة والمسموعة والمرئية بالتلفزيونات العمومية التقليدية، بل انتقل أيضاً ليطال الخطاب المروج بالفضائيات العامة والخاصة، الجامعة والمتخصصة، المشتغلة كليّاً على "المادة الدينية"، وتلك التي لا تشكل المواد الدينية إلا جزءاً من شبكتها البرامجية.
ثانياً: الخلط عند القائمين على الإعلام الإسلامي بين ما هو إعلامي صرف، وبين ما هو دعوي يقتني الوسيلة الإعلامية ليس إلا. فنرى بالمحصلة أنّ المتابع لما يروج على كونه "إعلاماً إسلامياً" بالحوامل المكتوبة والمسموعة والمرئية والألكترونية، لا يدري حقاً في هذه الحالة ما المقصود تحديداً بعبارة "الإعلام الإسلامي"، "هل يعني نقل معلومات عن الإسلام وما تعلق بهذا الدين من أحداث في العالم الإسلامي، أم بنشر مبادئه وتعاليمه والتعريف به قصد التأثير في الناس، وجعل المسلمين منهم يتمسكون به، وفي الوقت نفسه إثارة حبّ الاطلاع لدى غير المسلمين ليقبلوا به"[9].
هو كلّ هذا دون شك، لكنّ الأمر يحيل هنا على الدعوة الإسلامية في بعدها التبشيري/العقدي أكثر ممّا يحيل على الوظيفة الإعلامية، التي تتجاوز تبليغ الأخبار للناس وحثهم على فهم رسالة الإسلام، وترجمتها على مستوى سلوكهم الفردي والجماعي سواء بسواء.
بالتالي، فلو سلمنا بأنّ الدعوة هي جزء من الإعلام الإسلامي، فسوف نسلم بتحصيل حاصل، بأنها هي الجزء العقدي فيه، في حين يجب أن يكون مجال الإعلام الإسلامي أوسع وأرحب، لأنّ رسالة الإسلام هي في الأصل رسالة حضارية لا تمثل العقيدة إلا مدخلاً من مداخلها.
ثالثاً: كلما أمعنّا النظر في واقع "الإعلام الإسلامي"، على ضوء الثورة الرقمية والعولمة وانتشار البث التلفزيوني العابر للحدود وتعدد المنابر الألكترونية المتمحورة حول الدين الإسلامي، انتابتنا مفارقة جوهرية مفادها أنّ التدين قد تحوّل حقاً (أو هو في طريقه إلى ذلك) إلى منتوج إعلامي، يخضع لمقتضيات المنافسة في سوق الإعلام والإعلان، شأنه في ذلك (أو يكاد) شأن باقي السلع والخدمات.
ولذلك نجد أنّ العديد من وسائل الإعلام الدينية "تعتمد على منشّطين دينيين، ليس فقط على فقهاء أو علماء متخصصين، حيث يقوم هؤلاء باستخدام القرآن والموعظة الدينية والسير استخداماً براغماتياً يعتني بالاستقطاب أكثر ممّا يعتني بالمضمون. ولأنّ الاستقطاب يفترض الإعجاب، فإنّ المضمون يغلب عليه طابع انفعالي، لا يخاطب العقول بقدر ما يخاطب الوجدان الديني، ويستثمر في الموروث العقدي من خلال نَفَس تعبوي وشحن متواصل"[10]. من هنا، فإنّ الخطاب الإعلامي الديني إنّما ينشط في فضاء همّه الأساس في زمن التنافسية هو استقطاب أكبر عدد من الجماهير، كاستجابة لقواعد السوق وبورصات الأسهم والقيم.
هذا الواقع نلحظه في العديد من الفضائيات الدينية لدى استضافتها مثلاً لعلماء يفرد لهم هذا البرنامج الدوري أو ذاك، لكننا نلحظه أيضاً مع ظاهرة الدعاة الجدد، حيث التركيز على التدين الفردي، وعلى ضرورة ربط الدين بطموحات الفرد في النجاح والخلاص و"تحقيق مرضاة الله".
رابعاً: ليس ثمة من شك في أنّ روافد الإعلام الجديد (فضائيات ومواقع دينية ألكترونية) قد نجحت، إلى حد ما، في أن تكون مصدراً إضافياً من مصادر المعرفة الدينية للأفراد وللجماعات، إلا أنّ الروافد ذاتها بتكريسها لـ"فردانية التدين" (وشخصنته يقول بعضهم) إنّما تعبّر عن واقع أهمّ تجلياته اختناق الفضاء الديني العام، وهيمنة قيم استهلاكية "حداثية" جديدة، قذفت بالناس في زوايا التهميش، ورسّخت لديهم حالة من العجز، وقوّت من بين ظهرانيهم نزعة تنشد الخلاص الفردي الضيق، عوض التعويل على خلاص جماعي تأخر ظهوره.
ولذلك فإنّ مخاطبة هذه الروافد للضمير الفردي والعمل على صياغة المواد والبرامج الدينية على هذا الأساس، إنّما هو مؤشر قوي (ضمن مؤشرات أخرى) على تقصير الاستراتيجيات الإعلامية في العالم الإسلامي، وعدم قدرتها على استنبات إعلام إسلامي يكون في مستوى الرسالة، في زمن توفرت فيه الوسيلة لها.
ثانياً: في جوانب تقصير الاستراتيجيات الإعلامية الدينية: تقصير المدخلات
إنّ قصور الإعلام الديني الإسلامي لا يمكن ملامسته فقط على مستوى طبيعة ونوعية الخطاب الإعلامي، بل أيضاً على مستوى الاستراتيجيات الإعلامية المعتمدة هنا وهناك، وأيضاً على مستوى خاصيات الرسالة المراد نشرها وترويجها.
لقد ألمحنا، في السطور السابقة، إلى أنّ الثورة التكنولوجية قد وفرت الوسيلة إنتاجاً وتصميماً وإخراجاً وبثاً، وألمحنا إلى أنّ الرهان الكبير والتحدي الأكبر لم يعودا رهينة الأداة والوسيلة، بقدر ما أضحيا يتمحوران حول إنتاج المضامين وتطوير المحتويات، سواء تمّ ذلك من خلال وسائل الإعلام التقليدية أو عبر وسائل وأدوات الإعلام الجديد.
بيد أنّ التقصير الذي طاول الاستراتيجيات الإعلامية في العالم الإسلامي في العقود الماضية، إنما أتى من كونها استسهلت العملية، واعتبرت أنّ مجرد توفر الوسيلة كفيل باستنبات الغاية والهدف، ولم تدرك جيداً أنّ التقنية قد تحيد عن مسارها إن لم تعتمد كعنصر مساعد ومصاحب (ليس إلا) لرسالة واضحة، المفروض أن تبنى وتصاغ بداية، قبل النظر في أداة ووسيلة تصريفها، جريدة كانت أو إذاعة أو فضائية أو موقعاً ألكترونياً أو ما سواها[11].
ويبدو لنا أنّ هذا التقصير متأتٍ من ثلاثة معوقات كبرى سيتعذر حقاً، في غياب حسمها، الحديث عن رؤية أو منظومة للإعلام الإسلامي بوجه عام:
المعوق الأول: يتعلق بغياب الرؤية الإعلامية الجامعة والتصور القمين بإفراز إعلام إسلامي واضح المرجعية، مؤطر السياق، موجه البوصلة، غير متأثر بالمزايدات من هنا أو من هناك.
وغياب الرؤية، هنا، إنّما مقصده القول إنّ الإعلام الإسلامي لا يحتكم إلى رسالة دينية موحدة، ليس فقط بسبب وجود اختلافات مذهبية (وطائفية أيضاً) داخل المجتمعات العربية/الإسلامية، ولكن أيضاً بسبب غياب الإطار المؤسساتي الجامع الذي من شأنه تثمين المشترك، ونبذ ما من شأنه أن يكون مصدر فرقة أو خلاف[12].
صحيح أنّ الاختلاف (لا الخلاف) سُنّة من سنن الخالق في كونه، لكنّ الإعلام قد يحيد عنها (عن قصد أو عن غير قصد) ويتحوّل إلى مجال خلاف، ومن ثمّة إلى عنصر احتراب واقتتال. بالتالي، فليس ثمة شك في أنّ الإعلام الإسلامي إنّما هو أقرب إلى الإعلام الديني القطري منه إلى الإعلام الشامل، أعني المحتكم إلى مرجعية موحدة، تؤسّس له البنية وتمنحه الخيط الناظم.
غياب الرؤية هنا لا يؤدي فقط إلى تذبذب الاستراتيجية، واحتمال تعثر تصريفها من خلال هذه الوسيلة أو تلك، بل من شأنه أيضاً أن يلف الرسالة بالغموض والضبابية ويحرفها عن الهدف المنشود.
قد يكون واقع التخلف العلمي والمعرفي والتقني والاقتصادي الذي يعيشه العالم الإسلامي حائلاً دون بناء هذه الرؤية الشاملة، لكن الواقع ذاته قد يكون بالمقابل عنصراً محفزاً لاستنبات هذه الرؤية على المستوى العام، وعلى مستوى الإعلام الإسلامي سواء بسواء[13].
المعوق الثاني: ويكمن في غياب التجديد الذي يطال أدوات الخطاب الإعلامي الإسلامي. صحيح أّن إشكالية تجديد الخطاب الديني هي إشكالية حقيقية لم تستقرّ تموجاتها الكبرى بعد، وصحيح أنّ الإعلام لا يستطيع إلا أن يعكس ما يتموج على أرض الواقع، لكنّ المفارقة هنا، قياساً إلى الإشكالية المتعثرة لتجديد الخطاب الإسلامي، أنّ الخطاب الإعلامي الإسلامي قد بات يحتكم إلى أدوات جديدة، إذا لم يكن على مستوى المضمون الصرف، فعلى الأقل على مستوى الشكل والمظهر[14].
ولذلك فإنّ الخطاب الإعلامي الإسلامي هو الأكثر "ترشحاً" لأن يتجدّد، لا سيما وقد منحته الفضائيات والثورة الرقمية مفاتيح التجديد، سواء على مستوى إنتاج المضامين وترويجها، أو على مستوى شكل وبنية وجودة المضامين ذاتها.
إلا أنّ هذا المطلب لم يتحقق على أرض الواقع، فبتنا بالمحصلة بإزاء إعلام انتقل من المسجد والحلقة الوعظية، إلى الفضائية أو الموقع الألكتروني، دون أن يتمثل هذا الانتقال خصوصية الفضائية ذاتها أو طبيعة الموقع ذاته.
من المؤكد هنا أنّ الرسالة قد تبقى هي ذاتها، بصرف النظر عن الوسيلة المقتناة، لكنّ خاصية "الإعلام الجديد" أنه يستوجب معالجة خاصة، ليس فقط لأنّه يطاول جماهير واسعة ومن كلّ الفئات، ولكن أيضاً لأنّ هذه "الشبكات الجديدة" قد خلقت بيئة تواصلية إحدى ميزاتها الكبرى الآنية والتفاعلية وعرض القضايا بأسلوب يزاوج بين الفائدة والتشويق والمتعة.
يبدو الأمر، بهذه الجزئية الهامة، وكأنّ الإعلام الإسلامي أخذ بالوسيلة، لكن دونما إعمال كبير للاجتهاد، بغرض تطوير الرسالة وتكييفها مع طبيعة وحاجيات المتلقين[15].
المعوق الثالث: ويتمثل في غياب التأطير العملي للإعلام الإسلامي، وغياب المسالك التي من المفروض أن تضمن التكاملية لمكوناته ومفاصله، المكتوب منها والمسموع والمرئي، وكذلك المقتني للشبكات الرقمية.
إنّ الإعلام، وفق هذه الرؤية، هو معطى منظومي، لكلّ مكون من المكونات أعلاه دور يكمل الدور الآخر، بناء على خصوصية كلّ مكون ومدى قدرته على إنجاح العملية بحسب المخرجات، ثم التأثير والأثر.
الرسالة هنا يجب أن تكون مصاغة بطريقة جيدة ودقيقة، لكن بالارتكاز على طبيعة ووظيفة ومكانة كلّ حامل من الحوامل التي تتكفل بنشرها وتوزيعها وترويجها. إذ أثر الرسالة في صيغتها المكتوبة هو غيره في الصيغة الممرّرة عبر الإذاعة أو الفضائية، أو كما هي مقدمة بهذا الموقع الألكتروني أو ذاك. فلكلّ حامل وظيفته وقوته ونجاعته، وأيضاً حدوده ومحدوديته. إلا أنّ التكامل فيما بين الحوامل من شأنه أن يملأ الفراغات التي قد يتركها هذا الحامل أو ذاك، أو لا يستطيع إدراكها بمفرده[16].
إنّ قصور الإعلام الإسلامي وتقصير الاستراتيجيات البانية له، إنّما يتأتيا في جزء كبير منهما من عدم الإدراك الكافي أنّ وسائل الإعلام تتميز عن بعضها بعضاً في طريقة وأدوات اشتغالها. لكنها تتميز أيضاً بتكامليتها وقدرة بعضها على ملء "بياضات" البعض الآخر، بما يضمن النسقية في بلوغ الرسالة، ويحول دون أن تلفها الضبابية أو يطالها التأويل الممطط.
المعوق الرابع: ويكمن في التوجه المطرد للإعلام الإسلامي بجهة تركيز أهدافه حول التدين كشأن فردي، عوض التركيز على الدين الإسلامي باعتباره منظومة اجتماعية متكاملة، لا يهتم بالفرد إلا في كونه عنصراً من عناصر الجماعة.
قد لا يلمس المرء هذا التوجه على مستوى المادة الإعلامية المكتوبة أو المسموعة، لكنه لا يمكن إلا أن يلحظها في أداء الفضائيات "الوعظية" أو خطاب العديد من "الدعاة الجدد"[17].
هذا التصور سيضع سلوك المتلقي أمام منظومتي قيم على طرفي نقيض: تدعوه الأولى إلى منطق ديني استهلاكي صرف، وتدعوه الثانية إلى منطق ديني يقطع مع الحياة المعاصرة، فيبقى المتلقي "متذبذباً" بين منطقين، وكأنه حقاً وحقيقة بإزاء معادلة الخير والشر، ولا وسط بينهما.
ولذلك فإننا نعتقد أنّ المرء بقدر ما يشعر بالرضا والطمأنينة من خلال تلقيه لخطاب إعلامي متمحور حول الذات، بقدر ما يشعر بالاضطراب في الموقف الذي هو مطالب باعتماده مع الآخر، المسلم منه وغير المسلم على حد سواء.
المعوق الخامس: يكمن في طبيعة الخطاب نفسه الذي يقدّمه الإعلام الإسلامي، ليس فقط فيما يتسنى له نشره أو إذاعته، بل أيضاً فيما يتعلق بالخطاب المروج من خلال الفضائيات، إمّا بطريقة جزئية أو كاملة، كما هو الحال مع القنوات الفضائية المتخصصة.
إنّ تركيز هذه الحوامل على الخطاب الوعظي والإرشادي، المقدّم بطريقة عمودية من "الداعية" إلى المتلقي، لا تعوزه تقنيات الإخراج وفنيته، بقدر ما تعوزه، في الآن ذاته، المهنية التي لا بدّ لأي عمل إعلامي من أن يتقيد بها، فما بالك بالإعلام الإسلامي الذي يخاطب العواطف ويدفع إلى إعمال العقل؟
صحيح أنّ الموسطة الإعلامية للدين الإسلامي جديدة ومستجدة، لا سيّما الموسطة التلفزيونية الموظفة للفضائيات[18]، وصحيح أنّ موسطة الرسالة الدينية أعقد من موسطة أية رسالة أخرى، لكنّ هذا لا ينفي ضرورة استحضار البعد الفني في المعالجة والإلقاء، لا سيما أنّ التقنيات توفر برامج واختيارات متعددة، ترفع من منسوب الجمالية الفنية ودقة الصورة ووضوح الصوت وشكل منصات واستوديوهات البث والتقديم والعرض وغيرها.
إنّها معوقات كبرى لا بدّ من العمل على تجاوزها، ولكن لا بدّ في الآن ذاته من استحضارها ومناقشتها، لأنها لا تبين فقط "الخصاص" الذي من المفروض تداركه، بقدر ما تضمر عناصر بناء رؤية عملية لاستنبات أسس إعلام إسلامي جديد.
قد يسلم المرء بأنّ ثمة رؤية لما يجب أن يكون عليه هذا الإعلام، وقد يسلم بأنّ إدراكها لا يستوجب إلا بعضاً من العزيمة الجماعية الجامعة، وبعضاً من الجهد في الأخذ بناصية التكنولوجيات الإعلامية الجديدة. إلا أنّ ذلك يبقى إلى التمنيات أقرب منه إلى المباشرة في الفعل، لتجسيد ذلك على أرض الواقع، على مستوى المظهر وعلى مستوى الجوهر[19].
ثالثاً: في المقومات الأساس لصناعة إعلام إسلامي جديد
لا ينتابنا أدنى شك في أنّ التحدي الجوهري الذي رفعته وترفعه الثورة الرقمية في وجه الإعلام الإسلامي لا يتمثل في التقنية، بنية تحتية وأعتدة وتطبيقات، بقدر ما يتمثل في عنصرين أساسيين اثنين:
العنصر الأول: ويرتبط بمسألة المرجعية، أمّا العنصر الثاني: فإنّه يحيل على إشكالية المضامين والمحتويات.
1 ـ مقوّم المرجعية في الإعلام الإسلامي
إنّ مرجعية الإعلام الإسلامي ثابتة ولا اختلاف حولها، إنّها تنهل من معين الدين الإسلامي، قرآناً وسيرة نبويّة. ولمّا كانت كذلك فهي التي من المفروض أن تبني العملية الإعلامية في فلسفتها وأدواتها، وتحدّد المسالك التي يجب أن يسلكها الخطاب الإعلامي، سواء بالكلمة أو بالصوت أو بالصورة أو بالحامل الألكتروني أو بها مجتمعة. بيد أنّ الاحتكام إلى هذه المرجعية يستوجب استحضار العناصر الأساسية التالية عند صياغة المضمون الإعلامي:
أولاً: الالتزام بالتصوّر الإسلامي، أي أنّ على الإعلام الإسلامي أن يلتزم في مضمونه ووسائله بالتصوّر الإسلامي للإنسان والكون والحياة، والمستمد أساساً من القرآن الكريم وصحيح السنّة النبويّة.
ثانياً: تحديد الأهداف المحورية الكبرى، إذ "الإنسان هو الهدف والغاية، وأي استثمار يغفل الإنسان ويتجاهل عقله هو استثمار لا قيمة له ولا جدوى من ورائه، لأنّ هؤلاء البشر هم المكون الأساسي في بناء الأمم، ومن ثمّة فإنّ هدف المؤسسة الإعلامية الإسلامية هو بناء إنسان النهضة، وأيّ هدف آخر يأتي تابعاً، وبما لا يتعارض مع هذا الهدف الأسمى"[20].
بالتالي، فإنّ تحديد هذه الأهداف إنما يستلزم من القائمين على الإعلام الإسلامي تزويد الجماهير المسلمة وغير المسلمة "بحقائق الإسلام، والقضاء على المعتقدات الخاطئة والمفاهيم المغلوطة عن الإسلام والمسلمين، واتخاذ كافة الوسائل التي تنمي ملكة التفكير المبدع لدى الإنسان"[21].
ثالثاً: تصميم الخطاب وفق طبيعة الشريحة المستهدفة، فلا بدّ أن يستقرّ في وعي القائمين على الإعلام الإسلامي أنّ رسالتهم موجّهة إلى كلّ الناس، وهذا يفرض عليهم "تنويع لغة الخطاب بما يناسب الداخل العربي المسلم، والخارج الغربي وغيره، وتنويع الاهتمامات بحيث تجذب لها شرائح متنوعة ومتعددة، كلّ يجد بغيته في الإعلام الإسلامي الرشيد"[22].
رابعاً: مراعاة فقه الأولويات، إذ لا بدّ أن يكون "عنصراً رئيسياً في التوجهات والقرارات واختيار البدائل، فلا يتمّ الاشتغال إعلامياً بالفروع عن الأصول، ولا يتمّ الإصرار على أمر تغلب مضاره على فوائده، حتى لو كان في أصله صحيحاً"[23].
إنّ مسألة تحديد الأولويات لا تجد أهميتها وقوتها في تقديم هذا على ذاك عند تشكيل وبناء المادة الإعلامية، بل تجدهما في كونها تقدّم الأهم على المهم، والمهم على الأقل أهميّة وهكذا. بمعنى أنّ هذه المسألة تساعد على تجاوز الحشو، وتنفذ مباشرة إلى مبتغى تحديد الخطة الإعلامية العملية، المبنية على الدراسة العلمية والواعية بثلاثية: من تخاطب؟ بمَ تخاطب؟ لماذا تخاطب؟
خامساً: المراهنة على الزمن الطويل، لأنّ الإعلام الإسلامي لا يراهن على التأثير الآني والعابر، بقدر ما يجب أن يراهن على مسألة "ترك الأثر"، على مستوى الأفكار والسلوكيات والتمثلات والإدراكات، المحيلة على الفرد والمحيلة على الجماعة سواء بسواء[24].
إنّ من الوظائف السامية للإعلام الإسلامي أن يعمل على رفع منسوب الوعي الديني للمتلقين، ويسمو بمداركهم الأخلاقية والقيمية، في أفق ما يسميه علماء الاجتماع بـ"صناعة الرأي العام".
قد لا يتماشى هذا المطلب مع إكراهات العملية الإعلامية، التي غالباً ما تنشد الآنية والسرعة ومستوى نسب المتابعة، وقد لا يتماشى كذلك مع النموذج الاقتصادي الذي لا محيد عن توازن مكوناته، بما يخدم المردودية والربحية وإعادة دورة الاستثمار.
إلا أنّ هذا الأمر قد لا ينطبق دائماً على طبيعة "الرسالة" التي يتطلع الإعلام الإسلامي إلى بنائها وتشكيلها وترويجها، إذ الرسالة إيّاها من خاصية محددة دون شك. ولما كانت كذلك، فإنّ المفروض ألا تخضع لقوانين ومعايير وإكراهات الإعلام التجاري أو الاقتصادي أو السياسي، والذي ينشد التوازن في نموذجه الاقتصادي والمالي، وقد لا يهتم كثيراً بمواصفات الرسالة إن هي لم تمتثل التوازن ذاته أو امتثلته.
سادساً: صياغة مفاصل استراتيجية الإعلام الإسلامي. المسألة هنا تستحضر كلّ المستويات السابقة، لكنها تتجاوز على جوانبها النظرية العامة لبناء الاستراتيجية العملية القابلة للتنفيذ. ويبدو، في هذه النقطة، أنّ الاستراتيجية ذاتها إنما يجب أن تراهن لبلوغ الأهداف على استحضار المستويات الثلاثة الكبرى التي تؤسس الخيط الناظم لكلّ الاستراتيجيات من هذه الطينة:
ولعل أول مستوى هو مستوى المرسل، أي الباعث بالرسالة. وهو مستوى مركزي، ليس فقط باعتباره "الأداة البيداغوجية" التي من وظائفها ضمان التصريف الأمثل للمضمون، ولكن أيضاً لأنّه هو المستوى الذي يضمن نجاح تمرير الرسالة وبلوغ إمكانات التأثير التي تتطلع إليها، ومنسوب الأثر الذي تراهن على تركه في النفوس وفي الأذهان.
المستوى الثاني هو مستوى مضمون الخطاب، وهو مستوى مركزي أيضاً، لأنّ الرهان متمحور هنا حول مدى قدرة الخطاب الإعلامي الإسلامي على تقديم الصورة الصحيحة للإسلام، لا سيّما التسامح وإزاحة الشبهات التي تساهم في تشويه صورة المسلمين، أو تقدّمهم بصورة لا تليق بهم على أساس من استحضار هذه الخلفية السلبية أو تلك.
أمّا المستوى الثالث فهو مستوى المتلقي. بهذه الجزئية يجب أن ينطلق الخطاب الإعلامي الإسلامي من مسلمة أنّ متلقي الرسالة هو جمهور متعدد ومتنوع؛ فمنه عامة الناس الذين يحتاجون خطاباً سهلاً، يسهل عليهم استيعابه وفهمه، يخاطب حاجاتهم ويزيل عن أذهانهم الشبهات، وقد يكون المستقبل نخباً فكرية، حيث من المفروض أن تصاغ الرسالة وفق معايير ومقاييس ومواضيع محددة.
وقد يكون المتلقي هو العالم الخارجي، وفي هذه الحالة من المفروض أن يكون الخطاب هنا متبنياً لـ"رؤية إسلامية عالمية مطمئنة، موجهة إلى ذلك العالم الحذر والقلق والمترقب"[25].
كلّ هذه العناصر والمستويات لا يمكن أن تؤطر التأطير الجيد إلا إذا احتكمت إلى المرجعية الإسلامية التي من شأنها إقامة البنية وتشييد البنيان، بنيان تصريف الاستراتيجية في جانبها المتعلق بالمحتويات والمضامين.
2 ـ آليات تصريف مفاصل الاستراتيجية الإعلامية الإسلامية
آليات التصريف هنا لا تقتصر على طرق وأدوات إنتاج مضامين الخطاب المراد ترويجه، بل يجب أن تتعداها إلى الأبعاد العملية التي تعطي للخطاب ذاته الجسد والمظهر، لذلك فإنّ المفروض أن تكون الآليات ذاتها مرتكزة على العناصر الكبرى التالية:
أولاً: تهيئ الدراسات الدقيقة (النظرية والتطبيقية) التي من شأنها تحديد طبيعة ومواصفات الجمهور المتلقي للخطاب الإعلامي الإسلامي، وهذا ما يمكن من إعداد الخطط العلمية التي تتوافق مع ظروف الجماهير المتلقية، وتتناسب مع واقعها الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، وتلبي احتياجاتها وتتناول مشكلاتها.
كلّ هذا يستوجب إنشاء مراكز البحوث والدراسات الإعلامية التطبيقية ودعمها، أي تلك التي من شأنها تعليم ونشر طرق وأساليب العمل الإعلامي، المهني والاحترافي والمتخصص.
ثانياً: التركيز على تصميم المواد الإعلامية النوعية وإعدادها وإنتاجها، وانتقاء الأفضل منها، وذلك حسب رسالة الوسيلة الإعلامية، وبما يضمن تحقيق استراتيجيتها وإدراك أهدافها. معيار الجودة هنا أساسي ومفصلي، لا سيما في المواد الدينية التي لن تستطيع استقطاب الجمهور في غياب هذا المعيار.
إنّ مسألة انتقاء الأفضل لا تتعلق بالمضامين المنتجة والمحتويات المصممة فقط، بل تتعلق أيضاً بالصياغة الفنية لهذه المضامين والمحتويات، وكذلك أشكال وأساليب التقديم التي من المفروض اعتمادها من لدن هذا المنبر أو ذاك[26].
ثالثاً: العمل على أن يتكفل بمضامين الإعلام الإسلامي علماء لهم وزنهم ومصداقيتهم، ويمتازون فضلاً عن ذلك بإدراكهم لقيم الوسطية والاعتدال، وتمثلهم لمقاصد الدين الإسلامي الحنيف، على خلفية من تحفيزهم على العمل وفق مبدأ: "تقديم المشترك العام الذي يجمع، وترك ما من شأنه أن يفرّق".
ويبدو، في هذه النقطة، أنّ العالم وحده لا يستطيع أن يحمل على عاتقه مضمون الرسالة وشكلها، إنّه بحاجة لأن يتسلح بالحد الأدنى من أدبيات الأداء الإعلامي، وأن يدرك أنّ لكل منبر خاصياته ومواصفاته التي إن لم تؤخذ بالحسبان، فسيطال الضرر لا محالة الرسالة شكلاً وجوهراً، ناهيك عن الضبابية التي قد تشوبها عند محطة التلقي.
عنصر التكوين الإعلامي في هذا الباب أساسي وهام، ليس فقط باعتباره المدخل الأساس لأيّة ممارسة إعلامية، ولكن أيضاً لأنّه هو الذي يعطي للمادة الإعلامية جودتها وقيمتها.
رابعاً: الاحتكام إلى التدرجية كإحدى عوامل إنجاح الاستراتيجية، "لأنّ كثيراً من المفاسد والانحرافات التي تحيط بوسائل الإعلام قد استغرق نشرها وتكريسها زمناً ممتداً، وإصلاحها أو تخليص الإعلام منها يحتاج إلى زمن ممتد أيضاً"[27].
ليس من المهم هنا أن نقدّم هذه القضية على تلك أو نأخّرها، بقدر أهمية وضعها في نسقية من التدرج لا تبترها من سياقها فتبدو حالة نشاز، ولا تخضعها للمعالجة الموسمية فتبدو كأنها موجّهة ضدّ هذه الجهة أو تلك، طائفة كانت أو مذهباً أو عرقاً أو معتقداً أو لغة.
إنّ التدرجية هنا هي من صميم العمل الإعلامي، ولمّا كانت كذلك، فلا عيب أن تكون من صميم العمل الإعلامي الإسلامي، شريطة أن يتمثلها القائمون على هذا الأخير، وأن يشتغلوا على أساس استحضارها.
خامساً: العمل على أن يعمد الإعلاميون وعلماء الدين لإيجاد أرضية مشتركة بخصوص العديد من القضايا الإشكالية، والتي قد لا يستقيم الأداء الإعلامي دون حسمها، والتلميح هنا يحيل على مسألتين اثنتين بالتحديد:
- مسألة التجديد الديني، فما تزال التجاذبات قائمة بقوة، من حيث مضمونه ودلالته وحدوده.
- مسألة التجاذب المتزايد بين أولوية الديني/العقدي والسياسي/الاجتماعي، أي بين المتأصل في الدين، وبين الاجتهادات التي تراهن على مراعاة واقع الحال.
هاتان المسألتان، والآليات التي قدمنا بعضاً من عناصرها في السطور السابقة، ليس من شأنها تقديم خطة عمل تطبيقية لما يجب أن يكون عليه الإعلام الإسلامي، بقدر ما سوف تساهم في وضع الإطار العام لآليات تصريف الرؤى والاستراتيجيات البانية للخطة نفسها.
وهي آليات قد تكون غير كافية في بعض مفاصلها، لكنها تبدو ضرورية لاستنبات إعلام إسلامي يكون في مستوى "الرسالة"، ويكون في الآن ذاته في مستوى التحديات التي تطال هذه الرسالة، إذا لم يكن في وجودها، فعلى الأقل في أنماط وأساليب استقبالها، في زمن بات الإعلام والشبكات الرقمية في ظلها سلطة قائمة، بل ومتجاوزة السلطات التقليدية المعتادة.
على سبيل الختم
من المبالغة القول اليوم إنّ الأمّة العربية/الإسلامية تتوفر على إعلام يستقي مادته وموضوعاته من الدين الإسلامي، قرآناً وسُنّة. هذا من باب المأمول والمنشود، لا من باب الواقع القائم. بيد أنّ الذي نحن بإزائه إنما هو مواد إعلامية مكتوبة ومرئية ومسموعة ومقتنية للشبكات الألكترونية، لا يكون الدين الإسلامي إلا لوناً من ألوان تشكيلة منبرها في الشكل والمضمون.
لقد كان (من ذي قبل) مسوّغُ ندرة التقنية وغياب أدوات العمل أمراً معقولاً ومقبولاً عند نقد حصيلة مخرجات الإعلام الديني (الإسلامي على وجه التحديد)، لكنّ المسوغ ذاته لم يعد له من وجاهة كبيرة في ظلّ الثورة الرقمية، وانفجار البث الإذاعي والتلفزيوني العابر للحدود، والطفرة العميقة التي أتت بها الشبكات الرقمية وفي مقدمتها شبكة الإنترنيت.
ولذلك، فإنّ النظرة إلى واقع الإعلام الإسلامي ومستقبله قد تغيرت، بل إنّ الرؤى والاستراتيجيات السائدة إلى حين عهد قريب، لم تعد هي النظرة نفسها زمن السواتل والفضائيات والمد المتعاظم لظاهرة الإعلام الجديد.
إنّ المسألة اليوم التي تقف حجر عثرة أمام تكريس إعلام إسلامي جديد إنما تتمثل في عدم إدراك حقيقة أنّ الإشكال لم يعد مرتبطاً بالتقنيات، بنى وأعتدة وحوامل، بقدر ما بات مرتبطاً بجانب تصميم وإنتاج وإخراج وتقديم الرسالة الدينية المتمحورة حول الإسلام، في قوالب جديدة، وبمضامين جديدة محببة وراقية، تنشد التجميع لا التفريق، وتنبني على مرجعية واضحة، لا تقبل المزايدة أو التأويل.
بالتالي، فإنّ صياغة أيّة رؤية يجب أن تنطلق من توضيح المرجعية، والبناء عليها لاستنبات التصور، ثم البناء عليه لصياغة الاستراتيجية، ثم الارتكاز على هذه الاستراتيجية لتصميم مفاصل الخطة العملية، أي القابلة للتنفيذ ثم للتقييم في أفق التقييم المستمر.
ما من شك أنّ ثمة قضايا جوهرية مستجدة، من قبيل قضية تجديد الخطاب الديني وإقامة الحدود بين العقدي والاجتماعي والاقتصادي، لكنّ ذلك لا ينفي أن تكون الرسالة مصاغة بمهنية واحترافية وفنية تستقطب لمتابعتها المسلمين وغير المسلمين.
وهذا أمر من اليسير تجاوزه، لا سيّما إذا تشبع الإعلامي بروح المرجعية الإسلامية الصحيحة، وتمثل عالم الدين فلسفة العمل الإعلامي الجاد والمهني. وهي المهمة التي من المفروض أن تقوم عليها هيئات التكوين والجامعات ومراكز البحوث والدراسات، التي ينبغي أن تدفع بها الدول الإسلامية كمشروع جماعي شامل، لا كمبادرات فردية مشتتة.
* نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، العدد الثامن، 2016، إصدارات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث
[1]ـ راجع في تحديد الإعلام الإسلامي: إبراهيم إمام، "أصول الإعلام الإسلامي"، دار الفكر العربي، القاهرة، 1985
2 ـ راجع: أحمد عظيمي، "الإعلام الديني: نحو تخصص جامعي جديد"، مجلة الإذاعات العربية، العدد 3، تونس 2012، ص 60-70
Willaime. J. P, «Les médias et les mutations contemporaines du religieux», Autre Temps, Cahiers d’Ethique sociale et politique, n° 69, 2001, 13 p
Saafi Kalthoum, «L’Islam cathodique et les révolutions arabes», Sans Référence, 5 Septembre 2011
5ـ راجع الملف الخاص من مجلة الإذاعات العربية: "المشهد الإعلامي الديني عبر الفضائيات العربية"، مجلة الإذاعات العربية العدد 3، تونس 2012
[6]ـ يذهب البعض، في الطرح عن "عودة الأديان"، إلى حد القول بـ"انتقام الأديان"، أي انتصارها على الفلسلفات المادية.
7ـ بوعلي نصير، "الخطاب الديني ووسائل الإعلام: دراسة نقدية"، مجلة المعيار، فصلية، جامعة الأمير عبد القادر، الجزائر، دجنبر 2007
[8]ـ محمد سيد محمد، "المسؤولية الإعلامية في الإسلام"، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986، ص 56
[9]ـ أحمد عظيمي، "الإعلام الديني"، مرجع سابق الذكر.
10ـ محمد الغيلاني، "الخطاب الديني في القنوات الفضائية العربية: دراسة وتحليل للمضمون"، مؤسسة مومنون بلا حدود، الرباط 13 نونبر 2013
[11]ـ التكنولوجيا عموماً لا تقدّم الحل، إنها تساعد على إيجاده. فإذا لم يكن الهدف محدداً بدقة، فإنّ استعمال التكنولوجيا قد يأتي بنتائج عكسية، فيزيغ الاستعمال عن إدراك الهدف.
12ـ على الرغم من وجود منظمات إسلامية متخصصة، فإنها تبقى رهينة التوازنات القائمة بين البلدان الأعضاء، ومناديب هذه الأخيرة لدى الأولى يبقون ملتزمين بسياسات بلدانهم.
13ـ لذلك يقال إنّ الأزمة هي عنصر محفز، لأنها تدفع المرء لأن يبدع للبحث عن مخارج لها ومنها.
14ـ راجع في إشكالية تجديد الخطاب الديني بارتباط مع وسائل الإعلام: بوعلي نصير، "الخطاب الديني ووسائل الإعلام"، مرجع سابق.
Hjarvard. S, «The mediatization of religion: a theory of the media as an agent of religious change», The Sigtuna Fundation, Stockholm, Sweden, 6-9 July 2006, 16 p.
16ـ راجع بهذا الخصوص: يحيى اليحياوي، "حدود الإعلام في ظل ثورة الشبكات الرقمية"، ضمن مؤلف "في القابلية على التواصل"، مرجع سابق.
17ـ عن ظاهرة الدعاة الجدد، راجع: وائل لطفي، "ظاهرة الدعاة الجدد: الدعوة، الثروة، الشهرة"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2005، 218 ص
18ـ راجع: يحيى اليحياوي، "الخطاب الديني في الفضائيات العربية: مقاربة من منظور الموسطة"، مؤسسة مؤمنون بلا حدود/المركز الثقافي العربي، الرباط (سيصدر قريباً).
[19]ـ يحيى اليحياوي، "الخطاب الديني في الفضائيات العربية" مرجع سابق الذكر.
[20]ـ عصام زيدان، "الإعلام الإسلامي: تحديات الوجود واستراتيجية التطوير"، البيان، العدد 279 (بدون تاريخ).
[21]ـ عصام زيدان، "الإعلام الإسلامي"، مرجع سابق الذكر.
[22]ـ عصام زيدان، "الإعلام الإسلامي"، مرجع سابق الذكر.
[23]ـ عصام زيدان، "الإعلام الإسلامي"، مرجع سابق الذكر.
24ـ راجع بهذا الخصوص: يحيى اليحياوي، "عن دور الإعلام في إصلاح الواقع"، مداخلة بالندوة الدولية "الإعلام والأخلاق"، مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، الدوحة، 2/3/4 نونبر 2013
25ـ مسألة اللغة على هذا المستوى مهمة للغاية، إذ المفروض أن تصاغ الرسالة الإعلامية الدينية وفق لغة المتلقي بما يضمن انسيابيتها.
[26]ـ الرسالة الإعلامية ليست مضموناً ومحتوى فحسب، بل هي أيضاً تصميم من ناحية الفن والإخراج والتقديم.
[27]ـ عصام زيدان، "الإعلام الإسلامي"، مرجع سابق الذكر.