من الشرعية المعطوبة... إلى العقد الاجتماعي العربي الجديد


فئة :  قراءات في كتب

من الشرعية المعطوبة... إلى العقد الاجتماعي العربي الجديد

من الشرعية المعطوبة... إلى العقد الاجتماعي العربي الجديد

(تقديم لكتاب "نحو عقد اجتماعي عربي جديد" لغسان سلامة)


يُمثل كتاب غسان سلامة نحو عقد اجتماعي عربي جديد[1] مرحلةً متقدمةً من مسار الجهد الذي بذله الفكر السياسي العربي في مجابهة المعضلات التي تطرحها عليه المسألة السياسية، منذ أن أدرك حقيقة تأخره التاريخي في مرآة صدمة لقائه بالغرب الحديث، ومذ أدرك، أيضاً، أنّ مرد جزءٍ كبيرٍ من تأخره ذاك إلى الدولة وعطبها التكويني الذي جعل منها دولة تسلطية قوامها الغلبة والتسلط والقهر[2]. والكتابُ يأتي بعد أعمالٍ ألفها الرجل في مضمار تفكيك إشكالية ترسيخ الديمقراطية في العالم العربي ووضع اليد على تمفصلاتها الكبرى، سواء ما تعلق منها بالدولة والسلطة في التجربة العربية، أو بالمجتمع وبنيته النابذة لأسس الديمقراطية، وهذا ما أتى على تناوله في كتاب المجتمع والدولة في المشرق والمغرب، كما في كتاب ديمقراطية بلا ديمقراطيين.

انصرف اهتمام غسان سلامة في كتابه الأخير (نحو عقد اجتماعي عربي جديد) إلى النظر في إشكالية الشرعية السياسية، وهو بذلك ينخرط في التفكير في واحدة من القضايا التي ظلتْ تحول دون تحصيل الدولة في الوطن العربي القدر اللازم من المقبولية والمشروعية، اللتيْن تخرجانها من شرعيتها السياسية المنقوصة، بما يقتضيه ذلك من تشخيصٍ لمكامن العطب التي تعتور الشرعية التي ما تزال الدولة العربية تراهن على الإبقاء عليها لضمان استمراريتها التاريخية من جهة، ومن بلورة تصور واضح لشرعية سياسية جديدة، من شأنها أن تخرج الدولة العربية من مأزق شرعيتها المعطوبة الذي عمرت فيه طويلاً من جهة ثانية. كان جواز سلامة إلى غايته هذه التقعيد لما سماه العقد الاجتماعي العربي الجديد، معتبراً أنّ طريق التعاقد يبقى السبيل الأنسب للخروج من وضعية الوهن التي تُعاني منها شرعية الدولة العربية، وقد أسس موقفه هذا على تفكيك بنى الشرعية التي قامت عليها الدولة في التجربة السياسية العربية، وما انتهت إليه من وضعية الرفض في ذهن الأفراد والنخب على نحو ما عبرت عنه أحداث الحراك العربي الأخير، التي دفعت هذا المفكر إلى الإقرار بأنّ "المجتمعات العربية لن تحكم في المقبل من الزمن بالقيم والوسائل والقواعد التي كانت قائمة في الماضي القريب"[3]. ولعل هذا ما يسوغ إقدام غسان سلامة على صياغة مضمونٍ جديدٍ للعقد الاجتماعي العربي، من طريق الجمع بين فكرة المواطنة، والفكرة العربية، وفكرة الديمقراطية والحقوق، معتقداً أنّ ذلك يبقى المدخل الأنسب لفهم أزمة الدولة العربية وبلورة فهمٍ معقولٍ، بالتالي، لإمكانيات الخروج من مأزق شرعيتها السياسية.

أ- على الرغم من ارتكاز غسان سلامة على كثيرٍ من المرجعيات النظرية في صياغته لمفهوم الشرعية، كتلك التي بلورها ابن خلدون وفيبر، فإنّه فضل الاعتداد بتصور إيستون في تشخيصه لمسارات الشرعية السياسية في العالم العربي. انطلق هذا الأخير من نمذجة فيبر القائمة على التمييز، في ضروب الشرعية، بين الشرعية التقليدية، والكاريزمية، والعقلانية القانونية الحديثة، غير أنّه حاول توسيعها حتى تصير أقدر على استيعاب مسألة الشرعية في اجتماعات سياسية لا تطابق الاجتماع السياسي الغربي بالضرورة. وإذا كان فيبر يبوئ الحاكم مكانةً مركزيةً في صوْغ الشرعية الكاريزمية، فإنّ إيستون خفف من حدة هذا البعد الشخصي عندما أدخله في بناء شرعية الحاكم والزج بها في مضمار النسق السياسي ككلٍ، وبصرف النظر عن كاريزما الحاكم من حيث هو شخص في حد ذاته. يُلاحظ سلامة أنّ حظ العنصر الشخصي من صياغة الشرعية في العالم العربي ما يزال كبيراً، وهو ما بات يؤكده تداولُ وسائل الإعلام للرموز والشخصيات السياسية، حيث قاد ذلك في نظره إلى تكريس "شخصنة" السياسة في المجتمعات الحديثة والنامية على السواء، وهي ملاحظةٌ تنطبق، بالأحرى، على الاجتماع السياسي العربي، الذي ما يزال فيه التركيز على الأشخاص حاداً حتى بعد وفاة جمال عبد الناصر، وعلى الرغم من "تضاؤل كاريزما عدد من الزعماء كبار السن"[4]. يستنتج سلامة من ذلك أنّ العنصر الكاريزمي لا ينحصر، فقط، في البعد العجائبي والسحري من شخصية الحاكم، وإنّما ينبع، أيضاً، من "المسلك اليومي للملوك والأمراء والرؤساء". يضع هذا المفكر، بإشارته هذه، يدهُ على تحولٍ أخذ يدب في أوصال الثقافة السياسية العربية، التي بدأتْ تنفتح أكثر على دمج الشروط الأخلاقية في مكون الشرعية السياسية، وهو ما من شأنه أن يفتح الباب، مستقبلاً، أمام محاسبة الحاكم، باعتباره شخصاً أولاً، ومن حيث هو مسؤول ثانياً، انطلاقاً من هذه الشروط المعيارية والأخلاقية.

لا يعني هذا أنّ السلطة الكاريزمية، القائمة على العنصر الشخصي أساسًا للشرعية، تكفي لفهم عملية إنتاج الشرعية السياسية في العالم العربي وتشخيص مكامن أورامها، خاصةً أمام قوة حضور الإيديولوجيا في الاجتماع السياسي العربي المعاصر. لذلك كان من الطبيعي أن يعتبر سلامة الإيديولوجيا ثاني مكونات الشرعية السياسية العربية، اعتقاداً منه أنّه "عندما تستولي سلطةٌ عربيةٌ على إيديولوجيا، تحولُها في واقع الحال إلى 'دين دولة'، أي إلى مجموعةٍ من الأفكار المفروضة على المجتمع فرضاً"[5]. تُحدد الإيديولوجيا هوية المواطنة في الأنظمة العربية، ويلاحظ سلامة أنّ توظيف العنصر الإيديولوجي عقيدةً سياسيةً يختلف من قطر عربي إلى آخر، غير أنّ الثابت في ذلك الاختلاف إخضاع العقيدة الإيديولوجيا للسياسة ومنطقها التسلطي، وسواء تعلق الأمر بإيديولوجية دينية، أو اشتراكية، أو ليبرالية أو قومية، فإنّها تنتهي إلى تكريس وضعية التسلط ونفور المواطن من الدولة. إنّ كثافة استعمال الإيديولوجيا في الأقطار العربية تشي بضعف شرعية الدولة فيها، وهو ما يشهد به إثخان تلك الدول في "المس المُنظم بحقوق الإنسان، وحرمان فئاتٍ واسعة من المجتمع من خبراته"[6]. لذلك أمكن القول، في نظر هذا المفكر، إنّ الدول العربية تعيش اليوم أزمة إيديولوجيات؛ إذ مهما تضخمت إيديولوجية الدولة فإنّها لا تستطيع مدها بما يكفيها من أسباب الشرعية والمقبولية التي تحقق لها ما تحتاجه من رضى المواطنين، الأمر الذي يعني أنّ الدولة ملزمة بالدفع بشرعيتها إلى خارج مجال المكون الإيديولوجي، على الرغم من كل ما يمكن أن يقال عن تصاعد الإسلام السياسي وصيرورته إيديولوجيا قادرة على شحذ الأذهان، فذلك ليس، في نظر سلامة، إلا تعبيرًا عن "هشاشة الإيديولوجيات السائدة".

نستنتج من هذا القول أنّ الدولة في الأوطان العربية مدعوةٌ إلى تأسيس شرعيتها على قواعد تنهل صلاحيتها من خارج دائرة المكونَيْن الشخصي والإيديولوجي؛ أي من المكون البنيوي. يُعبر هذا الأخير عن البعد المؤسساتي من مسألة الشرعية، فهو تجسيدٌ لمسار تكتسب فيه المؤسسات والمعاملات القانونية استقراراً وقيمة في ذاتها، وهذا ما يحيلنا على حديث فيبر عن الشرعية العقلانية الحديثة المرتبطة بالقانون، من حيث هو تعبيرٌ عن العقلنة التي أدركتها الدولة الحديثة على مختلف المستويات؛ في الاقتصاد والتعليم كما في الجيش والإدارة. لذلك يقرن سلامة هذا الضرب من الشرعية بالشرعية الدستورية، التي راهن عليها مايكل هدسون في إخراج الدولة العربية من مأزق شرعيتها المعطوبة. لقد لاحظ هذا الباحث أنّه على الرغم من التقدم الذي حققته الدول العربية على مستوى عملية المأسسة في بعض المجالات كالتربية والقضاء، فإنّ العملية تلك ما تزال ضعيفةً على مستوى المشاركة السياسية. نقرأ له قوله في هذا المعرض؛ "من الصعب على أيٍ كان أن يحكم العرب (...) فالسياسة العربية غير قادرة على إنتاج شرعية بنيوية، ولذلك فهي تواجه خيارين لا ثالث لهما، وأحلاهما مر؛ إما قيام أنظمة تسلطية، استقرارها مشروطٌ بقدراتها القمعية، وإما العودة إلى الحمى السياسية المخلخلة التي حكمت عقدي الخمسينيات والستينيات"[7]. يقتضي الخروج من هذا المأزق الانتباه إلى حاجة الدول في الوطن العربي إلى جسر الفجوة بين الفرد والسلطة، بما يستتبعه ذلك من تقوية المشاركة السياسية ومأسستها كما لاحظ هدسون. يكاد جل الباحثين في أزمة شرعية الدولة العربية أن يجمعوا على ما ينجم عن الفجوة تلك من وضعٍ قلق يحول دون توحيد مجال السلطة والدولة بمجال الحرية والأخلاق كما لاحظ عبد الله العروي[8]. لذلك يمكن القول إنّ الاختلاف القائم بينهم يتعلق، بالأحرى، بالسبيل التي ينبغي اتباعها من أجل إدراك هذا المستوى من الشرعية الدستورية؛ بين من يعتقد أنّ ذلك يتحصل بتجسير الفجوة بين المثقف والأمي، حتى يلعب الأول دور الوسيط المُعقلِن، والمحامي الأمين المدافع عن حقوق المجتمع الأهلي وتطلعاته؛ وبين من يؤمنون بضرورة قيام جبهة ديمقراطية تضم كل المؤمنين بالديمقراطية وحقوق الإنسان وكرامته والحريات الأساسية في جميع الأقطار العربية، من أحزاب سياسية ونقابات واتحاداتٍ وهيئات وجمعياتٍ وطلاب وعمال وفلاحين وكسبة[9]. غير أنّ غسان سلامة، ولئن كان لا يعترض على مثل هذه الخيارات، فإنّه يفضل التقعيد للشرعية الدستورية من طريق ما سماه العقد الاجتماعي العربي الجديد، الأمر الذي يشي بقوة حضور فكرة التعاقد في تصوره لتلك الشرعية. فما هو مضمون هذا التعاقد الاجتماعي الجديد؟ وبأي معنى يكون ضمانة لشرعية دستورية قادرة على إسعاف الدولة بالمقبولية الكافية لقيامها واستقلالها كدولةٍ تجد في ذاتها علة وجودها؟

ب- استبدت مسألة الشرعية بتفكير غسان سلامة، وقد بين، من خلال تحليله لمكونات الشرعية كما لعناصر الشرعية الدستورية ومفارقاتها في الدول العربية، مقدار الحاجة إلى مجاوزة الشرعية التي قامت عليها هذه الأخيرة، سواء تمثلت في ما سماهُ بشرعيةَ الأصول، أو شرعيةَ التمثيل، أو شرعيةَ الإنجاز، صوب ما وصفها بالشرعية العقلانية-المؤسسية القادرة على إرساء دعائم الديمقراطية في الوطن العربي.

يشير غسان سلامة، بموقفه هذا، إلى الصعوبات التي ما يزالُ يطرحها المضمون القومي للدولة العربية على العقد الاجتماعي الجديد؛ إذ يلاحظ أنّ هناك حاجة إلى تحرير الفكرة العربية من المشاريع السياسية التي استولت عليها، بل وبررت بها الأنظمة العربية أشد مُمارساتها إيلاماً للمواطنين[10]. الأمر الذي يضعُنا أمام دعوة إلى مراجعة الفهم الكلاسيكي لمفهوم العروبة الذي انتهى إلى تحويلها إلى "دينٍ سياسيٍ". بيد أنّ ذلك لا يعني تخلي هذا المفكر عن الفكرة العربية، فهو يعتبرها "بالضرورة مكوناً من العقد الجديد"، ويُقر بأنّ "أفضل 'دعوة' تتبناها الدولة الوطنية في عالمنا هذا هي دعوة التوحيد العربي"[11]، لا سيما في ظل ما لاحظه من قصور الفكرة الإسلامية عن تحقيق مشروع الوحدة والدولة القوية، الأمر الذي يعني أنّ ما يدفع هذا المفكر إلى الدفاع عن فكرة العروبة ليس إيماناً عقائدياً ضيقاً بها، وإنّما المصلحة، انطلاقاً من القول إنّ الشرعية العقلانية –المؤسسية "لا تأنف عن دراسة المصالح، بل هي تضع تحديد المصالح الوطنية في صُلب اهتماماتها على حساب الشعارات الإيديولوجية"[12].

استطاعت فكرة الدستور حمل الوعي السياسي العربي على إدراك محدودية الدولة التقليدية بقدر ما نبهته إلى الدور السلبي الذي تتخلخل به كل محاولة لتأسيس الدولة الوطنية على شرعيةٍ حديثة. نذكر من بين تلك الصعوبات تلكَ التي تنجمُ عن علاقة الدستور بالمواطنة والانتماء إلى الوطن؛ إذ بدلاً من حديث الشرع عن دولة الخلافة التي هي دولة المسلمين كافةً، بما يلزم عنه من رفض الفقهاء عقد الإمامة لأكثر من إمام واحدٍ، ورفضهم، بالتالي، تجزئة "دولة المسلمين" إلى دول قطرية تفتقر إلى الشرعية في نظرهم، فإنّ الدولة الحديثة قامت على فكرة المواطنة بحسبانها علاقةً أفقية بين الحاكم والمحكوم، قوامُها الانتماء إلى الوطن من حيث هو مجال جغرافي محدد لسيادة الدولة[13]. إنّنا نُشدد على هذا التقابل لأنّه يتضمن صراعاً بين تصورين للشرعية السياسية كان من الصعب اجتماعهما في بنية تشريعية واحدة؛ ففيما عمدت التشريعات الفقهية إلى الحديث عن علاقة المسلم بالحاكم، والرعية بالإمام، وفيما صدرت في ذلك عن اعتقادها بأنّ ما يحدد هوية الأمة هو شرطها الديني، فإنّ فكرة الدستور كانت سليلة مفهوم سيادة الشعب باعتباره المنبع الرئيس للسلطة السياسية، وبالتالي، حقه في الرقابة على السلطة. يقول رضوان السيد؛ "إنّ مشكلة المسلمين مع الإسلام كانت منذ البداية أنّه دين إيديولوجيا بغير جغرافيا، تهمه هوية الأرض، أكثر مما تهمه الأرض"[14]، وهذا يطرح على الوعي السياسي الإسلامي صعوبة على مستوى معنى الانتماء وهوية المواطنة؛ هل تتحدد بالانتماء إلى الدين أم إلى الوطن؟ اختار الفكر السياسي الحديث، مع فكرة الدولة الوطنية، تأسيس الاجتماع على التعاقد، والمواطنة على الانتماء إلى الوطن، غير أنّ البنى القبلية والعصبوية، المتجذرة في الاجتماع السياسي العربي، ظلتْ تتغذى على المذهبية (الدينية، والقبلية، والثقافية)، كابحةً بذلك كل محاولةٍ لترسيخ فكرة المواطنة، الأمرُ الذي جعل غسان سلامة يقر، وبلغةٍ خلدونية، بأنّ "الدفاع عن العصبية [يقتضي] تجاهلاً للأوطان"[15]، بل وكرس وعياً سلبياً بالدولة والسياسة.

خلف الرفض المبدئي للدولة العربية الحديثة يثوي وعيٌ سلبي بالحاجة إليها سرعان ما يشوش على مقبوليتها في ذهن الأفراد، ويزحزح، بالتبعة، فكرة الوطنية نفسها. يرفض الليبرالي الدولة القائمة باسم إثخانها في الاستبداد ومعاداتها للحرية، ويرفضها القومي بسبب قطريتها، والإسلامي بسبب مجافاتها لروح الشريعة، والماركسي لأنّه يعتبرها تجسيداً لمصالح طبقية معينة[16]، غير أنّ نقد الدولة لا يعني نفي وجودها، فهي واقع لا يرتبط بالنفي، لذلك نقرأ لغسان سلامة؛ "سهلٌ الاعتداء على الروح الوطنية، سهل وصفها بالقطرية والانعزالية، سهل تأليف القوميين والإسلاميين والماركسيين ضدها. ولكننا، شئنا أم أبينا، نعيش في عالم هو عالم الدول، لها حدود، ولها شخصية قانونية دولية. علينا التعامل مع هذا الواقع"[17]. ليس هذا القول دعوة إلى القبول بدولة الأمر الواقع ولا تسويغاً للاستبداد، بقدر ما هو تنبيه إلى حاجة الدولة الوطنية إلى مضمون وطني تدرأ به الممانعة المستشرية في موقف الأفراد منها، طالما أنّ تجاوز واقع الدولة لا يتحقق بالتجاهل وإنّما بالاستيعاب. لقد سبق للعروي أن وصف الغربة التي آلت إليها فكرة الدولة في الوعي العربي بسبب رفض الدولة القائمة باسم طوبى الخلافة في الماضي، وباسم طوبى العروبة في الحاضر، مشددًا على أنّ "كل دولة لا تملك أدلوجةً تضمن درجة مناسبة من ولاء وإجماع مواطنيها لا محالة مهزومة"[18]. وهي عينها الفكرة التي صدر عنها غسان سلامة في دفاعه عن الوطنية باعتبارها بعدًا من أبعاد العقد الاجتماعي الجديد؛ إذ يرى أنّ "عنصرًا أولَ في العقد الاجتماعي الجديد يقوم فعلًا على أنّ روح الوطنية هي إيجابية، وخطوة أولى ضرورية نحو بناءٍ أعظمَ شأناً في المستقبل"[19].

ليستْ الدولةُ الوطنية، في نظر غسان سلامة، دولة المواطنة فحسب، وإنّما هي أيضًا دولة الديمقراطية. لا ينكر هذا المثقف قيمة الجهود التي بذلت في سبيل ترسيخ الديمقراطية من خلال الدفاع عن الحقوق ومواجهة بطش السلطة في العالم العربي، غير أنّه يدرك أنّ خطوة كهذه ليست تكفي لترسيخ مفهوم الديمقراطية، ليس بسبب غربته عن التجربة السياسية العربية فحسب، وإنّما، كذلك، بسبب حاجة هذا المفهوم إلى ثقافة ديمقراطية حاضنة له، يفضل سلامة أن ينعتها بعبارة "الثقافة السياسية البديلة"[20]، في إشارة منه إلى ما تحتاجه الدولة الوطنية الحديثة من تغيير على مستوى البنية الثقافية للمجتمع. لنسجل أنّ الديمقراطية عند هذا المفكر ليست مسألةً سياسيةً فقط، وإنّما هي قضيةُ ثقافةٍ وممارسة "في المنزل ومكان العمل والجامعة والشارع وداخل الحزب والجمعية والنادي"[21]. تشربت الثقافة العربية المفهوم العنيف للسلطة من حيث هي هيمنة وتسلط، وسيكون على الدولة الحديثة أن تعمل على خلخلة هذا الفهم حتى "تخرجنا تماماً من الثقافة الخلدونية التي حولت السياسة فعلاً إلى مجرد استبدال 'رئاسة' بأخرى وفئة متسلطة بأخرى أكثر تسلطاً"[22]. يقتضي الخروج من التصور الخلدوني للسلطة تطعيمها بالمفهوم الحديث لحقوق الإنسان، ولئن كان الفكر العربي الحديث قد شهد محاولات للانفتاح على منظومة تلك الحقوق، فإنّ غسان سلامة يلاحظ أنّ ذلك لم يدرك مرتبة تأصيلها النظري، بسبب غفلته عن "تفهم المعطيات التاريخية لحضارتنا"، وهو ما يطرحُ علينا اليوم مسألة تأصيل تلك الحقوق في الثقافة العربية. ومتى استحضرنا البنية الأهلية للثقافة والمجتمع العربي، أدركنا أنّ مفهوم حقوق الإنسان سرعان ما يجد نفسه ممزقًا بين الفردي والجماعي، فتتبدى الحاجة إلى الديمقراطية التوافقية التي من شأنها أن تستجيب لبعض مقتضيات الاجتماع الأهلي العربي دون أن تكرس محو الفرد وحقوقه من حيث هو مواطن، وهذا ما يفسر تأكيد غسان سلامة على "ضرورة البحث المزدوج في مجال تأسيس الشرعية الجديدة للدفاع عن حقوق المواطنين كأفراد، وعن حقوقهم أيضاً كأعضاء في جماعات"[23]. يتحددُ المضمونُ الاجتماعي للعقد الجديد انطلاقًا من هذا المدخل الحقوقي، الذي من شأنه أن يحدث تغييراً كبيراً على مستوى الثقافة السياسية؛ فهو يسمحُ باستقلالٍ أكبر للمجمع الأهلي في مواجهة الدولة[24]، ليفتح الباب، بذلك، أمام محاسبة السياسيات الاجتماعية التي انتهجتها الدول العربية، "التي لم تكن دائمًا حريصة على المصلحة العامة، بقدر ما كانت تستعمل عملية إعادة توزيع الثروة كوسيلة من وسائل سيطرتها على المجتمع"[25].


[1]- غسان سلامة، نحو عقدٍ اجتماعي عربي جديد، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، 2011، ص 107

[2]- رفاعة رافع الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز (أو الديوان النفيس بإيوان باريس)، ضمن الأعمال الكاملة، تحقيق محمد عمارة، القاهرة؛ دار الشروق، الجزء الثاني، ص 124

[3]- سلامة، نحو عقدٍ اجتماعي جديد، ص 12

[4]- المصدر نفسه، ص 35

[5]- المصدر نفسه، ص 37

[6]- المصدر نفسه، ص 41

[7]- ذكره؛ المصدر نفسه، ص 43

[8]- عبد الله العروي، مفهوم الدولة، بيروت؛ المركز الثقافي العربي، الطبعة السابعة، 2001، ص 164

[9]- سلامة، نحو عقد اجتماعي عربي جديد، ص 45

[10]- المصدر نفسه، ص 107

[11]- المصدر نفسه، ص 101

[12]- المصدر نفسه، ص 102

[13]- المصدر نفسه، ص 72                                                                

[14]- رضوان السيد، الإسلام المعاصر؛ نظرات في الحاضر والمستقبل، بيروت؛ الدار العربية للعلوم، 1986، ص 47

[15]- سلامة، نحو عقد اجتماعي عربي جديد، ص 98

[16]- عبد الإله بلقزيز، الدولة والسلطة والشرعية، ص 140

[17]- سلامة، نحو عقد اجتماعي جديد، ص 99

[18]- العروي، مفهوم الدولة، ص 148

[19]- سلامة، نحو عقد اجتماعي جديد، ص 100

[20]- المصدر نفسه، ص 103

[21]- الصفحة نفسها.

[22]- الصفحة نفسها.

[23]- المصدر نفسه، ص 107

[24]- المصدر نفسه، ص 109

[25]- الصفحة نفسها.