من حلب إلى باريس ـ رحلة حنّا دياب ـ
فئة : مقالات
في سياق ترجمة كتاب "ألف ليلة وليلة" قيل الكثير عن رجل شامي غامض يدعى "حنّا دياب" زوّد "أنطون غالان" الذي انكبّ على ترجمة حكايات الكتاب إلى الفرنسية في العقدين الأول والثاني من القرن الثامن عشر بسيل من الحكايات الطريفة التي ما لبث أن اتخذت موقعها؛ باعتبارها من أشهر قصص الليالي العربية، وعلى الرغم من ذلك فقد خمل ذكر الرجل، ولم تقع الإشارة إليه إلا في يوميات غالان الذي اعترف بأن دياب زوده بكثير من الحكايات، وربما يكون قد كتبها له بالمحكية الشامية، فتولّى ترجمتها إلى الفرنسية، وقد اعترف غالان في يومياته الملحقة برحلة دياب بأنه دوّنها عنه. وما خلا ذلك، فقد أغفل ذكر رجل بارع الأسلوب، وقوي العزيمة، نجح في الوصول إلى باريس، وزيارة القصر الملكي الفرنسي في فرساي عام 1709م، وقدّم عن البلاط الفرنسي، وعن ساكنيه، وصفا خلابا يماثل الأوصاف العمرانية والبشرية في القصور الملكية لدى كبار الرحّالة.
أزيح اللثام عن حنّا دياب، حينما تمّ العثور على نصّ رحلته من سوريا إلى فرنسا، ثم العودة ثانية إلى بلاده
يعرف مدمنو قراءة كتب الرحلات الغربية الحديثة إلى العالم العربي في القرنين الثامن والتاسع عشر عددا وافرا من الرحّالة، لكنهم يجهلون مرافقيهم الذين تولّوا أمر الترجمة لهم، وتسهيل ارتحالهم في عالم مجهول بالنسبة إليهم، ولا يكاد رحّالة شهير توغّل في المشرق إلا واصطحب معه مرافقا مهّد له الطريق في مهمته، وكثير منهم انتحل اسما يتخفى به كما فعل الرحّالة أنفسهم بالتنكّر الذي أخفى شخصياتهم الحقيقية، وربطت الطرفين علاقة تابع بمتبوع، وقد كُتمت أصوات المرافقين في كتب الرحلات، وجرى محو آرائهم، فتحقّق مضمون العقد الذي ربط التابع بالمتبوع بأفضل ما يكون الإلغاء، لكنّ حنّا دياب نقض مضمون هذا العقد الشائع بأن أفصح عن ذاته بصراحة قلّ نظيرها.
من الصحيح أن الرحّالة الفرنسي "بول لوكا" لم يذكره في رحلته الضخمة، وأغفل وجوده، وكأنه لم يلازمه ملازمة السوار للمعصم في رحلته الشاقة بين البلاد في رحلة طويلة جدا، لكنّ دياب أعاد بعث هويته الغائبة برحلة استعادية جذابة بعد مرور أكثر من نصف قرن على حدوثها، وبظهور هذه الرحلة اصطف دياب بين رواد الارتحال إلى العالم الغربي الذين شكّلوا الصور الأولى عنه، وهو مع نخبة قليلة من الرحّالة المشرقين يناظرون أقرانهم الغربيين الذين وضعوا ركائز الصور النمطية الأولى عن العالم الشرقي في العصر الحديث، وتفتح المقارنة بينهما الباب واسعا لمعرفة طبيعة تلك الصور.
أزيح اللثام عن الشخص الذي احتجب وراء لوكا وغالان لثلاثة قرون، حينما تمّ العثور على نصّ رحلته من سوريا إلى فرنسا، ثم العودة ثانية إلى بلاده، وجرى تحقيقها ونشرها من طرف محمد الجاروش وصفاء أبو شهلا، من جامعة ساولو باولو في البرازيل، وأصدرتها دار الجمل بعنوان "من حلب إلى باريس: رحلة إلى بلاط لويس الرابع عشر". ومهما سيقال عن هذا النص الثقافي المتشعّب، فهو رحلة استكشاف لعالم جديد من طرف شاب سوري محدود الثقافة، لكنه بارع في قوة الملاحظة، ومجيد في التعبير عمّا يرى، بما في ذلك البوح الصريح عن خلجات نفسه، وخواطره، ومخاوفه، فعلى خلاف كثير من نصوص آداب الارتحال، جافت رحلته التصنّع، وصرفت النظر عن التكلّف الذي تقتضيه شروط الكتابة، وغاصت في أعماق صاحبها بجرأة في قضايا: الدين، والمجتمع، والآخر.
ينبغي التصريح بأن رحلة "حنّا دياب" رحلة فاتنة بكل ما للكلمة من معنى؛ لما تكتنزه من المعلومات والمعارف والتجارب والملاحظات
كُتبت الرحلة بأسلوب شفّاف يكاد يطابق المشافهة السردية المباشرة، وهو خير ممثل للأسلوب المفتوح الذي شاع في أدب الرحلة، ولم يأبه بالتفاصح الذي دمغ الكتابة العربية في العصور المتأخرة، ويعود ذلك إلى أن حنّا دياب لم يتلقّن أصول الكتابة الفصيحة على يدي أحد، وباستثناء بعض التعليم الكنسي لم يرد ذكر لإجادته الكتابة، ولكن ليس هذا المهم، إنما المهم أن النص الذي انتهى كاتبه من تدوينه في عام 1764 عن أحداث جرت له بين الأعوام 1706- 1710م خضع لصيغ تعبيرية معبّرة عن الحياة الثقافية والاجتماعية لبلاد الشام في النصف الأول من القرن الثامن عشر، وحافظ على المحكيّة السورية بأن وثّق عددا وافرا من صيغها وعباراتها في المخاطبة والحديث. ومن هذه الناحية يجوز اعتبار الرحلة أرشيفا ثبتا للهجة الشامية القديمة، ويمكن العثور صيغ الاستعمال الشائعة آنذاك. وجدت في هذه الرحلة تعبيرا عجيبا عن النفس وعن العالم بلغة وسطى ليست بعامية ولا بفصيحة، لكنها سلسة، ودافئة، وصادقة، وفيها صراحة لا نكاد نعثر عليها في مثل هذا النوع من الكتابة.
ينبغي التصريح بأن رحلة "حنّا دياب" رحلة فاتنة بكل ما للكلمة من معنى؛ لما تكتنزه من المعلومات والمعارف والتجارب والملاحظات، وفيها وصف مستفيض لترحال استغرق نحو خمس سنوات، بدأه دياب من حلب برفقة "بول لوكا" الذي طاف في بلاد الشرق بأمر من ملك فرنسا لجمع اللقى الأثرية، والعملات القديمة، والأعشاب النادرة، فخرج معه بوعد أن يتولّى الإشراف على القسم العربي في المكتبة الملكية في باريس، وبعد تجوال في أطراف بلاد الشام، اتجه المتبوع والتابع إلى مصر، ثم ليبيا، فتونس، ومنها إلى إيطاليا، ثم فرنسا، ثم عودة دياب في البحر إلى تركيا، ثم إلى مسقط رأسه.
أجاد حنّا دياب كثيرا من اللغات الحيّة في عصره، ورمى بعض ألفاظها في سياق رحلته، ففضلا عن توثيق أحوال البلاد التي مرّ بها بعين من يعيش بين أهلها، ويعرف لغاتها، فقد تيسر له قضاء أكثر من أسبوع في القصر الإمبراطوري الفرنسي في فرساي، قابل خلالها لويس الرابع عشر، وخالط عائلته، وبطانته، وتجوّل في القصر من غير رقابة بزيّه المشرقي، ووصف الحدائق الغنّاء المحيطة بالقصر. وحينما عاد إلى باريس برفقة بول لوكا، زار دار الأوبرا، وشهد عرضا أوبراليا فيها، وقدم عنه شرحا وافيا لا يتيسر إلا لمن فهمه كامل الفهم، ثم وصف الكنائس، والمحاكم، والمعمار، والعادات في القصور، وفي الأحياء الشعبية، ومخر أزقة باريس المزدحمة، وتسكّع في أسواقها، وحضر الصلوات الكنسية، ووقف مع الجمهور الفرنسي يرى عقاب المجرمين في الساحات العامة، ووصفه بأسلوب تقشعر له الأبدان، وتكاد رحلة عودته إلى حلب تضاهي رحلة ذهابه إلى باريس، وبخاصة بعد أن وصل أزمير، ثم عاد إلى إسطنبول، قبل أن يقطع هضبة الأناضول برّا باتجاه سوريا، وقد تنكّر بشخصية طبيب، وأفلح بمعالجة بعض المرضى في طريق عودته، وفي كل ذلك ترك وصفا خلابا للعادات والتقاليد حيثما كان.
أتمنّى على المعنيين بأدب الرحلات أن ينبشوا في طيّات هذا الكتاب الصادق من أجل تعديل كثيرا من المسلّمات الشائعة، ومنها الدينية والعرقية، فقد سبق حنّا دياب غيره في الوقوف عليها، وأثارت استغرابه، فالماروني الحلبي البسيط لاحظ ما تعذّر على كثيرين ملاحظته، وهو يخترق جزءا كبيرا من العالم العربي باتجاه أوروبا التي بدأت لتوّها تشهد معالم الحداثة والتمدّن، وكان ولوعا بالمقارنة بين العالمين ليستخرج العِبر المفيدة من ذلك لينتفع بها قومه.
جرى الاهتمام كثيرا من قبل بكتاب الطهطاوي "تخليص الإبريز في تلخيص باريس" الذي صدر في عام 1834 عن تجربته مرافقا لإحدى البعثات المصرية التي أرسلها محمد علي في عام 1824، واعتبر ممثلا للملامسات الأولى للعالم الغربي الحديث، ولكن وقع إهمال شنيع لرحلة حنّا دياب التي فاقتها أهمية في كشف أحوال المجتمع الفرنسي قبل أكثر من قرن من ذلك الوقت، فصاحبها، وإن كان قد مرّ بتجربة الرهبنة مدة قصيرة، ونبذها، ونزع نفسه عنها، بل وسخر منها، نظر للعالم نظرة دنيوية مباشرة تختلف في مغزاها عن نظرة الطهطاوي التي حجبت كثيرا من الأحوال اليومية للمجتمع الفرنسي بحكم البلاغة المدرسية، والرؤية الدينية للعالم، فيما خلت رحلة دياب من ذلك إلا ما له صلة بثوابت الحياة الاجتماعية، والأعراف العامة، فضلا عن شمولها بالوصف التفصيلي لأحوال مجتمعات حوض البحر المتوسّط، فكانت كفاحا فرديا شقّ بها صاحبها طريقه ذهابا وعودة ببصيرة نافذة.