"من فيصل التفرقة إلى فصل المقال... أين هو الفكر الإسلامي المعاصر" لمحمد أركون
فئة : قراءات في كتب
"من فيصل التفرقة إلى فصل المقال... أين هو الفكر الإسلامي المعاصر" لمحمد أركون*
نسعى في هذه القراءة إلى تبيّن مميزات رؤية محمّد أركون للفكر الإسلامي المعاصر وقضاياه، وذلك من خلال النظر في الإشكاليات التي تعترض الفكر الإسلامي المعاصر في المستوى علاقة المسلم بالمغاير دينيا وثقافيا، وفي مستوى علاقته بموروثه الديني والحضاري، وما يتولّد من تلك المستويات من إشكاليات متصلة بالممارسة السياسة ومنزلة الأخلاق فيها وانتشار الحركات التمامية / المتشدّدة، وما يتطلبه تجاوز تلك الإشكاليات من انفتاح على الآخر وإعادة قراءة النصوص الدينية ونفض الغبار عنها من جهة، وامتلاك آليات تحليل الخطاب الديني لا سيما أنتربولوجيا الأديان التي من شأن اعتمادهاأنْ يُبيّن المشترك بين الثقافات والأديان والحضارات من جهة أخرى.
وقد ارتأينا أنْ نعالج قضايا كتاب "من فيصل التفرقة إلى فصل المقال... أين هو الفكر الإسلامي المعاصر" بالنظر في:
- النص على النص: علاقة نص المترجم هاشم صالح بنص أركون
- محتويات النص الأركوني (المتن)
من فيصل التفرقة إلى فصل المقال... أين هو الفكر الإسلامي المعاصر لمحمّد أركون ترجمة وتعليق هاشم صالح الصادر في طبعة ثالثة عن دار الساقي ببيروت لبنان سنة ست وألفين يتكوّن من مئتي صفحة- باعتبار المقدّمة- وقد توزّعت صفحات الكتاب على النحو التالي:
- مقدّمة المُؤلّف (28 ص رُقّمت بالأرقام الرومانية)
- الترجمة والعلوم الإنسانية: محمّد أركون نموذجا مقال بقلم هاشم صالح (من ص1 إلى ص17)
- إيضاحات وردود بقلم هاشم صالح (من ص19 إلى ص36)
- من أجل تعليم أنتربولوجية الأديان (من ص37 إلى 47). أمّا هوامش المترجم وشروحاته المتصلة بالمقال فامتدت من ص49 إلى ص54
- مفهوم مجتمعات أم الكتاب/الكتاب (من ص55 إلى 69). أمّا هوامش المترجم وشروحاته المتصلة بالمقال فامتدت من ص71 إلى ص78
- الإسلام: الوحي والثورات (من ص79 إلى ص97). أمّا هوامش المترجم وشروحاتهالمتصلة بالمقال فامتدت من ص99 إلى ص107.
- بأيّ معنى يمكننا أنْ نتحدّث عن التسامح في الوسط الإسلامي (من ص109 إلى ص119). أمّا هوامش المترجم وشروحاته المتصلة بالمقالفامتدت من ص121 إلى ص124
- كيف نتحدّث عن الحركات الإسلاموية؟ (من ص125 إلى ص137). أمّا هوامش المترجم وشروحاته المتصلة بالمقال فامتدت من ص139 إلى ص145
الحركات "التمامية" في العالم "الإسلامي" (من ص147 إلى ص167). أمّا هوامش المترجم وشروحاته المتصلة بالمقال فامتدت من ص169 إلى ص172
الأخلاق والسياسة في الإسلام المعاصر (من ص173 إلى ص191). أمّا هوامش المترجم وشروحاتهالمتصلة بالمقال فامتدت من ص193 إلى ص196
فهرس المحتويات (من ص197 إلى ص198)
وفي تقديمنا لهذا الكتاب نعمد إلى توزيع الكتاب إلى قسمين نخصص الأول للنظر في الشروح والتعليقات التي وضعها المترجم السوري هاشم صالح. أمّا الثاني فنخصصه للنظر في ما ألّف محمّد أركون، ذلك أنّ الناظر في توزيع الصفحات وعددها يلحظ أنّ المقالات والمباحث المكوّنة للكتاب متقاربة في مستوى الحجم (من 10 ص إلى حوالي 20 ص) من جهة، ومن جهة أخرى يتبيّن له أنّ الكتاب قائم على خطابين، وهما: خطاب المؤلّف وخطاب المترجم، فنحن إزاء نص ونص على النص.
النص على النص:
سمّى هاشم صالح نصوصه بـ"الإيضاحات" وبـ"الشروح" وبـ"التعليقات" باستثناء المبحث الأول الذي وسمه بـ"الترجمة والعلوم الإنسانية: محمّد أركون نموذجا". ونحن إذا ما نظرنا في موضع المبحث ألفيناه يأتي بين مقدّمة الكاتب ومحتوى الكتاب، فلا هو بالمقدّمة ولا هو بالتصدير، وإذا ما تأمّلنا محتوى المبحث ألفيناه بمنزلة القراءة التأليفية لمهمّة المترجم، ففيها وقف هاشم صالح على الصعوبات التي تعترض المترجم في نقل أيّ نص من لغة إلى أخرى مركزا حديثه على الصعوبات التي واجهتهأثناء نقل نصوص محمّد أركون من الفرنسية إلى اللغة العربية مقدّما أمثلة على ذلك منها صعوبة ترجمة المصطلحات التي استعارها أركون من ميشال فوكو (ص6 ص8) ومن بيير بورديو (ص8 ص9) أو تلك الموصولة بمنجزات علمية غربية في حقول الإنسانيات مثل علم التاريخ وعلم الأديان المقارن (ص9 ص13).
وفي هذه القراءة المنهجية التأليفية حرص هاشم صالح على إبراز طبيعة الاشتقاقات الصرفية مثل وزن فعلويّ وفعلويّة التي نحتها المترجم كي يستوعب مقاصد فكر محمّد أركون (إسلاموي، إسلاموية/علموي، العلموية/عقلانوي، عقلانوية...).
وقد شرح المترجم المرجعيات المكوّنة للمصطلحات الأركونية، وذلك بالنظر في مصطلح المتخيّل معتبرا إيّاه مصطلحا وافدا من "علم الأنتربولوجيا وعلم التاريخ الحديث (تاريخ العقليات). وقد تمّت بلورته كرد فعل على التطرّف المادي أو الماركسوي في دراسة التاريخ [...مشيرا إلى أنّ] كلمة متخيّل هي غير كلمة خيال وإنْ تكن تنتمي مثلها إلى العائلة اللغوية نفسها [... فـ] المتخيّل هنا عبارة عن شبكة من الصور التي تستثار في أيّ لحظة بشكل لا واع" ص12
والحق يقال إنّ ما بذله هاشم صالح في نقل فكر أركون وتعريب مصطلحاته في غاية الأهمية، ذلك أنّ مثل هذا العمل يحتاج إلى التفرّغ والإلمام الدقيق بفكر الرجل من جهة، وتبيّن مسارات التشكل الدلالي للمصطلحات في اللغة المترجم عنها واللغة المُترجم إليها، وهو ما عبّر عنه المترجم في قوله: "لا يعلمون مدى الجهد والتعب المبذول من أجل تعريب هذه المصطلحات وأسلمتها لكي تنطبق بشكل صحيح على تراثنا وتدخل في لحمته ونسيجه" ص15 منزلا ما قام به منزلة المحاولة التي تروم الاقتراب أكثر ما يمكن من "منطقة الحقيقة" ص15. أمّا المبحث الثاني الموسوم بـ"إيضاحات وردود"، فهو بمنزلة الميثاق الذي يعقده المترجم مع القرّاء كي يوضّح من خلاله الدلالات المتعلقة ببعض المفاهيم والوجوه التي اضطرته إلى نحت بعض المصطلحات على صيغ واشتقاقات صرفية غير معمول بها في اللغة العربية، من ذلك قوله في ص19 "هناك فرق لغوي بين النعت: إسلامي والنعت إسلاموي. الأوّل هو Islamique باللغة الفرنسية، والثاني هو Islamiste [...وهي] تعني الاستخدام المتطرّف لعقيدة ما أو لموقف فكري ما. أمّا كلمة إسلامي فتعني بكل بساطة الموقف الذي يظلّ مرنا ومنفتحا من الناحيتين الفكرية والعقلية" من جهة، ومن جهة أخرى خصص المترجم هذه "الإيضاحات " لإلقاء الضوء في مشاغل محمّد أركون الفكرية والمنهجية، وهو بذلك يكون بصدد التقديم للكتاب وما ينطوي عليه من قضايا وإشكاليات لاسيما تلك المتصلة ببنية الثقافة الإسلامية (العقل الديني) بمختلف تجلّياتها.
وقد أشار المترجم إلى سوء الفهم الذي يحيط بقرّاء مؤلّفات أركون ومواقفه سواء تعلق الأمر بالقرّاء العرب أو الغربيين. فالمسألة لا تتصل بالقرّاء العاديين فحسب، وإنّما تتعلق أيضا بالمستشرقين ومفكرين كبار أمثال كورنيليوس كاستورياديس وبورديو (ص32)، وهو بذلك يشير إلى صعوبة التي تحول دون الإلمام بفكر أركون وأبعاده مشروعه النقدي الذي يروم تجاوز البنى الثقافية وأسس البحث التقليدي في الشرق والغرب. أمّا في ما يتصل بالشروح والهوامش التي جاءت في ذيل كل مقال من مقالات محمّد أركون فقد تعلقت بجوانب عديدة من المقال أو بخصائص عامة لفكر أركون، وهي تتوزع على المحاور الآتية:
- التعريف بدلالات مصطلحات التي يستعملها محمّد أركون
- ما يقصده أركون من خلال اعتماده أسلوب الإحالة على بعض مؤّلفاته أو المفاهيم المعتمدة في الدراسات المعاصرة
- التعريف بالباحثين والمفكّرين الذين أحال عليهم محمّد أركون في مقالاته
- التوسّع في دلالات المصطلحات مثال ذلك ص49
- الإحالة على المقابل الفرنسي للعبارة التي اعتمدها المترجم مثال ص51
- التعريف ببعض العلوم ومجالات بحث بعضها (الهامش "ر" من ص50 والهامش "ق" من ص53)
- تبيّن الدلالات التي أضافها أركون على دلالات مصطلحات مستعملة قبله (الأسطورة/ الخرافة اُنظر الهامش "ظ" من ص52)
وتمثل هذه الشروح مادة مهمّة تحدد الأفق الفكري الذي يتحرّك فيه المشروع الأركوني، ولا تتأتى أهمية ما قام به المترجم من قدرته على الإلمام بأبعاد فكر محمّد أركون بالنظر إلى أنّه قد نقل أغلب مؤلّفات أركون إلى اللغة العربية فحسب وإنّما مأتاها أيضا قرب المترجم من المؤلّف وتعدد اللقاءات بينهما، إذ يمكن القول إنّ شروح هاشم صالح تعبّر بدقّة عن فكر أركون فهي إمّا ناتجة عن فهم واضح للمترجم أو هي توسعة في محتوى لقاءات وحوارات جمعته بأركون، ففي العديد من الكتب ألفينا المترجم يرفق المتن الأركوني بحوارات، وخير مثال على ذلك الجزء الأخير من كتاب "قضايا في نقد العقل الديني كيف نفهم الإسلام اليوم؟".
وإذا ما تأمّلنا الحوارات التي قام بها المترجم مع المؤلّف ألفيناها تتقاطع في المحتوى، ففي الكثير من الأحيان تكون تعليقات المترجم أو إجابات أركون - في ما يتعلق بالأسئلة- تكرارا لما ورد في هذا الكتاب أو ذاك، وهي طريقة بيداغوجية مهمّة يبدو أنّ المترجم والمؤلّف واعيان بدورها في تقريب فكر أركون من القارئ العربي المسلم، فهي (التعليقات، الحوارات، ...) تشرح ما تناوله أركون في مؤلفاته بطريقة مختلفة وبوسائط تعبيرية وأدوات مختلفة (التشابيه مثال ذلك تشبيه أركون في قضايا نقد العقل الديني كيف نفهم الإسلام اليوم. ص151 عمل المؤرخ بعمل قاضي التحقيق، ...) أو هي تشرح مفاهيم دقيقة يضيق المتن عن شرحها كي لايكون الاستطراد معيقا لاسترسال المؤلّف في تأليف الأفكار والتدرج بينها.
وبناء على ذلك يبدو لنا أنّ ما قام به هاشم صالح يتجاوز الترجمة والنقل من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية ليكون محاولة كتابة على الكتابة لا بمعنى الشرح والتوضيح فحسب، وإنّما أيضا باعتبارها محاولة تقديم قراءة تأليفيّة واضحة المعالم نقول ذلك بالنظر إلى أنّ أغلب أعمال أركون هي في الأصل مقالات ومشاركات في ندوات علمية تقام هنا وهناك، وهو ما يجعل الكتاب الواحد يجمع بين قضايا تبدو في الظاهر منفصلة يصعب على القارئ غير المتمرس بمقاربات أركون أو المطلع على آفاق الفكر التجديدي المعاصر تبيّن الخيوط الناظمة لها، ولعلنا لا نخطئ الصواب إذا ما قلنا إنّ هاشم صالح قام بدور مهمّ في بناء علاقة واضحة بين القارئ العربي وفكر أركون ورفع ما التبس منه.
النص الأركوني
عالج أركون في هذا الكتاب مجموعة من المسائل بعضها متصل بطرق القراءة، وهو ما يتجلى بوضوح في المقال الموسوم بـ "من أجل تعليم أنتربولوجية الأديان"، وبعضها الآخر ينتقل فيه محمّد أركون من البعد النظري إلى القراءات التطبيقية، وذلك بتناول قضايا الوحي والحركات الإسلاموية-الحركات التمامية والأخلاق والسياسة....
ونحن إذا ما تأملنا الصنف الأول ألفينا محمّد أركون يراهن على "أنتربولوجيا الأديان"، ففي المقال الأوّل من الكتاب الموسوم بـ"من أجل تعليم أنتربولوجية الأديان" فصّل محمّد أركون القول في المسألة انطلاقا من مراجعة دقيقة وموجزة للطرح البنيوي الأنتربولوجي والمآزق التي انتهى إليها، وفي مقدمتها "الفصل بين دراسة أديان الوحي وبين دراسة الأديان الآسيوية المتروكة" ص40 فالنزعة البنيوي الأنتربولوجية بُنيت على مفاضلة لا تبعد عن المفاضلة التي يقيمها المؤمنون في كل دين، وهو ما يجعل "تبنّينا المنهج الحديث لتدريس تاريخ الأديان [...] يصطدم حتما بالاعتراضات المعروفة للمؤمنين. تقول هذه الاعتراضات بأنّ المقاربة العلمية للدين هي اختزالية بالضرورة لأنّها تحيّد الإيمان أو تضعه بين قوسين [...فلا مفرّ اليوم من أنْ] نعتنق منهجيات الأنتربولوجيا الاجتماعية والثقافية وتساؤلاتها وفضولها المعرفي" ص41
وفي هذا السياق راح محمّد أركون يبيّن الخلفية التي تقوم عليها "الأنتربولوجيا الدينية" بماهي ممارسة علمانية يجب أنْ "تكشف عن حقيقة أهداف الأديان وعن وظائفها التاريخية وعن منجزاتها الثقافية..." ص42، وهو بذلك يراهن على أنّ المقاربة الأنتربولوجية الدينية هي المقاربة الوحيدة القادرة على تحرير الإنسان المؤمن وغير المؤمن من سجن المسلمات وأوهام الأيديولوجيا التي تسعى جاهدة إلى تسييرنا وفق أهواء أصحابها (الفاعلون الاجتماعيون)، فالمقاربة الأنتربولوجية الدينية تقدّم تصوّرا جديدا للمعرفة الأسطورية والتاريخية وللنقد الفلسفي، وفي ما يتصل بهذه المسألة يؤكد محمّد أركون أنّ الأنتربولوجيا بمختلف فروعها لا سيما الاجتماعية والثقافية أعادت بناء أسس البحث، وذلك عندما "أعادت الاعتبار للمعرفة الأسطورية عن طريق تغيير مكانة العقل ذاته" ص43 فإذا بـ"الأسطورة [...] تلتقط وتجمّع بواسطة التركيب النموذجي للمعنى كل أنواع المثالية والصور الرمزية" ص44، وهو ما يدعونا إلى ضرورة الوعي بأنّ "مجتمعاتنا المدعوة حديثة وعقلانيةوعلمية لا تزال خاضعة لآليات الأسطرة والأدلجة، [وهو ما يؤدّي إلى القول إنّ] الممحاكات الجدالية [و] المناقشات الدائرة حول العلمنة والدين تفقد كل متانتها ومشروعيتها" ص45
تلك أهم ملامح المقاربة الأنتربولوجية الدينية القائمة أساسا على أسس تاريخ علم الأديان المقارن/علم تاريخ الأديان، فأركون يدعونا بطريقة واضحة إلى تجاوز الطرق التقليدية التي تُدرّس بها الأديان معتبرا تلك الطرق القديمة "غير منتجة [...وتمثّل] خطرا يهدّد السلام الاجتماعي" ص46. أمّا في ما يتعلق بمقالات الصنف الثاني فإنّ أركون وضع يده على إشكاليات شديدة التعقيد، فالإقرار بضرورة اعتماد المقاربة الأنتربولوجية الدينية جعله يسعى إلى النظر في الإرث التوحيدي المشترك بين اليهودية والمسيحية والإسلام، وهو مشروع ما انفكّ أركون يساهم فيه بدءا من مشاركته في الكتاب الجماعي لفريق البحوث الإسلامية المسيحية GRIC الموسوم بـ"هذه الكتابات التي تسائلنا: الكتاب المقدّس (التوراة/الإنجيل) والقرآن" Ces Écritures qui nous questionnent La Bible & le Coran إذ تطرق المؤلّف في المقال الثاني إلى "مفهوم مجتمعات أم الكتاب/ الكتاب"، وفيه شرح الترابط الوثيق بين الأديان الكتابية (اليهودية، المسيحية، الإسلام) من جهة، ومن جهة أخرى أكّد أنّ ممارسة "نقد العقل الإسلامي" لا تستقيم ما لم نمارس النقد على العقل الديني الكتابي (اليهودي/ المسيحي)، وفي ما يتصل بهذه المسألة يشير أركون إلى أنّ المسألة على غاية من التعقيد، وذلك بسبب الاعتراضات التي تصدر من الفكر الغربي الذي يرى أنّ الممارسة النقدية قد حققت أهدافها في الموروث النقدي الغربي، ويذهب أركون إلى أنّ المسألة موصولة بعلاقة دقيقة بين "العقل الشفهي" والعقل الكتابي، فالنصوص المقدّسة مرّت بطورين، وهما: طور المشافهة وطور الكتابة، وفي هذا المجال يؤكّد أنّ هذا الانتقال تتداخل فيه قوى أربع، وهي: "الدولة والكتابة والثقافة العالمة [...] والأرثوكسية الدينية" ص59، ولكي يوضح المسألة وأبعادها يتناول بالتحليل انتقال القرآن الكريم (الخطاب/ المشافهة) إلى مصحف (النص/ المكتوب)، فيشير إلى أنّ استقرار "المدوّنة النصيّة المغلقة (أي المصحف) [...حوّل] الكتاب الموحى في الواقع إلى مجرّد كتاب عادي كبقية الكتب [...] ولكنّه يبقى محافظا على طابعه التقديسي المثبّت والمحمي من قبل السلطة ذات الجوهر السياسي" ص59
فمحمّد أركون بذلك يدعو إلى ضرورة تجاوز الخطاب الأيديولوجي الملتف حول النصوص المقدّسة والمتحكّم فيها والمسيّر لها من جهة، والوعي بضرورة تفكيك الطبقات المتراكمة على النص المقدّس وحوله من جهة أخرى، إذ علينا أنْ نميّز بين الوحي والنص الذي يعتبر سلطة بيد الفاعلين الاجتماعيين، وهو بذلك يسعى إلى "تعرية المسلمات الأيديولوجية التي ترتكز عليها كل التعاليم [..] المفروضة من قبل الدول العلمانية أو مختلف الكنائس أو الأديان" ص68
وبهذا المعنى فإنّ محمّد أركون يولي أهمية واضحة لآليات القراءة، ففي هذا المقال وجّه عنايته للآليات التي بها نتجاوز الخطابات التيولوجية التي جعلت من الأديان جزرا منفصلة عن بعضها البعض، يعتقد أتباع كل دين أو مذهب أنّهم أصحاب الصراط المستقيم وأنّ من عداهم ضلّ وخرج عن الطريق السوي، وهي نزعة وَسمها أركون بالنزعة الأرثوذكسيةالتي حوّلت القراءات الفقهية والكلامية ورسائل الآباء والأحبار إلى سلطة مقدّسة و"أسيجة دغمائية" لا سبيل إلى التحرر من أسرها ما لم نمارس قراءة نقدية شاملة، ذلك أنّ العقل الديني أيّا كان (اليهودي، المسيحيّ، الإسلامي) فهو يخضع للآليات نفسها ويقوم على أسس واحدة. ولا يخرج عن هذه الرؤية خطاب الحداثة، فهو قائم أيضا على دغمائية من نوع مخصوص مفادها أنّ الإسلام والعلمنة/العلمانية في عداء، وهو ما اعتبره أركون أحد تجليات الفكر الوضعي، وفي هذا الموقف تجّن على الإسلام والمسلمين لابد من مراجعته بإعادة السؤال عن أسس الفكر الحداثي الغربي وممارسة مقاربة نقدية عليه بالاستفادة من منجزات العلوم الإنسانية، وهي أبعاد سعى أركون إلى التوسّع فيها في المقال الثالث الموسوم بـ"الإسلام: الوحي والثورات" الذي حدّد له أهدافا ثلاثة منها "تبيان الأضرار الفكرية والثقافية الناتجة عن الفكر العلمانوي والتاريخوي والوضعي عندما اختزل الظاهرة الدينية إلى [كذا/ في] مجرّد صيغ عابرة زائلة واستلابيّة وباطلة" ص79
وفي هذا الجزء من الكتاب عرّج محمّد أركون على تاريخ النجاة والتاريخ الواقعي الأرضي ص80 فحدّد دلالات المفهومين، وبيّن أنّ الغاية من الحديث عن الخلاص في الأديان ليست إبعاد الآخر بقدر ما هي دعوة واضحة إلى تأسيس "تاريخ متضامن تكون فيه كل الشعوب متضامنة لكي نفتح صفحة جديدة في التاريخ ولكي نعيد التفكير جذريا في مسألة النجاة أو الخلاص" ص96
وقد لاحظ أركون أنّ الحديث عن الخلاص مفهوم مسيحي صرف يقابله في القرآن مفهوم النجاة، وقد لاحظ المؤلّف أنّ "الثورات السياسية في أوروبا [...] قد أحدثت القطيعة مع بنية الميثاق [القائم على نجاة جماعة دون أخرى] بشكل عنيف ونهائي [..] وعن ذلك تولّدت الجمهورية العلمانية ودولة القانون الديمقراطية والسيادة الشعبية التي أصبحت في آن معا مصدرا للشرعية السياسية وللقانون الذي يضبط نظام المجتمع [...ذلك] أنّ لتجسيد السياسي والمؤسساتي الذي اشتقته الكنيسة منها قد ولّد مقاومة البورجوازية الرأسمالية وثمّ انتصارها" ص84
وفي هذا السياق يبدو أنّ محمّد أركون يحدد الآفاق التي يجب على العقل الديني الإسلامي قطعها، فهو مطالب أنْ يأخذ المسار الذي اتخذه الفكر الغربي في القطع مع الميثاق الكنسي، فهي في أعماقها شكل من أشكال الأيديولوجيا التي ما انفكّت تتخذ أشكالا عديدة، وما يؤكّد هذا الرأي أنّ أركون يقرّ بأنّ "طبقة البورجوازية التجارية ثمّ الرأسمالية [في التاريخ الإسلامي] كانت قد كُسرت منذ القرن العاشر ولم تُجبر فيما بعد، وبالتالي لم يتح لأيّ بديل آخر أنْ يتشكل ضد النموذج الديني الذي استخدم بنية الميثاق والخطاب الألفي القديم" ص85
وفي هذا الإطار لا يكتفي محمد أركون بالدعوة إلى استئناف المسار وإنّما يدعونا أيضا إلى إعادة النظر في ماهية "الخطاب القرآني بصفته خطابا نبويا"، ذلك أنّ هذا الخطاب هو مدار التفكير في الثقافة العربية الإسلامية، وفي ما يتصل بهذه المسألة يلاحظ محمّد أركون أنّه لا مفرّ من إقامة "التحليل الألسني (أو اللغوي) للخطاب الديني [كي] نخرج من المآزق النفسية والنظرية المفروضة والمؤبّدة حتى يومنا هذا من قِبل الأنظمة اللاهوتية" ص87
وفي هذا الشأن يقف على مفارقة مهمّة في تقديره تتصل بطبيعة الخطاب التقليدي فهو إذ يرفض الأسطورة وينفيها يخلق أساطير وخرافات يريد من المؤمنين التصديق بها والاعتقاد فيها (ص90)، وهو ما يُعتبر أحد العوائق التي تحول دون تبيّن أسّ الأديان ونصوصها المقدّسة، فهي في جوهرها دعوة إلى الثورة بما هي قطيعة مع الموجود الذي فَقَدَ أهميته، في حين يعمد الخطاب الديني أي الفاعلونالاجتماعيون في تقدير محمّد أركون إلى إرساء قواعد جامدة للفكر وخلق أصنام تعبد وتقوّض جوهر الدين.
ولا يفوتنا في هذا المقام الإشارة إلى أنّ أركون قد بيّن أنّ الخطر لا يتأتى من انتصار النزعة الأرثوذكسية فحسب، وإنّما يتأتى أيضا من الإفراط في "النقد الوضعي للدين بصفته مؤسسة وبنية سلطوية أو هو ما من شأنه أنْ يقلّل]من الأهمية الثورية للدين ويحطّ من قدرها" ص93
أمّا في المقال الرابع الموسوم بـ"بأيّ معنى يمكننا أنْ نتحدّث عن التسامح في الوسط الإسلامي" فقدعالج أركون منزلة التسامح في العقل الديني الإسلامي، ففي الفكر الغربي يُعتبر عصر فلسفة الأنوار اللحظة التي تشكّل فيها التسامح مفهوما وممارسة معتبرا الإسلام دينا قائما على التعصب ورفض الآخر، ولإعادة النظر في المسألة يقترح محمّد أركون تصورا متكاملا يتمثّل في:
1: تحديد المقصود بالتسامح
2: التمييز بين الإسلام والوسط الإسلامي
3: تجنّب أحكام العقل المهيمن (العقل الغربي)
وهو بذلك يلمّح إلى أنّ العقل الغربي الذي يزعم الانفتاح والتسامح هو في جوهر عقل غير متسامح، ومثال ذلك المقارنة بين ما كتبه فولتير في "رسالة في التسامح" وما كتبه عن نبي الإسلامفي "التعصب أو النبي محمّد"
وفي المقابل انطلق أركون من فكرة مؤدّاها أنّ "النصوص الكبرى للفكر العربي- الإسلامي كانت تحتوي على البذور الأولى لفكرة التسامح وتدلّ على الطريق المؤدّي إلى التسامح بالمعنى الحديث للكلمة" ص113
إنّ أركون يستعمل لوصف منزلة التسامح في فكر المسلمين القدامى عبارة "بذور"، إذ لا يكفي في تقديره أنْ تكون لدى الأفراد الرغبة في التسامح، بل لا بدّ من توفّر "الإرادة السياسية الجماعية على مستوى الدولة" ص115، وفي ما يتصل بهذه المسألة يذهب محمّد أركون إلى أنّ المسألة لا صلة لها بصمت النصوص المقدّسة عن تناول مسألة التسامح بقدر ماهي مرتبطة بأسباب تاريخية واجتماعية وأنتربولوجية ص115
ولا يختلف الأمر في الغرب، ذلك أنّ ثمّة صراع خفي غير معلن بين "الذين يعملون من أجل نزعة إنسية منفتحة ومتسامحة وبين أصحاب القرار الماسكين بزمام السلطة" ص117. وهو ما يعني أنّ مسألة التسامح تتطلب انتصار النزعة الإنسية وتجاوز الخطاب العلماني النضالي إلى آخر يؤمن بحقّ الاختلاف والتنوّع الثقافي والديني والحضاري.
أمّا المقال الخامس "كيف نتحدّث عن الحركات الإسلاموية؟" ففيه بيّن محمد أركون أنّ الحديث عن هذه الحركة أو تلك فذاك يفترض ضمنيا معرفتنا بأسس التفكير والمرجعيات التي بُنيت عليها، ومن هذا المنظور يقدّر أركون أنّالحديث عن الحركات (لاحظ صيغة الجمع) الإسلاموية يتطلّب التعريف بها، وتمييزها من غيرها، وفي هذا السياق يبيّن الفرق القائم بين الحركات الإسلاموية والحركات الإسلامية، فالإسلاموية لا "تحيلنا على الإسلام كدين أو متراث فكري، وإنّما إلى مقدرة كل أيديولوجيا كبرى على تحريك المتخيّل الاجتماعي وتغذيته وإشعال لهيبه" ص126 خدمة لمصالحها من جهة، ومن جهة أخرى بيّن أنّ للإسلاموية أسماء عديدة منها الأصولية والخمينية- نسبة إلى الإمام الخميني- والتمامية والإخوان المسلمين....
ثمّ ينتقل أركون بعد ذلك إلى تبيّن خصائص "المتخيّل في مجتمعات الكتاب"، وذلك لفهم بنية الظاهرة الإسلاموية وآليات اشتغالها وطرق تفكيرها، وفي هذا الشأن يلفت أركون الانتباه إلى وجود "طلاق بين الخطاب الديني للأنبياء الذي سُجّل كتابة فيما بعد في الكتب المدعوّة بكتب الوحي، وبين القوانين الفقهية- القضائية التي بُلورت وصيغت مع تشكّل الدول المركزية وصعودها في الإسلام. وهذا الجانب من القوانين الفقهية لكتب الوحي هو الذي سوف يُستخدم كقاعدة ارتكازية فيما بعد من أجل التوسّع الأيديولوجي للحقّ" ص128، وهو ما جعل الفقهاء والمفسّرين... هم من يحددون الأصول وهم من يحدد طبيعة العلاقة بين الإنسان والله، وهم من يميّز الكافر من المؤمن.... وما يفسّر تنامي الخطاب الإسلاموي وعودته إلى الساحة العامة تغوّل الحضارة المادية، وهو إذ يحلل آليات الخطاب الإسلاموي الذي نسج لنفسه أسيجة دغمائية لا يختلف الشيء الكثير عن بنية العقل الديني اليهودي أو المسيحي، فنحن إزاء "متخيّل ديني مشترك لدى أديان الكتاب كلّها" ص132
وهو ما يدعو إلى ضرورة الوعي بأنّ الوضع الراهن الناتج عن عودة العامل الديني في الحياةالعامة يجب أنْ يتمّ فيه التمييز بين العامل الديني باعتباره مكوّنا من مكوّنات الحياة لدى الأفراد والجماعات، وبين التوظيف الأيديولوجي لهذا العامل، وهو ما سعى إلى إبرازه محمّد أركون في المقال الموالي الموسوم بـ"الحركات التمامية في العالم الإسلامي"، وفيه انطلق محمّد أركون من سؤال جوهري مداره على "كيف يمكن قراءة المجتمعات الإسلامية المعاصرة؟" ص148. وقد رام من خلال هذا السؤال الوقوف على أهم العوامل الداخلية والخارجية المشكّلة للمجتمعات الإسلامية منذ بدايات الستينات من القرن الماضي، ففي ما يتعلق بالعوامل الداخلية فقد أرجعها أركون إلى تأثير الاستعمار على الشعوب الإسلامية، فتلك الدول كانت تعيش فراغا قانونيا ومؤسساتيا مما أحوجها إلى استعارة رؤى وتصورات ومشاريع ثقافية وأيديولوجية من "الأنظمة الشيوعية لأوروبا الشرقية بدعم من الاتحاد السوفييتي" ص149 وفي سياق التأسيس للدولة الوطنية تمّ تكريس أنظمة كليانية التي استعملت شعارات عديدة منها التأصيل للهوية الوطنية والثقافية، وفي هذا الإطار نزّل أركون ما وقع في العالم الإسلامي لاسيما البلدان العربية بعد نكسة 1967 وموت جمال عبد الناصر (28 سبتمبر 1970)، فالثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة آية الله الخميني وانتصار الحركات الإخوانية كلّها تعابير عن "الفشل التاريخي للدولة- الوطن- الحزب بمرحلتيها الإشتراكية الدنيوية أو الأسطورية الإسلامية" ص151
وقد تناول في ما يتصل بهذه المسألة بالدرس نماذج أربعة، وهي:
الدولة والأيديولوجيا الناصرية
الدولة والأيديولوجية جبهة التحرير الوطني في الجزائر
الدولة والأيديولوجيا البعثية في العراق وسوريا
الدولة المدعوة إسلامية في إيران
وذهب أركون إلى أنّ هذه الأنظمة على اختلاف رؤاها تستند إلى تأثير "الظاهرة الشعبوية" التي تقوم بالأساس على "التصورات الأسطورية أو الخرافية الموروثة عن الماضي، ومن تلك اليقينيات المثالية التي تتحدّث بإطناب وإسهاب عن الشخصية أو الهوية القومية. وفيما هو يتغنّى بكل ذلك بشكل استلابي تتراكم المشاكل السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية الواحدة بعد الأخرى" ص154 من جهة، ومن جهة أخرى ثمّة –في تصور محمّد أركون- قطيعة تاريخيّة قوامها العيش في عوالم معزولة عن الواقع، فالحلم ببعث مجد الأمّة واسترداد العصور الذهبية... هي وسائل استغلها النظام السياسي لإضفاء مشروعية على أفعاله، وبهذا المعنى فإنّ دعاة الإسلاموية وقادة الأنظمة العربية المتأثرة بالنزعة العلمانية وظّفوا آليات شديدة التشابه، فبدلا من الالتزام بقضايا الواقع ورفع التحديات برفع مستوى التعليم والتنمية... عمدت هذه الأنظمة إلى تخدير الشعوب. أمّا في ما يتصل بالعوامل الخارجية فاختزلها في وجود ثلاث مجموعات تتمثل في النفوذ الأوربي والنفوذ الأمريكي والنفوذ الياباني ص157، وهي قوى اقتصادية ومالية تتنافس في ما بينها من أجل الظفر بامتيازات اقتصادية في العالم الإسلامي لاسيما في دول "الإسلام البترولي" ص157، يضاف إلى ذلك انتصار تلك القوى -التي يمكن أن نسمها بقوى الاستعمار الجديد- لإسرائيل مما ولّد لدى المسلمين كراهية جعلت جزءا كبيرا منهم يميل إلى أطروحات التزمت السياسي- الديني، وما زاد المسألة تعقيدا أنّ الأنظمة الاستعمارية الجديدة دعمت الأنظمة الاستبدادية القائمة في الدول الإسلامية والعربية، وهو ما دفع بالمسلمين إلى اعتبار أمريكا الشيطان الأكبر، وبهذا المعنى كانت سياسة أمريكا والدول الأوروبية قد خدمة مصالح التيارات الإسلاموية التي لم تفتأ توظّف الدين لخدمة أغراضها السياسية من جهة، ومن جهة أخرى عمدت النزعة الإسلاموية إلى بناء تصوّر منغلق للفكر الديني يذكّرنا بـ"قانون الإيمان المسيحي" ص160 في الغرب قبل التحرر من سلطة الكنيسة، وهو ما يمثل عائقا أمام دخول المسلمين عصر الأنسنة.
وقد تطلب النظر في بنية الفكر الإسلاموي من محمّد أركون تبيّن المرجعيات المشكّلة له، فإذا هي موصولة بتاريخ ضارب في القدم بدءا من حسن البصري وجعفر الصادق والشافعي وأبي حامد الغزالي وابن تيمة ومحمّد بن عبد الوهّاب، ..... فالحركات المعاصرة في ماليزيا وباكستان وأندونسيا والسودان وفي الأردن ومصر وسوريا....امتداد لتلك النزعة الضاربة في القدم. أمّا في المغرب العربي فإنّ أركون ميّز بين خصائص الحركات التمامية في المغرب الأقصى والجزائر وتونس، ففي المغرب الأقصى تمّ السيطرة على الخطاب الأسلاموي. أمّا في الجزائر فالحركات التمامية ممثلة في جبهة الإنقاذ (عباسي مدني، بالحاج، ...) وجدت صدى في الشارع الجزائري وهو ما يمثل في تقدير أركون خطرا حقيقيا، في حين لفظ المجتمع التونسي "مناضلي الاتجاه الإسلاموي المدعو بالنهضة [...الذين أُّلقوا] في مهاوي الهامشية الاجتماعية والسياسية" ص162
وهي قراءة تبدو في ظل المعطيات الحاصلة اليوم (انتصار الإسلاميين في مصر وتونس والمغرب) غير صحيحة، ففي تونس تتصدّر حركة النهضة المشهد السياسي وفي مصر أمسك الإخوان المسلمون بزمام الحكم قبل (الانقلاب / المسار التصحيح)، وهو ما يستدعي من الباحث اليوم إعادة النظر في أسباب انتصار هذه الحركات التمامية.
يبدو أنّ نجاح هذه الحركات مرتبط أشد الارتباط بطبيعة الخطاب وبطبيعة الوعي السياسي في الشعوب الإسلامية، فالصورة المثالية التي قدّم فيها الماضي (السلف) تجعل النفس تهش إليه وترغب في استعادته واستعادة ألقه، وفي هذا النطاق لا بد من الإشارة إلى ضرورة بناء وعي جديد بماضي الإسلام، ففي الخطاب الديني لا تطرح القضايا مثل الفتنة (صراع علي وطلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين ومعاوية، ...) من منظور الوقائع التي تؤكّد أنّ مدار الصراع على السياسة والحكم، بقدر ما تطرح في سياق إيماني يُبحث فيه عن كبش فداء يحمل وزر الفتنة، فإذا باليهودي المُتأسلم عبد الله بن سبأ أصل الداء ومصدر الفتنة والخراب.فهذه الرؤية المثالية للتاريخ والعيش في أوهام الماضي بالارتداء إلى لحظة ولّت وانقضت هي أم الكبائر وهي مربط الفرس.
أمّا المقال الأخير الموسوم بـ "الأخلاق والسياسة في الإسلام المعاصر" فعالج فيه محمّد أركون جملة من الإشكاليات المتصلة بـالخطاب السياسي النضالي القائم على أسس أخلاقية مبيّنا علاقة السياسة بالأخلاق في الإسلام المعاصر من خلال النظر في آليات توظيف الأخلاق لخدمة الأغراض السياسية وإضفاء مشروعية على الجهة التي تتكلّم باسم الأخلاق.
وفي هذا المجال وضّح محمّد أركون أنّ ثمّة علاقة بين السؤال الأخلاقي والسؤال عن طبيعة الأنظمة السياسية القائمة في المجتمعات الإسلامية مقرّا بأنّ هذه المسألة تحتاج الاعتماد على "المنهجية السيسيولوجية التي تدرس الأخلاق المعاشة فعليا [...] والتحليل السياسي – القانوني" ص174 مشيرا إلى أنّ الدراسات الاستشراقية لم تهتم بالعلاقة القائمة بين الأخلاق وللسياسة في الخطاب الإسلامي المعاصر، فالدراسات الغربية والمواقف الإسلامية لم تقم بدراسة نقدية من شأنها أنْ تمكّننا من تبيّن دور العامل السياسي والسياسات المتبعة في البلاد الإسلامية بعد الاستقلال في جعل الأخلاق "واقعة تحت الهيمنة الصارمة للدولة مثلها في ذلك مثل كل شيء في المجتمع" ص175
فالمتخيّل السياسي الإسلامي في تقدير أركون شكّل صورة مثالية للممارسات السياسية استند في تشكيلها على الموروث الثقافي للأدبيات الإيرانية والأدبيات الإغريقية والأدبيات المسيحية البيزنطية، وهو ما يعد معطى نفسيا اجتماعيا ثقافيا تحكّم في بنية العقل السياسي الإسلامي بمختلف أطيافه ومذاهبه (السنّة، الشيعة، الخوارج، ...)، وهي صورة نمطية جعلت الفكر الإسلامي القديم والمعاصر يقيم مقارنة بين صورة النبي/ الإمام وصورة الطاغية، وهو ما أدّى إلى بناء تصوّر للمؤسسة السياسية باعتبارها مؤسسة دينية بالأساس.
* نشرت هذه الدراسة في مجلة "ألباب"، شتاء 2015، العدد 4