من قضايا "التدّين" في الرّواية التونسية: مدوّنة "حسن بن عثمان" أنموذجا
فئة : مقالات
من قضايا "التدّين" في الرّواية التونسية:
مدوّنة "حسن بن عثمان" أنموذجا
وجد الكتّاب العرب في الرّواية جنسا أدبيا منفتحا يستجيب لرغبتهم في التعبير بجرأة عن حيرتهم أمام مفارقات التحديث والثقافة التقليدية، وخصوصا ما يثيره الإرث الدّيني من إشكاليات في السلوك والأفكار. وقد تعرّضت جرّاء ذلك عديد الروايات العربية لردود فعل عنيفة من أشهرها "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ (والتي كادت أن تتسبّب في وفاة صاحبها بعد محاولة اغتياله) و"وليمة لأعشاب البحر" للكاتب السّوري "حيدر حيدر" التي قامت احتجاجات في الشارع المصري ضدّها في تسعينيات القرن الماضي.
وبحكم خصوصية التجربة الإصلاحية في تونس، حيث سارعت النخبة التي تسلّمت مقاليد الحكم إلى تحديث المجتمع التونسي بنسق متسارع؛ فقد عكست الرواية التونسية منذ الستينيات وإلى اليوم وبدرجات مختلفة ومتفاوتة، حيرة الشخصية التونسية أمام أسئلة الهوية والحداثة وهواجس التنمية والتقدم وعوائقها، وهي إشكاليات عادت إلى الظهور بحدة في الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي مع بروز الخطاب السلفي/الأصولي الذي ثار على حجم التمزّق والتصدّع الذي أصاب النسيج التقليدي للمجتمع التونسي، ومع ثورة 14 جانفي/ يناير استأنف الجدل حولها بأكثر حدّة. ومن الروايات التي نزعم أنها انشغلت بهذه القضايا وعبرت عنها بجرأة وطرافة أسلوبية روايات الكاتب التونسي "حسن بن عثمان"(1959_ ) الأربع "بروموسبور" و"ليلة الليالي" و"شيخان" و"الرواية الزرقاء".
المعراج من الأرضي إلى السماوي
ففي روايته الأولى "بروموسبور" (ط، 1، سنة 1998) قسّم بنية الخطاب الروائي "إلى خمسة فصول، وأطلق على كل فصل اسم القاعدة، واختتمت بعض هذه الفصول بوصف المراتب الخمس التي يمرّ بها "عباس" الشخصية الرئيسة في الرّواية خلال مراحل سكره: "سفح، ربوة، قمّة الجبل، الجنوح إلى السماء، وسدرة المنتهى". وقد مثّل ذلك كناية واضحة على القواعد الخمس للإسلام والصلوات الخمس، وغير ذلك مما له علاقة بهذا الرقم من أمور الدّين. ويلحّ الكاتب على هذا التناظر من خلال وصف حالة السكر التي يمرّ بها "عبّاس"، فيتداخل النص الروائي بفصل من فصول السيرة النبوية الخاص بقصة معراج الرّسول محمّد. ويتواصل وصف حالة "عبّاس" في النص عبر استعمال صيغ لها إيحاءات دينية تنهل مفرداتها من المعجم القرآني ومن أجواء السيرة النبويّة، خصوصا في قصة معراج الرّسول ووقوفه على "سدرة المنتهى". ويبرز الوصف أن عملية توظيف قصة المعراج لم تقف عند حدود استعمال بعض مفرداتها الدينية فحسب، بل بلغت حدّ استحضار روح القصة ودلالاتها الرمزية، باعتبارها قصة معراج الإنسان من الأرضي إلى السماوي، ومن المحدود إلى المطلق كما تحدث في التجربة الرّوحية والخمرية. ولم يكن استعمال عناصر الخطاب الديني في رواية "بروموسبور" من قبيل اللّعب الفني المجاني، على اعتبار أن الدّين عموما وأزمة الخطاب الديني المعاصر كانت من التيمات المهمة في مستوى المروي. فقد أعلن "عباس" إحدى الشخصيات الرئيسة في الرواية أن له علاقة مصلحية بالدّين، عندما سعى لإقناع زوجته أن الخيانة حق كفلته الطبيعة والشرائع السماوية للرّجل. وجسّد "الإمام سعدون" أحد الشخصيات الرئيسة في الرواية وجها من وجوه أزمة الخطاب الديني السلفي المعاصر، بجمعه بين إمامة الناس ولعب "البروموسبور" من جهة، وبين زوجته وخليلته "فائزة" التي اعتبرها زوجة ثانية عرفيا من جهة أخرى. وخصّ نفسه باجتهادات وحيل فقهية بما يسمح له بتحقيق أغراضه دون الاصطدام بمعطيات عصره وواقعه وقوانين مجتمعه التي تمنع تعدّد الزوجات، وهو يفعل ذلك بكثير من التستّر والتقيّة والخوف أيضا.
حكاية "علم اليدب" ومحنة الصّراع على السّلطة
ولئن قدّم الدّين من جانب تأثيره في التربية المتصلة ببعض الشخصيات في رواية "ليلة اللّيالي" (ط، 1، سيراس، 2000)، فإنّه في رواية "شيخان" (ط، 1، 2002)، وهي الثالثة من حيث ترتيب الصدور محور الصراع والرّهان بين الشخصيات. ففي هذه الرواية يجعل "الزعيم" من الخطاب الديني سندا له في مصارعته لغريمه "عبد الملك النخاخ" الذي يعتبره منحرفا، وقد "خرّبت ذهنه ثقافة الغرب وضلالات الخمر وهلوسات الحشيش" كما يقول عنه. ويعتبر الزعيم أنّ الدور الذي نذر نفسه له جليل لأن فيه خلاصا للبشر؛ إذ بتقويض حكاية "علم اليدب" التي تغذّي مبدأ الصراع، والتي شكّلت عقيدة "عبد الملك النخاخ" يؤسس لعقيدة جديدة تؤمن بالتسامح والمحبة بين البشر، وهي عقيدة منفتحة ومتفهّمة ومتعاطفة مع معاناة الإنسان الوجودية. ولم تكن حكاية "علم اليدب" في وجه من وجوهها سوى تعبير داخل الرواية عن خطورة توظيف الدين في الصراع الاجتماعي؛ إذ كاد صراع الشيخين في القرية على الزعامة أن يتسبّب في اقتتال بين مناصري كل واحد منهما بما يحيل رمزيا ويذكّر تاريخيا، بكلّ ألوان التقاتل تحت رايات الأديان والمذاهب.
عن الثورة والثأر والمحاسبة
لقد عادت القضايا المتصلة بالدّين والتدّين بعد الثورة بأكثر حدّة وغليان في روايته الرّابعة التي حملت عنوان "الرواية الزرقاء" (ط، 1، 2014). فعبر شخصية "عبديل" وزوجته "فانتا" وابنتيه وعديد الشخصيات الأخرى مثل "الظافر" يعود الكاتب لتتبّع أحوال المجتمع التونسي، وفتح جروحه العميقة خلال أكثر من عشريتين، ليكشف عن تشابك المسارات والتحوّلات التي أدّت إلى ثورة 14 جانفي/يناير. ومن ذلك تاريخ القمع الذي طال المعارضين من الإسلاميين وغيرهم ممّن رفضوا تحويل المجتمع إلى سجن كبير وبعض من طلبوا السلامة لأنفسهم ورفضوا التورّط مثل شخصية "عبديل". وإلى ذلك، نجد في الرّواية فصولا مختلفة من سير الاستبداد والظلم والصمت والفساد الذي صار سياسة عامة قسّمت المجتمع وحطّمت الكثير من قيمه. وتكشف الرواية بالإشارة حينا وبالإفصاح حينا آخر، إلى أن هناك عمليات "ثأر" متبادلة بين أطياف المجتمع التونسي رفع عنها الغطاء بعد الثورة. وتظهر ملامح هؤلاء في القادمين من المنافي والخارجين من السجون والمبعدين من السلطة والخارجين عن القانون والحالمين بالوعد الرّباني الذي ظهر لهم مثل البشارة، والذين أصابهم الهلع من تقويض بنيان الدولة ومكتسبات المجتمع.
ولا تقف "الرواية الزّرقاء" إلى جانب طرف ضدّ آخر رغم الحضور الطاغي لخطاب السارد/ العالم، وإنّما تتخذ الموقف المبدئي للفنّ وللفنان والكاتب وتصارع من أجل تكريسه. ونقصد بذلك مبدأ الإيمان بالاختلاف والتعدّد والسماح لجميع الأصوات بالكلام، وهي الروح التي سادت كلّ الرّوايات ومدوّنته الأدبية عموما. وقد بدت هذه الرّوح في الرّواية متحفّزة ومستنفرة لمواجهة "جماعة" السلفيين المتشدّدين ومن والاهم ممّن لا يهدّدون خصومهم المباشرين فقط، بل يهدّدون المجتمع كلّه ومجالات الإبداع والاختلاف والحرية في كلّ مظاهرها. وإن لم تكشف الرواية في خاتمتها عن الجهة التي كانت وراء إحراق المعرض الفنّي، إلاّ أن الإشارات لأعداء الفنّ والإبداع والحياة لا تخطئها العين.
خاتمة
وعلى اختلاف الصيغ التي تجلّى بها الخطاب الديني في مدوّنة "حسن بن عثمان" الرّوائية؛ فقد مكّن من إثراء البعد الحواري فيها، خصوصا على صعيد الشخصيات التي اختلفت علاقتها بالدين وتباينت وجهات نظرها حوله. وقد ساهم كلّ ذلك من كشف بعض معضلات التدّين في مجتمعاتنا التي نشأت عن تصادم غير معلن بين متطلبات العصر وضرورات التدّين التقليدية. وسمح للرواية كفنّ بأن تساهم في حلّ بعض معضلات هذه الوضعية من خلال أسلوبها في عرض مستويات التناقض والتردّد والحيرة في الشخصية الإنسانية مهما كان معتقدها بما يساهم في تقريب البشر من بعضهم البعض وتكريس مبدأ التفهّم والاحترام المتبادل والإيمان بالحرية الفردية الذي سيقصي شيئا فشيئا أعداءه.