من قضايا المنهج في العلوم الإنسانيّة
فئة : حوارات
د. نادر الحمّامي: يشّرفنا أن يكون بيننا اليوم، للحوار معه والإفادة منه، الأستاذ الدّكتور حمّادي المسعودي رئيس جامعة القيروان، وأستاذ التّعليم العالي والبحث العلمي بكلية الآداب والعلوم الإنسانيّة بها، وله مسار مهمّ في مستوى التّدريس والتّأطير، إضافة إلى ما نشره من أبحاث ودراسات تتعلّق بمجال النّصوص وتحليلها بمناهج متعدّدة، نقف فيها على محاور كثيرة، بداية من كتابه الصّادر سنة 1988 بعنوان: "هيكل اللّيلة ومدلوله الفكري والحضاري في كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيّان التّوحيدي" ثمّ كتاب "الحكاية العجيبة في رحلة ابن بطّوطة"، فكتاب "الوحي من التّنزيل إلى التّدوين"، ثمّ كتاب "متخيّل النّصوص المقدّسة في التّراث العربي والإسلامي"، ثمّ كتاب "إشكاليّة النّهضة في الفكر العربي الحديث"، وصولاً إلى أحدث إصداراته، وهو كتاب "الظّاهرة الدّينيّة من علم اللاّهوت إلى علم الأديان المقارن"، وبين هذا وذاك أطروحته حول "فنّيات قصص الأنبياء في التّراث العربي". وقد أشرف الأستاذ المسعودي على مدرسة الدّكتوراه في كلّية القيروان "الآفاق الجديدة في اللّغات والآداب والفنون والإنسانيّات"، بالإضافة إلى إدارته لمخبر "تجديد مناهج البحث والبيداغوجيا في الإنسانيّات".
ولعلّنا نلاحظ من خلال هذه المسيرة انتقالاً من المباحث الأدبيّة إلى المباحث المتعلّقة بالنّصوص التّراثيّة التي تنتمي إلى المجال الدّيني، على اعتبار أنّ المناهج تأخذ من بعضها البعض، سواء كان في المستوى الأدبي أو في مستوى قراءة النّصوص الدّينيّة، ونجد أنّك تشير في مقدّمة كتابك "الظّاهرة الدّينية" إلى انتقال ماكس مولر (Friedrich Max Müller) (1823-1900) من مجال اللّغة والفيلولوجيا إلى مجال الأديان المقارنة، فهل هذا الانتقال هو من صلب اهتمامك الأوّلي بالمنهج، وتأكيدك على التّشابك بين المناهج داخل العلوم الإنسانيّة بصورة عامّة؟
د. حمّادي المسعودي: شكراً على هذه الدّعوة إلى لقاء فكري عقلي له قيمته، لأنّه يدلّ على مؤسّسة مهمّة تعتني بالفكر والمفكّرين، وخاصّة الفكر المستنير الذي نحن في حاجة أكيدة إليه، ولعلّ ما تتخبّط فيه المجتمعات العربيّة والإسلاميّة اليوم، يرجع بالأساس إلى غياب هذا النّوع من الفكر العقلاني والرّصين والحيادي والموضوعي، وأشكرك على انتباهك إلى هذه المزاوجة بين ما يعدّ من المباحث الأدبيّة في مدرستنا التّونسيّة، خاصّة في مستوى التّعليم العالي، وما يعدّ من المباحث الفكريّة الحضاريّة، ولعلّي أشعر بأنّني لم أقع في نشاز بالمزج بين هذا وذاك. وكما تعلمون، فإنّ الجامعة التّونسيّة تتفرّد بدراسة المسائل الحضاريّة، ولعلّ هذا ما يميّزها من بين الجامعات العربيّة الأخرى، وهذه المسائل تُدرس تحت عنوان الحضارة في مفهومها الواسع، بين القديم والحديث والمعاصر، وهذا غنًى للفكر في بلادنا؛ ولا أدلّ على ذلك من الجودة التي تتميّز بها رسائل الماجستير والدّكتوراه، ما يجعل الإقبال على نشرها كبيراً.
لقد كانت اهتماماتي في البداية أدبيّة، ولكن عندما انتُدبت في التّعليم العالي درّست أوّل مرة مسائل أدبيّة ومسائل حضاريّة، وسرعان ما تخصّصت في تدريس المسائل الحضاريّة، لقلّة المتخصّصين فيها، وكانت بداية التّأليف في الأدب بكتب حول التّوحيدي وابن بطّوطة وفنّيات قصص الأنبياء في التّراث العربي، وهي دراسات أدبيّة وعلى أساسها انتُدبت للتّدريس في الجامعة، وما شعرت به وأنا أنتقل إلى تدريس المسائل الحضاريّة هو أنّ ما لم أجده من متعة في الدّرس الأدبي وجدته في الدّرس الحضاري، وهذا يتوافق مع ما ذهب إليه غريس (Paul Grice) (1913-1988) في المقدّمة التي كتبها حول متخيّل النّصوص المقدّسة، وألحّ فيها على المتعة في قراءة النّصوص التي تنتمي إلى المجال الفكري والحضاري. لذلك، فما ألّفته في مجال الفكر والحضارة متمّم لما سبق أن كتبت فيه في مجال الأدب، ولعلّه في قسم منه موصول بما أفضت إليه دراسة البنية الشّكليّة للنّصوص، والتي قد تكون أقلّ قيمة ما لم تُفض إلى دراسة المضامين الفكريّة، وربّما هذا ما لا نجده في الدّراسات الشّكلانيّة والبنيويّة أساساً، لذلك أعتبر أنّ الدّراسات التي أنجزتها بعد أطروحة الدّكتوراه، تقدّم إضافة مهمّة إلى ما اشتغلت عليه في الدّراسات الأدبيّة.
د. نادر الحمّامي: الإشكال إذن منهجيّ وليس معرفيّا؛ ولذلك نجدك تلحّ في مقدّمات كتبك على مسألة المنهج، خاصّة في كتابك الأخير، وقد خصّصت أكثر من صفحة للحديث عن منهج محمّد أركون، وكيف أنّ الاستفادة من المناهج الغربيّة الحديثة لا تعني إسقاطها على نصوص التّراث، فكأنّك تدعو منهجيّاً إلى تجاوز المقاربات القديمة للنّصوص، ولكنّك مع ذلك تحذّر من الوقوع في الإسقاط.
د. حمّادي المسعودي: نعم، أنا ألحّ على أهمّية الدّراسات التي تنهض على منهج، وأعتبر أنّ كل بحث أو باحث لا يستند إلى منهج سرعان ما تظلّ به الطّريق، ولعلّنا في حاجة أكيدة إلى أن نعتمد على المناهج الحديثة التي نشأت طيّ العلوم الإنسانيّة، ولعلّنا نلاحظ أنّ دراسات كثيرة غير مفيدة، لأنّ المنهج الذي تعتمده في معالجة القضايا غير سويّ، فالأفكار مطروحة على قارعة الطّريق كما قال الجاحظ منذ القرن الثّالث الهجري، ولاسيّما في هذا العصر الإلكتروني، فيكفي أن تضغط على زرّ حتّى تنثال عليك المعلومات انثيالاً، كما أنّ الباحث يمكن أن يصل إلى الكثير من الأفكار من خلال تفكيك النّصوص التي يشتغل عليها أو بالعودة إلى مباحث سابقة في مجاله، ولكن القضيّة تكمن في ضرورة تنظيم تلك الأفكار المتدافعة بكثرة، والقدرة على تضمينها في سياقات، وبعثها في مناهج جديدة عقلانيّة ورصينة، وإقامتها على بناء متناسق في مختلف مراحل البحث من المقدمة إلى المتن حتى الخواتيم. وقد اهتممنا بهذا الموضوع في مستوى المباحث الجامعيّة في جامعة القيروان، منذ نهاية التّسعينيات، وخصّصنا له ندوة علميّة دوليّة حول "إشكاليّة المنهج في العلوم الإنسانيّة"، صدرت في كتاب عن مركز الدّراسات الإسلاميّة بالقيروان، حين كنت مديراً له، ثمّ انتبهنا إلى أنّ إشكاليّة المناهج قائمة ومستمرّة، فخصّصنا لها ندوة علميّة دوليّة أخرى سنة 2012، تمّ نشرها في جزأين. هذا يؤكّد على أهمّية المناهج، وضرورة الاهتمام بالإشكاليّات المتعلّقة بها، فما لم نحسن اختيار المناهج التي نعتمدها في أبحاثنا، لن تكون النّتائج التي نحقّقها في مستوى ما نطمح إليه من جودة. وقد دأبنا على تشجيع الباحثين والطّلبة في مستويات الماجستير والدكتوراه على إيلاء هذه المسألة الأهمّية المطلوبة.
د. نادر الحمّامي: لعلّ المسألة لا تتعلّق بالمفاضة بين منهج وآخر، ولكنّنا نلمس سواءً من خلال بحوثك أو البحوث الجامعيّة التي أشرفت عليها في كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان، أنّك تميل إلى المنهج المقارني خاصّة في المباحث التي تتعلّق بالمتخيّل الدّيني والظّاهرة الدّينيّة بمفاهيمها الكبرى، وقد اخترت في مقدّمة كتابك الأخير حول الظّاهرة الدّينيّة، ثلاثة أعلام في مجال الأديان المقارنة، بداية من ماكس مولر (Friedrich Max Müller) (1823-1900)، مروراً بصاحب الغصن الذّهبي فريزر (James George Frazer) (1854-1941)، وصولاً إلى دوميزيل (Georges Dumézil) (1898-1986)، وهم الآباء المؤسّسون لعلم الأديان المقارن، فهل كان هذا الاختيار مدخلاً منهجيّاً الغاية منه إزالة الأحكام القيميّة المتعلّقة بالتّراث العربي الإسلامي، وبالتّالي فضّ الإشكاليّات التي تجعل منه محطّ احتقار من جهة أو محطّ تبجيل من جهة أخرى؟
د. حمّادي المسعودي: يعود الاهتمام بالمقارنيّة (le comparatisme) أو المنهج المقارني، إلى السّنة الجامعيّة 2002 و2003، عندما بعثنا شهادة ماجستير الدّراسات المقارنة في اللّغة والآداب والحضارة في كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان، وركّزنا فيها على الدّرس المقارني، وهو ما أفدت منه كثيراً مثلما أفاد منه طلبتنا في مستوى إعداد رسائل الماجستير والدكتوراه، والدّليل على ذلك أنّ أغلب رسائل الماجستير التي أشرفت عليها منشورة في مؤسّسة مؤمنون بلا حدود. وفي هذا السّياق، أؤكّد أنّ النّصوص الدّينية جميعاً، بما فيها القرآن، لا يمكن أن تُفهم بعمق ما لم نرجع إلى النّصوص المقدّسة السّابقة لها، وحتى نفهم القرآن باعتباره النّص المقدّس لدى المسلمين، لا بد من العودة إلى النّص المقدّس بعهديه القديم والجديد، والعودة كذلك إلى النّصوص التي تُنعت في اليهوديّة والمسيحية بأنّها منحولة (apocryphe)، أو لنقل النّصوص التي لا تعترف بها المؤسّسة الدّينية الرّسميّة في هاتين الدّيانتين، أو النّصوص غير القانونيّة (n'est pas canonique)، ذلك أنّ النّص القرآني يحتوي طبقات نصّيّة متعدّدة مأخوذة من نصوص مقدّسة سابقة، والغريب في الأمر هو أنّ القرآن في بعض آياته ينعت النّصوص الدّينيّة السّابقة في اليهوديّة والمسيحيّة بالتّبديل والتّحريف، ويتضمّن مع ذلك اقتباسات من نصوص دينيّة هي عند المؤسّسة الدّينيّة الرّسمية اليهوديّة والمسيحيّة منحولة، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فلو نظرنا في معجزات يسوع المسيح من خلال القرآن، نجد من بينها ما يتوافق مع ما ورد في نصوص العهد الجديد، ولكنّنا نجد أيضا من بينها ما لم يذكر في نصوص العهد الجديد الرّسميّة، وإنّما هو مذكور في النّصوص المسيحيّة التي صودرت، ومثال ذلك أنّ ما نجده في الآية 49 من سورة "آل عمران" (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لَآيَةً لكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ) لا يوجد في النّصوص الإنجيليّة الرّسميّة، بل نجده في النّصوص المنحولة. لذلك، فكثير من هذه النّصوص التي يعتقد المسلمون أنّها من الوحي الإسلامي، هي مستمدّة من أنبياء بني إسرائيل، وخاصّة من التّوراة، التي يرد ذكرها في النّص القرآني مرّات عديدة، والتّوراة ليست العهد القديم، وإنّما هي النّبوّة المتعلّقة بموسى فقط؛ أي الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم، الذي يحتوي حسب المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة على 39 سفراً. وحتّى نفهم النّص القرآني، لا بدّ أن نُرجعه إلى مصادره الأصليّة، وينبغي لإنجاز ذلك أن نتسلّح بالمنهج المقارني، فهو ضروري لأنّ من شأنه أن ينبّهنا إلى هذه الطّبقات النّصيّة، وبالتّالي فهو يمكّن الباحث في الأديان من توسيع آفاقه المعرفيّة. إلاّ أنّ الدّراسات الدّينيّة الرّسميّة لا تعترف بهذا المنهج المقارني، لأنّها ترفض القول بأنّ القرآن يحتوي نصوصاً دينيّة سابقة، رغم أنّ النّصّ القرآني نفسه يؤكّد على ضرورة الاعتراف بالأنبياء السّابقين وبكتبهم.
د. نادر الحمّامي: هكذا نصل في ختام هذا الجزء الأوّل من حوارنا، إلى أهمّية تطبيق المنهج المقارني الذي تدعو إليه، ويعتمده طلبتك بناءً على ما تدعوهم إليه، على ما يُعتبر في دائرة النّصوص المقدّسة ضمن علم الأديان المقارن، لنهتمّ في الجزء الثّاني من حوارنا بمبحث آخر اشتغلتَ عليه، ويتعلّق بالقرآن، ولك فيه كتاب حول "الوحي من التّنزيل إلى التّدوين"، وهو عنوان يبدو أنّه مثير بالنّسبة إلى النّظرة التّقليديّة السّائدة التي تعمل المؤسّسة الدّينية الرّسميّة على تكريسها، انطلاقاً من التّأكيد على المطابقة بين الوحي والتّدوين، في إلغاء تام لمبدأ التّاريخيّة ولمحيط النّص التّاريخي، وهذا ما يمكن أن نفصّل فيه الحديث لاحقاً. نجدّد لك شكرنا وتقديرنا أستاذ حمادي المسعودي.