من مجتمع الاحتقار إلى الاعتراف الاجتماعي
فئة : ترجمات
من مجتمع الاحتقار إلى الاعتراف الاجتماعي[1]
هل من مستقبل لمجتمع مُؤسس على الجدارة واحتقار الأقل كفاءة؟ يُجيب الفيلسوف وعالم الاجتماع أكسل هونيث بالنفي. لكي نتقدّم، لابد للمجتمع أن يضمن لأفراده حياة طيّبة وناجحة؛ يمر ذلك عبر الاعتراف المُتبادل أكثر منه عبر التنافس حول مكان تحت الشمس. تحليل يُقدّم نفسا آخر لأولئك الذين يناضلون من أجل استرجاع كرامة الأفراد واحترام الذات. إن تسلط النيوليبرالية داخل مجتمعنا يصل إلى حدود فرض إيديولوجيا هيمنة السوق الحر، والتهليل للحرية الفردية في كل المجالات. تبعا للأفكار السائدة حول التنظيم الاجتماعي، يجب الثناء ومدح الفائزين نظرا لذكائهم ونشاطهم والتشهير بالفاشلين بسبب أنهم غير قادرين على الصراع وليست لديهم الطاقة لصراع الوجود الاقتصادي. إلى ذلك، يُدان هؤلاء الأشخاص المُصنّفين على هامش المنظومة بسبب قصورهم الذاتي، بينما يناضل الآخرون من أجل الدفاع على حقوقهم وكرامتهم وعلى الاعتراف الاجتماعي. مكّنتني تجربتي الشخصية كمتطوع صلب جمعية "رافق" من مساعدة أشخاص يعيشون وضعيات الهشاشة والافتقار إلى متابعة مخططات إدارية مُعقدة جدا. اتضح لي إلى أيّ حد يُمثّل فقدان الثقة في النفس وعدم تثمين الذات عائقا أمام تجسيد أفعال تُعتبر شروطا لاندماجهم داخل المجتمع. هذه الوضعية غاية في التناقض، وسط مجتمع يفرض مطلب السعادة وتطوير الذات، باعتبارهما مثالا مُطلقا: لا أحد يستطيع التقليل من شأن صعوبات العيش بالنسبة إلى أغلبية الناس. مثّل هذا التناقض محط اهتمام عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني أكسل هونيث في مؤلفه: "مجتمع الاحتقار". يُدافع الكاتب على أطروحة تتمثّل في أن المجتمع يمكنه التعرض إلى اضطرابات بسبب الاعتداء على مبادئ الحق وبسبب عدم القدرة على ضمان حياة طيبة وناجحة لأفراده.
مطلب الاعتراف الاجتماعي
يدعو هونيث مع غيره من المتابعين، إلى إعادة تقييم أهمية المشاعر الفردية في تنمية المجتمعات الرأسمالية الاستهلاكية، أين يبرز الاحتقار، الإحباط والرغبة في الظهور. على عكس التوجه نحو حصر المشكل في اللامساواة الاجتماعية، يُسلط هونيث الضوء على مسألة انهيار المجتمعات، عندما يكون مناخها الثقافي مُنتجا بعمق لأسباب الأتمتة الذاتية. تندرج الأفكار الواردة في كتاب أكسل هونيث في إطار النظرية النقدية التي تبلورت داخل مدرسة فرانكفورت، والتي يُعتبر هونيث ممثلها الراهن، بعد أدورنو وهابرماس. يتمثّل إسهامه الرئيس في بلورة فكرة أساسية تتمثّل في "الصراع من أجل الاعتراف". بالنسبة إلى هونيث، فإن ذلك يعني أن بناء الهوية الفردية والمكتملة يتطلب علاقات اعتراف متبادلة يُنشئها الأفراد فيما بينهم.
يمكن للاعتراف أن يتمظهر في ثلاثة مجالات معيارية:
1- مجال الحب والصداقة: تتمثل الفكرة في أن الروابط العاطفية التي تشُد الشخص إلى مجموعة ما، تُمكّنه من تحصيل تقدير الثقة بالنفس، والتي من دونها ضمان المشاركة.
2- المجال القانوني-السياسي: يُعرف الفرد كحامل لحقوق إذا ما كانت أفعاله مُعبّرة على استقلاليته الذاتية، محترما من الجميع وأمكنه تحصيل احترام الذات.
3- مجال التقدير الاجتماعي: من خلال هذا المجال، يتمكن الفرد من تحقيق الاحترام الذاتي، باعتباره يظهر من خلال القيم التي يُعزّزها، والتي تُعبّر على القيم الإيتيقية التي تُميّز المجتمع. بهذا الشكل، يمكن لمجموعات أقلية من أن تدّعي بأن ثقافتهم تُغذّي الروابط الاجتماعية التي تنساب بين جميع أفراد المجتمع.
تُمثّل هذه المجالات الثلاثة، الموجه للمنظمات التي تناضل ضد الإقصاء الاجتماعي: الروابط الاجتماعية، النضال من أجل الحقوق، المشاريع الجماعية التي تفتك مكانا داخل المجتمع.
ما لا ينشئ من الذات
لا ينشئ الاعتراف من الذات. كذلك يتّخذ إنكار الاعتراف أشكالا متعددة حسب المجال موضوع السؤال: شخص مكروه من الآخرين، محروم من حقوقه، مطعون في مكانته الاجتماعية. هذه الأعراض غير المحققة للاعتراف، تدفع باتجاه تجربة الاحتقار الذي يُؤثر سلبا على علاقات مثل هؤلاء الأفراد بذواتهم. نُؤكد إذن على فقدان الثقة بالنفس، باعتبار أن الفرد غير جدير بالتقدير، فقدان احترام الذات باعتباره فردا ينتمي إلى مجموعة مُتساوية، وفقدان تقدير الذات داخل جسم اجتماعي مختلف أو عدائي. دون هذا التقدير وهذا الاحترام، لازال من الصعب مواجهة وضعيات الهشاشة المهنية، الاقتصادية والصحية. يتضح أن القدرة على مُجاراة وضعيات صعبة ومتواترة بسبب أزمة أو صعوبات، أمر مرهق للغاية. بالنسبة إلى أكسل هونيث، يتعرض الاعتراف داخل المجتمعات الرأسمالية المعاصرة إلى تشوُّه، أين تدفع التناقضات بإتجاه تعميم الاحتقار. تُواجه العلاقات بين الأفراد إلى اضطرابات بسبب وضعهم تحت الضغط المتواصل والمنافسة وترجيح مطلب "صنع الذات" تحت مُسمّى الفردانية المحتومة بضرر الآخرين.
يُبلور أكسل هونيث السؤال حول ثلاثة محاور نقدية كبرى:
1- باثولوجيات الحياة الاجتماعية.
2- تشوُّهات الاعتراف.
3- تناقضات المجتمعات الرأسمالية الراهنة.
1- باثولوجيات الحياة الاجتماعية
يصم أكسل هونيث العلاقات أو التطورات الاجتماعية التي تُفضي إلى تحقيق الذات، بالباثولوجيات الاجتماعية. يتقاطع هونيث في هذه النقطة مع تقليد يتّصل بروسو وأيضا بفلاسفة مثل هيغل، ماركس، نيتشه، هابرماس، فوكو... يُعرف كل من هؤلاء الفلاسفة على طريقته، تطور الباثولوجيات (الأمراض الاجتماعية) التي تتعلق بالتغيرات الاجتماعية. كما ينتقدون المجتمعات التي تُنتج الاغتراب، الخالية من المعنى أيضا المريضة. يميل أكسل هونيث نحو تحليل المجتمعات التي تتعرض إلى الباثولوجيات الاجتماعية، مستعينا بمفهوم الاعتراف. كما يريد إثبات أن التطور الرأسمالي والنظام النيوليبرالي، ينتهكان شروط بناء الذات. يُقدّم أمثلة حول السلعنة التي تُدمّر العلاقات الخاصة أو تفرض أنماطا من التصرف في الهوية، يُمثّل الخطاب الذي يرمي إلى ترميم قيمة العمل مثالا حول الغموض الذي يُخفي حقيقة أكثر صعوبة من تلك التي يعيشها الأشخاص في مواقع العمل. بجانب هذا الخطاب، نجد أسماء مشهورة مثل "أدموند فالبس" الحاصل على جائزة نوبل للإقتصاد سنة 2006، الذي يُصرح في حوار لجريدة "لوموند" بتاريخ 25-26 فبراير 2006، أن "مجرد الحصول على شغل وإمكانية تحقيق مسار مهني، هو الكفيل بتحصيل الرضا الشخصي وهذا هو الأساسي في الحياة."
إذا كان مديح الشغل، باعتباره مصدرا للرُقىّ ويندرج ضمن نظرة متفائلة تستهوي العديد من الأفراد المعاصرين (عندما لا يكونون في وضعية البطالة). تُخفي هذه الفكرة – مثل الشجرة التي تُخفي الغابة- مجموعة من الاحباطات والتناقضات. أُعيد التفكير في هذه النظرة المثالية من خلال متابعة وضعية العمل داخل المنظمات، مثلما تُبيّنه الدراسات الإكلينيكية التي أعدّها "نيكول أوبرت" و"فانسون دو غولجاك" (كتاب: كُلفة التميُّز). بالنسبة إلى الكاتبين: "لن يُوضع مستقبلا على رأس القائمة تطابق الشخص المثالي مع المنشئة المثالية، بل حتمية أن تكون ذو كفاءة خارقة". "خطورة البطالة تقود إلى العيش يوما بيوم، التركيز على المقود دون أن نتمكن من التفاؤل بالمستقبل. نلتزم ميكانيكيا دون مثالية؛ لأن هذا هو الواقع. ليست المثالية محركا وفقدان المعنى أصبحا كثيفا." في النهاية، يشعر العمال بأنهم مهددون، تحت الضغط المتواصل، يعيشون في وضعيات من الهشاشة التي تظهر جليّا عند الأشخاص فاقدي الشغل من خلال: فقدان الأمان، الضغط الاجتماعي، التساؤل حول وضعياتهم الشخصية...
2- تشوّهات الاعتراف
يُعتبر "عدم الظهور الاجتماعي" إحدى تشوهات الاعتراف والذي تُمثّل صنفا آخر من الاحتقار. يُمثّل عدم الظهور الاجتماعي تجربة حياتيّة؛ تلك التي تعني "أن يُنظر إليك من قبل" (رالف اليسون) أحدهم. لدينا القدرة على اظهار الاحتقار تُجاه أشخاص نعتبرهم كأنهم غير موجودين بالفعل. في مقدمة رواية "رالف اليسون" (الانسان اللامرئي)، يسرد الراوي عدم ظهوره: هذا الأنا دائما غائب، هو إنسان من دم ولحم، لكننا لا نرغب في ظهوره. نُشاهد من خلاله، ببساطة هو غير مرئي للجميع، هذا الشخص أسود البشرة. أما الذين ينظرون من خلاله وقع تصويرهم أشخاصا بيضا. يرسم أيضا شكلا خفيّا من التواضع العنصري الذي يجعله مرئيّا وغير موجود بالمعنى الاجتماعي للمصطلح. في جزء آخر من رواية "يوكو أغاوا"، (المباركة غير المنتظرة)، نعثر على فكرة مُماثلة: "لا أحد ينظر إلى هذا الشخص وكأنه غير موجود." هنا تحديدا نلمس هذا العنف المُبرر لعدم الظهور الاجتماعي، في نظر الأشخاص بدعوى لون بشرتهم، ظروفهم الاجتماعية، وضعيتهم القانونية (أو غير القانونية: دون وثائق مثلا)، باعتبارهم أشخاصا يظهرون في حقل الادراك الموضوعي، وهم غير ظاهرين نظرا لوضعية اجتماعية خاصة. على العكس من ذلك، تمر وضعية الاعتراف عبر مفهوم "الظهور" ـ تحديدا عبر حركات تعبيريّة (حركات الجسد، الابتسامات، تعبيرات الوجه...) التي يُظهرها الشخص ليس فقط في الحضور الجسدي للآخر، لكن أيضا بصفة طبيعية تمكنه من تحصيل القيمة. هذه الحركات التعبيريّة التي تسمح للموضوع الإنساني من أن يُظهر القيمة الإيجابية للتفاعل عبر الاعتراف المتبادل، يقول أكسل هونيث: "في حدود تجربة الاعتراف التي تمثّل شرطا يطلب الهوية الشخصية في مُجملها، يُمثّل فقدان الاعتراف أو بعبارة أخرى ظهور الاحتقار، مع الإحساس ضرورة بتهديد الشخصية الفردية. في هذه الحالة، يتفاعل الشخص انطلاقا من مشاعر أخلاقية تترافق مع تجربة الاحتقار، الإهانة، الغضب أو السخط." تُؤكد عديد التجارب المُستقاة من الحياة اليومية هذه "اللامرئية الاجتماعية" كما هي في واقعها. من الصعب عدم رؤية من يمد يده أو من يتكلم بحزن أو من هو دون مأوى، ويحاول تحصيل بعض الأموال من أجل إطعام نفسه أو من أجل البحث على مأوى. نواجه ذلك بنظرة باهتة في الفراغ تُؤشر على الرفض أو الخوف من أولئك الذين نعتبرهم مختلفين والذين لا تعنينا وضعياتهم.
3- تناقضات الرأسمالية المعاصرة
ثالث المحاور التي تهتم بها نظرية أكسل هونيث، يتمثّل في تناقضات الرأسمالية في مجتمعاتنا المعاصرة. ينتقد هونيث المثال القيمي للتحرر والتقدم داخل النظام الرأسمالي والذي يظهر كإمكانية لتحقيق الذات، يُفرز ذلك عديد الباثولوجيات الاجتماعية التي تمس الفرد: فراغ داخلي، شعور بانعدام الفائدة، الفوضى، فقدان المقاييس. تذهب عديد التطورات الاجتماعية في هذا الاتجاه وتُعمّم الهشاشة في جانبها المتعلق بالعمل ووضعيات العمال الذين يواجهون تدحرجا متزايدا في سوق الشغل وفي تنمية أشكال العمل الأقل أمانا: العمل المؤقت، العمل بنصف الوقت، العمل عن بعد...
يبرز هنا جزء ظاهر من المعاناة الاجتماعية التي تُرافق أشكالا أخرى أكثر حداثة، تمس الحياة النفسية للأفراد. أبرزت دراسة لعالم الاجتماع "آلان اهرنبرغ" بعنوان (قلق أن تكون أنت، الانهيار والمجتمع)، بديهية مدى تأثير هذا الألم النفسي.
[1]- رابط النص الأصلي (باللغة الفرنسية): نص لجيرار وارنوت بتاريخ مايو 2008
https://vivre-ensemble.be/IMG/pdf/01-2008_mepris_reconnaissance.pdf