من وصلته "رسالة الغفران"؟ (الجزء الثاني) الخلاص مشكل لغوي
فئة : مقالات
هي رسالة تبدأ ببحث لغوي في معنى "الحماطة". قال: "قد علم الجَبْرُ الذي نُسب إليه جبريل...أنّ في مسكني حماطة"[1]. كلّ الرسالة هي اقتفاء سردي لهذا الخيط المتواري بين الجبار والحماطة؛ أي بين نسبة الألوهية وبين منزلة من كان في "مسكنه" حماطة؛ أي من كانت في قلبه "حرقة". مبدأ الرسالة إذن هي "حماطة القلب". و"جبريل" يعود إلى لفظ معناه "رجل الله". لا يقف رجل الله أو النبي في أفق الإبراهيميين إلاّ من الجهة التي يكون فيها متعلّقا باسم يأكل الأسماء جميعا، اسم "الله". لكنّه يقف دوما في حماطة، حيث لا يكون التألّه ممكنا. الحماطة هنا هي كينونة المكان البشري. حرقة القلب علاقةُ حماطةٍ بالمكان الذي لا وجود له. قال: "وتوصف الحماطة بإلفِ الحيّات لها" (ص130). الحماطة هنا في معناها الأصلي: كضرب من الشجر ينبت في الجبال. إنّ السارد هنا يستعيض عن مكان العالم بمكان آخر: يستعيض عن حماطة الأرض بحماطة القلب. وسرعان ما يعتذر للمخاطب بأنّ جسده لا يعرف إلاّ حماطته الخاصة. قال: "وأنّ في طمريّ لَحضِباً وُكِّل بأذاتي...ما هو بساكن في الشّقاب ولا بمتشرّف على النّقاب، ...ولا مرّ بجبل ولا خيف" (ص131). يصف الجسد الهزيل بأنّه "طمر" بالٍ. لكنّ ما يسكن هذا الطمر هو "حضِب" أي ضرب من الحيّات، كناية عن القلب الذي به حماطة.
لا يمكن التحرّر من رسالة الملة إلاّ بتحويلها إلى رسالة غفران معمّمة، حيث يجب قراءتها بوصفها حدثا إنجازيّا مفتوحا
لا يعدنا المعرّي ههنا بـــ"شعاب" هيدغر، وهو معنى "الشّقاب" و"النّقاب" هنا. تلك الشعاب، حيث يمكن لنا أن نذهب فيما أبعد من أنفسنا القديمة، وأن ننبت من جديد. إنّ المؤمن التوحيدي لا يزال يقف قبل ما يستطيعه الجسد، ينظر إليه كأنّه لباس يمكن أن ينزعه أو يخرج منه إلى نواة أخلاقية أخرى لا يعرفها بعدُ. ولذلك هو يعوّل دوما، كما هو الأمر في بداية رسالة المعري، على "القلب" (وليس على العقل مثل الوثنيين) مهما كانت أسماء هذا القلب الإبراهيمي مزعجة، فهي لدى المعرّي هنا أسماء حيّات مثل "الحضب" و"الأسود"، تحبّ سكن الحماطة. ليس البشر هنا غير حماطة تألفها الحيّات. إنّ تسمية القلب بأنّه "أسود" قد انقلب في سردية المعري هنا إلى تيبولوجيا عامة عن "الأساودة" عند العرب: عن عدد مثير من الأشخاص الذين حملوا اسم "الأسود" أو "السودة" دون استثناء للأشياء أيضا (ص132-138). تاريخ القلب لم يُكتب في هذه الثقافة. لكنّ المعري قد دشّنه من جهة تاريخ السواد بوصفه الاسم السرّي الذي "هو أبدا محجوب، لا تُجاب عنه الأغطية ولا يجوب" (ص133)، الاسم السري للقلب، هذا "الأسود" الذي "إذْ يُذكَر، ليُؤنَّث في المنطق ويُذكَّر، وما يُعلَم أنّه حقيقيّ التذكير، ولا تأنيثه المعتمَد بنكير" (نفسه). يقع القلب إذن في منطقة، حيث التأنيث والتذكير أمرٌ لا يُعوَّل عليه، نعني منطقة الحقيقة. وما يصبو إليه المعري هنا هو رسم الموضع الذي يصبح فيه انطلاق الخطاب البشري ممكنا: إنّه موضع القلب الذي يحتمل الجنس لكنّه لا يستغرقه. وذلك يعني أنّ رسالة الغفران لا يمكن أن تكون مجنوسة: إنّها ليست "حقيقيّة التذكير" لأنّ تأنيثها ليس أمرا "نكيرا" بالضرورة. نحن في وضع يؤنّث ويذكّر حسب درجة معيّنة من الحماطة.
حماطة القلب التي لا جنس لها هي المقام الذي هيّأه المعري على نحو يجعل تقبّل رسالة ابن القارح حدثًا سرديّا يجدر به أن يردّ عليه. هي، الرسالة التي "من قرأها مأجور، إذْ كانت تأمر بتقبّل الشرع، وتعيب من ترك أصلا إلى فرع" (ص 139). في الواقع، لا تحتوي رسالة ابن القارح على أيّ جديد سردي أو معياري من حيث منطق الملة، بل هي قد بدت للمعري رسالة منافقة، متملّقة تستعمل كلّ فنون الكلام من أجل أن تحرس وضعية الخطاب التي تأسّست عليها الملة. ولذلك كان الردّ الذي أملاه المعري جوابا عليها موقفا سرديّا غير مسبوق تماما: أنّه لا يمكن التحرّر من رسالة الملة إلاّ بتحويلها إلى رسالة غفران معمّمة، حيث يجب قراءتها بوصفها حدثا إنجازيّا مفتوحا.
كلّ طرافة رسالة الغفران تكمن في كونها قد فتحت قنوات اللغة كما تقول نفسها، بكل ممكنات الكلام النائمة فيها. إنّها كرمٌ سرديّ من نوع مثير؛ ولأنّ الدين لا يعدو أن يكون عمليّة نقل سياسي للكلام من خطاب الوضع إلى خطاب الشرع، فإنّه لا يمكن التحرّر من سلطته إلاّ بإعادة المعنى إلى معدنه الأصلي: مجال اللغة. إنّ كتابة المعري بعامة هي أفعال سردية تنمّ عن جهد شرس وكلبيّ من أجل إعادة المعاني الدينية إلى مجالها اللغوي النائم، حيث يتمّ تجريدها بقسوة فنّية من هالتها المقدّسة و"إسالتُها" (Verflüssigung) -حسب تعبير هابرماس عن إسالة المقدّس في قنوات التواصل- في قنوات لغوية كان منطق الملة قد أحكم إغلاقها بواسطة الأحكام أو "النصوص" بالمعنى الفقهي. لقد حوّل المعري القول في المقدّس إلى سياسة معنى تتجسّد عن طريق السرد الحرّ الذي يفتح اللغة على عواهنها ويجعلها تتدفّق في "جمل" غير متناهية في حالة سيلان أبدي هو وحده الطريقة الملائمة لتحرير مجال اللغة من إرادة الخطاب التي تسيطر عليها وتضبط قنواته سلفا. يمكن القول بعبارة ليوتار: كل رسالة الغفران هي "hypobiographie"/ سيرة افتراضية، حيث تستعيد "الجُمل" مفعولها الإنجازي وتنعتق من إرادة الخطاب المسيطر. كل جملة لدى المعري هي هنا لا تعدو أن تكون "ما يحدث" لو أنّنا أزلنا حاجز الملة داخل الخطاب وسرّحنا قنوات المعنى خارج حدودها المفروضة. كل جملة هي مفاجأة، مغامرة، مقاومة، وما سمّاه ليوتار "فلسفة الجملة" نعثر عليه في رسالة المعري في هيئة نضرة ومتوثّبة كأقصى ما يكون. إنّ الجمل هي التي تخلق المتكلمين بوصفهم كائنات سردية تتقاذفها الخطابات المنتصرة والمهزومة على حدّ سواء؛ وذلك أنّه لا توجد "جملة أخيرة" يمكن لهذا الخطاب أو ذاك أن يدّعيها لنفسه كما يفعل خطاب "الوحي"، وهو ما فعلته رسالة ابن القارح. لا توجد "لغة" الملة، بل فقط "هناك" لغات وألفاظ وكَلِمٌ في الجمع، في حالة تدفّق لا متناه للمعاني التي لا ترى "من" يتكلم إلاّ عرضا. وليس علينا سوى أن نستأنف السرد، ولكن ليس حيث توقّف خطاب الملة، بل في ما يتدفق خارج حواجزه دون علمه.
كانت رسالة ابن القارح بمثابة حالة نموذجية عن طريقة الملة في تقعيد الخطاب وتحويله إلى آلة عملاقة لإنتاج المعنى المعلّب بالحقيقة كما يمكن السيطرة على مفاعيلها. ولم يجد المعري من طريقة للإجابة عنها سوى بفتح ما تقوله على مجال اللغة الذي يختبئ فيها تحت حراسة الخطاب. ما هو إنجازي هنا هو الأفعال "القولية المؤثّرة بالقول" (perlocutionary acts) التي أطلقها المعري في كل ردهات الرسالة: كل ما يُقال أو يُسمّى لا يقف عند "النصوص"، بل يطفح عنها ويسيل على أطرافها ويقول نفسه خارجها، ويدنّس سلطتها ويثور على ادّعاء صلاحيتها، ويرسم فضاء حرية لا يمكن لأيّة إرادة خطاب أن تمنعه أو تحدّ حدوده. وهكذا يتحوّل السرد لدى المعري إلى عمليّة إطلاق حثيث للجمل من معاقلها في خطاب الملة، وإن كان يوحي لنا بأنّه يفعل ذلك دون أيّة قدرة على اقتراح مستوى آخر من شرعية المعنى سوى التهكّم بوصفه أقصى فعل إنجازي ممكن في أفق الملة. علينا أن نعامل كلام الملة وكأنّه "أنطولوجيا الجمل" حسب تعبير ليوتار، ولكن الأنطولوجيا التي تنتظر من السامع أن يصدّق بالطابع الإنجازي لما يُقال: أنّ محتوى الخطاب ليس "معاني" الوضع اللغوي، بل "أحداث" الخلق الإلهي وقد وجدت في سردية "الآخرة" شكل الكينونة المنشود. كلّ ما يُقال باسم المقدّس هو يدعونا سلفا إلى أن نعامله و"كأنّه" قد "وقع" بلا رجعة في مستوى "آخر" من أنفسنا.
قال: "ولعلّه، سبحانه، قد نصب لسطورها المنجية من اللهب، معاريج من الفضة أو الذهب، تعرج بها الملائكة من الأرض الراكدة إلى السماء...وهذه الكلمة الطيبة كأنّها المعنيّة بقوله: 'ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمةً طيبة كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربّها'. وفي تلك السطور كلِم ٌكثير، كلّه عند الباري، تقدّس، أثير." (ص140).
إنّ اللغة هي مجال التعالي الوحيد الذي يمكّن البشر من تحقيق جنة الحواس بواسطة الله
لا يمكن مقاومة الملة من خارج منطقها المحروس بإرادة الخطاب. ولذلك لا يرى المعري حلاّ آخر دفع منطق الرسالة إلى أقصاه: أنّها ليست مجرّد خطاب ملقى به في العالم بل إنّها حدث إنجازي: إنّ ما تقوله الرسالة يكون قد تحقّق بعدُ في العالم الآخر وتجسّد بعدُ في نمط الوجود الذي يحمل اسم "الآخرة". الآخرة هي مصطلح الإبراهيميين في إعادة تأثيث العالم بما يتعالى عليه، بمجال من نوع آخر، لم يكن في حوزتهم من إمكانية للعثور عليه إلاّ مجال اللغة. كلّ كتب الإبراهييمين هي هدايا لغوية قصوى، حيث تألّهت اللغة وصارت لسانا مقدّس يتكلّمه الآلهة ولا يعافونه، لأنّه لم يعد شأنا بشريّا. قال هلدرلين: "اللغة هدية الآلهة". لكنّ الحقيقة أنّها هي المجال الوحيد، حيث يمكن للبشر أن يعدّوا هدية مناسبة للآلهة من أجل استدعائهم إلى أفق البشر. وتلك كانت تقنية الإبراهيميين الوحيدة لكسب معركة الخلود؛ أي لتحويل الموت إلى خبر سار.
إنّ حماطة القلب قد حوّلها المعري إلى حماطة فردوسية:
"فقد غُرس لمولاي الشيخ الجليل، إن شاء الله، بذلك الثناء، شجرٌ في الجنة لذيذ اجتناء، كلّ شجرة منه تأخذ ما بين المشرق إلى المغرب بظلّ غاطّ، ليست في الأعين كذاتِ أنواط...والولدان المخلّدون في ظلال تلك الشجر...يقولون...: نحن وهذه الشجر صلة من الله لعليّ ابن منصور، نخبّأ له إلى نفخ الصور" (ص ص 140-141).
يقرأ المعري اللغة بوصفها نوعا من النبات هو الواسطة بين عالمين: فما يُقال في عالم الحواس ينبت في مجال التعالي. والله هنا هو شرط الإمكان الميتافيزيقي الذي ينقل المعاني من عالم إلى آخر. هو يعامل اللغة بوصفها حدثا إنجازيّا من خلاله يترجم البشر مستويين من الكينونة، ولكن داخل لغة واحدة. "نحن وهذه الشجر" - طريقة تعبير ينسبها المعري إلى "الولدان المخلّدين" حيث يمّحي الفرق الجنسي بين البشر والشجر من فرط كونهم نباتات أخرويّة مخبّأة من أجل "رجل الله" إلى نفخ الصور، أي بشكل أبديّ. يعامل المعري الأبدية بوصفها مجرد حدث إنجازي لغوي، حيث يصبح الكلام البشري عملية ترجمة آنيّة تحوّل المعاني الدنيوية إلى نباتات أخرويّة.
تبدو الآخرة بمثابة مجال حيث تصبح الكينونة نوعا من النبات. نحن لا نوجد من عدم بل ننبت. والخالدون هم شجر الجنة. وهكذا تخريج يعني أنّ الخلود ليس قفزة ميتافيزيقية في المجهول، بل هو استئناف لقدرتنا على النبات ولكن في عالم آخر. إنّ المعري قد واصل استثمار استعارة النبات بوصفها الطريقة المناسبة لفهم طبيعة الخلود: إنّه العثور على "ماء الحيوان" الذي يجعل النبات مرة أخرى أمرا ممكنا.
قال: "وتجري في أصول ذلك الشجر، أنهار تختلج من ماء الحيوان، والكوثرُ يمدّها في كلّ أوان؛ من شرب منها النغبةَ فلا موت، قد أمن هنالك الفوت" (ص141).
"الحيوان" يعني هنا الحياة الكاملة التي تنبت في مجال التعالي، نعني الحياة التي تلغي خصميها الفانيين: الموت والزمن. لكنّ المعرّي لا ينزلق في أيّ حديث أخرويّ عن الحياة الأبدية، بل سرعان ما يفاجئ القارئ بتنشيطه لترسانة سردية حول ماء الحيوان المقصود: ذلك الذي تعوّدت الحواس البشرية على اعتباره ماء الخلود الوحيد الممكن في أفق الفانين. ونعني بذلك الخمرة بوصفها المجاز السرّي للخلود عند الشرقيين، أكانوا وثنيين أم توحيديين.
قال: "وجعافرُ من الرحيق المختوم، عزّ المقتدر على كلّ محتوم. تلك هي الراح الدائمة، لا الذميمة ولا الدائمة...ويعمد إليها المغترف بكؤوس من العسجد، وأباريق خُلقت من الزبرجد، ينظر منها الناظر إلى بديّ، ما حلم به أبو المهدي، رحمه الله، فقد آثر شراب الفانية..." (ص142-143)
إنّ الجنّة هي عبارة عن انتقال إنجازي (بواسطة اللغة) من "شراب الفانية" إلى "ماء الحيوان". لا يعدو الأمر أن يكون فرقا بين نوعين مختلفين تماما من الخمر، ماء الموت الذي يعين على احتمال الفناء وماء الحياة الذي يجعل الخلود ممكنا. يكتفي المعري بتمديد ميتافيزيقي لما تحكيه الملة عن وقائع الآخرة وهو لا يتعداها أبدا: هو لا يغيّر طبيعة الخلود بل يعيد تقويم وسائله. هو يواصل كتابة تاريخ الحواس كما يترجم عن نفسه في تيبولوجيا أسماء الخمرة عند العرب (ص150-153)، لكنّه ينقل عملها إلى مجال التعالي. ومن ثمّ، فإنّ الثواب الأخروي هو جنّة الحواس ولكن بواسطة الله. وهو ثواب لغوي أو غير ممكن من دون الاستعمال الإنجازي للغة. إنّ اللغة هي مجال التعالي الوحيد الذي يمكّن البشر من تحقيق جنة الحواس بواسطة الله. إنّ الجنّة هدية لغوية للفانين. وقد فهم المعري أنّ الخلاص لغويّ، وليس من وسيلة مناسبة لتحقيق ذلك مثل إطلاق عنان السرد الأخروي الذي أجّلته الملة إلى حياة أخرى.
علينا أن نفهم السرد لدى المعريّ بمعنى إنجازي وليس بمعنى وصفي. قال: "فقد غُرس لمولاي الشيخ الجليل، إن شاء الله، بذلك الثناء، شجرٌ في الجنة" - لا يتعلق الأمر بالوصف هنا بل برصد الفعل "المتضمّن في القول" (illocutionary) الذي يلمّح له المعري: إنّ "الثناء" قد أنبت "شجرا في الجنة". وهذا معنى لا يمكن لنا أن نحدّد سياقه ما لم نهتدي إلى طبيعة فعل الخلق أو التكوين لدى الإبراهيميين، وهو أمر لن يبطئ المعري في التذكير به.
قال: "ويعارض تلك المدامة أنهار من عسل مصفّى ما كسبته النحل الغادية إلى الأنوار، ولا هو في مومٍ متوار، ولكن قال له العزيز القادر: كنْ فكان، وبكرمه أعطى الإمكان" (ص153).
نحن نعثر هنا على معنى أنّ لغة المعري في رسالة الغفران هي إنجازية وليست وصفية: إنّ قصده هو الاستيلاء السردي على فعل "التكوين" وتحويله إلى فعل بشري أو من حق البشر، طالما أنّ نسيج الآخرة قد قُدّ هو أيضا من نفس النسيج الذي قُدّ منه عالم الدنيا، نعني من اللغة بما هي كذلك. نحن بمحضر كائنات سردية تعبر العوالم فقط، لأنّها مصنوعة من معدن اللغة ولا فضل لعالم على آخر إلاّ بالحبكة. "كنْ" ليس أمرا أنطولوجيا كما درجنا على قوله، بل هو أمر سردي. لكنّ سرد من نوع مخصوص تماما وذلك لأنّه ذو طبيعة إنجازيّة.
وهو أمرٌ ظلّ القارئ محجوزا دونه بسبب فرضية التهكّم. ربما كان التهكّم موقفا إنجازيّا، لكنّه سرعان ما يفقد قوّته الإنجازية بمجرّد أن يُحصر في دائرة النقد الفني. لم يكن المعري متهكّما فقط. كان يفكّر. نعني: كان يبحث عن مقام "تأويلي" أحسن (ص155) يجعل التحرّر من إرادة الخطاب التي تحرسها أحكام الملة معركة حقيقة بأن يخوضها العقل الحر. ومن المفيد أن نلاحظ أنّ المعري يتحاشى فقه "الأحكام" أو "النص" أو "الإجماع" ويعكف في كل مرة على مقطع سردي كان حرّره للتوّ من سياقه الأوّل وألقى به في تيّار حكائيّ غريب عنه. ما يهمّه ليس تكذيب ما تقوله الملة عن نفسها من خلال بوابة الفقه، بل تسريح أكبر عدد ممكن من "الشخوص" السردية لتراث الملة والزجّ به في عمليّة تحرير واسعة النطاق للغة التي ردمتها نصوص الملة وقامت مقامها. ويُحصى في رسالة الغفران ما يُقارب 530 شخصية سردية. صحيح أنّ ابن القارح هو مبعوث المعري إلى الآخرة. لكنّ الآخرة لم تكن مسرحا فارغا من الشخوص، بل يقدّمها المعري وكأنّها مكتبة ميتافيزيقية لتجريب كل أنواع اللقاء المستحيل مع الخالدين الذين يمنع زمان العاجلة أن يجمع بينهم في عصر واحد.
تكمن طرافة المعري في الجرأة على استئناف الحكي بدون ضمانات لاهوتية
كلّ أطوار الرسالة هي تفريعات سردية على أصول ضاع سياقها أو تمّ ردمه. والمعري لا يتوانى عن استعمال الصيغة السردية صراحة. قال: "ويُفرَّعُ عن هذه الحكاية فيُقال..." (ص155). علينا أن نستحضر هنا أنّ كلّ سرديات الإبراهيميين هي من طبيعة "حكائيّة". وهذا "القصص" التأسيسي تحرص الملة على احتكاره. ولذلك تكمن طرافة المعري في الجرأة على استئناف الحكي بدون ضمانات لاهوتية. كل الرسالة هي عبارة عن استئنافات متكررة ومتوازية ومتقطعة ومنفصلة لأنساب سردية مبثوثة في القرآن أو في الحديث أو في مدوّنات العرب المختلفة، والزجّ بها في سياقات جديدة وإعادة تسييقها، حيث يتمّ العمل على تسريح كل الممكنات السردية النائمة فيها وإعادة بنائها في شكل أفعال إنجازيّة. لا يتعلق الأمر بالسخرية من حكم ديني بعينه، بل بإعادة تنشيط سردي لما كانت الملة قد قالته دون أن تلتزم به في صيغتها الفقهية. الفقه هو ما قالته الملة ولكن من دون خيالها السردي. ولذلك، لا يمكن إعادة تملّك خيال الملة إلاّ إذا تمّ تنشيط قوتها السردية ولكن في معنى إنجازي.
ربما يتعجّب القارئ الحديث من كثرة تشقيقات المعري اللغوية، وكأنّه يتعمّد الإبطاء في تفاصيل تجعل الردّ على رسالة ابن القارح أمرا مؤجّلا دوما. وهذا التأجيل المستمرّ للفراغ من الرسالة بالتوقّف غير المتوقع عند الفروق اللغوية والتأويلات المتنافسة ورصد الاحتمالات التي لا تحصى عددا في تخريج هذا المعنى أو هذا القصد، - هذا التأجيل لم يكن سبهللا. كان دريدا قد تحدّث عن "التأجيل" بوصفه جزء من ماهية الاختلاف؛ وكان ريكور عن تكلّم عن "استراتيجية الإبطاء" في طرح المسائل الحاسمة. لكنّ المعري لا يؤجّل إلى غاية معلومة. إنّه يؤجّل فقط، وهو لا يعتني بأيّ أثر للاختلاف. هو يريد فقط أن يسرّح اللغة دون ادّعاء مسبق بأنّها تحتمل اختلافا مؤجّلا أو مسألة حاسمة لم تُطرح بعد. تسريح اللغة لا يُقصد مه أكثر من تملّك فعل التكوين بوسائل بشرية. "كن" هي الغرض التأويلي البعيد من معاملة السرد وكأنّه فعل إنجازي، وهو لا يفعل ذلك مثل "ذات" حديثة أو ترنسندنتالية لا "تعرف" شيئا إلاّ بقدر ما "تموضعه"، بل هو يريد استعادة المعنى الأصلي لفعل "كن": إنّها ضرب مستحيل من "الكرم" المقدّس. قال: "وبكرمه أعطى الإمكان". هذا التخريج يعيد للكينونة الشرقية دلالتها الخاصة: أنّه ضرب من الكرم. إنّ كرما من نوع ما هو الذي الكينونة في العالم ممكنة. وهو معنى رائع سوف يلتقطه ابن عربي لاحقا ويصبح عنده: "لولا الجود لما كان الوجود". لكنّ امتياز المعري أنّه ليس متصوّفا بل "أديب" بالمعنى الجذري للكلمة؛ أي أنّه "سارد" أو "مُسرِّد" (ص154) بالمعنى الجذري، نعني يعيد اللغة إلى سيلانها البريء الأصلي الذي طمرته الملة، حيث تصبح القدرة على استعادة "الحكاية" الأصلية للتكوين نوعا عاليا من الكرم الميتافيزيقي.
كأنّ المعرّي قد أخذ هذه "الأمة" بما قالت: أنّها رهنت نفسها في اللغة؛ وأنّ مستقبل "الروح" داخلها هو في "معجزات" لا يمكن أن تكون بالنسبة إليها إلاّ من طبيعة لغوية. وكتابة المعري هي الوضعية الروحية القصوى لهذه الأمة: استئناف المعجزة اللغوية المطمورة تحت لسان كل واحد منّا، ولم يقلها. وإنّ رسالة الغفران هي استطرادات لغوية على أنفسنا. وإنّ أكثر من نصف الرسالة استطراد بالمعنى الحرفي (ص ص 139- 379). ولكن علينا أن نسأل ليس فقط: لماذا أجّل المعرّي ردّه على ابن القارح كلّ هذه المساحة من تأليف الرسالة؟ بل: لماذا جعل كلّ أسباب البطء السردي في الإجابة متعلقة بمناقشة قضايا لغوية؟
تبدو اللغة بمثابة مجال المعنى الوحيد للإبراهيميين: لا يمكن أن تظهر "كتب" مقدّسة من دون تأليه معيّن للغة. ربما من العسر بمكان تمييز ذلك عن علاقة الوثنيين باللغة مثل اليونان أو الهنود. لكنّ ما يختلف به الإبراهيميون هو على الأرجح ظاهرة الكتب المنزّلة أو "الكتاب-الوحي". ومن ثمّ من المفيد جدّا الفصل بين سرديات المقدّس في أيّة ثقافة أو لدى أيّ شعب، وبين ظاهرة الوحي. – إنّ طرافة المعرّي هو كونه يستعمل الأدب من أجل أن يزاحم المعجزة اللغوية للتنزيل دون أن يمسّ بجوهر الوحي. ولذلك، هو يمضي شوطا خطيرا في استعمال الأدب من أجل تجريد المقدّس من احتكاره اللغوي طالما هو يحمل "التوقيع" القومي لشعب ما. ولذلك هو يتجرّأ على مواصلة نقاشات أدباء الدنيا مع "ندامى من أدباء الفردوس" (ص169) ناقلا نكتة الإشكال من السؤال عن وجود الأدب في الجنة إلى الاستفادة السردية ممّا جاء في القرآن من انعدام "الضَّغْن" (نفسه) بين أدباء أهل القيامة. وسوف يقول نتشه في آخر القرن التاسع عشر بأنّ "الضّغن" هو أصل كلّ "تمرّد" أخلاقي. ولذلك لم ير المعري من سبيل إلى رفع مقام الضغينة الدنيوية سوى مواصلة النقاش بين أدباء الآخرة، ولكن من أجل تفاهم بلا ضغينة تأويلية. لقد اهتدى إلى إفادة ما في نقاشات الفردوسيين: أن يتصالحوا أدبيّاً. وهو "نعيم" أدبيّ يتحسّر "الشيخ" (ص172) في مجلسه الأدبي في الجنة على أنّ الأعشى قد حُرم منه، لأنّ قريشا قد ردّته عندما عزم على مقابلة الرسول.
قال: "ولو أنّه أسلم، لجاز أن يكون بيننا في هذا المجلس، فينشدنا غريب الأوزان، ممّا نظم في دار الأحزان.." (ص174)
يبدو "الإسلام" هنا بمثابة صكّ للغفران "الأدبي". لكنّ حسرة الناجين لا تتعلق بما لم ينالوه من النعيم الأخروي، بل بما حُرموه من متع الأدب الذي منع الدخول إلى الفردوس. إنّ المعري قد جعل حديث الخالدين يدور حول حسرة أدبيّة على ملاقاة أدباء محرومين من الجنة لأسباب لا علاقة لها بالأدب. كأنّ أكبر خسارة يمكن أن تلحق بالمؤمنين يوم القيامة هي خسارة الأدب، وليس شيئا آخر. وهذا تلخيص لماهية الدينا في كونها لا تعدو أن تكون مجلسا أدبيّا ممتعا لا غير. ومن ثمّ أنّ النعيم الحقيقي ليس دخول الفردوس من أجل متعة غير دنيوية بل لقاء "الندامى" المناسبين من أجل إنشاد "غريب الأوزان" ولو كان منشدها "كافرا". يقدّم المعري الأدب، باعتباره مقاما لا يبالي بين المؤمنين والكفار لأنّه يصدر عن متعة عابرة لمستويات الكينونة. ولا فرق عندئذ بين الدنيا والآخرة إلاّ بالأدب المناسب لمجلس الندامى بعد أن تمّ توفير المطلب الأقصى لكل نوع من الكائنات، نعني "طعام الخلود" (ص176). يلمّح المعري إلى أنّ الخلود يكون مملاّ أو لا معنى له إن كان بلا أدب جيّد، وهو لا يشمل الشعر فقط، بل أيضا "المنادمة" (ص169) و"اللعب" (ص172) و"النزهة" (ص175) حسب ما كان يسمّى "في الدار الفانية" (نفسه).
الأدب الجيّد هو الذي ينجح في السخرية من الموت باختراع نوع من "طعام الخلود" يبدو أنّ المعريّ قد وجده في الأدب، ومن ثمّ يصرّ على أنّه خلود ليس دينيّا إلاّ عرضاً. ولذلك يكثر المعري من الأسئلة التي تجعل الغفران الديني مفارقة عجيبة. وقد استعمل حالة الأعشى مرّة أخرى بوصفها محكّا لاختبار معنى الغفران. فمن جهة هو قد كتب شعرا في مدح النبي "ولكن صدّته قريش وحبُّه للخمر" (ص181) عن مقابلته، وبهذا "شفع" له؛ لكنّها من جهة أخرى شفاعة بلا نعيم. قال: "فأُدخلت الجنة على أن لا أشرب فيها خمرا...وكذلك من لم يتبْ من الخمر في الدار الساخرة، لم يُسقها في الآخرة" (نفسه).
من المفيد أن نقرأ تسمية الدنيا بأنّها "دار ساخرة". ووجه السخرية هنا يمكن في توقيت العلاقة بين الأدب والحرام، مركّزا هنا في شرب الخمر. يوحي المعرّي بأنّ الدنيا توقيت سيّء للجمع بين الأدب والحرام، ولذلك فإنّ شرب الخمر ليس محرّما في ذاته بل في توقيته فقط. ومن ثمّ أنّ الآخرة هي المكان المناسب أو التوقيت المناسب لكي يشرب المغفور لهم الخمر دون وقوع في الحرام. وهكذا، فالغفران نفسه هو تفاوض حول حقوق الخلود التي لا يمكن أن يفوز بها أهل الجنة على قدم المساواة.
قال الشيخ سائلا زهير بن أبي سلمى عن سبب الغفران: "بم غُفر لك وقد كنتَ في زمان الفترة والناس هَمَلٌ، لا يحسن منهم العمل؟... أفأُطلقت لك الخمر ُكغيرك من أصحاب الخلود؟...فيقول زهير: ...هلكت أنا والخمر كغيرها من الأشياء، يشربها أتباع الأنبياء، فلا حجّة عليّ. فيدعوه الشيخ إلى المنادمة، فيجده من ظراف الندماء.." (ص ص 183-184).
إنّ المعرّي يهدم هنا فاصلا أخلاقيّا حاسما بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب: أنّ الحرام تاريخي وليس أبديّا، وأنّ تحريم الخمر سنّة متأخّرة في تاريخ الإبراهيميين وليست أصلا دينيّا. ووجه الطرافة هنا هو تأكيد المعري أنّ الغفران لا يتعلق بما "يعمله" الناس بل بما يؤمنون به، وهو إيمان مجرّد من أيّ مضمون إلاّ من توحيد الله. وعلى مدى كامل الرسالة لم يقدّم المعري أيّ سبب مفيد للغفران غير فكرة الله، وما عدا ذلك هو ضجيج ديني لا يمكن أن ينقذنا منه إلاّ مجالس الأدب. ونكتة الأمر هنا هو إيحاء المعري بأنّ خلاص العرب ليس في الأحكام الفقهية، بل في مواصلة الأدب. كلّ ما في رسالة الغفران يوحي بأنّ الخلاص مشكل لغوي، وأنّ الغفران لا يعدو أن يكون فعلا إنجازيّا.
أجل، يواصل المعري الاعتقاد بأنّ الجحيم هو مشكل "عملي"، يدخله المؤمن الحزين، لأنّه اقترف هذا الذنب أو ذاك؛ لكنّه يحرص في المقابل على التلميح المتكرّر إلى أنّ الآخرة غير ممكنة خارج ما تقوله لغتنا، ومن ثمّ أنّ الجنة مشكل لغوي، ولا يدخلها إلاّ من سبق أن "قال" شيئا ينفعه يوم القيامة. القول وحده ذخيرة مناسبة لما بعد الموت، وليس كالأدب تقنية روحية للاستثمار فيه. لا يهمّ "زمن" الملّة (ص191، 203) لأنّ التقسيم يومئذ لن يكون بين الملة وما قبل الملة، بل بين "أيّام الحياة" (ص186) أو "الدهر الأوّل" (ص199) وبين "الآخرة". ولن يهنّئ الناس بعضهم البعض بالسلامة من "الموت" بل بـ "السلامة من الجحيم" (ص195).
ولأنّ آخرة المعريّ سردية بحتة، فإنّ السؤال الذي يهيمن على لغته ليس سؤال الوثنيين "ما هو؟"، بل سؤال الإبراهيميين "من؟". إنّ الرسالة تبدأ في صيغة "أنا" المؤلف يحكي عن حماطة قلبه. لكنّه لا يفعل ذلك في تأمّل مغلق، بل من أجل أن يجعل الإحالة على "هو" سردي غائب أمرا ممكنا. وهذا "الهو" الغائب قد نتعه بعبارة "مولاي الشيخ الجليل" وظلّ يحيل عليه دون أن يجعله محور القول، بل يعامله بوصفه مجرّد تعلّة سرديّة لمواصلة القصّ بلا نهاية. وسريعا ما ينسحب "أنا" المؤلّف تاركا وراءه حديثا متشعّبا موجّها إلى هذا "الهو" الغائب من أجل تحويله إلى بطل سردي. لقد أصبح ابن القارح في سردية الغفران بمثابة المسلم "الأخير" الذي وجد نفسه محكوما عليه بعبور الآخرة وحده ومن دون ضمانات. ولا يتخيّل المعري ضمانة أحسن من الأدب بوصفه الخاصية الميتافيزيقية الوحيدة التي يتميّز بها العرب. ولابدّ أن تكون هي الوسيلة الوحيدة لخلاصهم. ولذلك هو لا يتصوّر الجنة إلاّ في شكل مجلس من الأدباء الذين يواصلون سجالاتهم حول صحّة هذا البيت أو "تصحيف" (ص206) هذه الرواية أو نطق هذا الحرف، وهو لا يتخيّل أيّ مجال آخر لاختبار "حرمة"(ص178) الغفران غير اللغة. وأكبر خوفه لا يتعلق باقتراف ذنب يؤدي به إلى الجحيم، بل باقتراف خطأ لغوي في قراءة بيت أو نسبة قول إلى غير صاحبه فيفسد متعة الخلود (ص179). لا يملّ المعري من السؤال "لمن هذا الشعر؟" (ص176) و"لمن" هذان القصران (ص181) و"من الرجل؟" (ص199) أو "من أنتما؟" (ص ص 201-202) و"من أنت؟" (ص2015)...إلخ.
إنّ غرض المعري هو بناء سرديّة تناسب "من؟" الإبراهيمية، ولكن على نحو يخلّصها من مضمونها الديني ويحوّلها إلى مغامرة أدبيّة. ومن ثمّة هو لا يهتمّ يوم القيامة إلاّ بمن يسمّيهم "أدباء الفردوس" بوصفه الأبطال السرديين الوحيدين الذين يطرحون مشكلة الغفران على طريقتهم.
قال: "فيقول، أعلى الله قوله: من هذه الشخوص الفردوسيّة؟ فيقولون: نحن الرواة الذين شئت إحضارهم آنفا. فيقول: لا إله إلاّ الله مكوِّنا مدوِّناً، ...كيف تروون أيّها المرحومون قول النابغة في الدّالية..." (ص206)
يتعلق الأمر فعلا بما سمّاه "الشخوص الفردوسية"، وهي شخوص تشبه ما سيسميه دولوز "الشخوص المفهومية" إلاّ أنّه لا تفكّر بواسطة "المفاهيم"، بل تسرد "القصص" التكويني. كلّ ما شغل المعري يوم القيامة هو سؤال "المرحومين" في ما بعد الموت عن رواية داليّة النابغة بشكل سليم. لكنّ هذا الحرص ليس متكبّرا في شيء ولا هو صادر عن اضطغان أدبي في غير وقته. فإنّ المعري لا يحاسب الرواة من أجل معاقبتهم، بل هو يقترح أن نقرأ التصحيف في الرواية ليس "على معنى الغلط والتوهّم" (ص207) كما هو حال أهل الدنيا، بل حسب ما سيقوله نابغة بني ذبيان في حديث فردوسي: "ما أجدر ذلك بأن يكون" (ص208)، بل هو يبحث للناسين أشعارهم يوم القيامة متى سئلوا بشأنها عن أعذار. إنّ النسيان هو هنا عذر أدباء الفردوس، إذْ يقدّمه المعري على أنّه فضيلة قرآنية. قال: "يا أبى ليلى، لقد طال عهدك بألفاظ الفصحاء...فنسيت ما كنت عرفت، ولا ملامة إذا نسيت ذلك، "إنّ أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون".." (ص ص 209-210).
ومع أنّ الأدباء سوف يدافعون عن أنفسهم ضد تصحيف المتأخّرين بأنّهم مولعون "بالمنحولات" (ص212)، حتى يستأنفوا هجاء بعضهم البعض الذي تركوه في الدنيا (ص228 وما بعدها)، - فإنّ المعرّي يقدّم النسيان على أنّه هو الغفران الحقيقي. ما ننساه نغفره لأنفسنا؛ وذلك أنّ ما نرفض وقوعه على سبيل الغلط والتوهّم هو "أجدر بأن يكون". وما يكون هو قالته اللغة، لأنّه لا يوجد هنا إلاّ ما يُقال. واللغة لا تخطئ نفسها.
[1]- أبو العلاء المعري، رسالة الغفران. تحقيق عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ (القاهرة: دار المعارف، ط. 9، 2009). ص 129. - ملاحظة: كلّ الإحالات تأتي ضمن المتن.