مَن يمثّلُ الإسلامَ؟ بين صحّة السؤال وتيه الجواب
فئة : مقالات
مقدّمة:
كان من الممكن أن يبقى سؤال "من يمثل الإسلامَ؟"، ضمن نطاقات تخصصية بحثية، مثله مثل كل الأديان التي واجهت سؤال "من يمثل الدينَ؟"؛ لكن ما حدث خلال العقود الماضية، وخاصة منذ جريمة تفجيرات 11/9، نقل السؤال إلى الفضاء العام إعلاميا وسياسيا وشعبيا. ولم يعد هذا السؤال مستقلا بذاته عن سياقات طرحه، فهو يصب غالبا ضمن سياق سؤال كبير حول دور الإسلام في العصر الحديث، سواء داخل المجتمعات والدول الإسلامية، بما تضمه من صراعات سياسية تجرّ معها صراعات فكرية، وصراعات هوية، وصراعات انتماء؛ أو على المستوى الدولي، في علاقة الإسلام بما يُسمّى الإرهاب الإسلامي، الذي أصبح العنوان الأكثر انتشارا لكثير من التفاعلات الجيوسياسية والإعلامية والشعبية على مستوى منصات التواصل الاجتماعي؛ بل إنه بدأ يغزو عمق الصراعات السياسية في الدول غير المسلمة، خاصة مع تزايد انتشار نظرية المؤامرة الإسلامية على الغرب.
سيركز النقاش هنا حول السؤال ضمن سياق ظاهرة الإرهاب والتطرف، لأنه المجال الأكثر تداولا، وسيحاول أيضا التخفيف من اللهجة الأكاديمية، لأن السؤال بتداعياته همّ شعبي عام، والتصدي له يتم في سياقات إعلامية، وأحيانا شعبوية، لخدمة أهداف سياسية، وليس لخدمة الحقيقة. فما كان يُفترض أن يكون نقاشا، تحوّل إلى جدل يدور في دوائر بدون هدف، بسبب ارتباط هذا السؤال إلى حدّ كبير بالصراعات السياسية على المستوى الدولي، والإسلامي؛ وأيضا على مستوى التيارات السياسية والفكرية، بما فيها التيارات الإسلامية السياسية والدعوية من كل الفرق. وزادت فوضوية الإعلام المعاصر، وساحات التواصل الاجتماعي، من خطورة السؤال وأهميته، لأن الأجوبة المنتشرة، باختلافاتها وتناقضاتها، تزيد من ضبابية الصورة حول الصراعات الدولية، وتعمق مشاكل المسلمين كمجتمعات ودول.
1. معنى السؤال
لا يقابل سؤال المُمَثِل سؤال التعريف؛ أي إن "من يمثل الإسلامِ؟" لا تقابل "ما هو الإسلام؟"؛ فالتعريف هو حسبما ذكر التهانوي "التعريف يُطلق بالاشتراك على معنيين: أحدهما التعريف الحقيقي، وهو الذي يقصد به تحصيل ما ليس بحاصل من التصورات، وينقسم إلى قسمين؛ الأول ما يقصد به تصوّر مفهومات غير معلومة الوجود في الخارج، سواء كانت موجودة أو لا، ويسمى تعريفا بحسب الاسم وتعريفا اسميا... والثاني ما يقصد به تصوّر حقائق موجودة؛ أي معلومة الوجود في الخارج بقرينة المقابلة، ويسمى تعريفا بحسب الحقيقة، إما حدّا أو رسما"[1]. في كل الأحوال ضمن سياق بحثنا، يمكننا تبسيط تعريف التعريف إلى القول بأنه "الإخبار عن موضوع التعريف بكل ما يلازمه، ويميزه عن غيره، وهو خاضع لظروف وزمن المعرِّف والمعرَّف". فعلى سبيل المثال، في تعريف العرب في حاضرنا، قد يقول فلان إن العرب هم من يتكلمون العربية، ويقول ثانٍ إن العرب من ثبت نسبهم إلى عرب شبه الجزيرة العربية وبادية الشام، ويقول ثالثٌ إن العرب هم مواطنو الدول العربية، وقد يقول رابع بكل ما سبق، وكلها تعريفات قد تتقاطع أو لا تتقاطع مع ما قاله مثلا ابن خلدون، عن العرب العاربة، والمستعربة، والتابعة، والمستعجمة[2].
سنتناول مصطلح المُمَثِل ويُمثّل هنا، وضمن سياق السؤال المطروح، بالمعنى المعاصر، ووفق المقابل الإنجليزي representative، والمختلف عن مفهوم "التمثيل" في اللغة العربية قديما. فالمُمثِّل هو "الشخص أو الأشخاص أو الكيان أو الشيء المحسوس الذي يعبر عن، ويتكلم باسم، موضوع التمثيل، الذي لا يُشترط أن يكون محسوسا. والممثِل يجب أن يكون أصغر من الممثَل، أو جزء منه"[3]. فيُقال السفير يمثل دولته، والبرلمان يمثل الشعب، والحكومة كمؤسسة تمثل الدولة، والدستور يمثل أسس الدولة. وقد يدعي دين ما أنه يمثل الإله، فالدين محسوس كممثل للإله، من خلال النصوص والمتبعين؛ لكن لا يمكن القول إن الإله يمثل الدين. وضمن نفس المثال السابق، الدين أصغر من الإله، فيمكن أن يمثله، لكن الإله أكبر من الدين فلا يمثله.
والتمثيل أيضا خاضع لمبدأ النسبية والاختلاف، فقد يقول أحدهم هذا الحزب يمثل الشيوعية، ويقول ثانٍ هذا المفكر يمثل الشيوعية، ويقول ثالث هذه الدول تمثل الشيوعية. كذلك، فإن التمثيل قد يكون محدودا زمانيا، فهذه الحكومة تمثل الدولة حتى نهاية عهد حكمها؛ وقد يكون ممتدا زمنيا، كأن يُقال القرآن يمثل الإسلام، والعهدين القديم والجديد يمثلان المسيحية، في كل زمن ومكان.
إذن، إن السؤال موضوع البحث، يريد أن يرى ممثل الإسلام ككيان مادي محسوس، يراه، ويسمعه، ويلمسه، ويتفاعل معه، وليس مجرد تعريف نظري. فالسؤال يستهدف الشرائح الشعبية، لأنها غالبا لا تملك الوقت والرغبة في البحث خلف معاني الكلمات والتعريفات النظرية. المطلوب من الإجابة أن تقول إن هذا الكتاب أو الكتب، أو هذا الشخص أو الأشخاص، أو هذه الجماعة أو الجماعات، أو هذه الدولة أو الدول، أو هذا الحزب أو الأحزاب، أو هذا الفعل أو الأفعال، أو هذا الموقف الفكري والأخلاقي أو المواقف، أو كل ذلك أو بعض منه، هو من يمثل الإسلام. وهنا تظهر خطورة السؤال والجواب، فالمتلقي العادي سيضع العربة قبل الحصان، وينتقل لبناء تعريف للإسلام حسب من يمثله، وليس العكس.
2. التيارات المتصدية للإجابة والتيارات المستهدفة بالسؤال
تتنوع الإجابات عن هذا السؤال، وتختلف وتتناقض حسب من يقدم الإجابة. يمكن تصنيف التيارات التي تصدت للإجابة عن هذا السؤال إلى التيارات التالية:
1- تيارات ضمن الإسلام نفسه يقودها رجال الدين، حيث تدعي غالبية الفرق الإسلامية، عبر شيوخها وفقهائها، أن أصولها العقدية، والفقهية، والتشريعية تمثل الإسلام، وتنفي ذلك عن باقي الفرق كليا أو جزئيا. ففرقة السلفية مثلا، تدعي أن فرق الأشاعرة، والصوفية، والشيعة، وغيرهم، بكليتها أو غالبيتها، لا يمثلون الإسلام. وبالمقابل فهذه الفرق أيضا تتخذ نفس الموقف من السلفية، وبقية الفرق. وبأحسن الأحوال تسامحا تمنح بعض الفرق الآخرين حق التمثيل الجزئي للإسلام، مع احتفاظها بحق التمثيل الأشمل للإسلام. وهذه الخلافات ليست شائعة فقط ما بين الفرق الكبرى الإسلامية، بل تتمدد إلى الفرق الفرعية المتولدة ضمن الفرقة الأوسع. فما شهدته خلافات الفرق الإسلامية طوال 1400 سنة، وتشهده حاليا هو بأحد وجوهه الأساسية خلاف على حقّ احتكار تمثيل الإسلام. فقد قال أبو حامد الغزالي[4]: "اعلم أن الذي ذكرناه مع ظهوره تحته غور، بل تحته كل الغور، لأن كل فرقة تكفر مخالفها وتنسبه إلى تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام"[5].
يؤدي هذا الانقسام فيما بين الفرق الإسلامية إلى أن إجاباتها عن السؤال مختلفة، وأحيانا متناقضة.
2- تيارات ضمن الدول الإسلامية، تقودها السلطات السياسية والدينية والإعلامية؛ هذه التيارات من حيث الشكل أكثر تسامحا، بالمقارنة النسبية مع التيار الأول؛ فهي تبدو أكثر تسامحا مع خلافات الفرق الإسلامية فيما بينها، كما أنها تهتم بدفع التهم عن الإسلام، خاصة بعد تزايد وتيرة الهجمات الإرهابية الإسلامية، وتصاعد خطابات الكراهية، ضد الآخر غير المسلم، وضد المسلم من فرقة إسلامية أخرى.
تختلف إجابات هذا التيار فيما بينها حسب التوجه السياسي الحاكم لها، لأنها متموضعة في دول ذات خلافات سياسية عميقة، حتى لو جمعتها صفة الدول الإسلامية أو العربية؛ وبالتالي مرة أخرى لا نجد جوابا موحدا أو شاملا.
3- تيارات خارج الإطار الإسلامي من سياسيين وإعلاميين ومنظمات دولية رسمية، ومنظمات لا حكومية، ترفض بشكل عام تحميل أية جماعة قومية أو دينية أو عرقية تهم الإرهاب، من باب رفضها للتمييز بين البشر وفق الدين أو العرق أو القومية أو الجنس. مواقف هذه التيارات قد تكون شكلية، وخاصة بين كثير من الجماعات السياسية؛ وقد تكون مواقف مبدئية ناتجة عن موقف فكري متأصل لديها.
لا تقدم هذه التيارات تصورا واضحا لمن يمثل الإسلام، ولكنها ترفض قطعيا ربطه كليا كدين بالإرهاب والتطرف.
4- تيارات داخل الدول والتجمعات الإسلامية الكبيرة وخارجها، من سياسيين وإعلاميين ومنظمات لا حكومية، ترى أن الإسلام يمثل خطرا على السلام والأمن العالمي. وإن فرَّق بعضهم بين الإسلام كفكر وأيدلوجية وبين المسلمين.
تجمع هذه التيارات على أن من يمثل الإسلام، أو الأقرب لتمثيله، هم تيارات الفكر والمنهج الجهادي والمتشدد. مع ملاحظة أن هذه التيارات لا تستخدم وصف متشدد أو متطرف، بل وصف الملتزم برسالة الإسلام.
هذه التيارات وضعت أجوبة مختلفة، تتراوح في طيف متصل ما بين جوابين متناقضين هما:
- الأول يقول إن كل فعل إرهابي معنوي ومادي، وكل فعل طائفي أو رافض للآخر، وكل قمع للعقل والعلم، وكل من يقف خلف هذه الأفعال والأفكار أو معها، لا يمثل الإسلامَ؛ وغالبا ما يضيفون أنها مؤامرة ضد الإسلام. والأدلة لديهم كثيرة من نصوص الإسلام المقدسة، ونصوص التراث الإسلامي، وحوادث التاريخ والحاضر؛ بالإضافة إلى ما يصاحب نظريات المؤامرة من ادعاءات.
- الثاني يقول عكس مقولات الأول، فينسب كل ما سبق للإسلام، وللمسلمين؛ وهو أيضا يملك الأدلة الكثيرة، ومن نفس المراجع؛ وقد انتشر هذا التيار، خاصة في الغرب، لاعتناق نظريات مؤامرة مقابلة تحمِّل الإسلام وزر المؤامرة.
لا تتوفر دراسات استطلاعية لتحديد كيفية تقبل الشعوب للسؤال وللجواب، وإن كان يمكننا الجزم بأن التفاعل الشعبي معه مرتبط بانتماء المتلقي وظرفه، كذلك بالتقييم العاطفي والقيمي السائد عادة بين الشعوب كجماعات، لذلك يمكن تصنيف المتلقين إلى التيارات التالية:
- تيارات شعبية من المسلمين: المسلمون موزعون في رؤيتهم لمن يمثل الإسلام، لأن غالبيتهم يعيشون في دول تفتقر للديمقراطية وحرية الرأي والنقاش، وهم مثل غيرهم من الشعوب في عصرنا الحالي، يتأثرون بعمق بالإعلام والصراعات السياسية، ناهيك عن المواقف العاطفية، والانتشار العميق لنظريات المؤامرة ضمن العقلية الجمعية. لكنهم عموما يميلون لنفي حق التمثيل عن أية جهة يرونها مغالية في السلوك والفكر باسم الإسلام، مثل موقفهم من داعش والقاعدة. المشكلة التي تواجههم، بحدة وبعمق أكبر، هو الافتراق في فرق إسلامية لها تاريخ طويل من النزاعات، وعندها يظهر تشتت الرؤية الشعبية الإسلامية لهذا السؤال.
- تيارات شعبية غير مسلمة تعيش في دول إسلامية: من الصعب الحكم حول توزع آراء هذه التيارات، لكن يمكننا القول إن ما جرى في العقد الأخير وانتشار الإسلاموفوبيا قد أثر كثيرا في توجهاتها وآرائها.
- تيارات شعبية غير مسلمة تعيش في دول غير إسلامية، وبالذات في الغرب: كانت الشعوب الغربية في غالبيتها لا تعرف الكثير عن الإسلام، وتتمسك بمبادئ التسامح والمساواة الإنسانية، التي تم ترسيخها وتعميقها بعد الحرب العالمية الثانية. لكن مع تصاعد اسم الإسلام إعلاميا مرتبطا بالعمليات الإرهابية والتطرف، وبتأثير صعود اليمين الغربي المتطرف، بات السؤال أكثر إلحاحا في الشارع الغربي. وتشير الدراسات الغربية المتوفرة، إلى أن النموذج الذي يمكن تسميته "النموذج القاعدي"، أي السلفي المتشدد المتبني لفكر القاعدة ما زال منتشرا، والتخوف من الإسلام مازال قائما[6]؛ لكن هناك إشارات لتغيرات نحو تعاطف أكثر مع المسلمين[7]. وهذه بحاجة لدراسات أوسع بكل الأحوال.
القول بأن ممثل الإسلام هو القرآن والحديث النبوي يضعنا أمام صعوبات، فافتراق المسلمين إلى مئات الفرق قام أساساً على تفسيرات مختلفة للقرآن والحديث المنسوب للرسول
3. ما هو الإسلام؟
قد تكون البداية المنطقية هي في تعريف الإسلام، الذي من المفترض أن يساعد على الإجابة عن السؤال. والبداية الحتمية هي من القرآن، ثم الحديث، ثم ما قاله شيوخ المسلمين، وما قاله غير المسلمين.
وردت كلمة الإسلام في القرآن ثماني مرات، ضمن سياق اعتباره دينا أو الدين الحق، ولعل أشهرها تداولا بين الناس "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ"[8]؛ فالقرآن وفق ظاهر نصه، لم يضع تعريفا محكما واضحا للإسلام وللدين؛ لكنه أورد التمييز واضحا بين الإسلام والإيمان "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"[9]. لسنا بوارد نقاش التفاسير الكثيرة للقرآن، لكن يمكن القول، إن غالبية هذه التفاسير، عند السنة والشيعة بعمومهم، اتفقت على أن المقصود بالإسلام هو الطاعة والتسليم والانقياد لما أمر به الله ورسوله؛ وقد ذكر ابن كثير في تعريفه للإسلام، في تفسيره للآية 19 من سورة آل عمران، "وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقي الله بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته، فليس بمتقبل"[10].
يضيف الحديث المنسوب لرسول الإسلام بعض التفاصيل حول الإسلام، فقد روى البخاري ومسلم حديث ابن عمر عن الرسول قوله: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان". وقد ورد في الحديث معنى مكمل لما سبق حول الإسلام، عندما سُئل الرسول عن الإسلام فقال: "أن تسلم قلبك للّه، وأن يسلم المسلمـون مـن لسانك ويـدك"[11].
أورد الشيوخ والفقهاء المسلمون عدة تعريفات متشابهة ومتقاربة، من حيث المفهوم العام، وبسيطة الصياغة من حيث الشكل؛ وتختلف فيما يمكن تسميته القراءة الأكثر عمقا؛ أي بما يتعلق بعلم الإلهيات أو العقيدة، والعلاقة بين الإسلام والإيمان، وما بين أفعال القلوب والجوارح.[12]
توسع الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه "الدين والسياسة"[13] في تعريف الدين والإسلام، وعرّف الدين كما يلي: "فالدين إذن هو ما يحدد العلاقة بين الله سبحانه وخلقه من المكّلفين، من حيث معرفته وتوحيده، والإيمان به إيمانا صحيحا بعيدا عن ضلالات الشرك، وأباطيل السحرة، وأوهام العوام. ومن حيث إفراده جل شأنه بالعبادة والاستعانة، فلا يتوجه بالعبادة إلا إليه، ولا يستعان -خارج الأسباب المعتادة- إلا به سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[14]}"[15]. وتعريف الدين وفق هذه الرؤيا، لا يشمل أي دين خارج الأديان الإبراهيمية، كالبوذية والهندوسية؛ وحتى المسيحية واليهودية يدخلان في هذا التعريف، لكن من خلال الرؤية الإسلامية لهما. ثم يؤكد القرضاوي أن الإسلام أوسع من الدين ليقول: "الإسلام دين ودنيا، عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، دعوة ودولة، خُلُق وقوة"[16].
وورد على موقع مركز الدراسات الشيعية التعريف التالي: "الإسلام يعني السلم والسلام والمحبة، وهو آخر الأديان السماوية التي ختم الله تبارك وتعالى بها جميع الأديان السابقة عليه، ومعنى أني مسلم يعني أطيع الله عزّ وجل ورسوله، والمسلمون إخواننا والمسلمات أخواتنا والكعبة قبلتنا والقرآن كتابنا. ثم إنَّ الاسلام بني على توحيد الله وعدم الشرك به، وهو دين الفطرة، وأسّس شرعه على العدل والإحسان والفضيلة والمحبة، وكلها أحكام الفطرة. فالإسلام بهذا المعنى دين الفطرة، وهذا المعنى هو دين الله الحقيقي، وهو أقدم شرائع البشر من عهد إبراهيم (ع) والذين من قبله، والقرآن يقول في خليل الله إبراهيم (ع) إنه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَـٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[17] أي: متديناً بالدين الأصلي، أعني به إسلام الفرد نفسه لربه ومسالمته مع عباده"[18].
لعل ما أورده موقع إسلام ويب من تعريف، يشمل لحد كبير رؤية كثيرين من شيوخ المسلمين وعامتهم، والذي يمكن اختصاره بما يلي "فإن الإسلام معناه الاستسلام لله تعالى بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلاص من الشرك، وهو أحد مراتب الدين الثلاث التي هي الإسلام والإيمان والإحسان... وأما أركانه: فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت للمستطيع... أما إذا انفرد الإسلام عن الإيمان فإن معناه حينئذ يكون عاما لمعنى الإيمان. فيشمل الأعمال الظاهرة - المتقدمة- ويشمل الأعمال الباطنة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله إلخ"[19].
ومن خارج الإطار الإسلامي، تورد الموسوعة البريطانية تعريفا للإسلام مختصره "الإسلام أحد الأديان الكبرى في العالم، الذي دعا له النبي محمد في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع ميلادي. الفكرة الدينية الأصلية للإسلام، هي أن المؤمن (المسلم) يستسلم لإرادة الله. والله يُنظر له على أنه الإله الواحد، خالق وحافظ وباعث العالم. تم التعريف بإرادة الله، التي يجب على البشر الانصياع لها، عبر النص المقدس القرآن، الذي أوحاه الله لرسوله محمد. يُعتبر محمد في الإسلام خاتم الأنبياء، ورسالته أكملت وأتمت ما أوحي للأنبياء السابقين له".[20]
4. الأجوبة التي يقدمها تعريف الإسلام في سؤال من يمثل الإسلام
إن تعريفات الإسلام بعمومها، وبقراءة ظاهرها، يمكن أن تقدم ثلاث إجابات. سنعرضها ونناقش الاعتراضات عليها.
1.4. كل المسلمين يمثلون الإسلام
كل الفرق الإسلامية، وكل الأحزاب الإسلامية، وكل الجماعات الدعوية، وكل الجماعات الجهادية، وكل المسلمين كأفراد وكدول يمثلون الإسلام.
هذا الجواب صحيح عموما، فأتباع كل دين يمثلون دينهم. لكنه جواب يثير حيرة أكبر من حيرة السؤال، فالسؤال ليس معلقا في الفراغ دون أي ارتباط بالأسئلة الأخرى؛ فهو يدور ضمن نقاشنا حول علاقة الإسلام بالإرهاب والتطرف؛ لكنه قد يدور حول مسائل أخرى، فهذا الجواب بهذه الصياغة لم يقدم جوابا واضحا قاطعا.
سيجابه هذا الجواب اعتراضات من قبل شيوخ المسلمين وفقهائهم، وكثير من المسلمين الذين يتبعون رأي شيوخهم، ستتمثل أهم هذه الاعتراضات في النقطتين التاليتين:
1- المسلمون كبشر ليسوا مثاليين ولا كاملين، وهم موسومون بالخطأ والسهو، ولا عصمة للمسلم من الزلل، وبالتالي لا يمكن أن يمثل المسلمون بسلوكهم أو قولهم أو فكرهم الإسلام، الذي هو الدين عند الله.
2- الاعتراض الثاني، وهو الأهم برأيي والأكثر تأثيرا، والذي يعبر عنه حديث منسوب للرسول، بغض النظر عن صحته، يقول: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي." وفي بعض الروايات: "هي الجماعة"[21]. اختلفت الروايات في نص هذا الحديث، كما اختلفت في خاتمته التي تذكر الفرقة الناجية، وكثر الاختلاف حول من المقصود بالفرقة الناجية؛ وقد رُوي عند السنة والشيعة[22]. فافتراق الفرق الإسلامية بين المذاهب والطوائف والطرق، منذ حروب الفتنة بين علي ومعاوية، ألزم كل فرقة أن تدعي أنها من تملك الفهم الأصح للإسلام.
حتى لو نظرنا لهذا الجواب من خارج إطار المسلمين، كمراقب محايد، فإن الاعتراض الثاني القائم على حجة افتراق المسلمين إلى فرق عديدة، هو اعتراض محق وصحيح. وضمن هذا المنحى، ليس الإسلام الدين الوحيد الذي افترق إلى فرق كثيرة، فمثله مثل كل الأديان، وفي سؤال التمثيل من غير الممكن الإجابة، إن كل أتباع هذا الدين يمثلونه.
بل إنّ هذه الإشكالية يمكن أن تتوسع إلى الكثير من الفلسفات والكيانات؛ فلا يمكننا مثلا أن ندعي أن كل الدول الرأسمالية تمثل الرأسمالية، فلكل منها اتجاهات، وتحصل على نتائج تتقارب، وأحيانا تتباين على كل المستويات. ومثل ذلك يوم نتكلم عن الديمقراطية والعلمانية والليبرالية وغير ذلك.
2.4. كل فرقة إسلامية تمثل جانبا من الإسلام
كل مسلم وفرقة إسلامية وكيان إسلامي يمثل جانبا أو جزءا من الإسلام؛ بمعنى أن لا فرقة، ولا جماعة، ولا كيان إسلامي يمثل الإسلام بكامله، بل كلهم معا يمثلون الإسلام، وهو بالواقع جواب يماثل الأول لكنه مصاغ بطريقة مختلفة، وبالتالي ستجابهنا نفس الاعتراضات على الجواب، وهي محقة أحيانا حسب سياق طرح السؤال.
كلا الجوابين السابقين لا يقولان شيئا حول علاقة الإسلام والإرهاب أو التطرف؛ فهما لا يستطيعان نفيها لأن من بين المسلمين إرهابيين، ولا يستطيعان تثبيتها لأن من بين المسلمين غالبية لا علاقة لهم بالإرهاب. فالمسلمون مثل أتباع كل الأديان بين شعوب الأرض، ليسوا كتلة واحدة متشابهة ليتم تمثيلهم بصفات محددة نهائية وشاملة. كذلك، فإن التحليل العلمي للجماعات البشرية الكبيرة، لا يتورط في دوامات التقييم الأخلاقي، المتداخلة بشكل عميق مع الإرهاب؛ ويتجنب عبثيات التقييم العقلي بمعنى الذكاء والإبداع، المتداخلة بشكل عميق مع التطرف والتشدد.
قد يمكننا دراسة سلوكيات الشعوب وتحليل ثقافاتها وأفكارها ودوافعها، من حيث كونها محافظة أو متحررة (ليبرالية)، وكذلك يمكننا مقارنة تقبلها للديمقراطية والعلمانية بمفهومهما العام، وكذلك انتشار الأمية أو الفقر فيها، بل يمكننا دراسة انتشار العصبية القبلية والعائلية والطبقية، وانتشار الأفكار العنصرية والطائفية، وانتشار القناعة بمبادئ حقوق الإنسان، وغير ذلك. لكن كل هذه الدراسات والتحليلات تقوم علميا على مبدأ أساسي، هو "تحريم" الانتقال من النتائج إلى التعميم، لأن موضوع البحث؛ أي المجتمع الإنساني، قائم على الاختلاف بين مكوناته؛ ولأن أدوات البحث، في أحسن أحوالها، عاجزة عن التوصل إلى كافة الأفراد. فقد يمكننا وصف المجتمع المغربي أنه مجتمع محافظ عموما، لكن التعميم هنا يرتكز على مفهوم نسبي حتى لو لم يُعلن، فهو لا يعني أن كل مكوناته محافظة، ولا يعني أن مكوناته المحافظة هي محافظة بنفس الأسلوب، ولا يعني أنه محافظ بنفس طريقة المجتمع السعودي. التعميم الأخطر يحصل يوم عممت بعض الفلسفات والأيدولوجيات ما لا يمكن تعميمه، فأسست لاتجاهات التمييز بين البشر وفق العرق والدين والجنس والمستوى المادي. مثل القول إن هذا العرق البشري ذو إمكانيات عقلية أقل من الآخر، أو أن أتباع هذا الدين ذوو مكانة أعلى من غيرهم، أو أن هذا المجتمع يتبنى العنف وبالتالي الإرهاب، لأنه من دين أو طائفة أو عرق معين.
3.4. مؤسس الدين والنصوص المقدسة
قد يأتي الجواب وفق التعريف، بأنّ الإسلام يمثله القرآن، وهو الكتاب الأقدس عند المسلمين، ورسول الإسلام؛ وقد يضيف البعض إن كان من السنّة صحابة الرسول، وإن كان من الشيعة آل البيت والأئمة المعصومين. فهل يفي هذا الجواب بما يبحث عنه السؤال؟
القول بأن ممثل الإسلام هو القرآن والحديث النبوي، أو رسول الإسلام نفسه كمؤسس للدين، يضعنا أمام الصعوبات السابقة نفسها؛ فافتراق المسلمين إلى مئات الفرق والمذاهب والطرق قام أساسا على تفسيرات مختلفة، ومتباينة أحيانا، للقرآن، والحديث المنسوب للرسول؛ وعلى خلافات عميقة حول من صحب الرسول، وبالتالي على خلافات أساسية في الروايات المنقولة عن رسول الإسلام. وهذه خلافات عمرها 1400 سنة، وقد يكون من المستحيل الجزم بصحة رأي هذه الفرقة أو تلك. وبالتالي لن نصل لمعرفة الممثل الحقيقي للإسلام وفق هذا الادعاء. من ناحية ثانية، يتجاهل هذا الجواب عدة أسس تلزم التحليل العلمي، وأهمها:
1- نحن لا نملك كل الحقائق المثبتة علميا بالدليل حول رسول الإسلام، ولا حول أي مؤسس لكل الأديان المعروفة، فكلهم عاشوا قبل مئات السنين. وكل ما نملكه حولهم هو ما نقله متبعوهم عنهم، والذين اختلفوا في النقل اختلافات جذرية. وفي أحسن الأحوال توثيقا، لا يمكننا الركون سوى لنصوص الكتب المقدسة نفسها، تماشيا مع إيمان أتباع كل دين بأنها ثابتة منذ زمن مؤسس الدين؛ لكن هذه النصوص لا تلبي حاجة سؤالنا، لأنها تعرضت لخلافات، وتناقضات، في تفسيرها وتأويلها وإنزالها على أرض الواقع، ما بين الفرق الدينية ضمن كل دين.
2- لنفترض أننا نملك كل الحقائق والمعارف حول مؤسس الدين، وأنه يمثل هذا الدين بسلوكه وقوله. لكن الحقيقة العلمية والعقلية تقول إنه لا يمكن الادعاء أن مليارات البشر ممن اتبعوا مؤسس هذا الدين، وحتى لو كانوا فقط بضع مئات، استطاعوا تمثَّل ما يمثله مؤسس الدين؛ فهذا مستحيل موضوعيا وطبيعيا. والدليل الواضح مثلا في تاريخ المسلمين، أنه لم يكد يموت رسول الإسلام إلا وبدأ المسلمون، وهم بعد بضع عشرات آلاف، يقتتلون حول من يمثل ما قال رسول الإسلام. إذن سيمثل مؤسس الدين الإسلام كأفكار ومرويات، زعمنا صحتها، وليس الممارسة العملية للإسلام من قبل مليارات المسلمين الذين هم جزء أساسي من الإسلام.
3- لنأخذ بالحجة القائلة: قد لا يكون ما نُقل عن شخص تاريخي، وخاصة الأشخاص ذوو المكانة المقدسة دينيا، ثابت الصحة. لكن هذا المنقول يمثل رؤية المتبعين له؛ أي إن شخصيته حسب المرويات، تمثل رؤية أتباعه له.
هنا نعود لنكرر نفس الإشكال الذي أشرنا له، تناقض المرويات عن رسول الإسلام ما بين الفرق والرواة؛ أي إنّه لا وجود لرؤية موحدة حول رسول الإسلام بينهم. كذلك، فإن الأهم في بطلان هذه الحجة، هو أن من نقل وكتب هم قلة قليلة جدا من جموع المسلمين، أي الشيوخ والفقهاء، وخلال قرون طويلة، كانت الأمية هي المسيطرة على عموم الناس؛ وكان غالبية هؤلاء الناقلين يشكلون طبقة متداخلة مع طبقة السلطة السياسية، ويسيرون وفق صراعاتها.
ومن باب التدليل على خطأ منهج الأخذ بما يروى عن المؤسس، لنأخذ شخصية مشهورة في وقتنا الحالي، نعلم الكثير حولها مما نظن أنه حقائق، ولتكن سياسية مثل دونالد ترامب. فهل يمكن الادعاء أن هناك توافقا، حتى بنسبة الأغلبية على قراءة نهجه السياسي، دون أن ننسى الفرق الهائل بين الكلام عن نهج سياسي وبين الكلام عن دين؟ الواقع الإحصائي يقول لا، فأربعون بالمائة على الأقل من الأمريكيين يؤيدون ترامب؛ وبالتالي يرونه رئيسا صالحا. والباقي ممن لا يؤيدونه، لا يرون فيه رئيسا صالحا. وحتى بين معارضيه، فبعضهم يراه رئيسا وسياسيا فاشلا فقط، وبعضهم يراه مجرد منافس سياسي في لعبة الصراع السياسي، وبعضهم يراه شخصا عنصريا لا أخلاقيا. إذن، وبالرغم من كل إمكانيات العصر الحديث، وكل هذا التراكم من المعرفة والعلوم البشرية، وتطور علوم النفس والاجتماع، وتوسع وسائل الاتصال والإعلام، لم يتوافق الناس على تعريف شخصيات تعيش معنا، فكيف سيكون الحال مع شخصيات عاشت قبل مئات وآلاف السنين؟
5. هل السؤال صحيح؟
الصعوبات السابقة تحثنا على إعادة التفكير حول صحة السؤال أساسا. هل السؤال صحيح؟ فالإشكالية تأتي من أن التمثيل غير التعريف، كما بينّا سابقا. فقد وجدنا تعريفا عاما للإسلام، يمكن الادعاء أنه متفق عليه، على الأقل من حيث الشكل. مثلما يمكن التنقل بين أشهر تعريفات بقية الأديان والأيدولوجيات دون أن نجد خلافات جوهرية، لكن البحث عن ممثل وحيد لكل هذه العناوين غير ممكن عمليا.
إن من يمثل الرؤى الأوسع للإسلام، هم عموم المسلمين من مليارات يعيشون أو عاشوا على هذه الأرض، فهؤلاء كبشر مثل غيرهم يمثلون الرؤى الأوسع لدينهم وعقائدهم
يتعلق السؤال بفكرة أو أفكار، آمن ويؤمن بها مليارات من البشر عبر مئات السنين، تمثلوها ويتمثلونها في حاضرنا. وبما أن الاختلاف بين البشر في الشكل والفكر والسلوك والعواطف صفة ملازمة للجنس البشري، وأساس من أسس وجوده، وبالتالي تنتج اختلافا حتميا لتأثير الفكر، بما في ذلك الدين، على سلوك البشر وأفكارهم ومشاعرهم؛ فلا سبيل لإيجاد تمثيل لما يؤمنون به أو يصدقونه.
لو سألنا من يمثل الإسلامَ في إطار النظرة للكون والخالق والحياة، دون التفاصيل وبدون المعاني العميقة، فمن الممكن أن ندعي أن النصوص المؤسِسة والتراث والغالبية العددية تمثل جوابا عاما واحدا، يقوم على الإيمان بالله وهو الإله الواحد خالق الكون، وبرسوله محمد بن عبد الله آخر الرسل، وغير ذلك مما ذكرناه سابقا في تعريف الإسلام. وأيضا قد يمكننا القول، إن المجتمع الإسلامي مجتمع محافظ عموما، مع إبقاء نسبية التوصيف حاضرة. ويمكننا أيضا القول، إن المجتمع الإسلامي كان لعدة قرون بدءا من القرن الثامن الميلادي، مجتمعا مشجعا للحركة العلمية والفكرية وأنتج فعلا علوما وفلسفات متنوعة؛ لكنه ومنذ القرن السادس عشر دخل في مرحلة جمود علمي وإبداعي؛ وكل ذلك بالمقارنة النسبية وفق زمنها.
لكن يوم يأتي السؤال في سياق التعميم السلبي على الأفراد، وفي سياق يحمل تقييمات أخلاقية وعقلية؛ فالسؤال يتحول إلى أداة فرض للجواب وليس أداة بحث عن جواب، وسيفقد السؤال صحته وأحقيته. من مثل ذلك طرح السؤال في سياق البحث في الإرهاب، أو العنف والجريمة، أو التحاقد والتكاره الطائفي والديني، من قبيل "هل المسلم إرهابي محتمل لأنه مسلم؟"، "هل كل غير المسلمين، أو كثيرين منهم، يعادون المسلم لأنه مسلم؟"، "هل المسلم يكره غير المسلم، لأنه مسلم؟"، "هل غير المسلم يكره المسلم لأنه مسلم؟"، وغير ذلك من أسئلة.
إذا جربنا أن نسأل نفس السؤال حول أي دين أو أيديولوجية أو فلسفة، فسنجد أنفسنا أمام نفس المعضلة. إذن، فالسؤال بشكله العام غير صحيح، وبشكله الخاص حول العلاقة مع الإرهاب أو التطرف أكثر خطأً.
6. تصحيح السؤال
إذن يجب بداية تصحيح السؤال ليصبح، "من يمثل الرؤية الأوسع للإسلام؟" عندها بالعودة إلى الحقائق البسيطة، التي شكلت قوانين حفظ الجنس البشري، وإلى رأي الغالبية العددية، يمكن الإجابة عن السؤال الصحيح، إجابة تقارب الحقيقة، لكنها لا تمتلكها.
إن من يمثل الرؤى الأوسع للإسلام، هم عموم المسلمين من مليارات يعيشون أو عاشوا على هذه الأرض، فهؤلاء كبشر مثل غيرهم يمثلون الرؤى الأوسع لدينهم وعقائدهم، وهم بتاريخهم وواقعهم خضعوا لكافة التغيرات والتطورات والانتكاسات التي أصابت البشرية عبر التاريخ والحاضر. ولا يمكن وفق ذلك، أن ندعي أن مئات ملايين البشر المسلمين إرهابيون، أو متعصبون، أو غير قادرين على الإبداع، لأنهم يعتنقون الإسلام.
لكن هذا التمثيل الأوسع لرؤية الإسلام، لا يعني أن نقبل الهروب من حقيقة أن كل الجماعات التي تنتهج العنف المادي واللفظي والمعنوي ضد الآخرين، والتي ترفع راية الإسلام، هم مسلمون، ووجدوا في النصوص الإسلامية، سواء المقدسة الأساسية أو التراثية، ما يبرر لهم فعلهم الإرهابي، سواء كانوا يخدمون أجندة هذا التيار السياسي أو ذاك؛ وأنهم أيضا وجدوا تشققات وزاويا مظلمة في الرؤية الأوسع للإسلام، قدمت لهم مبررات تطرفهم؛ أي إنهم يمثلون جزءا من رؤى الإسلام. ولا يمكن إنكار أن سيطرة مناهج نقلية لا عقلية، على نخب المسلمين من شيوخ وفقهاء منذ القرن الخامس عشر على الأقل، أدت إلى لجم الإبداع العلمي والفكري بالمقارنة النسبية، مع ماضي المسلمين وعصرهم[23]. فلا يمكن إعلان براءة كاملة لرؤى الإسلام من هذه الأفعال، مثلما لا يمكننا إعلان براءة رؤى المسيحية من حروب وظلُمات العصور الوسطى، أو براءة رؤى اليهودية من حروب القضية الفلسطينية.
الخاتمة
سؤال من يمثل الإسلامَ، مثل أسئلة كثيرة ظهرت في العقود الماضية، ضمن الحرب الإعلامية على كل المستويات الدولية والمحلية، تم استخدامه سياسيا وإعلاميا وطائفيا، لأهداف تتعلق بالصراع، وليس لأهداف البحث العلمي عن الحقيقة. لذلك، نجد أن غالبية الإجابات تدور بين طرفين متناقضين، ولا يهم صانع الجواب اقتناع الناس بجوابه، بقدر اهتمامه بمرور رسالته المسبقة إلى المتلقين، عبر طرح السؤال.
هذا لا يعني أن كل من تناوله يحمل فكرة مسبقة يريد فرضها، فالعديد من الباحثين، تناولوا السؤال من باب البحث عن الجواب الصحيح، وبدون أية نوايا مسبقة. لكننا نعيش في عالم يسوده سوق إعلامي هائل الحجم والإمكانيات، والحروب العنكبوتية Cyberwar صارت أشرس وأصعب الحروب، بما يفرض جهدا كبيرا في تحري الدقة، ليس في الجواب فقط، بل في السؤال.
[1] محمد بن علي التهانوي الهندي – "كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم" - مكتبة لبنان - 1996 - ص 483
[2] عبد الرحمن بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي (1332 - 1406م) - تاريخ ابن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر- الجزء الثاني. بيروت - لبنان: مؤسسة جمّال للطباعة والنشر. ص ص 46–47
[3] المرجع 1 - ص 507
[4] أبو حامد محمد الغزّالي الطوسي النيسابوري الصوفي الشافعي الأشعري - (450 هـ - 505 هـ / 1058م - 1111م).
[5] أبو حامد الغزالي – "مجموعة رسائل الإمام الغزالي" – المكتبة التوفيقية – ص 257
[6] Daily chart – „Islam in Europe: perception and reality” – The economist
https: //www.economist.com/graphic-detail/2016/03/23/islam-in-europe-perception-and-reality
[7] “How the U.S. general public views Muslims and Islam” – Pew Research center
http: //www.pewforum.org/2017/07/26/how-the-u-s-general-public-views-muslims-and-islam/
[8] سورة آل عمران - الآية 19
كذلك وردت كلمة إسلام في الآيات التالية: سورة آل عمران - الآية 85، سورة المائدة - آية 3، سورة الأنعام - آية 125، سورة التوبة - آية 74، سورة الزمر - آية 22، سورة الحجرات - آية 17، سورة الصف - آية 7
[9] سورة الحجرات - آية 14
[10] إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي أبو الفداء عماد الدين - تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) - المجلد الثاني - دار طيبة - 1420-1999 - ص 25
[11] الحديث كاملا:
"رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل من أهل الشام، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له" أسلم تسلم. قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك للّه، وأن يسلم المسلمـون مـن لسانك ويـدك. قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان. قال: وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن باللّه وملائكته، وكتبه ورسله، وبالبعث بعد الموت. قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: الهجرة. قال: وما الهجرة؟ قال: أن تهجر السوء.قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد.قال: وما الجهاد؟ قال: أن تجاهد، أو تقاتل الكفار إذا لقيتهم، ولا تَغْلُل، ولا تَجْبُن. ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: عملان هما أفضل الأعمال، إلا من عمل بمثلهما قالها ثلاثا حجة مبرورة، أو عمرة" رواه أحمد، ومحمد بن نصر المروزي.
[12] أفعال الجوارح كالصلاة والتكبير والصيام وغيرها من أعمال يقوم بها الإنسان بأعضاء جسده. أما أفعال القلوب كالاعتقاد والحب والغيرة والحسد وغيرها مما له علاقة بالأفكار والنوايا والمشاعر.
[13] يوسف القرضاوي - "الدين والسياسة، تأصيل ورد شبهات" –المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث - دبلن - 2007
[14] سورة الفاتحة - الآية 5
[15] المرجع 14 - ص 17
[16] المرجع 14 - ص 17
[17] سورة آل عمران - الآية 67
[18] موقع مركز الدراسات الشيعية
http: //shiastudies.org/ar/article/what-is-islam-
[19] إسلام ويب – مركز الفتوى - رقم الفتوى: 25251
http: //fatwa.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=25251
[20] الموسوعة البريطانية – إسلام
https: //www.britannica.com/topic/Islam
[21] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.
[22] جاء في سفينة البحار لعباس القمي، والميزان للسيد الطباطبائي عن علي بن أبي طالب قوله "سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول: إنّ أمّة موسى افترقت بعده على إحدى وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية، وسبعون في النار، وافترقت أمّة عيسى بعده على اثنتين وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية، واحدى وسبعون في النار، وإنّ أمتي ستفترق بعدي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية، واثنتان وسبعون في النار".
[23] علاء الدين الخطيب - "احتكار العلم واعتقال العقل باسم الدين" - مرصد مينا للدراسات - 18/08/2018