منابع الإرهاب: بين صدوع الطائفيّة وأزمة الدّولة الوطنيّة
فئة : مقالات
رزحت الكثير من الدول العربيّة الإسلاميّة تحت نير الاستعمار زمن ضعف الخلافة العثمانيّة، وقضت اتّفاقيّة "سايكس بيكو" (1916) بتقسيم الولايات العثمانيّة، ثمّ قامت في تلك الدّول حركات تحرّر أفضت إلى ولادة الدّولة الوطنيّة. ولئن اختلفت الخلفيّات الإيديولوجيّة لتلك الدول، فإنّ مسارات التأسيس فيها قد شهدت نجاحا نسبيّا قامت فيه الأنظمة الحاكمة بتحقيق استقلالها الأمنيّ والعسكريّ، وإنشاء مؤسّسات صحيّة وتعليميّة ووضع بنية تحتيّة، وتحقيق نسب متفاوتة من التنمية الاقتصاديّة والتوازن الاجتماعيّ[1]، إلاّ أنّ تلك الدول ظلّت تعاني من هشاشة بنيويّة سببها اعتماد تلك الأنظمة على السلطة المطلقة للقائد وسياسة الحزب الواحد، وهي سياسة دفعت تلك الأنظمة إلى احتكار السلطة واستعمال العنف ضدّ معارضيها، وهو ما حوّل كثيرا من الحركات المعارضة من طور النشاط العلنيّ إلى طور العمل السرّي. فكان الناشطون فيها عرضة للاضطهاد وأضحوا ضحايا الاستبداد بحرمانهم من وظائفهم وإقصائهم من المشاركة في الحياة السياسيّة والزجّ بهم في السجون والمعتقلات. ولكنّهم استطاعوا استثمار مظلوميّتهم لاحقا من أجل اكتساب الشرعيّة وتولّي السلطة في تلك الدّول بمجرّد سقوط الأنظمة المستبدّة.[2] وكانت أوّل التنظيمات التي استفادت من سقوط الأنظمة بعد الموجة الأولى من الربيع العربيّ الجماعات الإسلاميّة التي تحوّلت من السجون والمنافي والتهميش إلى القصور والحكم والتأسيس. ولكنّ صعود بعض الإسلاميين "المعتدلين"[3] لم يمنع من بقاء آخرين على هامش الحياة السياسيّة المدنيّة؛ ذلك أنّ الديمقراطيّة لا تنفكّ تمثّل بالنسبة إليهم رمزا للكفر وطريقة في الحكم لا توافق "الشّريعة الإسلاميّة" وفق فهمهم. ولذلك، فلم تُنه المسارات الديمقراطيّة في كثير من الدّول أزمة الجماعات التكفيريّة العنيفة، ولا استطاعت استرضاء هذه الجماعات وإدماجها في صلب العمل السياسيّ السلميّ. فالمنهج التكفيريّ والمنهج الديمقراطيّ خطّان متوازيان لا يلتقيان، وإن التقيا ففي مواجهة عسكريّة عنيفة يبرّرها الطرف الأوّل بالشرعيّة الديمقراطيّة التي تؤمن باحتكار العنف بيد الدولة، ويبرّرها الطرف الثاني بحقّه "الإلهيّ المقدّس" في تطبيق "شريعة الله" ومحاربة "الكافرين" من "الطواغيت" وفق منطقهم الدّاخليّ. ومادام كلّ طرف يتكلّم لغة مختلفة على الآخر ويتحصّن بمشروعيّتة روافدها متباينة، فلا وجود لآليّات تواصل بين الطرفين. ولذلك، فالاختلاف لا يحسم بينهما إلاّ بلغة السلاح ومنطق القوّة.
استفادت الجماعات الإسلاميّة من سقوط الأنظمة بعد الموجة الأولى من الربيع العربيّ، حيث تحوّلت من السجون والمنافي والتهميش إلى القصور والحكم والتأسيس
تظلّ المعركة إذن بين طرفين يستغلّ الواحد منهما ضعف الآخر، ويتحيّن الفرصة للقضاء عليه. فإمكانيات الحوار والتواصل والتفاهم منعدمة في هذا السياق. تسعى الجماعات التكفيريّة العنيفة إلى فرض منطقها بالقوّة وبسط نفوذها على الأماكن التي تجد فيها فراغات سلطويّة، وتستطيع أن تواجه فيها قوات النظام الحاكم وتحقّق نصرا على جيوشه. وبالمقابل، يستغلّ النظام الحاكم ضعف التنظيمات التكفيريّة العنيفة، ليتمدّد ويسترجع الأراضي التي خسرها، بل وليقضي عليها قضاء مبرما.
إنّه لمن الطبيعيّ أن تستغلّ الأطراف المتصارعة ضعف بعضها البعض، ومن البديهيّ أن ترتكز قوّة التنظيمات الإرهابيّة على ضعف الدولة الوطنيّة وتفكّك بنية المجتمع على أساس الطائفيّة. ولذلك، فليس هناك من اختيار أمام الدولة الوطنيّة سوى تحقيق توافق أكبر وضمان مشروعيّة تقلّص من مساحات التمرّد المسلّح ضدّها. وبالمقابل، يمكن للتنظيمات الإرهابيّة أن تنتعش في ظلّ الأزمات التي تعيشها الدولة الوطنيّة، وأن تنحسر في ظلّ نجاح تلك الدول. ومن أهمّ الأمثلة التي تؤكّد هذا الجدل، تنظيم "داعش"؛ فهو يختزل مسارات تشكّل الجماعات الإرهابيّة العنيفة التي اتّخذت من الإسلام مرجعا لها، وهو تنظيم استطاع الاستفادة من عوامل مختلفة مثّلت أسباب قوّته وسرّ الدعم الماليّ والبشريّ الذي زاد من تمدّده وانتشاره. فلئن تحدّثت مؤلفات كثيرة عن فشل الدولة الوطنيّة في تحقيق التوازن المطلوب بين فئات المجتمع وطوائفه وعجز مفهوم المواطنة عن استيعاب التنوّع العرقي والطائفي في تلك الدول واعتماد الأنظمة السياسيّة العنف والقمع بدل الحوار والتفاهم مع الجماعات التي تعارض سياستها، فإنّ ذلك العامل لا يفسّر وحده قيام التنظيمات الإرهابيّة، لأنّ الدول العربيّة الإسلاميّة استطاعت إلى حدّ كبير قمع الجماعات الإرهابيّة، وإحباط كثير من عمليّاتها قبل قيام الانتفاضات الشعبيّة، وتحوّل الأنظمة السياسيّة في تلك الدّول إلى أنظمة ديمقراطيّة. ولذلك، فقد مثّل مسار ضعف الدولة الوطنيّة وتفكيك مؤسساتها، أكبر فرصة لتلك الجماعات كي تعيد تنظيم صفوفها، وتستعيد فاعليّتها من أجل القيام بعمليّات نوعيّة ضدّ من تعتبرهم أعداء لها. في الوقت الذي كان الهدف من تلك العمليّة القضاء على رموز الأنظمة القديمة وإعادة تأسيس لمؤسسات ديمقراطيّة. وفي العراق مثلا، أسهم الاحتلال الأمريكي وتحوّل الحكم إلى يد طائفة تدين بالولاء لأطراف خارجيّة في تغذية الصّراع الطائفيّ وإضفاء شرعيّة على الحرب الطائفيّة التي تقودها الجماعات التكفيريّة العنيفة ضدّ الأمريكيين وطائفة الحكّام "الشيعة" على حدّ سواء، وهو ما تميّزت به فترة حكم "نوري المالكي"، وما عاشته العراق زمن العمليات التي قام بها تنظيم الدولة بقيادة الزرقاوي.[4] وامتزجت الحرب ضدّ العدوّ المحتلّ بالحرب ضدّ الحكام الطائفيين، وهو أمر لا يُدين الجماعات التكفيريّة العنيفة التي تزايد عددها بعد الاحتلال تحت شرعيّة مقاومة الاحتلال، وإنّما يدين أيضا سياسة الدولة العظمى التي استأنفت حربها ضدّ النظام العرقيّ سنة 2003 اعتمادا على ذرائع واهية مثل تهمة امتلاك أسلحة الدمار الشامل أو الادعاء بارتباط النظام البعثيّ بتنظيم القاعدة المتهم بتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر؛ ثم كان الخطأ الاستراتيجيّ الأخطر على الأمن والاستقرار في العراق بعد سقوط نظام البعث بقرار تفكيك الجيش العراقي وحلّ الحزب الحاكم. فقد مثّل أفراد هذا الجيش ومن كانوا ينتمون إلى حزب البعث ركنا أساسيّا من أركان تنظيم "داعش"، وهو أمر أكّدته عديد الدراسات.[5] فالقدرة العسكريّة التي أظهرها التنظيم في حروبه وسرعة استيلائه على المدن مثل الموصل، يؤكّد أنّ القيادة العسكريّة للتنظيم، لا يمكن أن تكون مجرّد مجموعة من المتمرّدين الهواة أو المتطوعين الفاقدين للخبرة العسكريّة. فحسن التسيير والخبرة العسكريّة الفائقة هما اللذان مكّنا "داعش" من تحقيق نجاحات ميدانيّة تكشف أنّ وراءه تنظيما حزبيّا مهيكلا وجيشا قويّا تمرّس بالحرب وفنون القتال وخبر ميدان المعركة.
ليس هناك من اختيار أمام الدولة الوطنيّة سوى تحقيق توافق أكبر وضمان مشروعيّة تقلّص من مساحات التمرّد المسلّح ضدّها
1- جذور الإرهاب: ضعف الشرعيّة والطائفيّة السياسيّة
لقد كشف التدخّل العسكريّ الأمريكيّ الذي أزاح النظام البعثيّ، وقضى على رموزه السياسيين أنّ تغيير الأنظمة قسرا يؤدّي إلى خلل هيكليّ وأزمات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة يصعب حلّها؛ فالحكم السّائد على كلّ تدخّل خارجيّ يظلّ نعته بالاستعمار، وسبل التغيير الناجعة تنتجها المجتمعات ذاتها بإرادة شعوبها، ولا يمكن لأيّة قوّة عظمى أن تسقطها مهما جنّدت لمشاريعها من العتاد العسكريّ والأنصار المتحمّسين لها. ولذلك، فكلّ حزب أو تنظيم يُقمع بالقوّة وبالاستعانة بقوى خارجيّة يمكن أن يعيد بناء نفسه مستبدلا المسمّيات ومغيّرا أساليب المناورة، ولكنّه لا ينتهي ويضمحلّ لمجرّد عنف سُلّط عليه؛ فجذوره تظلّ كامنة في المجتمع. وعمليّة تفكيك جيوشٍ لها تقاليد قتاليّة راسخة وشاركت في حروب ميدانيّة لمدّة طويلة أكسبتها الخبرة (مثل الحرب العراقيّة الإيرانيّة) لا ينهي مشكل النظام القديم ولا يقضي على أسباب وجوده مثلما تصوّر الأمريكيون ذلك، وإنّما يخلق بِطَالَة مقاتلين لا مهارة لهم في الحياة سوى حمل السلاح والقتال. ولذلك يسهل اندماجهم في جماعات عنيفة. ولا فرق حينئذ إن كانت عناوين الانتماء بعثيّة أم إسلاميّة، فقد جُبِلَ الجيش على عقيدة الطّاعة وتطبيق أوامر القادة. فضلا عن رسوخ اعتقادهم بالمظلوميّة، وبأنّهم أخرجوا من عملهم ظلما، وأنّ الأطراف التي سيحاربونها هي المسؤولة عن مأساتهم ومعاناتهم. وبما أنّ الحروب كالنيران لا يمكن ضبط حدودها أو التحكّم في مداها، فقد امتدّت الحرب على هشيم الدّول الفاشلة وفي المساحات التي كانت تعاني من فراغ سلطويّ أو من ضعف عسكريّ. وأقنعت الإيديولوجيا "الدّاعشيّة" كثيرا من المؤمنين "بالجهاد في سبيل الله" وتأسيس "الخلافة الإسلاميّة" والمندفعين نحو عنف يجسّد متخيّلهم وأحلامهم السياسيّة.
لقد استطاع النظام السوريّ القضاء على تنظيم "داعش" بفضل المساعدة التي قدّمها له حلفاؤه ووقعت تصفية زعيم التنظيم "أبو بكر البغداديّ" بعد تحديد موقعه ومحاصرته. وخبت بذلك جذوة التنظيم في العراق وسوريا. ولكنّ الإرهاب يظلّ موجودا بالقوّة في الأزمات التي بقيت عالقة في المنطقة ولم تستطع القوى التي تمكنت من دحر "داعش" وهزيمتها من القضاء على أسباب الإرهاب ومصادره.
ومهما أقنع البعض أنفسهم بمقولة المؤامرة وبمقولة التنظيم الذي تصنعه القوى الاستعماريّة الطامعة في ثروات المنطقة، وهي أيسر السبل لتجاهل الأسباب الداخليّة لانتشار الإرهاب، فإنّ تلك الفرضيّة لا يمكن أن تحجب عنّا قابليّة جماعات إسلاميّة متشدّدة للتآمر باعتماد شرعيّة "إسلاميّة" وبتجنيد شباب المسلمين من جميع أنحاء العالم. فهذه الفرضيّة تصوّر المنتمين إلى الجماعات التكفيريّة العنيفة، وكأنّهم رجال آليّون يعملون بضغطة زرّ تتحّكم فيها قوى خارجيّة. وينفون بذلك المسارات الإيديولوجيّة التي أقنعت أولئك الشباب بالانتماء إلى تلك الحركات والواقع الذي ولّدها ومنحها القدرة على الانتشار والتأثير. فحدود تنظيم الدولة الإسلاميّة المكنّى "داعش" يمكن أن تكشف بجلاء العلاقة بين أزمة الدولة الطائفيّة في العراق ونماء التنظيم أو أزمة الشرعيّة في سوريا وتجمّع الحركات التكفيريّة في تلك المنطقة. ومن الطبيعيّ أن تلتقي مصالحها مع مصالح قوى إقليميّة ودوليّة، ولكنّ قيامها وانتشارها لا يمكن أن يحدث لمجرّد مؤامرة خارجيّة. فأزمة الشرعيّة والانقسامات الطائفيّة توفّر أرضيّة ملائمة للإرهاب وارتفاع منسوب التطرّف.
لقد أضحت الديمقراطيّة سيئة السّمعة في البلدين. ولذلك، كانت في العراق ديمقراطيّة عرجاء أنتجت رفضا شعبيّا للسّياسة القائمة وشعورا بالمظلوميّة وتدهورا في الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة في دولة بتروليّة. فليست نتائج الصناديق وشفافيّة الانتخابات وحدها من تثبت نجاح الديمقراطيّة، وإنّما السياسة التي تضمن العدالة الاجتماعيّة وتطبّق مفهوم المواطنة دون تمييز طائفيّ أو دينيّ أو تدخّل خارجيّ. "وإذا صحّ أنّ "داعش" هو مظهر لإفلاس مؤسّسات الدولة، يتوجّب إذن، أن يعاد بناء نظام الدولة السلطويّة الهشّ على قاعدة من الشرعيّة مختلفة وأقوى كثيرا. ويتطّلب ذلك حكومة شفّافة، استيعابيّة، وممثّلة، توفّر الخير العام بما فيه فرص العمل، وأن تعطي لملايين الرجال والنساء الذين يشعرون بالاستعباد أملا بالمشاركة في مستقبل بلدانهم."[6]
فالنفوذ الخارجيّ لا ينفكّ يسطّر سياسة العراق، وتدخّل الأطراف الخارجيّة يجعل الكفّة تميل لطائفة على حساب أخرى، وهو ما جعل مدنيّة الدولة مهدّدة وشعور العراقيّ بالانتماء إلى وطن واحد أمرا لا يحظى بالإجماع. فقد تجدّد الشعور بالاحتلال الخارجيّ في ظلّ وجود أزمة شرعيّة تتلخّص في استمرار الاحتجاجات وغياب الحلول السياسيّة لقضيّتي الفساد والعدالة الاجتماعيّة.
وفي سوريا مثّل انتقال المعارضة من التظاهر السلميّ إلى عسكرة الثورة منعرجا خطيرا جعل العنف يبرّر بالعنف المضادّ، ومنح الجماعات الإرهابيّة العنيفة مساحات للتمدّد في الأراضي السوريّة. وقد برّرت استعانة تلك التنظيمات بأطراف داعمة من الخارج استعانة النظام بحلفائه من "حزب الله" والجيش الروسيّ. ومِثْلُ هذا المناخ الذي تحكمه لغة الحرب والمصالح يظلّ بعيدا عن تحقيق الإرادة الشعبيّة، وإحداث التغييرات السلميّة في المجتمع، وبذلك لا يمكن أن يصير أرضيّة نظام ديمقراطيّ. فلغة الديمقراطيّة هي الحوار البرلمانيّ والتنافس بين البرامج تحت سقف مدنيّة الدولة والمساواة بين مواطنيها على أساس القانون. أمّا اللغة السّائدة في العراق وسوريّا، فقائمة على منطق القوّة والعنف والتدخّل الخارجيّ. وتلك هي الأرضيّة التي تهتزّ بها أركان الشرعيّة، بل تُنْسَفُ بها مؤسسات الدولة لتجد التنظيمات الإرهابيّة مجالا للتوسّع والانتشار.
إنّ الاحتجاجات التي ما تنفكّ تلازم شوارع العراق ولبنان والجزائر لمؤشّر على وجود أزمة شرعيّة ضدّ جماعات محدّدة متهمة بالطائفيّة أو بالفساد
إنّه لمن الصعب تصوّر وجهة خارجيّة للإرهاب في المستقبل القريب، مثلما كان الأمر في بداية هذا القرن. فالإرهاب سيُوَجّهُ حتما إلى الخصم الداخليّ، حيث لا تلوح بوادر الانفراج في الدولتين. ومهما خفّت حدّة التوتّرات الطائفيّة ظاهرا، فإنّ آفاق إعادة توظيفها تظلّ واردة ما دامت الطائفيّة السياسيّة قد تحوّلت إلى ظاهرة تهدّد تماسك الدول وأمنها؛ بمعنى أنّها تضطلع بدور كبير في إحداث صدوع كبيرة وأسباب صدام مزمنة بين طائفة حاكمة تنال الامتيازات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وطائفة مضطهدة تعيش أشكالا مختلفة من التهميش، ولا تلوح لها في الأفق بوادر خلاص سوى الاحتجاجات المستمرّة وملازمة الساحات ومواجهة الأنظمة الحاكمة.
إنّ الاحتجاجات التي ما تنفكّ تلازم شوارع العراق ولبنان والجزائر لمؤشّر على وجود أزمة شرعيّة ضدّ جماعات محدّدة متهمة بالطائفيّة أو بالفساد وحتّى تلك الدول التي يبدو التوافق فيها حلاّ للنزاعات بين الطوائف، فإنّ توافقها يبدو هشّا لعجزه عن خلق مفهوم مواطنة حقيقيّ يساوي بين جميع المواطنين ولقيامه على منطق الغلبة بدل التوازن[7]، وهي أرضيّة تؤشّر لإمكانيّات التحوّل نحو وسائل أخرى لمواجهة الدولة الوطنيّة، إن لم تستكمل الشرعيّة مساراتها. فالإرهاب يمكن أن يتسرّب بين صدوع الطائفيّة وفشل الديمقراطيّة بعد تحوّلها إلى مجرّد آليّات شكليّة لحصول جماعة على السلطة لا تخدم إلاّ مصلحة أنصارها، ولا تستطيع القضاء على الفساد الذي ينخر دواليبها. والجماعات التكفيريّة يمكن أن تجد في ضعف الحوار السياسيّ فرصة لفرض منطقها وفي هشاشة الدول الوطنيّة مصدر قوّتها.
[1] يقول عزمي بشارة مثلا: "لا يجوز غمط دولة الاستقلال حقّها في هذه المجالات (يقصد الاقتصاديّة والاجتماعيّة). فقد قامت، بداية، بخطوات مهمّة جدّا على مستوى تطوير المجتمع والمؤسّسات وتشييد بنية تحتيّة أساسيّة." عزمي بشارة، الطّائفة، الطائفيّة، الطوائف المتخيّلة، ط1، الدوحة، المركز العربي للبحوث ودراسة السياسات، 2018، ص460
[2] "إنّ تبنّي خطاب المظلوميّة أيديولوجيّا هو من أهمّ أدوات تحوّل الطائفة الاجتماعيّة إلى طائفة سياسيّة." عزمي بشارة، المرجع نفسه، ص 453
[3] نشير إلى أنّ معيار الفصل بين الاعتدال والتطرّف، باعتبارهما مصطلحين معياريّين يقومان على أساس القبول بالعمليّة الديمقراطيّة أو رفضها. فالإسلاميّون المعتدلون هم من قبلوا بالمشاركة في الديمقراطيّة، وقبلوا بنتائج صناديق الاقتراع النزيهة، سواء أكانت لهم أم عليهم؛ وبذلك فقد انخرطوا في مسارات سياسيّة سلميّة، والإسلاميّون المتطرّفون هم الذين رفضوا التحوّل من حركات معارضة إلى أحزاب سياسيّة، لأنّهم يرفضون الديمقراطيّة أصلا، ويؤمنون بمقولات الحاكميّة وتطبيق الشريعة الإسلاميّة (مثلما يتصورونها).
[4] يقول فوّاز جرجس: "كان إخفاق المؤسّسة السياسيّة العراقيّة ما بعد صدّام وانقسامها، ونزعة المالكي الاستبداديّة المتزايدة من 2010 وما بعدها، عاملين رئيسين في إنضاج البيئة المناسبة لـ"القاعدة" و"الدولة الإسلاميّة في العراق" للعودة والإمساك بالموقف من جديد." فوّاز جرجس، داعش إلى أين؟ جهاديّو ما بعد القاعدة، (ترجمة محمّد شيّا)، ط1، بيروت، مركز الوحدة العربيّة، 2016، ص 107
[5] يذكر فوّاز جرجس مثلا إبراز العلاقة بين تنظيم "داعش" والنظام البعثيّ السابق. ومن ذلك ما نقله من اتهامات بعض الفصائل الإسلاميّة: بأنّ "البغداديّ هو واجهة فقط لبعثيين أقوياء يسيطرون على "داعش" من خلف الستار، وهم شبكة من ضبّاط الشرطة والجيش العراقيين في عهد صدّام، وقد اختاروا البغدادي لهذه المهمّة، لأنّه لا يشكّل تهديدا لسيطرتهم على التنظيم." ونقل أيضا ما ذكرته الصحيفة الألمانيّة "در شبيغل" من معلومات تضمنت "معلومات عن اكتشاف وثائق من مركز الحاج بكر الحصين قبل مقتله. تظهر الوثائق التي يقال إنها وقعت في أيدي منافسة للتنظيم في حلب، أنّ الضبّاط البعثيين السابقين في جيش صدّام خطفوا "داعش"، وأسّسوا فيه نظام قيادة وتحكّم من خلف الستار رغم إلباسه رداء دينيّا." انظر: المرجع نفسه، ص 133
[6] المرجع نفسه، ص ص 32، 33
[7] يذكر عزمي بشارة أن من أسباب القول بهشاشة التوافق اللبناني بين الطوائف وجود خصوم للتوافق الأوّل: هو وجود طائفيّة سياسيّة متغلغلة في الدولة وفي المجتمع ومؤسساته على حساب المواطنة والهويّة الوطنيّة، فلا تنشأ بذلك مواطنة لبنانيّة مستقلّة عن الطائفة. أمّا الخصم الثاني للتوافق اللبناني، فهو وجود قوى مسلحة داخليّة تستقوي بالأجنبيّ، فلا يقوم التوافق على أساس وعي النخب وإنما خضوعا للأقوى عسكريّا.
انظر: عزمي بشارة، مرجع مذكور، ص 571