منازعات في فلسفة الفارابي بين محمد عزيز الحبابي، ومحمد عابد الجابري
فئة : مقالات
منازعات في فلسفة الفارابي بين محمد عزيز الحبابي، ومحمد عابد الجابري*
التمهيد:
عاصر محمد عزيز الحبابي (1922- 1993) محمد عابد الجابري (1936- 2010)، وتواجدا معاً في الأجواء الفكرية والفلسفية والسياسية، ممّا يجعل الانطباع الأوليّ هو القول بتشابه أفكارهما ورؤيتهما، بيد أنّ الأمر غير ذلك؛ فهما قد تشخصنا مع المعطيات والسياقات بطريقة مختلفة، وإن تبيّن لنا أنهما يقفان على الأرضية الإيبستيمولوجية ذاتها.
من هنا، سوف نقوم في هذه الدراسة بإبراز الاختلاف و"التطابق" في تقريبهما لفلسفة الفارابي، وكذلك بيان آليات قراءتها والاستشكالات التي حكمتهما. وبهذا الاعتبار فإنّ النظر في المصادر الفكرية والاجتماعية قد يكون له الأثر البليغ في توجيه رؤية الحبابي والجابري حينما يرسمان موقفهما من التراث وقضية الحداثة أو المعاصرة.
ينحدر الحبابي من مدينة فاس المغربية، وهي موطن جامعة القرويين الشهيرة، درس في الكتّاب ثم المدرسة الابتدائية ثم الثانوية، غير أنه طرد من التعليم الثانوي إثر مشاركته في المظاهرات والمطالبة بالاستقلال سنة 1944، لينتقل فيلسوفنا بعد ذلك إلى باريس، يقول عن تلك المرحلة: "لقد تابعت دراستي العليا في فرنسا بالسوربون، كان المغرب آنذاك مازال تحت الحماية، لم أكن أشعر أنني كائن كالكائنات الأخرى، على أنّ المستعمر كان يرمي إلى ترسيخ نوع من الإحساس بالدونية..."[1]. مما دفعه إلى النضال من أجل استعادة الكائن لدائرة الشخص المنتمي لوطنه وشعبه؛ أي مشروع الإنسان الحر والمنفتح على الهويّة التراثيّة ومنجزات الغرب الحديثة. وفي سياق هذه الأجواء الفكرية والسياسة، أنجز الحبابي أطروحة: "من الكائن إلى الشخص" (1954) كردّ فعل ضد الاستلاب والذلّ متطلّعاً إلى الحريّة والتحرّر. وهكذا، خطّت يد الحبابي مؤلفات مهمّة وجادّة، منها: من المنغلق إلى المنفتح. عشرون حديثاً عن الثقافات القوميّة والحضاريّة الإنسانيّة، ترجمة محمد برادة (1973)، وكتاب: "ورقات عن فلسفات إسلامية" (1988)، وكتاب: "من الحريّات إلى التحرّر" (1972)...إلخ.
أمّا محمد عابد الجابري فهو من مواليد مدينة فكيك الجهة الشرقية من المغرب، وقد التقى الجابري برجالات النهضة والإصلاح والنضال السياسي والوطني الذين تركوا بصمة في ذهنه، حتى صار يناضل من أجل تأسيس الروح الوطنية في التعليم. درس في التعليم الابتدائي متدرّجاً ومكتسباً لطريقته البيداغوجية الفائقة في توصيل الأفكار وتبليغها مهما كانت مجرّدة وصعبة على الفهم والتعقل.
من المعلوم أنّ الجابري قد تأثر بالفلسفات الغربية الحديثة من قبيل الماركسية والباشلارية في التأريخ للعلم، والفوكوية التي تشتغل على نظام الخطاب والمقاربة الأركيولوجية.. بيد أنّ قراءته للتراث لم تكن قراءة إسقاطيّة أو لا تاريخيّة بقدر ما كانت تندرج ضمن تبيئة المفهوم وفق منطق الثقافة العربية ورهاناتها. ولعلّ من مؤلفات الرجل التي عرفت شهرة كبيرة: ("نحن والتراث" (1980)، كتاب: "تكوين العقل العربي" (1982)، وكتاب: "بنية العقل العربي" (1986)، .....) إلخ من المؤلفات التي رسمت رؤية منهجيّة قويّة في تقريب التراث الإسلامي العربي.
من المؤكد أنّ مهمّة الفكر عند الحبابي والجابري إنّما كانت، بغض الطرف عن اختلافاتهما الإيديولوجية والنظرية، محاولة استيعاب خصوصية الهويّة العربيّة واندماج سؤال التراث في قلب مسار الحداثة وفكرها وتحولاتها. وهذا يعني أنّ (الجابري والحبابي) لم يكونا يجسّدان ذلك التفكير الإقصائي الذي يرفض التراث، بل كلّ التراث مهما كانت جوانب منه إشراقية ومتنورة وتقدمية. بعبارة أدق، كان المفكّران المغربيان من المفكّرين العرب القلائل الذين ينتقدون التراث لبيان حدوده والإفادة منه، لدفع الهوية العربية وخصوصيتها التاريخية والحضارية لبناء حداثة أو معاصرة بطبعة عربية. ويترتّب على هذا، أنّ المفكرين الحبابي والجابري، قد استوعبا درس "هايدغر" الذي يقول إنّ اعتقادنا بأنّ التراث والماضي هو وراءنا هو اعتقاد خاطئ، إذ هو أمامنا، إنه قدرنا، ولا يمكن الانفلات منه إلا عبر عمليتي التملّك والتجاوز.
أولاً: من مهرجان الفارابي بـ"بغداد" إلى استئناف القول الفلسفي في المغرب
ربما ليس من المبالغة في شيء إذا ما استحضرنا قول الأستاذ محمد المصباحي: "بعد ابن رشد جاء الحبابي". وإن كان الأمر هنا يتعلّق بالطريق الجديدة التي دشّنها الحبابي في تأسيس القول الفلسفي، يعني حضور منجزات الغرب الفلسفية والفكرية ووقوع العالم الإسلامي تحت نير الاستعمار والإمبريالية...إنّها معطيات تؤثّث لتغير العمران وتحوّل لسان حال العالم بلغة ابن خلدون. إنها متغيرات جديدة لم تشهدها بالإطلاق الفلسفات الما بعد الرشديّة. فضلاً عن ذلك فإنّ استئناف القول الفلسفي في المغرب والعالم العربي، في خطوته الثانية، لم يكن إلا مع محمد عابد الجابري. كلّ ذلك في معرض نقد العقل وآليات اشتغاله، بعدما غرقت الثقافة العربية في نقد المنتوج والخطابات والمفاهيم والتصوّرات والنماذج والمذاهب والأسماء...والحال المعضلة تكمن في نقد العقل وليس في ما ينتجه هذا العقل. وهكذا انطلق الحبابي والجابري إلى مهرجان الفارابي الذي نظّم في بغداد في أواخر أكتوبر عام 1975 حاملين معهما الحمولات الثقافية والاجتماعية والإيديولوجية، بل قُلْ إنّهما طامحان في تجذير سؤال التراث في جسد الحداثة والمعاصرة من خلال فلسفة الفارابي. يقول الجابري مفصحاً عن هذه العزيمة والرغبة: "مرور ألف ومائة عام على ميلاد فيلسوفنا الأعظم، أبي نصر الفارابي، مناسبة تتيح لنا فرصة أخرى للعودة بأفهامنا وجماع وعينا إلى تراثنا العربي الإسلامي، لنجدّد الاتصال به، وتعميق فهمنا له، على ضوء تطوّر وعينا ونموّ معارفنا، وتحسين أساليبنا في البحث والدراسة (...) ألف ومائة عام فقط تفصلنا عن الفارابي كفكر وثقافة"[2]، وهو الهاجس ذاته الذي حمله معه محمد عزيز الحبابي في مهرجان الفارابي بـ"بغداد" باحثاً في "التراث عمّا هو قمين بأن يستوحي ويستخرج ويستمرّ في بناء بنيات ذهنية متطورة جديدة؟".[3]
وينتج عن هذا أنّ رؤية الحبابي والجابري هي رؤية طموحة وطامعة في تحصيل شروط التجديد وأسباب الإبداع. ولعلّ عنونة دراستهما تدلّ على ذلك دلالة واضحة وبارزة، إذ عنون الحبابي دراسته بـ: "أبو نصر الفارابي المنظّر للمجتمع المدني المثالي"، وعنون الجابري مداخلته بـ: "مشروع قراءة جديدة لفلسفة الفارابي السياسية والدينية". وأحسب أن عنوان الدراسة له من الدلالة ما يشي بأنّ الجابري كان يطمح إلى بناء مشروع نقدي عربي، وهو الأمر الذي يتضّح لنا إذا ما رصدنا لفظ "مشروع" و"المدرسة البرهانية" و"النظرة الشمولية"... والتي تحيل على هذا الطموح الإبيستيمولوجي الكبير، وقد حقّق الجابري جزءاً كبيراً منه. وأمّا الحبابي، فكان شخصاني المنزع والهوى، هواه هو الإنسان والشخص، أمر الإنسان ولواحقه من الاندماج والانفتاح والتحرر..وأكيد أنّ دلالة عنوان دراسته تفي بالغرض حينما تستوقفنا لفظة "المجتمع" و"المثالي"...هما لفظان يعبّران عن ترادفين للتفتّح على المستقبل وعالم الغد أو الغدوية...ومحاولة تخطّي الحاضر الفكري المنغلق...نحو الانفتاح على مستجدات العصر. إنها عملية تعصير الأصالة وتأصيل المعاصرة.
من هنا كانت رؤية الحبابي تنطلق من تأويل لفلسفة الفارابي أو ما سمّاها بـ"الفارابية" التي هي "كالفلسفات الإسلامية الأخرى أضخم بمكوناتها من الآثار المنشورة والمقروءة. ولكلّ فلسفة منها وجه خاص من التفكير العربي الإسلامي العام، استُغلّ جانب منه، ومازالت أوجه في انتظار الاستثمار"[4]. ومن ثمّة كانت قراءة الحبابي للفارابي وفلسفته قراءة تأويلية على جهتين: الجهة الأولى: محاورتها بالمعنى التاريخي المنهجي، والثانية: رصد المعنى التاريخي الوجودي.[5] إضافة إلى ذلك فإنّ الفارابية في تصوّر الحبابي تتحصّل بقراءتها على ضوء جدل الانفصال والاتصال. أعني ما "تمثله بالنسبة لعصرها، وما توحي به بالنسبة لعصرنا، عسانا نتفهّمهما أكثر وأحسن، وندخل في حوار معها ملتصق بالقضايا الحالية للعالم العربي-الإسلامي"[6]. وبهذا الاعتبار، فإنّ الهاجس المنهجي في قراءة فلسفة الفارابي عبر عمليتي: الاتصال والانفصال لم يكن نافلة فكرية أو متعة فلسفية بقدر ما كان رؤية مسلحة نظرياً. وآية ذلك إقرار الحبابي في سياق حديثه عن الغزّالية (نسبة إلى أبي حامد الغزّالي)، إنه يجدر بنا التعاطي معها وكأنها "حيّة تعاصرنا"[7]. وبالتالي، فقراءة الرجل للفارابية تنطلق من "تجاوز حرفية آثارها لتبرز إشكالياتها، فإنّ لكل قارئ معاملاً شخصياً له، يميز تلقائياً، ما لم يلائم طبعه واهتمامه؛ أي عناصر الرسالة الخاصة التي وجهها له الكاتب".[8]
لننعطف، ونقول إنّ رؤية الجابري وتأويله لمتن الفارابي، إنما يجعلنا نستشكل دور النظام الابستيمي الذي تحدّث عنه "ميشيل فوكو" بأنّ العصر يحكم رؤية العالم والفيلسوف والمؤرخ والأديب...حتى أنه ليس في مكنته الانفلات من أساسياتها ومعالمها الكبرى، وإن ظهرت لنا بعض الاختلافات بين هذا الفيلسوف أو ذاك، إنها اختلافات سطحية لا غير. وكذلك الأمر لدى الجابري، فما يتحدّث عنه الحبابي هو ذاته الذي يتحدّث عنه الجابري.
لنستمع إلى الجابري: "أمّا مائة العام الأخيرة التي شهدت يقظة الفكر العربي وتحرّره التدريجي مما علق به من عناصر التشوّش والتعتيم والانحراف، فإنها لم تمكّنا بعد من امتلاك ما يكفي من صفاء الرؤية، وعمق النظر إلى مشاكلنا بالدرجة نفسها من القوة والحرارة والتواضع التي نظر بها الفارابي إلى مشاكل عصره واهتمامات معاصريه"[9]. بمعنى لا بدّ من استحضار سؤال الماضي وامتداداته في الحاضر. إذا لم نتمكن من أن ندرس الفارابي "في إطار هذه الإشكالية نفسها، إشكاليتنا نحن الذين نعيش في القرن العشرين، والتي هي في حقيقتها وجود امتداد لإشكالية مماثلة عاشها الفارابي نفسه منذ ألف ومائة عام"[10]. فهذه الرؤية لا تجدف خارج النظرة الشمولية؛ أي ربط الأجزاء بالكلّ الذي تنتمي إليه، ونحاول أن نقيم ما يمكن إقامته من الروابط بين عالم الفكر وعالم الواقع".[11]
وهكذا، فالقراءة الصحيحة في نظر الجابري "لا تتأتّى (...) إلا بقراءة ما قرأه الفارابي، وبالشكل الذي قرأه به. أعني بذلك أنه علينا أن نجتهد ونجاهد في أن نعيش بوجداننا وعقولنا الإشكالية نفسها التي عاشها الفارابي وحاول فكّ رموزها. إذا نحن أردنا النفاذ إلى عمق تفكيره وآفاق رؤيته"[12]. إنها لحظة الاتصال والانفصال في قراءة الفارابي، وهو المنطلق ذاته الذي يزاوج فيه الجابري والحبابي على حد سواء. وأكثر من ذلك، فإنّ هناك أيضاً تشابهاً بين الحبابي والجابري على مستوى الحدوس الفلسفية، إذ يعترض الجابري على جعل الفارابي ناقلاً فحسب. "إنه لو كان الفارابي مجرد فيلسوف ناقل، كما يقول بعض الباحثين لما أجهد نفسه في الجمع بين رأيي الحكمين ولاقتصر على نوع واحد من الاقتباس، النوع الذي لا يتطلب تأويلاً ويستوجب توقيفا"[13]. ولعل الخروج عن هذا التصور المنغلقينبغي النظر في الوظيفةالإيديولوجية التي أعطاها كل فيلسوف لهذه المعارف[14]، وليس الاقتصار على المادة المعرفية، لأنّ ذلك سوف يجعلنا، حسب الجابري، نقرأ الفلسفة كسلسلة متكرّرة من حيث المفاهيم والتصورات. أمّا قول الحبابي فهو يكاد يتشابه مع قول الجابري حينما قال: "خلافاً لما يدّعيه بعض المؤرخين من أنّ الفارابي مجرد ناقل وشارح للفلسفة اليونانية، فالاسترشاد بتفكير الآخرين"[15]، بمعنى أنّ الفارابية هي "حصيلة حوار، لا عملية نقل. إنها تمثّل حملاً وولادة".[16]
ثانيا: فلسفة الفارابي بين التوظيف الإيديولوجي، وسؤال الإنسية- الأخلاقية
لقد سعى كلّ من الحبابي والجابري إلى نصب الأدلة والتدليل على أهميّة البعد التاريخي في قراءة المتن الفارابي. إذ أنهما استطاعا بكل ثقة ونزاهة الكشف عن دور الماضي في بناء الحاضر، أو بعبارة أوضح ربط المجال الفكري والفلسفي بالسياق التاريخي والفكرولوجي (الإيديولوجيا).
يتصوّر الحبابي أنّ الفارابية تولدت عن "أزمة سياسية ومجتمعية وعن أزمة ضمير، فاندفعت تبحث عن المثل في "مدينة فاضلة"، رغبة في تحقيق السعادة القصوى وتحقيق مستقبل حسب اتجاه بدأ مع الفارابي ولم ينته. فتاريخ الأمم الحيّة يتطوّر بالأزمات خصوصاً في ميدان العمران".[17]
وبهذا الاعتبار، فإنّ علينا أن "نواجه تآليف الفارابي لا أن نعاملها بحياد، لأننا لا نفهمها كما فهمها معاصروه. فالفهم يفرض موقف تفاهم والمواقف تتأثر بالأوضاع التاريخية، ومما لا ريب فيه أنه تتاح لقراءة الغد قراءة جديدة وفهم جديد لأبي نصر"[18]. وهذا ذاته لدى الجابري عندما رفع لواء البعد التاريخي في قراءته للفارابي معترفاً بأنّ وراء كتابة "الجمع بين رأيي الحكيمين" هو "الصراع الصاخب الذي شهده عصره، صراع اجتماعي حضاري، عبّر عن نفسه في المجال الفكري"[19]. ويضيف أيضاً "إنّ المحور الموجّه لقراءة الفارابي لم يكن شيئاً آخر غير نفسه، المحور الذي كانت تدور حوله الحياة الفكرية والسياسة والاجتماعية والخلقية في عصره والعصر السابق له".[20]
مما تقدّم، فنحن أمام الفارابية التي لا يمكن فصلها البتّة عن "مقوماتها الماديّة والروحيّة، التي لها ثوابتها ونزوعاتها"[21]. إننا أمام "حامل لثقافة معيّنة يقرأ أخرى مختلفة، ويجب أن نغيّر الاهتمام الكامل هنا لفعل القراءة هذا.
من المؤكد أنّ القارئ هنا ليس الفارابي بصفته فرداً من أفراد المجتمع يحسن التهجّي والفهم، بل القارئ هو الحضارة العربية الإسلامية بكلّ أبعادها الروحية والفكرية والسياسية والاجتماعية والتاريخية، ممثلة في شخص الفارابي الفيلسوف[22]. والشاهد على ذلك أنّ فلسفة الفارابي قد تمّت في سياق زمان ومكان من العقود الأخيرة من القرن الثالث الهجري، والعقد الأوّل من القرن الرابع الهجري، وبالتالي فالفارابية أو الفارابي كإشكالية تمثل "تطلعات تلك القوى الجديدة النامية، لكن المهددة بجدّ في مصالحها، بل في كيانها كلّه"[23]. لذا ليس من الغريب أن ينهض الفارابي للدفاع عن مشروعية المدينة الفاضلة من جراء النظر الفلسفي في أسبقية الفلسفة على الملّة؛ أعني علاقة الدين بالسياسة في الفلسفة[24] محاولاً منه (المعلّم الثاني) توطين عناصر جديدة في القول السياسي في الإسلام من قبيل: ضرورة الفلسفة للرياسة، وضرورة قيام جماعة مشروطة بالتفلسف.
لقد اعتبر الجابري قراءته لفلسفة الفارابي أو بالأحرى نظره في علاقة الدين بالسياسة على وجه التحديد، إنما كان مقتنعاً بالتمييز المنهجي بين المحتوى المعرفي (المادة المعرفية) والمضمون الإيديولوجي (الوظيفة الإيديولوجية).
وبهذا الاعتبار، يخلص الجابري بأنّ أيّة قراءة كيفما كانت هي قراءة غير بريئة؛ أي إيديولوجية.غير أنّ الأهم، بالنسبة للجابري، هو أن تكون قراءة إيديولوجية واعية." أفضل ألف مرّة من أن تحاول قراءة تراثنا قراءة إيديولوجية، تريد أن تكون واعية، من أن تستمرّ في قراءته قراءة إيديولوجية غير واعية، قراءة مزيّفة مقلوبة"[25]. ويترتّب على هذا أنّ قراءة الجابري لا تكفّ عن استحضار الثالوث المنهجي في قراءته للتراث الفلسفي العربي: المعالجة البنيوية، والتحليل التاريخي، والطرح الإيديولوجي. كلّ ذلك من شأنه أن يحقّق ما كان يطمح إليه الجابري لحظة "الاتصال من أجل الانفصال.
أمّا رؤية الحبابي فلم تكن بعيدة عن هذه الأجواء الفلسفية والفكرولوجية المنطرحة في سياق الولع بمنجزات الحداثة والمعاصرة من تحليلات ماركسية وتاريخانية وشخصانية واقعية. إنه حضور للبعد التاريخي لكن في أفق مغاير ومختلف لا يخلو من الغمز الواضح للتوظيف الإيديولوجي لفلسفة الفارابي.
من المعلوم أنّ مفكر الشخصانية محمد عزيز الحبابي، قد اعتبر أنّ "القراءة تغير المقروء حسب وضع القارئ وحسب تاريخيته. قرأ الفارابي الفلاسفة القدامى طلباً للمعرفة، بيد أنه لمّا شرع في تحرير كتبه الفلسفية، اضطر إلى أن يستقرئ (...) وكأنّه يبحث عمّا عندهم، ويؤيد المشروعية المنطقية والتاريخية للمصادرات التي آمن بها"[26]. وبهذ الاعتبار، فإنّ قراءة الحبابي هي قراءة تستحضر جميع أفعال الإنسان الوجدانية والعقلانية والحسيّة، وكأنّ الأمر لا يتعلق بالرؤية العقلانية فحسب، بل إنّ فعل القراءة هو فعل مستشكل. يقول محمد عزيز الحبابي: "نقرأ بالبصر والحدس، ونقرأ، في الآن نفسه، سابقات على البصر لما نقترح بتسميته بـ"قبليات القراءة (...) القراءة فرصة يقع فيها اتصاله[27]. واللازم عن هذا، أنّ قراءة فلسفة الفارابي ومتونه السياسية والمنطقية والدينية والفقهية، إنما تحتاج وفق كلام الحبابي إلى استثمار جميع حواس الإنسان الظاهرية والباطنية، حتى يتسنى لنا تقريب لغة المعلّم الثاني. وعليه، فلا "يضير الفلسفة في شيء أن تمتزج بعناصر صوفية أو طوباوية، بله غنوصية، لأنّ المنظومات (E)Système، (F)Système، مهما تعقلنت ورمت إلى الموضوعية تسرّب إليها بشكل أو بأخرى عناصر ذاتية وأخرى غير عقلانية ملازمة لتدخل المخيلة في أعمال الإنسان[28]. وأكيد أنّ هذه المخيّلة في فلسفة الفارابي هي التي رسمت معالم الكائن الذي كان يسير على غير هدى." فجاء كتاب "أهل المدينة الفاضلة" بحسب مشروع الفارابي المستقبلي الأصلي متجاوزاً مساوئ حاضره الذي يربطه بالتأريخ".[29]
هكذا، يقع المنعطف أو الفجوة النظرية ما بين الجابري والحبابي في فهمهما للبعد التاريخي والتأريخي لأفكار الفارابي؛ فمفكّر الشخصانية يتصوّر المعلّم الثاني فيلسوفاً ملتزماً؛ "أي مندمجاً في الصيرورة الإنسانية ومسؤولاً عن مصيرها"[30]، إذ المسؤولية هي أساس الفلسفة المدنية، و"المسؤولية تستلزم الحرية في النظر والعمل، فالفعل الحرّ حقّ مار إلى غاية ما التزم بقصد واع"[31]. وبهذا صارت الفارابية في عيون الحبابي تجليّاً من تجليات الفكر الإنسي" أي نسقاً يجعل الإنسان محور التفكير ويسخّر الأشياء لسعادة الإنسان"[32]. وهذا منظور شخصاني يضحي فيه الإنسان ليس معطى خاماً من صناعة ذاته، بل هو من طبيعة الآخرين، أي نسيج من التأثيرات والسياقات المختلفة التي عاشها الفارابي[33]، ومن ثمّ كانت إنسانية الإنسان تشترط الانفتاح، بل الاستعداد للانفتاح. والشرط الثاني هو الاندماج في "محيطه الحضاري في وعيه بذاته والقيم التي تبنى عليها العلاقات المجتمعية، حتى يميز القبيح عن الجميل والسلوك الزائف من السلوك الصادق تميزاً يفتح المجال للتصوّر والنمو والتجاوز"[34]. والحصيلة تحقق ما سمّاه الحبابي بمفهوم التحرّر الذي هو الخروج من الاضطراب منطقياً وأخلاقياً إلى السكينة التي يمنحها الله للمؤمنين. ويظهر هذا المفهوم أيضاً حينما جعل محمد عزيز الحبابي الفلسفة والإيمان في تواكب لا إقطاع فيه. وبالتالي كانت فلسفة الفارابي فلسفة ـ الكل، لكونها "تبحث عن شمولية الوجود، وهي أيضاً "فلسفة ـ الكل، "بمعنى أنها ترمي إلى شمولية المستنفذين من الموجودات".[35]
من هنا اكتسبت الفارابية حق المعاصرة لنا، ذلك أنّ "قلقنا هو قلقه وكلاهما يردّد صدى الآخر"[36]. إنها فلسفة "إنسية-أخلاقية" لالتزامها بقضايا الشمولية وتوجهها إلى "أجيال وأمم، إلى الإنسان وهو يتطلّع إلى فهم ذاته والعالم وإلى ممارسة التحرر"[37]. كلّ ذلك من شأنه أن يرسّخ البعد الشخصاني- قبل تبلوره فلسفياً ونظرياً في الفلسفة المعاصرة بصورة قوية - للإنسان الذي هو الفارابي الكائن المتفاعل والمنفعل مع الحضارة اليونانية وعلومها من أجل بناء رؤية واضحة للأمة العربية والإسلامية الموغلة في الفتن والاضطرابات، والمترهّلة بالانقسامات والطوائف...حتى توهّج سؤال الإنسان والإنسية في ذهن أبي نصر الفارابي.
عود على بدء
نقول إنّ عودتنا إلى قراءة كلّ من محمد عزيز الحبابي ومحمد عابد الجابري لفلسفة الفارابي إنما هي عودة فكرية لتأمّل كيف استطاع المغربيّان أن يتخطّيا القراءات المؤدلجة السائدة للتراث الفلسفي العربي نحو قراءة أقلّ ما يمكن أن ننعتها به أنّها قراءة "جادّة" باستشكالاتها واستدلالاتها. في لحظة لم يكن بإمكان المفكّر والمثقّف أن يتفطّن إلى أنّ العالم في تغير على مستوى الأفكار والاجتماع والسياسة. وهذا ما جعل قراءة كلّ من الحبابي والجابري تكاد، كما قلنا آنفاً، أن تتشابه وتتطابق في أمور كثيرة، ممّا قد يدفع القارئ إلى التفكير في سؤال، طبعاً لا أساس له: من أخذ من الآخر هل الجابري أم الحبابي؟ نقول بكلّ بساطة إنّ الأمر يتعلق برؤية للعالم (Weltanschauung) أسهمت بقوّة في انفتاح الحبابي والجابري وتقبلهما للانفتاح على منجزات الحداثة والمعاصرة من دون إلغاء التراث. لأنّ التراث أو الميتافيزيقا، لا يمكن شطبها ومحوها بجرّة قلم، لأنّها بنية ذهنيّة وأنطولوجيّة في وجدان الإنسان. فهذا هو الدرس الفلسفي الذي استفاد منه كلّ من الحبابي والجابري ليس في قراءتهما لنصوص المعلّم الثاني، بل لفلاسفة الإسلام مشرقاً ومغرباً. في الوقت الذي كانت فيه القراءات الفكرية والفلسفية أو الإيديولوجية الأخرى، لم تستطع الخروج من البنيات المستقرة على أنّ العالم في تغير على مستوى الأفكار والنماذج والمفاهيم والرؤى، لننعطف ونقول إنّ الحبابي في قراءته لفلسفة الفارابي قد أمسك بسؤال الإنسان والإنسيّة التي هي مدار الفكر الفلسفيّ المعاصر.
*- مجلة يتفكرون، العدد الثالث، شتاء 2014
[1]ـ غريب (عبد الناصر)، مقال: "محمد عزيز الحبابي. أول مفكر عربي إسلامي يقبل ترشيحه لنيل جائزة نوبل للآداب"، ضمن كتاب: "محمد عزيز الحبابي. الإنسان والأعمال" الجزء الثالث: آراء ومواقف (لجنة رعاية الترشيح لجائزة نوبل1991)، الطبعة الأولى 1411/1991، ص 130
[2]-الجابري(محمد عابد)، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة، الدار بيضاء،1986، الهامش (1)، ص 55
[3]- غريب(عبد الناصر)، مقال: "محمد عزيز الحبابي. أول مفكر عربي إسلامي يقبل ترشيحه لنيل جائزة نوبل للآداب"، ضمن كتاب: "محمد عزيز الحبابي، الإنسان والأعمال" الجزء الثالث: آراء ومواقف (لجنة رعاية الترشيح لجائزة نوبل1991)، الطبعة الأولى 1411/1991، ص 130
"حرر هذا النص بمناسبة مهرجان بغداد 29/10 إلى 1/11، 1975 عن "الفارابية والحضارة الإنسانية"، راجع ص 9
[4]- الحبابي(محمد عزيز)،ورقات عن فلسفات إسلامية، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، البيضاء، 1988، ص 7
يقول الحبابي عن ابن رشد: "إن لابن رشد قضايا عنها وأخر وجدت ولم تخرج إلى طور التعبير و"العبرة" وثالثة نقولها أثار ابن رشد بتلميحات وسكون فصيح وسياق يدعون إلى حوار صامت معها.ثم إن الرشدية هي كل ذلك وزيادة"، ص 7
[5]-"يحتوي هذا العرض على مدخل عام، ويحدد بعض المفاهيم ويبرز الطريقة التي تتبع، وبما أن لل" تاريخية" معنيين، سنحاول محاورة الفارابي، انطلاقا منهما. يتناول القسم الأول التاريخية بمعناها المنهجي، والثاني بمعناها الوجودي، ويلي ذلك قسم ثالث يلقي أضواء على ما تقدم، وأخيرا تأتي الخاتمة"،ص9. المرجع المذكور أعلاه.
[6]- المرجع ذاته، ص 53
[7]- المرجع ذاته، ص 53
[8]- المرجع ذاته، ص 10
الفارابية عند محمد عزيز الحبابي: "هي مجموع المشاكل المجتمعية والفكرية التي كانت موضوعة في عصره، وما نشأ عنهما من مناخ ثقافي وتأثير على سلوك الناس فوجدت الفارابية، في كل ذلك بنياتها"، ص ص 10-11
[9]- الجابري(محمد عابد)، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة، الدار بيضاء، 1986، ص 56
[10]- المرجع ذاته، ص 56
[11]- المرجع ذاته، ص 59
[12]- المرجع ذاته، ص 57
[13]- المرجع ذاته، ص 64
[14]- المرجع ذاته، ص 33
[15]ـ الحبابي(محمد عزيز)،ورقات عن فلسفات إسلامية، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، البيضاء، 1988، ص 11
[16]- المرجع ذاته، ص 11
[17]- المرجع ذاته، ص 10
[18]- المرجع ذاته، ص 11
[19]- الجابري(محمد عابد)، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة، الدار بيضاء، 1986، ص 62
[20]- المرجع ذاته، ص 63
"الإشكالية لا تتحدد فقط بما تمّ التصريح به، بل أيضاً بما تتضمنه وتحتمله"، ص ص 28-29/ المرجع المذكور أعلاه.
[21]- المرجع ذاته، ص 62
[22]- المرجع ذاته، ص 62
[23]- المرجع ذاته، ص 79
[24]- المرجع ذاته، ص 72
[25]- المرجع ذاته، ص 83
[26]-الحبابي(محمد عزيز)،ورقات عن فلسفات إسلامية، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، البيضاء، 1988، ص 17
[27]- المرجع ذاته، ص 17
[28]- المرجع ذاته، ص 13
[29]- المرجع ذاته، ص 23
- يقول الحبابي في سياق حديثه عن الغزالي: "من مفارقات الغزالي أنه يمجّد العقل في بعض النصوص، ويحذّر منه لفائدة المشاهدات الصوفية في نصوص أخرى."، ص 53 و54. كتاب: "ورقات عن فلسفات إسلامية"، المذكور أعلاه.
- يقول أيضا: "إنّ أبا حامد يسكننا، لا يسمح لنا بالحياد، فنحن دائماً معه ومخالفون له. وتلك إشكاليتنا نحن، بالنسبة للغزالي"، ص 166
[30]- المرجع ذاته، ص 23
[31]- المرجع ذاته، ص24
[32]- المرجع ذاته، ص ص 23-24
[33]- الحبابي(محمد عزيز)،من الكائن إلى الشخص: دراسات في الشخصانية الواقعية، دار المعارف، القاهرة، 1962، ص 136
يقول الحبابي مستثمراً مفهوم التشخصن في قراءة التراث: "إنّ الفيلسوف الفارابي والشاعر المتنبي تعاصرا وتواجدا في حلب، وخالطا نفس الأوساط، ولكن رغم ذلك كلّه تشخصن كل منهما تشخصنا جعله مخالفاً للآخر كلّ الاختلاف"، ص 134/ المرجع المذكور أعلاه.
[34]- الحبابي(محمد عزيز)، ورقات عن فلسفات إسلامية، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، البيضاء، 1988، ص 25
[35]- المرجع ذاته، ص 31
[36]- المرجع ذاته، ص 31
[37]- المرجع ذاته، ص 43
-"..نستخرج من تاريخية الكائن وقد شخص وحمل معه ممكناً به ما ظهر منها وما بطن"، ص 42/ المرجع المذكور أعلاه.