مواطنون لا أسارى...صيحة الكواكبي ضد الاستبداد


فئة :  مقالات

مواطنون لا أسارى...صيحة الكواكبي ضد الاستبداد

مواطنون لا أسارى...صيحة الكواكبي ضد الاستبداد

تقديم

في إحاطته بظروف كتابة كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، يجاهر الكواكبي -بحسه الأدبي الرفيع- بأنه كتب مؤلفه متخفيا غير ظاهر؛ وذلك من شدة الاستبداد السياسي وفتكه بالأقلام الحرة والمعارضة، "أقول وأنا مسلم عربي مضطر للاكتتام شأن الضعيف الصادع بالأمر، المعلن رأيه تحت سماء الشرق، الراجي اكتفاء المطالعين بالقول عمن قال: وتعرف الحق في ذاته لا بالرجال" (1).

الكواكبي الذي تقلد العديد من المناصب الإدارية والقضائية في عهد "الخلافة العثمانية"، ومارس العديد من المهام النضالية من خلال الصحافة والجمعيات الخيرية؛ وذلك سعيا في تحقيق الإصلاح السياسي للأمة الإسلامية، ما كان له إلا أن يفجر هاته الطاقات والخبرات في عمل فكري متميز هو طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، والذي قيل عنه بعد وفاة مؤلفه مسموما. إنه أحد أهم المشاريع الإصلاحية في القرن العشرين.

وبعيدا عن الملاحظات المنهجية والموضوعية التي يمكن إبداؤها بخصوص الكتاب –من منظور قارئ معاصر- والتي تتجسد مثلا في: إصدار بعض الأحكام التنقيصية حول المرأة أو طغيان النزعة الليبرالية على بعض تحليلات الكاتب؛ فإنه من ناحية أخرى، يمثل "ثورة الأسارى" على واقع الجور والحرمان والإقصاء الممنهج من المشاركة في الحياة العامة.

سنفتح في هاته المساهمة مجموعة من مسالك التفكير في قضية الاستبداد في علاقتها بما يسميه الكواكبي في مجازه السياسي بـ "الأسر"، هذا الأخير الذي سنقارب مفهومه ومنظومته وشروط التخلص منه وموقعه في واقعنا المعاصر.

الأسير السياسي أو أسير الاستبداد

قديما، كان يراد بلفظ الأسير حسب الاستعمال المألوف "المحارب الواقع في قبضة العدو أثناء حرب عسكرية، الشيء الذي يعني تقييد حريته (2) أو الحد منها نتيجة الأسر".

غير أن المعنى اللغوي يتجاوز هذا المعنى الفقهي/القانوني الذي يحصر مفهوم الأسير في البعد الحربي والعسكري. فالأسير لغة هو عموما كل "مقيد بحبل ونحوه، مأخوذ من الإسار، وهو القيد. يقال: أسرت الرجل؛ أي: قيدته بحبل ونحوه، ومن معاني الأسر: الحبس. يقال أسر يأسر، أي حبس، والأسير: المحبوس، ويطلق الأسر بمعنى: الشد والإمساك، ومنه سمي الحبل إسارا؛ لأنهم كانوا يشدون به الأسير. وكل محبوس في قيد فهو أسير، والجمع: أسرى" (3) وأسارى.

ومنه استعمال الكواكبي لمفهوم الأسير بمعنى سياسي معاصر في مواضع كثيرة من كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، متجاوزا بذلك المعنى التقليدي، وقد وظف العديد من الالفاظ المتقاربة للتعبير عن هذا المعنى، منها: الأسراء، المأسورين، الأسر، الأسير، الرقيق.

لقد كان الكواكبي مدركا لخطورة الاستبداد السياسي على الأمة الإسلامية، فهو "أعظم بلاء، لأنه وباء دائم بالفتن. وجدب مستمر بتعطيل الأعمال، وحريق متواصل بالسلب والغصب. وسيل جارف للعمران، وخوف يقطع القلوب، وظلام يعمي الأبصار، وألم لا يفتر، وصائل لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي" (4).

وهكذا فأشد درجات الأسر عند الكواكبي هي الابتلاء بالاستبداد والاكتواء بناره؛ لأنه باعث على الخمول وأرذل الأخلاق والظلم وكل مصائب الدنيا ما ظهر منها وما بطن، وأقصى دركات الحرية نعمة وجود نظام سياسي قائم على العدل والديمقراطية وكرامة المواطن، فشتان بين الثرى والثريا... !

الأسر السياسي شامل، مترابط ومتكامل

يرى الكواكبي أن الاستبداد كل غير قابل للتجزيء، فهو شامل ومتكامل يمس مجموع النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، فلا يستثنى منه شيئا، ومن تم فإن "الأمة المأسورة" يصير قدرها أن يكون الاستبداد منهج حياتها ونمط سلوكها وتفكيرها.

إن هذا الأسر السياسي الذي يفرضه الحاكم المستبد على رعاياه فينغص عليهم سعادتهم ويفسد عليهم أحلامهم وآمالهم بعيشة كريمة تأخذ بالاعتبار إنسانيتهم وآدميتهم، في ظل هذا الوضع يصبح الأدمي واقعا تحت الرق، يتقاذفه المستبدون كبارا وصغارا، جددا وقدامى، مثله كمثل "الدابة التي لا يرحمها راكب مطمئن، مالكا كان أو غاصبا" (5).

يأخذ الأسر السياسي -حسب الكواكبي- العديد من الأوجه، فمنه مثلا الوجه الديني، حيث سيادة فقهاء السلطة الباحثين عن المجد أو بالأحرى التمجد (6)، ولو بالتزلف للحكام المستبدين، "حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصبر عليهم إذا ظلموا، وعدوا كل معارضة لهم بغيا يبيح دماء المعارضين" (7)، وكلها "بدع شوشت الإيمان وشوهت الأديان...وتتولد جميعها من غرض واحد هو المراد، ألا وهو الاستعباد" (8).

ومنه الوجه المعرفي؛ ومقتضاه أن المستبد يسعى في نشر الجهل في أوساط رعاياه حتى لا يعوا حقوقهم المغصوبة من طرفه؛ فكلما زاد جهل "الأسارى" كلما تقوت شوكة المستبد وزاد تحكمه فيهم، وهكذا "فلو كان هذا المستبد طيرا لكان خفاشا يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل. ولو كان وحشا لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل، ولكنه هو الإنسان بصيد عالمه جاهله" (9).

ومنه الوجه المالي؛ إذ يستبد المستبدون بأموال الأمة الواقعة تحت بلاء الأسر، فالاستبداد يجعل "المال في أيدي الناس عرضة لسلب المستبد وأعوانه وعماله غصبا، أو بحجة باطلة؛ وعرضة أيضا لسلب المعتدين من اللصوص والمحتالين الراتعين في ظل أمان الإرادة الاستبدادية، وحيث المال لا يحصل إلا بالمشقة فلا تختار النفوس الإقدام على المتاعب مع عدم الأمن على الانتفاع بالثمرة" (10).

ومنه أيضا الوجه الأخلاقي؛ فالأخلاق الذميمة رفيقة الاستبداد، تدور معه وجودا وعدما، يورث شر الخصال ويفقد بسببه أسير المستبد "الثقة بنفسه؛ لأنه لا يجد خلقا مستقرا فيه، فلا يمكنه مثلا أن يجزم بأمانته، أو يضمن ثباته على أمر من الأمور، فيعيش سيء الظن في حق ذاته، متردّدا في أعماله، لواما نفسه على إهماله شؤونه، شاعرا بفتور همته ونقص مروءته، ويبقى طول عمره جاهلا مورد هذا الخلل.. وما الحقيقة غير أنه خلق حرا فأسر" (11).

ومنه كذلك الوجه التربوي؛ حيث ينتج عن سفالة الأخلاق انعدام التربية في مجتمع الأسارى؛ لأنها غير مقصودة ولا مقدورة في بيئة مستبدة "إلا ما قد يكون بالتخويف من القوة القاهرة، وهذا النوع يستلزم انخلاع القلوب لا تزكية النفوس (12).

لقد شهد الكواكبي في عصره وزمانه حجم التقدم الذي عرفته الأمم الأوروبية، وكيف أن الأخيرة حتى في غياب نظام ديني أفلحت في إيجاد منظومة حياتية ضمنت –كما يرى الكواكبي- لكل المواطنين الحد المعقول من العدل والمساواة والعيش الكريم، فأين الاستبداد من الديمقراطية والحرية؟ وأين مجتمع الأسارى من مجتمع الأحرار؟

ما العمل إذن؟

نعود هنا إلى استجلاء طبيعة الدواء/العلاج الذي يقترحه الكواكبي لوأد وإماتة الاستبداد في "الأمة الإسلامية"؛ فبعد أن يستعرض في بحثه -الذي استغرق إنجازه ثلاثين عاما- أسباب ومظاهر الاستبداد السياسي الذي يراه –كما سبقت الإشارة- مرضا استشرى في جسم الأمة وقضى على همتها في النهوض والتقدم الذي عرفته الأمم الأخرى، يقدم "الشورى الدستورية" (13) كمدخل لتشييد نظام سياسي يدفع بلوى الاستبداد ويحقق الديمقراطية السياسية، ولكن على أسس إسلامية كلية.

يطرح الكواكبي خمسة وعشرين مبحثا دستوريا للخروج من مأزق الاستبداد هي تباعا مبحث الشعب – مبحث ما هي الحكومة – مبحث ما هي الحقوق العمومية – مبحث التساوي في الحقوق – مبحث الحقوق الشخصية – مبحث نوعية الحكومة – مبحث ما هي وظائف الحكومة – مبحث حقوق الحاكمية – مبحث طاعة الأمة للحكومة – مبحث توزيع التكليفات – مبحث إعداد المنعة – مبحث المراقبة على الحكومة – مبحث حفظ الأمن العام – مبحث حفظ السلطة في القانون – مبحث تأمين العدالة القضائية – مبحث حفظ الدين والآداب – مبحث تعيين الاعمال بقوانين – مبحث كيف توضع القوانين – مبحث ما هو القانون وقوته – مبحث توزيع الأعمال والوظائف – مبحث التفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم – مبحث الترقي في العلوم والمعارف – مبحث التوسيع في الزراعة والصنائع والتجارة – مبحث السعي في العمران – مبحث السعي في رفع الاستبداد (14).

ويخص الكواكبي المبحث الأخير المتعلق بـ "السعي لرفع الاستبداد" ببعض التفصيل، فيعتقد أن "فك أسر" أفراد الأمة رهين باتباع بعض الشروط الفرعية، حتى لا يحصل عكس المقصود بإماتة الاستبداد، وهو الفتن والفوضى التي لا يرجى منها خير، فمن الشروط (15) التي ينبغي أن يسعى مناهضو الاستبداد لها أن تحقيق الحرية يسبقه شعور عام من لدن الأمة كلها بخطورة الاستبداد والآلام التي يسببها، وإلا فتلك الأمة لا تستحق الحرية أصلا، كما أن الاستبداد لا يجب أن يقاوم بالشدة بل باللين والتدرج والتسلسل، وهو منهج أغلب الأمم التي بلغت التقدم والتطور، وأخيرا فإنه قبل مقاومة الاستبداد نفسه يجب تهيئة بديل الاستبداد والمستبد، وإلا صارت الثورة المنشودة فسادا أكثر منها صلاحا.. !

ماذا عن واقعنا اليوم؟

تعد طروحات الكواكبي متقدمة وسابقة لأوانها؛ وذلك قياسا على طبيعة الفكر السياسي والاجتماعي الذي كان سائدا في زمانه وعصره، وقد أحدث بذلك نوع من الارتجاجات والهزات في البنى القائمة (16)، فقد مثلت أفكاره قبل أكثر من قرن ثورة على السائد من المعتقدات السياسية والثقافية، والتي عملت نظم الاستبداد على استغراسها ونشرها من أجل إطالة أمد حياتها. ينضاف لما سبق، أن عمل الكواكبي هو انخراط في مسلسل الجواب عن السؤال النهضوي القديم/الجديد: لماذا تقدم غيرنا وتأخرنا نحن؟

واليوم بعد مرور أكثر من قرن على صدور الكتاب (17)، يبدو أن أفكار الكواكبي ما تزال حية وصالحة لتشخيص الواقع السياسي بأغلب الدول الواقعة في منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بدليل أن النقاشات العمومية في هاته الدول ما زالت تدور حول: سبل تحقيق التحول الديمقراطي، الاعتراف بالحريات العامة، طبيعة نظام الحكم بين الإسلامي والحداثي، مدى ديمقراطية الدساتير في البلدان التي يوجد بها دستور، ومدى حاجة بلدان أخرى إلى دستور في ظل غيابه، العدالة الاجتماعية والمساواة في توزيع الثروات والخيرات العمومية، استكمال السيادة الوطنية...وغيرها من المواضيع الإصلاحية التي سبق للكواكبي أن أثارها ونبّه إليها.

إن العمل المتميز للكواكبي يسائل في العمق ليس فقط أجهزة الحكم، بل كذلك نخبنا المثقفة المعاصرة، إن لم يكن يورط بعض نخبة الفكر التي لم تستطع تحليل الواقع السياسي بشكل ملموس وحقيقي، ودونما تزييف أو تحريف، نخب اختارت إما أن تستقيل من مهمة التفكير الحر والمتنور، أو سلكت مسلك التزلف للأنظمة السياسية القائمة من أجل الترقي الاجتماعي، وهي في الأحوال جميعها أسهمت في تعطيل هدف تحقيق الحرية والانعتاق من أسر التحكم والتسلط السياسيين، هدف تحول إلى حلم سياسي جميل، والخوف كل الخوف أن يطول هذا الحلم، فيلبث الحالمون أضعاف مضاعفة، مما لبث فيه أهل الكهف في كهفهم أحياء مضروبا على آذانهم وفق التوصيف القرآني..!

 

الهوامش:

(1). عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، تقديم: أسعد السحمراني، ط 3، (بيروت -لبنان، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، 1427هـ - 2006م)، ص: 29

(2). للمزيد انظر:

https://www.hablullah.com/?p=2331

تاريخ المشاهدة: 09 شتنبر 2024

(3). للمزيد ينظر الرابط الالكتروني التالي:

https://islamic-content.com/dictionary/word/1074

تاريخ المشاهدة: 09 شتنبر 2024

(4). عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، مرجع سابق، ص: 44

(5). نفس المرجع، ص: 78

(6). نفس المرجع، نفس الصفحة

(7). للمزيد ينظر: المرجع السابق، ص: 53-54

(8). المرجع السابق، ص: 60

(9). المرجع السابق، ص: 65

(10). المرجع السابق، ص: 101

(11). المرجع السابق، ص: 114

(12). المرجع السابق، ص: 138

(13). المرجع السابق، ص: 30

(14). المرجع السابق، ص: 178

(15). للمزيد ينظر: المرجع السابق، ص: 179- 186

(16). بدليل أن نفاذ الكتاب عند زيارة الكواكبي لمصر، حيث يقول مثلا: "ثم في زيارتي هذه، وهي الثالثة، وجدت الكتاب قد نفذ في برهة قليلة..."، للمزيد ينظر: المرجع السابق، ص: 31

(17). نُشر الكتاب سنة 1319هـ الموافق لسنة 1901م.