موضوع الصحراء في التجربة الفوتوغرافيّة المغربيّة
فئة : مقالات
موضوع الصحراء في التجربة الفوتوغرافيّة المغربيّة
جعفر عاقل*
يكاد يأخذ موضوع فضاء الصحراء في المنتج الإبداعي المغربي، بمختلف أجناسه وأشكاله التعبيرية، وضعاً استثنائياً؛ إذ قليلة هي الأعمال الإبداعية التي خصّصت حيزاً متميزاً لهذا الفضاء الغني بأناسه وجغرافيته وعاداته وعلاقاته الإنسانية، ...إلخ. ويمكن الحديث، وبالنَفَس ذاته، عن التجربة الفوتوغرافية بالمغرب في اهتمامها أو انشغالها بهذا الموضوع وإعادة بناء معانيه ثم إنتاج دلالاته؛ فالمتأمل في تجارب الفوتوغرافيين المغاربة يلمس أنّ الاهتمام بتمثيل موضوع الصحراء لم يشغل سوى فضول وانشغالات أسماء محدودة جداً، الأمر الذي يطرح أسئلة عديدة بخصوص هذا الغياب. هل يعود الأمر إلى حواجز نفسية أو لغوية أو فكرية، تطوّرت فصولها مع مرور الزمن فتحوّلت إلى سياج سميك بين الفوتوغرافي وبين الفضاء الصحراوي وما يحبل به من تفاصيل وجزئيات ثقافية؟ أم إنّ المسألة متعلقة بالغياب الشبه التام لهذا الموضوع عن ذهن الفوتوغرافيين وأسئلتهم الفنية؟
ثم إنّ الدارس للمقاربات الفوتوغرافية المحدودة التي تناولت موضوع الفضاء الصحراوي المغربي، تثير نظره مجموعة من التأطيرات والموضوعات والأساليب البلاغية التي يقوم عليها هذا الربيرتوار الإيكونوغرافي، سواء على مستوى المحتوى أو على مستوى الشكل؛ وذلك مقارنة مع باقي المتن الفوتوغرافية التي صوَّرت لنا الحياة اليومية بالمغرب. ويمكن التمييز إجرائياً في هذا الموضوع بين نموذجين من الصور: الأول: التقطته عيون الآخر/عيون الأجنبي، وهي تخضع بشكل عام لنظر وبلاغة الأسلوب الإثنوغرافي أو بالأحرى الكولونيالي في تمثيل اليومي المغربي وسرد حكاياته، ويمكن تقسيم هذا الموروث البصري بدوره إلى صنفين أو مقاربتين إذا صح التعبير[1]. ونموذج ثانٍ أبدعته العين المغربية/عين الفوتوغرافي المحلي بأساليب فنية وبجهات نظر متفاوتة.
إنّ الدارس لتاريخ الفوتوغرافيا بالمغرب لا يمكنه تجاوز هذا المتن الفوتوغرافي الكولونيالي؛ لأنّه بالرغم من العيوب والهفوات والأدلجة التي أبان عنها في مناسبات عديدة، فهو يتوفر على بعض النقاط الإيجابية التي تؤهله لأن يشغل مساحة مهمّة في موروثنا البصري. أكثر من ذلك، هناك بعض المقاربات «الغيرية» المتنورة والطلائعية، أبطالها أيضاً فوتوغرافيون أجانب، تناولت هي الأخرى بعض قضايا المجتمع الصحراوي ووقفت عند تفاصيل فضاءاته، لكن هذه المرّة بعيون وتمثيلات أكثر إيجابية وأكثر حميمية. وقد مكَّنت هذه الطريقة في اشتغال هؤلاء الفوتوغرافيين من إضافة صور جديدة للذاكرة البصرية المغربية، ومن ثمّة إغناؤها وتجديدها بإنتاجاتهم. ويمكن ملامسة ذلك من خلال اللغة الفوتوغرافية التي تخاطبنا بها صورهم سواء على مستوى انتقاء المواضيع أو طريقة تأطيرها أو العلاقات المنسوجة بين العناصر المصوَّرة، وأيضاً من خلال تبنّيهم لحساسية رقيقة تفوح بالدفء الإنساني المطلوب في مثل هاته الحالات الإنسانية، وكلها مكوّنات ومفردات بصرية مكّنتهم من إقامة مسافة واضحة بينهم وبين الكليشيهات والصور المسكوكة التي عوّدتنا عليها عين الفوتوغرافي الكولونيالي[2].
وقد يجد الدارس لهذه التمثيلات والتمثلات أثراً، إمّا بشكل مباشر أو غير مباشر، في تجارب ومسارات بعض الفوتوغرافيين المغاربة الذين اتخذوا هم أيضاً من موضوع فضاء الصحراء مجالاً لإبداعاتهم الفوتوغرافية. ويتجلّى ذلك في الطريقة التي يؤثث بها هؤلاء الفوتوغرافيون النتف البصرية التي التقطتها كاميراتهم، وكذلك من خلال الحمولات الدلالية التي منحوها أو شحنوا بها فوتوغرافياتهم، والتي تحكي لنا قصصاً عن الفضاءات الصحراوية بالمغرب وحيوات الناس بها. ويمكن ملامسة جزء وافر من هذه الأسئلة والقضايا بدءاً بأعمال أولاد السيد داود، مروراً بالحسّ التجريبي لبنكيران التهامي، وصولاً إلى فوتوغرافيات التازي سعد وغيرهم[3]. إنّ الحياة الصحراوية في تعدّدها المناخي والبيئي والبشري واللغوي والثقافي تحضر بقوة، طبعاً إلى جانب سمات أخرى، في السجل الفوتوغرافي لهذه التجارب المغربية، وذلك بدرجات فكرية ومقاربات فنية متفاوتة.
والمتصفح لألبوم «مغاربة» لأولاد السيد ولكاتالوغات معارض بنكيران ولمجموع فصول إصدارات التازي[4]، سيقف على الرغبة الكبيرة عند هؤلاء الفوتوغرافيين من أجل تخييل أو تسجيل أو توثيق بعض الشذرات واللحظات والحالات والواقعات والأحداث التي تميز المجتمع الصحراوي في كليّته. إنّ اهتمامهم بتمثيل، أو إعادة تمثيل، فوتوغرافيا هذه الفضاءات المنسية بالمغرب مثل زاكورة وطاطا وعقا وأسا وغيرهم، والتقاط صور للتحولات السريعة التي يعرفها الفضاء العمراني لبعض المدن الصحراوية كالداخلة وبوجدور وسمارة والعيون وغيرها من المدن والقرى؛ تشهد على انشغالات الفوتوغرافي المغربي المعاصر بطبائع الحياة ومظاهرها وإيقاعها في المجتمع المغربي عموماً والصحراوي تحديداً. وكذلك على فضول فكري متجدد ونظر بصري تجريبي من أجل فهم أسرار هذا المجتمع وخفاياه، وإيقاع تحولاته ومتغيراته، وطبيعة أفراحه وانكساراته...إلخ. إنّ إصرار الفوتوغرافي على تمثيل وإبراز، أكثر من مرّة ومن خلال استعمال سياقات مختلفة، جزئيات وتفاصيل وخصوصيات المكونات الطبيعية للفضاء الصحراوي مثل الصخور والكثبان الرملية والنباتات الشوكية والأعشاب والشجيرات القصيرة، وكذلك الألبسة التقليدية كالدراعة والملحفة واللثام الأسود الذي يوضع على الرأس، ثم الحلي كالمبايل والليات والخلاخل والبغداد وغيرها من العناصر والأكسسوارات ذات الطابع الثقافي الصحراوي، إنّما الغاية من ذلك الإصرار هي رسم صورة مقرّبة ومفصلة ومغايرة في ذهن المشاهد عن هاته الفضاءات وساكنتها وعن العلاقات التي تجمع بينهما، وهي في الآن نفسه محاولة لوصف وكشف وتحليل، ثم تأويل كيف لهذه المشاهد الطبيعية المتنوعة ولهذه الفضاءات المفتوحة على اللامتناهي تأثيرات قوية وأحياناً حاسمة في العلاقات الاجتماعية ومتخيلات الأفراد وسلوكيات الجماعات. إنّ هاجس الفوتوغرافي أثناء التقاطه لهذه المشاهد واللقطات، كان وما يزال هو تقديم منتج بصري يقطع من جهة مع أسلوب المشاهدة الكسولة والـمُسَنَّنَة التي برعت فيها الفوتوغرافية الكولونيالية من خلال استعانتها بكليشيهات السياح والإثنوغرافيين والمتلصصين، ومن جهة أخرى العمل على تأسيس مقاربة فوتوغرافية جديدة تقوم على مبدأي التوثيق والتعبير في الآن نفسه.
وقد كان لتجربة مُجابَهة الصمت الـمَهيب الذي يفوح به الفضاء الصحراوي بكثافة أثر في الفوتوغرافيين للتزهد والتساؤل، والغوص في البحث عن الآليات الناجعة والممكنة لإبداع أساليب مشاكسة ومغايرة عن التجارب السابقة. وقد تمكنوا في مناسبات عديدة، كما أخفقوا في أخرى، من الانزياح عن أشكال وأساليب ورؤى الموروث البصري الذي تركه لنا بعض فوتوغرافيي الإدارة الكولونيالية والمؤسسات الموازية لها: دور نشر البطاقات البريدية، الاستوديوهات، المنابر الإعلامية...إلخ. كما تمكنت تجاربهم بتوظيفها تارة للمكونات التشكيلية وأحياناً أخرى للعناصر الكرافيكية أو بتوظيفها لطرق الإخراج الفوتوغرافي، من أن تنتقل وترقى بنظر المشاهد من زمن الانبهار بىسحر الفضاء الطبيعي إلى زمن التمثل والإدراك والتفكيك ثم إعادة البناء[5]. ويتمثل ذلك جليّاً بإعطاء الأولوية في انشغالاتهم لفضاءات العالم الصحراوي في تعدده واختلافه وأيضاً اشتغالهم على مواضيع وأشياء لا تقف عليها العين العادية كحركات الرمل، والجزئيات الدقيقة لمعيش الرّحل، وبعض المواد المنسية أو المتروكة للنسيان فوق حبات الرمل، وأثر الحيوانات ورسومات الحشرات الصحراوية على الغطاء الرملي...، وكلها اختيارات وتجارب ساهمت في إنتاج مقاربات فوتوغرافية تهتمّ ببعض الجوانب الدقيقة والخفية لهذا المجتمع وأحوال أناسه وثقافتهم. إنّ العلاقة التي يؤسسها الفوتوغرافي مع فضاء الصحراء وثقافته أمست مسكونة بهاجس البحث والتجريب، وخاصّة التعبير عن الوجدان.
[1] - يمكن عودة القارئ بخصوص هذه المسألة إلى كتابنا المعنون بـ«نظرة عن الصورة الفوتوغرافية بالمغرب»، منشورات الفنك، الدار البيضاء، 2015، وتحديداً (ص ص17 ـ 23). حيث تناولنا بنوع من التفصيل كيف أنّ هذا الصنف من الفوتوغرافيات كان يندرج في إطار السياسة العامة التي نهجها المستعمر بأرض المغرب من أجل التعرف على طبائع ساكنته وجغرافيته وطبيعته وعمرانه، بمعنى أشمل ثقافته. وقد خلصنا إلى أنّ أغلب الصور الملتقطة رغم تعدّد مشارب فوتوغرافييها: رحالة، باحثين، جنود...إلخ؛ ورغم تعدد أسنادها: بطاقات بريدية وصور سياحية أو توضيحية...إلخ، فقد تحكم في نظر ملتقطها ومتخيله هاجسان؛ الأول: جمع أكبر عدد ممكن من المعلومات والمعطيات عن مغاربة هذه الفترة التاريخية من خلال سند الصورة، للقيام بعد ذلك بعملية جردها وتصنيفها ومعالجتها فتحليلها، وذلك بهدف توظيف نتائجها في استراتيجية العامة لنظام الحماية. ثم هاجس ثانٍ، ويمكن تلخيصه في الاستجابة لاستيهامات المستهلك الغربي وأفق انتظاراته ورغباته النفسية واللغوية والفنية والثقافية قصد استدراجه والتأثير فيه للافتتان بالمغرب.
[2] ـ يمكن الاستئناس في هذا الباب، على سبيل المثال لا الحصر، بفوتوغرافيات كتاب:
- LE CLEZIO J.M.G et JEMIA (1997), Gens des nuages, photographies de Bruno Barbey, éd. Stock, Paris, 1997, (p.p 44 - 45, p. 48, p. 52, p. 54, p. 63, p. 77, p.p 88 - 89, p. 92, p. 100, p. 102, p 119
[3] ـ هناك أعمال لفوتوغرافيين آخرين تستحق هي الأخرى التأمل والتفكير في خصوصياتها ولغتها البصرية كبعض إنتاجات مالي محمد وبوبلغيثي الحسين التي اتخذت من الفضاءات الصحراوية للجنوب الشرقي للمغرب موضوعاً للتجريب الفوتوغرافي.
[4] - AOULAD SYAD, Daoud, Marocains, préface de Abdelkébir Khatibi, éd. Contrejour / Belvisi, Paris, 1989, p72
- AOULAD SYAD, Daoud, Territoires de l’instant, Poèmes de Ahmed Bouanani, éd. La Croisée des Chemins / Editions de l’œil,
Casablanca / Paris 2000.
- TAZI Saâd, Maroc saharien, éd. CITADELLES et MAZENOD, Paris, 2012.
- TAZI Saâdet BOUBRIK Rahal, Al Khayma - Tente noiredu Sahara, préface Ali Squalli, éd. Marsam, Rabat, 2008
- TAZI Saâd, Sahara Atlantique - Splendeurs Du Désert Marocain, texte de Aziz Daki, éd. La Croisée des Chemins, Casablanca, 2006
[5] ـ يمكن العودة بخصوص هذا النموذج الفوتوغرافي إلى أعمال بنكيران التهامي الموسومة
بــ: Globes du silence» 2008 et «Ombres sur dunes» 2009»