موضوع علم الاجتماع بين الظاهرة والحقيقة الاجتماعية (رؤية تحليلية)
فئة : مقالات
موضوع علم الاجتماع بين الظاهرة والحقيقة الاجتماعية
(رؤية تحليلية)
يكاد يجمع علماء الاجتماع على أن موضوع علم الاجتماع هو دراسة المجتمع في ظواهره ونظمه وبنيته والعلاقات بين أفراده دراسة علمية وصفية تحليلية ونقدية؛ الغرض منها الوصول إلى فهم الوظيفة التي تؤديها هذه الظواهر واستخلاص القواعد والقوانين العامة التي تحكمها([1]).
وهذا يعني أن الموضوع الأساسي لعلم الاجتماع هو المجتمع الإنساني، وأن ما تطرحه الجماعات الإنسانية من ظواهر ومسائل اجتماعية هي مجال الدراسات الاجتماعية، ويقوم علم الاجتماع بدراسة تلك الجماعات من حيث هي مجموعات من الأفراد انضم بعضهم إلى بعض بعلاقات اجتماعية تختلف عن الفئات الإحصائية التي تشير إلى أفراد لا رابط بينهم. وعلم الاجتماع، من هذا المنظور يسعى إلى معرفة الحياة الاجتماعية، عن طريق الحصول على بيانات صادقة من الواقع الاجتماعي بوسائل وأدوات تتطور مع تطور العلوم ذاتها؛ فالعلم مجموعة من المعارف وطريقة للعمل على حد سواء، والظواهر الاجتماعية تخضع للبحث العلمي الدقيق إذا ما اتبع في دراستها منهج علمي يماثل في أسسه ومنطقه ما هو معتمد في مجالات علمية أخرى.
وهكذا يعالج الباحث في علم الاجتماع الأفعال الاجتماعية ذات المعاني المشتركة، والأشكال التي تتخذها العلاقات المتبادلة في الحياة الاجتماعية، بقصد البحث عن الظواهر والنظم الاجتماعية والكشف عن المبادئ التي تحدد طبائعها، ليصل الباحث الاجتماعي إلى مقارنة البيانات الإحصائية من جوانبها المختلفة وفي أوقات متعددة، وبذلك تتضح له معالم الحياة الاجتماعية والوقائع الاجتماعية، ويتعرف على النظم السائدة، فيمكنّه ذلك من إصدار الأحكام والقواعد والقوانين العامة التي تخضع لها تلك الظواهر([2]).
ويحاول علماء الاجتماع أيضاً، الاهتمام بتجارب الأفراد وكيف تتشكل هذه التجارب من خلال التفاعلات مع الفئات الاجتماعية والمجتمع ككل. واتخاذ القرارات الشخصية، حيث لا توجد أعمال فردية في الفراغ، وكيف تضغط الأنماط الثقافية والقوى الاجتماعية على الناس، كما يحاول علماء الاجتماع تحديد هذه الأنماط العامة من خلال فحص سلوك مجموعات كبيرة من الناس الذين يعيشون في نفس المجتمع، ويعانون من نفس الضغوط([3]).
- والخلاصة التي يمكن أن نخرج بها بصفة عامة، من خلال توصيفنا لموضوع علم الاجتماع هي أن علم الاجتماع يبحث بشكل أساسي في الاجتماع الإنساني وظواهره، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، ما هي الصفات المقومة لهذه الظواهر؟ وما هو تعريف الظاهرة الاجتماعية؟
1- تعريف الظاهرة الاجتماعية:
تتصف بأنها سلوك متكرر الحدوث يتسم بمجموعة مواصفات أهمها التكرار والتلقائية والجبرية، كما يعرفها دوركهايم "هي كل ضرب من السلوك ثابتا كان أم غير ثابت. يمكن أن يباشر نوعاً من القهر الخارجي على الأفراد أو هي كل سلوك يعم المجتمع بأسره، وكان ذا وجود خاص مستقل عن الصور التي يتشكل بها في الحالات الفردية"([4]).
ويظهر من التعاريف السابقة أن كل ما يحدث في المجتمع لا يعتبر ظواهر اجتماعية كالأكل والنوم والشرب... إنما الظواهر توجد في المجتمعات بسمات خاصة قد يتعذر تفسيرها، فهي تطفو على سطح المجتمع بشكل تلقائي من غير تصنع أو إحداث لها، وكذلك هي متكررة الحدوث وليست أشياء نادرة الحدوث، بل تظهر دائماً في المجتمع هي جبرية ملزمة وقاهرة ومعقدة، حيث توجد هذه الظواهر في المجتمع بشكل إلزامي تفرض نفسها على أفراد المجتمع سلوكاً محدداً.
وهناك أمثلة على الظواهر الاجتماعية، مثل العزوف عن الزواج، تزايد نسبة الطلاق، ارتفاع نسبة الجريمة، تعدد الزوجات، عمل المرأة، التفكك الأسري، تعاطي المخدرات، العنف ضد الأطفال والمرأة ..... إلخ. في بعض المجتمعات وتختلف الظواهر حسب كل مجتمع.
2- خصائص الظاهرة الاجتماعية:
تتميز الظاهرة الاجتماعية بخصائص تميزها عن غيرها من ظواهر العلوم الأخرى وأهم هذه الخصائص ما يلي([5]):
أ- تتصف الظواهر الاجتماعية بأنها ظواهر إنسانية؛ أي يتميز بها المجتمع الإنساني (فوق العضوي) دون الحيواني (العضوي).
ب- عامة وجماعية وليست فردية؛ أي الظاهرة الاجتماعية تتصف بالعمومية والانتشار أي يشارك فيها معظم أفراد المجتمع.
ج- الظواهر الاجتماعية ظواهر تلقائية ليست من صنع فرد أو بضعة أفراد ولكنها من صنع المجتمع ومن خلقه، وتظهر بأمر من العقل الجمعي الذي ينشأ من اجتماع الأفراد وتبادل آرائهم واتصال وجهات نظرهم.
هـ- كما تتميز الظاهرة الاجتماعية بالموضوعية*؛ أي إن لها وجودا مستقلا، حيث توجد خارج شعور الأفراد، وهي أسبق في الوجود من الفرد، وليست من صنعه، فهو يستقبلها تامة التكوين، ومن هنا اختلافها التام عن الظاهرة النفسية، وغيرها من الظواهر البيولوجية والتاريخية، وغير ذلك من الظواهر.
و- كما تتصف بالقهرية، حيث تنطوي الظاهرة الاجتماعية على قوة قاهرة، تفرض على أفراد المجتمع أنواعاً من السلوك والتفكير والعواطف، وتضع لهم قوالب محددة، يصبون فيها سلوكهم وتفكيرهم وعواطفهم. فإذا حاول الفرد الخروج على أي ظاهرة اجتماعية، شعر برد فعل ضاغط وقاهر، يقوم به المجتمع ضده. ويقول دوركهايم في هذا الصدد: "إني لا أشعر بهذا القهر، أو لا أكاد أشعر به، حين استسلم له بمحض اختياري … إن هذا القهر يؤكد وجوده بقوة، متى حاولت مقابلته بالمقاومة".
ز- الظاهرة الاجتماعية نسبية ومتغيرة من حيث الزمان والمكان؛ فالزواج مثلاً يختلف من حيث تطور أشكاله على مر العصور، كما أنه يختلف من مجتمع لآخر من حيث عدد الأزواج والزوجات، ومن حيث مراسم وتقاليد الزواج.
ح- الظاهرة الاجتماعية معقدة، أي لا يمكن إرجاعها لسبب واحد لأنها تعود لعوامل متعددة ساهمة في تكوينها.
ط- الظاهرة الاجتماعية مكتسبة فيتم تنشئة الأفراد عليها داخل المجتمع، ومن تبادل الآراء واتصال وجهات نظرهم، وانصهار رغباتهم وإراداتهم.
ي- تمتاز الظاهرة الاجتماعية بصفة الجاذبية، وهي صفة أضافها دوركايم على الرغم من أنها تتصف بالجبر والالتزام. وللجاذبية حسب دوركايم نوعان:
- لا شعورية: أن الأفراد يعتادون عليها، ومتى اعتاد الفرد على الشيء فإن هذه الشيء يصبح سهلاً ميسوراً على الفرد، بل محبب إلى نفسه.
- شعورية: وهي تتردد من وقت لآخر، وفي مناسبات معينة كما هو الحال في الاحتفالات والأعياد وغيرها.
ك- تتصف الظاهرة الاجتماعية بأنها تاريخية فكل ظاهرة تمثل فترة تاريخية من حياة المجتمع، وتعتبر الظواهر الاجتماعية هي مادة التراث التاريخي وما ينطوي عليه هذا التراث من عرف وعادات وتقاليد وأوضاع يتناقلها السلف عن الخلف، مثال ذلك شكل الملابس أو المساكن التي تسود مجتمعاً من المجتمعات.
وفي النهاية هذه هي أهم الخصائص المميزة للظاهرة الاجتماعية التي أستأثر بدراستها علم الاجتماع، وجعل منها موضوعاً وميداناً ومجالاً لدراساته وبحوثه.
ويعتقد إميل دوركهايم أن الظواهر الاجتماعية لا يمكن تفسيرها سوى بواسطة ظواهر اجتماعية أخرى، بفضل الشرط الابستمولوجي للتجانس بين السبب والأثر. وهكذا يعتقد دوركهايم، يجب علينا أن نعتبر تقسيم العمل الذي هو ظاهرة اجتماعية، كأثر لظاهرة أخرى: تتمثل في زيادة الكثافة الأخلاقية والفيزيقية في المجتمع([6]).
3- بنية الظاهرة الاجتماعية:
يشير مفهوم البنية إلى مجموع العناصر المترابطة والمتماسكة والمتسقة، المكونة لشكل بنائي ما، والمنظم في علاقة عناصره بعضها ببعض، والتي لا تدرك إلا جملةً، (فالبنية لا تدل على البنيان إلا في علاقتها مع باقي اللبنات المشكّلة له)، ولا يشترط أن يكون النظام ظاهرياً مادياً وبالتالي، فالبنية تشترط حتمية وإمكانية علاقة الأجزاء أو جزئيات البنية بعضها ببعض.
يحدد لنا شتراوس البنية بأنها "نسق يتألف من عناصر يكون من شأن أي تحول يعرض للواحد منها أن يُحدث تحولاً في باقي العناصر الأخرى"([7]). وحتى يكون هناك بنية لظاهرة ما يجب توفر أربعة شروط([8]):
أ- أن تكون عناصر هذه الظاهرة مترابطة فيما بينها، أي تشكل نسقاً أو منظومة تحكم عناصرها قواعد محددة.
ب- التأثير المتبادل بين عناصر الظاهرة، حيث إن أي تغيير يطرأ على عنصر يؤثر على بقية العناصر الأخرى؛ بمعنى أن البنية الأصلية قابلة لاحتواء بينات جديدة مع كل تغير يطرأ على عناصرها.
ج- القدرة على التنبؤ بما سيطرأ على نتيجة أي تغيير يمس أحد عناصرها.
د- يشترط في البنية محل البحث أن تكون شاملة لأغلب الوقائع الملاحظة المتعلقة بالظاهرة.
بذلك نصل إلى نتيجة مفاداها أن لمفهوم الظاهرة الاجتماعية بنية مقعدة، حيث تتكون من عنصرين أساسيين([9]):
- الأساس المادي: ويتضمن البيئة ونمط الإنتاج والوظيفة.
- الأساس الرمزي: الذي يحوي الأعراف والتقاليد والعادات والقيم والمعايير والقانون والطرق الشعبية. وهناك عنصر ثالث وهو الارتباطات بين الأساس المادي والبناء الرمزي.
ولا تنشأ الظاهرة الاجتماعية من فراغ وإنما تنتج من تفاعل الأفراد وهم يشبعون حاجاتهم في بيئة معينة ولها خصائص محددة تمارس عليهم درجة من الضغط والإلزام فتحدد حاجاتهم ووسائل إشباعها.
4- الحقيقة الاجتماعية:
تعتبر الواقعة الاجتماعية أياً كان نطاقها أحد المكونات الرئيسية لنسق التفكير العلمي، ومن وجهة نظر الفكر السوسيولوجي تتميز الحقيقة الاجتماعية بعدة ملامح رئيسية، وهي كالآتي([10]):
أ- إن قضية تَشَكّل الحقيقة الاجتماعية يفرض علينا مناقشة طبيعة العلاقة القائمة بين الإنسان الفرد كحقيقة جزئية وبين المجتمع كحقيقة كلية شاملة. هل البشر هم الذين يشكلون نقطة البدء بتجمعهم لنشأة الحقيقة الاجتماعية، ومن ثم فهم الذين يخلقونها ولو فعلوا ذلك على غير رغبة منهم. في مقابل هذا الرأي هناك من يؤكد أن الفرد ليس سوى تكوين بيولوجي، والإنسان بشخصيته وبالمعنى الذي نراه ونتعامل معه، إنما هو خلق اجتماعي، وأن البعد الاجتماعي إلى جانب البعد الذاتي موجود في داخل الإنسان منذ الولادة، ومن ثم فحالة الاجتماع لها أسبقيتها وسموها أيضاً.
يرتبط بذلك هل الحقيقة الاجتماعية كالحقيقة الطبيعية منفصلة عن الفاعل وأفكاره، أم إن ذلك افتراض خاطئ فيما يتعلق بقطاع كبير من الحقائق الاجتماعية. وإذا تأكدت الصلة بين الحقيقة الاجتماعية والفاعل الذي خلقها أو الذي خلقته، هل يمكن أن تمسك الحقيقة الاجتماعية عن الوجود إذا أمسك بعض البشر عن الاعتقاد في وجودها؛ لأن البشر يعجزون عن الإمساك بوجود الحقيقة الاجتماعية طالما أنها موجودة، غير أن جزءاً من الحقيقة الاجتماعية يتمثل في مجموعة الأفكار التي ينتجها البشر في إطارها. وقد نشأت فيما يتعلق بهذه الخاصية مواقف خلافية داخل النظرية العامة لعلم الاجتماع، في إطار مناقشة المداخل الفردية والجماعية للحقيقة الاجتماعية وهنا يبرز التطرف بهذه الخاصية من خلال تباين موقف كلاً من دوركهايم وفيبر والسلوكيين.
ب- تعتبر علاقة الكل بالجزء فيما يتعلق بالحقيقة الاجتماعية من الخواص الأساسية المميزة لها، في إطار ذلك نجد موقفين متباينين([11]):
- الموقف الأول: إذ يذهب فريق إلى أن الظاهرة الاجتماعية تشتق خصائصها من خلال الظواهر الأشمل التي تشكل جزءاً منها، وفيما يتعلق بالكيانات الاجتماعية (المجتمعات، التنظيمات، الأسر)، فإننا نجد أنها عبارة عن بناءات تتشكل من العلاقات بين العناصر، غير أن كثيراً من خصائص هذه العناصر لا يمكن فهمها منعزلة عن المشاركة في الكل. فأنساق السياسة تتكون من القادة، والأتباع والأحزاب والمشرعين وما إلى ذلك، غير أنه لا يمكن أن توجد أي من هذه العناصر بخصائصها خارج الأنساق السياسية.
- الموقف الثاني: في مواجهة ذلك نجد أن موقفاً آخر يؤكد أن الكليات تكتسب خصائصها من العناصر المشكلة لها. فإذا نظرنا إلى الكليات الاجتماعية فسوف نجد أنها تتكون من مجموعة الأدوار والمكانات التي تُنجز بواسطة البشر (الأفراد) أو مجموعاتهم. إلا أنه من الصعب إدراك الكليات الاجتماعية بدون الأفراد في مكاناتهم الاجتماعية، في مقابل أن المراكز الاجتماعية للبشر لا يمكن إدراكها بدون الكليات الاجتماعية. وذلك يعود إلى أن الظواهر الاجتماعية إلى حد كبير نتاج عقلي. ولا يعني ذلك أن خصائص المجتمع تنبثق بصورة مباشرة عن السلوكيات والأفكار الفردية. إنما هي تنتج من خلال التفاعل الاجتماعي، حيث تتخلق خصائص جديدة غير خصائص المشاركين في التفاعل.
لقد تباينت مواقف الاتجاهات النظرية لعلم الاجتماع فيما يتعلق بخصائص كل من الكل والجزء، وما هو مصدر اكتساب كل منهما لخصائصه، حيث ظل ذلك كما هو موقفاً خلافياً لم تحسمه النظرية العامة لعلم الاجتماع.
ج- يعتبر ترابط ظاهرات الكون من الخواص الأساسية المميزة للظواهر الطبيعية، ومن بينها الظواهر الاجتماعية؛ ذلك لأن الكون في ثباته واستمراره لا يخضع للعشوائية أو الصدفة، وإنما يخضع لقوانين دقيقة ينتظم بالنظر إليها، وهي مقولة تمت استعارتها من العلوم الطبيعية إبان نشأة علم الاجتماع، وتشكل هذه الخاصية موضع اتفاق بين مختلف النماذج النظرية لعلم الاجتماع، تستوي في ذلك الوضعية أو المادية الجدلية. حيث يدعم كلاهما الترابط الذي يدعمه وجود علاقات سببية بين أطرافه، بيد أن الخلاف الرئيس فيما يتعلق بهذه الخاصية يدور حول اتجاه السببية أساساً.
د- أما الخاصية الرابعة التي تتميز بها الظاهرة الاجتماعية، فتتمثل في تميزها بالاستمرارية والثبات النسبي؛ فجميع ظاهرات الكون في تغير دائم، غير أن هذا التغير لا يحدث على شكل قفزات مفاجئة أو أحداث عرضية عشوائية ولكنه يتبع نظاماً ثابتاً نسبياً. ورغم ذلك، فقد نشأ خلاف حول هذه الخاصية فيما يتعلق بالحالة الأساسية للوجود الاجتماعي هل هي الثبات أو التغير أو التوازن المتحرك على ما يذهب بارسونز مثلاً.
ه- أما الخاصية الأخيرة، فتتمثل في أن الحقيقة الاجتماعية ذات وجهين متقابلين عادة، حيث نجد الصراع في مواجهة التكامل كوجهين متضادين. وهناك يأس من مجرد جمع هذه الجوانب في إطار نظري واحد، وهو ما يعني ترك اختيار الاقتراب من الحقيقة وفقاً للمنطلقات النظرية والمنهجية للباحث السوسيولوجي.
وهي ملاحظة قد نختلف معها؛ لأن الخبرة بالحقيقة لا يمكن أن تكون منقسمة على ذاتها، وإنما هي تبدو كذلك بالنظر إلى تصور نظري معين، وهو بطبيعته إدراك جزئي لها مثلما يذهب فيبر، الذي يؤكد أننا قد نتباين بشأن حقيقة ما لاختلاف الزاوية التي ننظر من خلالها إليها، وهي بالطبع مسألة يحكمها الإطار النظري للباحث.
ويكمن لنا أن نرجع هذه المواقف الخلافية بشأن الظاهرة الاجتماعية إلى ثلاثة عوامل أساسية، وهي كالآتي:
- طبيعة التصورات التي تضمنتها مختلف النماذج النظرية بشأن الحقيقة الاجتماعية، وهي تصورات ورثتها عن الأطر الفلسفية السابقة.
- اختلاف منطق تناول الحقيقة الواقعية بالنظر إلى سائر المواقف النظرية؛ فبينما استعانت الوضعية بمنطق العلوم الطبيعية في دراسة الظاهرة الاجتماعية، ومن ثم كانت أميل إلى تناول العناصر والتركيز على الرؤية الجزئية للحقيقة. نجد أن المثالية ارتبطت بالتناول الكلي للحقيقة موضع الدراسة.
- تخلف البحث الاجتماعي بأسسه الموضوعية، أعاق الاتفاق حول الخصائص الأساسية للحقيقة الاجتماعية فلم تجر البحوث حول الموضوعات الخلافية، حيث يُيَسر البحث حولها حسم هذه القضايا لصالح اكتمال نسق التفكير العلمي وتطوره([12]).
وفي النهاية، ندرج أمثلة عن ظواهر اجتماعية تحولت إلى حقائق اجتماعية، جميع الاتفاقيات والمبادئ القانونية والالتزامات الأخلاقية هي أمثلة على الحقائق الاجتماعية. يتعلم معظم الناس، كأطفال، قراءة وكتابة لغة معينة، وتناول الطعام باستخدام أدوات المائدة، والاحترام لكبار السن، والذهاب إلى المدرسة من أجل التعليم والتدريب. فيما بعد يتعلمون أيضاً أنه يجب عليهم العمل من أجل لقمة العيش، ودفع ثمن مشترياتهم بالمال، وارتداء الملابس بطريقة معينة، ودفع الضرائب، والامتثال للعقود والواجبات الزوجية والعائلية. كل هذه السلوكيات التي يؤديها الفرد بشكل شبه طبيعي هي حقائق اجتماعية ليست ملكه، ولكن تم "فرضها" من قبل المجتمع الذي يعيش فيه. ومن الأمثلة الأخرى، بعض العادات التي هي جزء من الدين، في مواقف كثيرة من الحياة الاجتماعية مثل مراسم الزواج.
وأخيراً، فإن الحماسة الوطنية وإظهار الاحترام للعلم والرموز الوطنية الأخرى، والمظاهرات كشكل من أشكال الاحتجاج والأفكار العنصرية وكراهية الأجانب التي تنشأ في مجتمعات معينة هي أيضاً حقائق اجتماعية.
([1]) أحمد رأفت عبد الجواد: مبادئ علم الاجتماع، مكتبة نهضة الشرق، جامعة القاهرة، ط1، 1983، ص (23)
([2]) حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس، مكتبة الأسرة العربية، اسطنبول، ط1، 2021، ص ص(116-117)
([3]) A group of authors: Introduction to Sociology, Rice University, Texas, 2013, p. (11)
([4]) اميل دوركايم: قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة: محمود قاسم والسيد محمود بدوي، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، سلسلة قراءات نقدية في علم الاجتماع، الكتاب التاسع، 1988، ص ص (68-69)
([5]) أحمد رأفت عبد الجواد: مبادئ علم الاجتماع، مرجع سبق ذكره، ص (19-20). - فاروق محمد العادلي: علم الاجتماع العام، دار الثقافة العربية، القاهرة، 1991، ص ص (18- 19)
* الموضوع: هو الشيء الموجود في العالم الخارجي، وكل ما يدرك بالحس ويخضع للتجربة، وله إطار خارجي، ويوجد مستقلاً عن الإرادة والوعي الإنساني.
تشتق كلمة الذات في اللغة الإنجليزية "subject" عن نفس أصل كلمة object، ولكن بدلاً من "Ob" التي تضاف لكمة "Object" يضاف مقطع "sub" بمعنى تحت أو مع. وينسب الذاتي إلى الذات، بمعنى أن ذات الشيء هو جوهره وهويته وشخصيته، وتعبر عما به من شعور وتفكير، والعقل أو الفاعل الإنساني هو المفكر وصاحب الإرادة الحرة، ويدرك العالم الخارجي من خلال مقولات العقل الإنساني.
تعبر الموضوعية عن إدراك الأشياء على ما هي عليه دون أن يشوبها أهواء أو مصالح أو تحيزات، أي تستند الأحكام إلى النظر إلى الحقائق على أساس العقل، وبعبارة أخرى تعني الموضوعية الإيمان بأن لموضوعات المعرفة وجوداً مادياً خارجياً في الواقع، وأن الذهن يستطيع أن يصل إلى إدراك الحقيقة الواقعية القائمة بذاتها (مستقلة عن النفس المدركة) إدراكاً كاملاً. وفي المقابل، تعني كلمة الذاتي الفردي، أي ما يخص شخصاً واحداً، فإن وصف شخص بأن تفكيره ذاتي فهذا يعني أنه اعتاد أن يجعل أحكامه مبنية على شعوره وذوقه، ويطلق لفظ ذاتي توسعاً على ما كان مصدره الفكر وليس الواقع.
([6]) بوبكر بوخريسة: مذاهب الفكر الأساسية في العلوم الإنسانية (مقاربات فكرية)، دار الأمان- منشورات ضفاف- منشورات الاختلاف، الرباط- الجزائر- بيروت، ط1، 2013، ص ص(208- 209)
([7]) طارق ثابت: النسق الشعري وبنياته :منطلقات التأسيس المعرفي والتوظيف المنهجي، مركز الكتاب الأكاديمي عمان، ط1، 2018، ص (34)
([8]) إبراهيم ابراش: المنهج العلمي وتطبيقاته في العلوم الاجتماعية، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2009، ص (118)
([9]) حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس، مرجع سبق ذكره، ص(121)
([10]) علي ليلة: بناء النظرية الاجتماعية، المكتبة المصرية، القاهرة، سلسلة النظريات الاجتماعية، الكتاب الأول، بدون تاريخ، ص (39 وما بعدها).
([11]) حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس، مرجع سبق ذكره، ص(123)
([12]) المرجع السابق نفسه، ص ص(124-125)