ميتافيزيقا السياسة
فئة : مقالات
تبدو عبارة «ميتافيزيقا السياسة» عبارة مناسبة للدلالة على الجوانب التي لا تنتمي إلى السياسة بحكم الأصالة، ولكنها تلازم الفعل السياسي في عدد من المجتمعات؛ إلا أن الجوانب غير السياسية بالأصالة متعددةٌ، وليست كلها ميتافيزيقية؛ فالقرابة مثلا لا شيء مبدئيا يربطها بالسياسة، سواء عَرَّفْنَا هذه الأخيرة بكونها تدبيرا للشأن العام، أو بمعنى أخص ممارسة السلطة داخل تجمع بشري، لكن مع ذلك -وبحكم الواقع- فإن مفهوم القرابة مدخل أساسي لفهم كيفيات وغايات الممارسة السياسية. لذلك، فعندما نتحدث عن ميتافيزيقا السياسة، فإننا نقصد شيئا محددا، وهو حضور القُدْسِيِّ في الفعل السياسي على اعتبار أن الدين والمقدس ميتافيزيقا؛ أي اعتقاد بأشياء تقع خارج نطاق إدراكنا الحسّي، وبالتالي خارج الواقع الذي يُرَادُ سياسته. فكيف يتبلور هذا التَّماهي بين المقدس والسياسي؟
لمْ يتم يوما نزع القداسة عن السلطة السياسية بشكل كامل، خاصة في المجتمعات التقليدية، حيث علاقة السياسة بالمقدس تبدو شيئا بديهيا. يشير بلاندييه «Balandier» إلى أن المجتمع في حد ذاته -وبفضل السلطة- يُنْظَرُ إليه من طرف الأفراد باعتباره نظاما، واستمرارية، ووحدة شاملة. إنه -مثاليا ورمزيا- ضمان للأمن الجمعي، وانعكاس خالص للعادات والقوانين، وهو أيضا قيمة عليا، وتجسيد مادي لترانسندنتالية تفرض نفسها على الأفراد والجماعات. ويُورِدُ بلاندييه Balandier مماثلةً مَاثَلَ فيها دوركهايم «Durkheim» بين السلطة والمجتمع من جهة، والطوطم (المقدس) والعشيرة من جهة ثانية.[1]
إن هذه القدسية لا تشمل المجتمع فقط كمؤسسة ترمز لوحدة الأفراد، بل تشمل أيضا الحاكم الذي يَسُوسُ هذا المجتمع؛ فلطالما اُعْتُبِرَ الحكام أقرباء للآلهة، أو نُظراء لها، أو وُسطاء بينها وبين الناس. والوحدة التاريخية التي ظلت تَجْمَعُ السياسة بالمقدس تكشف عن الصلة التي ظلت دائما قائمة بين الإله والحاكم، صلة يمكن معاينة حضورها بشكل بارز من خلال احتفالات تنصيب الحاكم، والطقوس المرافقة لذلك، والإجراءات التي يُراد منها المحافظة على مسافة بينه وبين الشعب، وكذا طرائق التعبير عن المشروعية السياسية، بالإضافة إلى الأساطير التي تُكَرِّسُ فكرة حاجة وتبعية الناس المزدوجة للآلهة وللملوك. وتتجلى قُدْسِيَّةَ السلطة السياسية أيضا في العلاقة التي تربط الرَّعِيَّةَ بِراعيها الملك، علاقة قائمة على إجلال الشعب لِمَلِكِهِ، وخضوعه له بشكل لا يملك العقلُ أن يبرره. إنه خوف من العصيان السياسي الذي يُعتبر بمثابة انتهاك للمقدس.[2]
وعلى غرار مرسيا الياد Mircea Eliade»» الذي برهن على الوجود الضمني للمقدس حتى في حياة الأفراد الأكثر لادينية، يوضح بلاندييه Balandier أن المقدس يحافظ على وجوده، وإِنْ بشكل ضِمْنِيٍّ، حتى داخل الدولة العلمانية:
«لا يمكن إنكار تداخل المقدس والسياسي في هذه الحالات، وهو تداخل يظل ظاهرا في المجتمعات الحديثة المُعَلْمَنَةِ، التي لم يحدث أبدا أن فُرِّغَتْ السلطة فيها من كامل محتواها الديني، الذي ظل حاضرا، ومُخْتَزَلاً، ومكتوما. وإذا لم تكن الدولة والكنيسة إلا شيئا واحدا في الأصل، وذلك عند نشأة المجتمع المدني (...) فإن الدولة احتفظت دوما بشيء من طابع الكنيسة، حتى ولو كانت قد بلغت نهاية مسار طويل من اللائكية. إن من طبيعة السلطة أن تحتفظ -بشكل ظاهر أو مقنع- بدين سياسي حقيقي».[3]
إن هذه الحقائق التي تكشف عنها الممارسة الأنثروبولوجية تُبْرِزُ مدى السهولة التي يمكن أن يتم بها زواج السياسة بالدين، باعتبار هذا الأخير إطارا للمقدس. وتؤكد الذاكرة التاريخية للبشر أن ثمرة هذا الزواج لم تكن دوما تحقيق رفاهية الشعوب، وإنما على العكس من ذلك اضطهادها باستخدام الدين، ووضعها تحت نَيْرِ العبودية.
إن السياسة والدين وجهان لعملة واحدة، خاصة في المجتمعات التي لا يزال الدين يحتل فيها مكانة مهمة في ثقافتها ووجدانها
كان ميخائيل باكونين Mikhaïl Bakounine»» -وهو ثوري من القرن التاسع عشر- رجل ثورة ونضال عملي، بقدر ما كان صاحب فكر وتحليل نظري[4]، وهذا بالتحديد ما يجعل كتاباته تكتسي اهتماما خاصا، لأنها تفكير من داخل البراكسس Praxis. كان هذا الثوري يرى في الدولة وفي الدين أخوين شقيقين، يستلزم أحدهما الآخر ويستدعيه. وقد يبدو في الظاهر أن لكل منهما منطقه الخاص، لكن أوجه التشابه ملفتة للنظر؛ فالدين (علم المعبد)، والسياسة (علم الدولة)، كلاهما يلتقيان في الغاية نفسها، وهي القضاء على الحرية الإنسانية، وتحويل الناس إلى قِدِّيسِينَ (بِزَعْمِ الدين)، ومواطنين فُضلاء (بِزَعْمِ الدولة). فكل دولة هي معبد أرضي، وكل معبد هو دولة سماوية.[5] وكل منهما قائم على فكرة التضحية Le sacrifice؛ التضحية بالحياة، وبالحقوق الطبيعية. وكل منهما أيضا ينطلق من الزَّعْمِ القائل إن الإنسان شرير بطبعه، وهو الشر الذي لا يمكن القضاء عليه حسب الدين إلا بالعناية الإلهية وبإفناء الإنسان الطبيعي فِينَا بالتوجه إلى الله، ولا يُقْضَى عليه حسب الدولة إلا بواسطة القانون وتقديم الفرد كَقُرْبَانٍ للدولة.[6] ويؤكد التاريخ حسب باكونين Bakounine أن رجال الدين كانوا دوما حلفاء للاستبداد السياسي، وحتى عندما يكونون ضحية له، فإنهم بالاستعباد الفكري الذي يمارسونه على أتباعهم يُمَهِّدون بذلك للاستعباد السياسي والاجتماعي الذي تمارسه الدولة، [7] فلكي يتمكن حاكم من التحكم في شعبه ما عليه سوى التوسل بالسلطة الدينية، لأن استخدام الدين فعال جدا في المجتمعات التي لا يزال للدين فيها تأثير على الأفراد، غير أن مجتمعا من هذا النوع لن يكون قائما على فكرة التعاقد الحر، بل سيكون دولة ثيوقراطية أو أي شكل آخر من أشكال الدولة غير الديموقراطية. والآلهة المُؤَسِّسَةُ لهذا النمط من المجتمع لا يمكن التفاوض معها، بل يجب الخضوع لإرادتها التي يمثلها الحاكم، وبالتالي فكل تشريع يُدَّعَى أن الآلهة هي من أَمْلَتْهُ هو تشريع لا مكان للحرية فيه.[8]
والدولة بحسب باكونين Bakounine -بعد تجاوز مَعانيها المجردة- ستبدو في النهاية مجرد جماعة ضئيلة تتحكم في جماعة كبيرة من الناس، وفي مُقَدَّرَاتِهِمْ وخيراتهم.[9] وإذا كان يُنْظَرُ للإنسان على أنه عاجز بنفسه عن إقامة العدالة إلا بوساطة الوحي، فإن وجود وحي يعني وجود أشخاص موحى إليهم، وبالتالي أنبياء ورجال دين يُشَرِّعُونَ باسم الإله، وإذا اُعْتُرِفَ لهم بنوع من الشرعية فإنهم يحوزون سلطة مطلقة تجعل الآخرين يَدينون لهم بالطاعة المطلقة، وهكذا يتحول الناس إلى عبيد للمؤسسة الدينية، وبالتالي للدولة، لأن الثانية تُسَخِّرُ الأولى لخدمتها.[10]
وهناك فئة من الناس إذا لم تكن مؤمنة حقا فإنه يجب عليها، على الأقل، أن تَدَّعِيَ الإيمان وتتظاهر به لكي تستفيد منه؛ إنها فئة المُسْتَغِلِّينَ، والتي تشمل -من ضمن ما تشمل- رجال الدين، والحكام، ورجالات الدولة، ورجال المال والأعمال، والسياسيين من كل لون: «كل هؤلاء يرددون بصوت واحد قول فولتير Voltaire: "إذا لم يكن الإله موجودا، فيجب اختراعه"، فأنتم تدركون أنه: "لا بد من دين للشعب"، فهو صمام الأمان».[11] إن الوعي الديني هو الذي أفرز الدولة، ثم استخدمت الدولة هذا الوعي للتحكم في الناس، وتطويعهم، وقيادتهم كالقطيع، ثم نَظَّمَتْ هذا الاستغلال بواسطة قوانين. وبالتالي، فإن ما كان يناضل ويثور باكونين Bakounine لأجل تحقيقه هو هدم الدولة حتى لا يظل سوى المجتمع، وهذا هو نوع «الأناركية» Anarchisme الذي كان باكونين Bakounine متحمسا له خلال حياته:
«إن المجتمع هو النمط الطبيعي لوجود الجماعة البشرية بعيدا عن أي تعاقد contrat، حيث تَحْكُمُ هذه الجماعة نفسها بأخلاق أو بعادات تقليدية، لكن قطعا ليس بقوانين. إن هذه الجماعة تتقدم ببطء بفضل الدفع الذي تتلقاه من المبادرات الفردية، وليس من الفكر أو من إرادة مُشَرِّعٍ؛ فهناك فعلا قوانين تَحْكُمُ هذه الجماعة لكن دون شعور بوجودها، فهي قوانين طبيعية تُعْتَبَرُ جزءا من جسد المجتمع مُتَضَمَّنَةً فيه، مثلما أن قوانين الفيزياء متضمنة في الأجسام المادية».[12]
إذا كنا قد ذكرنا ما تقدم، فلكي نوضح المعطى التالي: أن السياسة والدين وجهان لعملة واحدة كما يقال، خاصة في المجتمعات التي لا يزال الدين يحتل فيها مكانة مهمة في ثقافتها ووجدانها، فلا غرابة أن يمتد تأثيره إلى السياسية، ليصبح واحدا من مكونات ومقومات الحقل السياسي. كما نسعى أيضا إلى التأكيد أن الميدان الحقيقي والفعلي للسياسة والفعل السياسي ليس هو المؤسسات الشكلية، وإنما هو على حد قول Balandier بلاندييه الأنشطة les actions التي تستهدف إما الحفاظ على نظام قائم، أو تغيير هذا النظام.[13] وما قاله باكونين Bakounine عن علاقة الدولة بالدين يبدو منطبقا تماما على الوضع الراهن للمجتمعات الإسلامية، مما يؤكد معطى مهما؛ وهو أن الإنسان ككائن سياسي Homo politicus لا يَصْدُرُ في أفعاله السياسية إلا انطلاقا من مقتضيات البيئة والظَّرْفِ، حيث إن هذه الأخيرة هي التي تحدد طبيعة الفعل السياسي، وليس العكس. ويبدو فعلا أن الوجود الاجتماعي للناس هو الذي يحدد وعيهم كما هو مأثور في الأدبيات الماركسية.
لقد كان الوضع القائم في الغرب في فترة معينة من تاريخه يسمح، بل يشجع على نشأة تحالف بين السياسة والدين، بين الدولة والإكليروس، وتم ذلك فعلا، لكن عندما عملت الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية على خلق وضع آخر تغيرت المعادلة، فصارت الدولة تُعَرَّفُ انطلاقا من تقابلها وتعارضها مع الكنيسة، وأصبحت السياسة نَفْيًا للدين بعد أن كانت استدعاء له. والوضع الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية اليوم، كل ما فيه يشجع على زواج السياسة بالدين، وتداخلهما، وانفتاح حقليهما على بعضهما البعض. وإذا ما تغير هذا الوضع يمكن أن نرى علاقة بين الدين والدولة شبيهة بما نراه الآن في الغرب اللاَّئِكِيِّ، وهذا ما قصدناه بقولنا إن الفعل السياسي هو دائما رَهْنُ الوضع الذي ينتمي إليه، ويمثله، ويَصْدُرُ عنه. وربما هذا ما يفسر كون الحداثيين في المجتمعات الإسلامية يبدون أشبه بأنبياء مغضوب عليهم في أقوامهم، لأن حداثتهم السياسية تبدو صادرة عن واقع افتراضي غير متحقق يحاولون إحلاله محل واقع حقيقي يحتل فيه الدين مكان الصَّدارة.
إن الدين لا يكون تجربة روحية إلا بالنسبة إلى الفرد عندما يخلو إلى نفسه مُناجيا ربّه، لكن بالنسبة إلى المجتمع لا يمكن للدين أن يَحْضُرَ إلا بوصفه سياسة
ولأن الإنسان يظل حيوانا تحكمه نوازع الرغبة، والخوف، والطموح، وذلك في كل زمان ومكان، فبإمكاننا أن نتكلم عن وحدة مُمَيِّزَةٍ للنشاط السياسي لدى الإنسان، أو ما يسميه بلاندييه Balandier «الخصائص المشتركة» للمؤسسات السياسية في المجتمعات الإنسانية، والتي يمكن التعرف عليها والوصول إليها، انطلاقا من التأمل في الاختلافات التي تُظْهِرُهَا وتُعَبِّرُ عنها هذه المؤسسات عبر التاريخ والجغرافيا.[14] في جميع الأحوال ستكون هذه الوحدة أو هذه الخصائص المشتركة مرتبطة لا شك بالغاية من الفعل السياسي، غايته الحقيقية، وهي «تدبير الثروة»، وهو التدبير الذي يستلزم التوفر على سلطة مادية عِقابية لقهر الخصوم الذين، إما يطمحون للإشراف المباشر على عملية التدبير دون تغيير في آلياتها، أو يملكون تصورا مختلفا عن هذه العملية. في جميع الأحوال يجد النظام الحاكم نفسه مجبرا على تحصين امتيازاته باستخدام السلطة، لكن لا ينبغي حصر السلطة هنا باستخدام العنف المادي فقط، فكما يوضح بلاندييه Balandier نقلا عن M.G. Smith»»، فإن: «السلطة هي القدرة على التأثير الفعلي على الأشخاص والأشياء باللجوء إلى سلسلة من الوسائل تتدرج من الإقناع إلى القهر».[15] وهنا تتجلى أهمية الدين بالنسبة إلى الفئة الحاكمة، باعتباره وسيلة من وسائل الإقناع تحقق ليس فقط هذا الغرض، ولكنها تُضْفِي أيضا مشروعية دينية على وجود الفئة الحاكمة نفسها، وحتى إذا اضطرت هذه الأخيرة لممارسة القهر المادي، فَسَيُمْكِنُهَا دائما إضفاء مشروعية دينية على هذا القهر من خلال الدين بالإضافة إلى مشروعيته القانونية. لكن تظل مشروعية الدين أقوى أثرا، لأن القوانين يمكن اتهامها دائما بكونها وضعية، أي تنتمي لخارج دائرة المقدس، هذا إذا لم تُوصَفْ بالجائرة. أما الدين، فهو قوانين إلهية تقع في مركز المقدّس، فيكتسب الفعل السياسي قُدْسِيَّةً حتى عندما يكون عبارة عن قهر، وذلك عندما يَتَمَسَّحُ فاعله بالدين، ويتكلم باسمه، ويُشَيْطِنُ أولئك الذين مُورِسَ عليهم القهر.
فإذن يبدو التَّوَسُّلُ بالدين واستخدامه سياسيا كمجرد اِلْتِفَافٍ أو مراوغة أو حِيدَةٍ عن الممارسة المباشرة والصريحة للسياسة، باعتبارها في الأصل ممارسة دنيوية؛ أي تدبيرا دنيويا لأمور دنيوية. لكن عند تجاوز كل ما يحيط بالممارسة السياسية ولا ينتمي بالأصالة إلى حقلها، بل إلى حقل آخر هو حقل الدين، سيظهر لنا أن كَمًّا هائلا من الطقوس، والاستراتيجيات، والخطابات، ليس الهدف منه سوى التعمية على الغرض الحقيقي من ممارسة السلطة، وهو تدبير الثروة كما أسلفنا، حيث إن التحكم في عملية التدبير هاته هو ما يمثل موضوع المنافسة بين الفاعلين الاجتماعيين. وكما يرى بلاندييه Balandier، فإن السلطة السياسية شيء ملازم لأي مجتمع لِحَثِّ الأفراد (والجماعات) على الالتزام بالقواعد الاجتماعية، وللحد من آثار المنافسة بينهم، حتى لا تصبح تهديدا للنظام الاجتماعي نفسه.[16] هنا تظهر السلطة وكأنها دفاع عن المجتمع وعن تماسكه، وبالتالي بقائه، وهي فعلا كذلك، لكن الغرض الحقيقي من هذا الدفاع هو ضمان الفئة الحاكمة استمرارية تحكمها في عملية تدبير الثروة؛ إذ سيصبح هذا التحكم غير ممكن في مجتمع يتجه نحو الانهيار. وبمناسبة حديث بلاندييه Balandier عن إمكانية أن تؤدي المنافسة على السلطة بين الفاعلين الاجتماعيين إلى انهيار المجتمع، شَدَّدَ على أهمية الأدوات الرمزية المرتبطة بالسلطة، وضرورة تَعْبِئَتِهَا لحفظ التوازن، وذلك دون الحاجة إلى استخدام السلطة بمعناها الأساسي الذي هو القهر والعنف المادي:
«سَنُعَرِّفُ السلطة بالنسبة لكل مجتمع كنتيجة لضرورة مكافحة الأُنْتُرُوبْيَا entropie التي تهدده بالفوضى كما تهدد كل نظام. ولكن لا ينبغي أن نستنتج من ذلك أن هذا الدفاع لا يلجأ إلا لوسيلة واحدة هي القهر، وأنه دفاع لا يمكن أن يتحقق إلا بواسطة حُكْمٍ مميز؛ إن كل الميكانيزمات التي تساهم في دعم وإعادة خلق التعاون الداخلي يتم إعادة النظر فيها واعْتِبَارُهَا؛ فالطقوس، والاحتفالات، والإجراءات التي تضمن حدوث تجديد دَوْرِيٍّ أو مؤقت للمجتمع، شأنها شأن الحكام وبيروقراطيتهم، كل ذلك هو أدوات لعمل سياسي على النحو الذي بَيَّنَا».[17]
فإذن يجد النظام الحاكم نفسه في كل حين مَدْعُوًّا إلى ممارسة السلطة بشكل مختلف ينآى بها عن كونها مجرد قهر مادي بصيغته الحيوانية، فيهيئ كل ما يستطيع من وسائل مختلفة لتحقيق هذا الغرض. وكل مجتمع له طريقته الخاصة في استعادة توازنه بشكل مستمر دون اللجوء المتكرر للعنف المادي، لكن الدين في المجتمعات الإسلامية يَبْرُزُ كوسيلة مميزة، كشكل من أشكال العنف الرمزي الناعم الذي لا يترك خُدوشا، ولا يَلْقَى مقاومة، بل يُرَحَّبُ به أحيانا. وما يحدث في الواقع أن النظام السياسي يَسْتَبِقُ الحالات التي ستستدعي منه التوظيف العاجل للأدوات الرمزية التي يتوفر عليها، وعوضا عن ذلك يبادر بتوظيفها بشكل مستمر وكثيف، حتى لا يجد نفسه أمام تلك الحالات. من هنا مثلا الإظهار اليومي لصورة الحاكم مصحوبة دوما بالحديث عن إنجاز معين، وربطِ هذا الإنجاز بِمَاضٍ مستمر يكرر فيه الحاكم سيرة أسلافه المشمولين بالعناية الإلهية، إلى غير ذلك من استراتيجيات تدخل في نطاق عمل مؤسسات مختصة بالترويج والبروباغاندا.
يَجْدُرُ بنا أيضا، ونحن نتكلم عن السياسة والدين، عن الدولة والمعبد، أن نحتفظ بكامل حِسِّنَا النقدي ونحن نُسَائِلُ طبيعة هذين الخطابين: هل يشكلان فعلا عالمين منفصلين لا يلتقيان إلا لضرورة أو حاجة، كحاجة السياسة لتبرير نفسها بالدين، أو حاجة الدين للِتَّقَوِّي بِسُلْطانِ السياسة؟ الواقع أن الأمر ليس صحيحا تماما، فالدين والسياسة قد يكونان وَحْدَةً واحدة لا سبيل للتمييز فيها بين جانب سياسي وآخر ديني، ويتضح هذا بالإحالة مثلا على شخص النبي/رئيس الدولة، حيث السياسة دين، والدين سياسة، كما في حالة نبي الإسلام. وقد يُقال إن هناك حالاتٍ مَيَّزَ فيها النبي نفسه بين ما يقوله أو يفعله كنبي مُوحى إليه، وبين ما يَصْدُرُ عنه كمجرد شخص صاحبِ آراء واجتهادات قد تُصِيب وقد تخطئ. لكن من يقدم هذا الاعتراض يَفُوتُهُ أن المشكل لا يُطْرَحُ في تلك الحالات التي وقع فيها الفصل والتمييز، وإنما في الحالات التي لم يقع فيها هذا الفصل، بحيث يتم توحيد السياسي بالديني إلى حد عدم إمكانية التمييز بينهما، كما يبدو ذلك واضحا في جانب التشريع، فيكون الوصف الصحيح حينها أن التشريع الفُلاني هو سياسي/ديني في نفس الوقت. وإذا أخذنا كمثال التشريع القاضي بقطع يد السارق، فهو سياسي من جهة أنه قانون يحمي حقوق الناس المالية، ولكنه أيضا تشريع ديني باعتبار الجهة المشرعة التي يَتِمُّ نِسْبَتُهُ إليها، وهي الله. ومما يفتح آفاقا أخرى للنقاش في هذه المسألة وجهة النظر القائلة، إن الأديان لم تنشأ إلا بوصفها مشاريع سياسية.
إن تجربة التوحيد بين السياسي والديني، كما تَبْرُزُ بشكل واضح في حالة النبي، هي عَيْنُهَا التجربة التي يحاول الحاكم استنساخها، فإذا كان النبي رجل دين وسياسة، فلا غَرْوَ أن يَدَّعِيَ الحاكم -وهو خليفة النبي- حَقَّ الجَمْعِ بينهما. إن الدين لا يكون تجربة روحية إلا بالنسبة إلى الفرد عندما يخلو إلى نفسه مُناجيا ربّه، لكن بالنسبة إلى المجتمع لا يمكن للدين أن يَحْضُرَ إلا بوصفه سياسة.
[1] Georges Balandier, Anthropologie politique, Paris: P.U.F, 1978, (3e édition), p. 46-47
[2] Ibid., p. 117
[3] Ibid., p. 118
النص الفرنسي:
«L'imbrication du sacré et du politique est, dans ces cas, déjà incontestable. Dans les sociétés modernes laïcisées, elle demeure apparente ; le pouvoir n'y est jamais entièrement vidé de son contenu religieux qui reste présent, réduit et discret. Si l'état et l'église "ne font qu'un" à l'origine, lorsque la société civile est instaurée (…) l'État conserve toujours quelque caractère de l’église, même lorsqu'il se situe au terme d'un long processus de laïcisation. Il est de la nature du pouvoir d’entretenir, sous une forme manifeste ou masquée, une véritable religion politique.»
[4] كان Bakounine من النوع الذي لا يتردد مثلا في السفر على قدميه لمدة ثلاثة أيام من الحدود البلجيكية الفرنسية إلى باريس للمشاركة في أحداث الثورة الفرنسية لسنة 1848م بعد سماعه أخبار اندلاعها، في الوقت الذي كانت فيه حركة القطارات متوقفة. انظر:
Jacques Duclos, Bakounine et Marx, ombre et lumière, Paris: Plon, 1974, p. 32
[5] Mikhaïl Bakounine. Le fédéralisme. In: Oeuvres / Michel Bakounine, Fédéralisme, socialisme et antithéologisme. Lettres sur le patriotisme. Dieu et l'État, Paris: P. V. Stock, 1895, p. 160
[6] Mikhaïl Bakounine. Lettre aux internationaux du Jura. In: Oeuvres / Michel Bakounine, Fédéralisme, socialisme et antithéologisme. Lettres sur le patriotisme. Dieu et l'État, Paris: P. V. Stock, 1895, p. 224
[7] Mikhaïl Bakounine. L'antithéologisme. In: Oeuvres / Michel Bakounine, Fédéralisme, socialisme et antithéologisme. Lettres sur le patriotisme. Dieu et l'État, Paris: P. V. Stock, 1895, p. 64
[8] Ibid., p. 163-164
يقول ميخائيل باكونين Mikhaïl Bakounine: «نرى في الواقع أن كبار المُشَرِّعِينَ المعروفين، من موسى إلى محمد، اِلتجأوا إلى هذه الوسيلة؛ فهي فعالة جدا في الأوطان حيث المعتقدات والشعور الديني لا يزال يمارس تأثيرا كبيرا (...) لكن المجتمع الذي ستؤسسه السلطة الدينية لن يكون قائما على أساس التعاقد الحر، فما دام مجتمعا تم تأسيسه بالتدخل المباشر للإرادة الإلهية، فسيكون بالضرورة دولة ثيوقراطية، أو ملكية، أو أرستقراطية، لكنه لن يكون بأي معنى دولة ديمقراطية. ولأنه لن يكون ممكنا التفاوض مع الآلهة "الطَّيِّبَةِ"، مادامت هذه الأخيرة جبارة بقدر ما هي دكتاتورية، ولأن الناس مُجبرون على أن يَقْبَلُوا بشكل أعمى كل ما تفرضه عليهم، وأن يخضعوا لإرادتها في جميع الأحوال، فإنه سيَنْتُجُ عن تشريع مُمْلَى من طرف الآلهة عدم وجود مكان للحرية في هذا التشريع»
النص الفرنسي:
«En effet, nous voyons que les plus grands législateurs connus, depuis Moïse jusqu’à Mahomet inclusivement, ont eu recours à ce moyen, il est très efficace dans les nations où les croyances et le sentiment religieux exercent encore une grande influence (...) Seulement, la société qu’il aura servi à fonder n’aura plus pour fondement le libre contrat: constituée par l’intervention directe de la volonté divine, elle sera nécessairement un État théocratique, monarchique ou aristocratique, mais dans aucun sens démocratique; et comme on ne peut pas marchander avec les bons dieux, comme ils sont aussi puissants que despotes, et comme on est forcé d’accepter aveuglément tout ce qu’ils vous imposent et de subir leur volonté quand même, il en résulte que, dans une législation dictée par les Dieux, il ne peut y avoir de place pour la liberté.»
[9] Mikhaïl Bakounine. Lettre aux internationaux du Jura, 1895, p. 226
يقول الكاتب بهذا الخصوص:
«قُلْتُ إن الدولة هي تجريد abstraction مُهْلِكٌ للحياة الشعبية، لكن لكي يكون ممكنا لتجريد ما أن ينشأ، وأن يستمر وُجُودُهُ في العالم الواقعي، لابد من جماعة حقيقية تلتقي مصلحتها مع وجود هذا التجريد. وهذه الجماعة لا يمكن أن تكون هي الشعب، لأنه تحديدا هو ضحية هذا التجريد، بل يجب أن تكون جماعة ذات امتياز، وهي الجماعة المقدسة في الدولة؛ وأعني بها الطبقة الحاكمة والمالكة، والتي تمثل في الدولة ما تمثله الطبقة الكهنوتية والقساوسة في الكنيسة»
النص الفرنسي:
«L’État est une abstraction dévorante de la vie populaire, ai-je dit ; mais pour qu’une abstraction puisse naître, se développer et continuer d’exister dans le monde réel, il faut qu’il y ait un corps collectif réel qui soit intéressé à son existence. Ce ne peut être la grande masse populaire, puisqu’elle en est précisément la victime: ce doit être un corps privilégié, le corps sacerdotal de l’État, la classe gouvernante et possédante, qui est dans l’État ce que la classe sacerdotale de la religion, les prêtres, sont dans l’Église.»
[10]Michel Bakounine, 2008, p. 46
يقول الكاتب بهذا الخصوص:
«من يقول "وحي"، فإنه يقول أشخاص مُوحًى إليهم، وأنبياء، وقساوسة، ومُشَرِّعُونَ مُلْهَمُونَ من طرف الإله نفسه. وهؤلاء ما إِنْ يتم الاعتراف بهم على أنهم مُمَثِّلُو الآلهة في الأرض، تماما كالقديسين مُعَلِّمِي البشرية المختارين من طرف الإله لهداية البشرية إلى طريق الخلاص، فإنهم سيمارسون بالضرورة سلطة مطلقة، فَيَدِينُ الجميع لهم بطاعة مطلقة غير محدودة، لأنه لا مجال لوجود عقل إنساني في مقابل العقل الإلهي، ولا عدالة أرضية يمكن أن تصمد في مقابل عدالة الإله. وإذا كان الناس عبيدا للإله، فيتوجب أن يكونوا كذلك أيضا بالنسبة للكنيسة وللدولة، على اعتبار أن الثانية مُكَرَّسَةٌ من طرف الأولى»
النص الفرنسي:
«Mais qui dit révélation dit révélateurs, messies, prophètes, prêtres et législateurs inspirés par Dieu même; et ceux-là; une fois reconnus comme les représentants de la divinité sur la terre, comme les saints instituteurs de l'humanité, élus par Dieu même pour la diriger dans la voie du salut, exercent nécessairement un pouvoir absolu. Tous les hommes leur doivent une obéissance passive et illimitée ; car, contre la raison divine, il n'y a point de raison humaine, et contre la justice de Dieu, il n'y a point de justice terrestre qui tienne. Esclaves de Dieu, les hommes doivent l'être aussi de l'église et de l'État, en tant que ce dernier est consacré par l'église.»
[11] Ibid., p. 29
النص الفرنسي:
«Tous répéteront à l'unisson ces paroles de Voltaire: Si Dieu n'existait pas, il faudrait l'inventer. Car, vous comprenez, il faut une religion pour le peuple. C'est la soupape de sûreté.«
[12]Mikhaïl Bakounine. Le socialisme. In: Oeuvres / Michel Bakounine, Fédéralisme, socialisme et antithéologisme. Lettres sur le patriotisme. Dieu et l'État, Paris: P. V. Stock, 1895, p. 141
النص الفرنسي:
«La Société est le mode naturel d’existence de la collectivité humaine indépendamment de tout contrat. Elle se gouverne par les mœurs ou par des habitudes traditionnelles, mais jamais par des lois. Elle progresse lentement par l’impulsion que lui donnent les initiatives individuelles et non par la pensée, ni par la volonté du législateur. Il y a bien des lois qui la gouvernent à son insu, mais ce sont des lois naturelles inhérentes au corps social comme les lois physiques sont inhérentes aux corps matériels.»
[13] Georges Balandier, 1978, p. IX (preface).
[14] Ibid., p. 5
[15] Ibid., p. 42
النص الفرنسي:
«Le pouvoir est la capacité d'agir effectivement sur les personnes et sur les choses, en recourant à une gamme de moyens qui s'étend de la persuasion jusqu'à la coercition.»
[16] Ibid., p. 43
مما يقوله بلاندي Balandier بهذا الشأن:
«للسلطة إذن وظيفة تتمثل في الدفاع عن المجتمع ضد مظاهر ضعفه الخاص، والحفاظ على وجوده كدولة إن جاز التعبير. وإذا لزم الأمر تدبير التكيفات التي لا تدخل في تعارض مع مبادئه الأساسية. وأخيرا، وفي اللحظة التي تتجاوز فيها العلاقات الاجتماعية صِلات القرابة، يقوم تنافس صريح، إلى هذا الحد أو ذاك، بين الأفراد والجماعات، حيث يسعى كل طرف إلى توجيه قرارات الجماعة في اتجاه مصالحه الخاصة، لذلك تظهر السلطة السياسية كنتيجة للمنافسة، وكوسيلة لاحتوائها»
النص الفرنسي:
«Le pouvoir a donc pour fonction de défendre la société contre ses propres faiblesses, de la conserver en «état» pourrait-on dire ; et, si nécessaire, d'aménager les adaptations qui ne sont pas en contradiction avec ses principes fondamentaux. Enfin, dès l'instant où les rapports sociaux débordent les relations de la parenté, il intervient entre les individus et les groupes une compétition plus ou moins apparente ; chacun visant à orienter les décisions de la collectivité dans le sens de ses intérêts particuliers. Le pouvoir (politique) apparaît, en conséquence, comme un produit de la compétition et comme un moyen de la contenir.»
[17] Ibid., p. 43-44
النص الفرنسي:
«On définira le pouvoir comme résultant, pour toute société, de la nécessité de lutter contre l’entropie16 qui la menace de désordre – comme elle menace tout système. Mais il ne faut pas ci conclure que cette défense ne recourt qu’à un seul moyen – la coercition – et ne peut être assurée que par un gouvernement bien différencié. Tous les mécanismes qui contribuent à maintenir ou à recréer la coopération interne sont eux aussi à mettre en cause et à considérer. Les rituels, les cérémonies ou procédures assurant une remise à neuf périodique ou occasionnelle de la société sont, autant que les souverains et leur «bureaucratie», les instruments d’une action politique ainsi entendue.»