ميتافيزيقا المرض
فئة : مقالات
ميتافيزيقا المرض
Metaphysics of the disease
مصطفى الطالب
ملخص المقال:
تعد هذه الدراسة استجابة للنقاش العمومي حول الإشكالات الأنطولوجية والميتافيزيقية للمرض بالنظر إلى حالة الهلع والخوف التي انتابت العالم بفعل تفشي فيروس كوفيد19. والظاهر أن البشرية اليوم، وما أبانت عنه الأحداث، تفزع أيما فزع من هذه الواقعة الوجودية؛ أي المرض، بما ينبئ عن ميتافيزيقا متوارية خلف تلك المظاهر على مستوى الأحاسيس والتصورات وردود الأفعال، وهي ميتافيزيقا معادية تماما للوجود، فهي تخفي وراءها وعيا زائفا بانفصام الوجود الإنساني عن الوجود العام، بل وترى أن أشكال وتمظهرات التحول (الضعف، المرض، الموت...) على مستوى الوجود تحمل للإنسان في كثيرا منها الشر، بما يفضي بالإنسان إلى معاداة صيرورات الإبداع الكوني المتصور خطأً على أنها تهدد الوجود الذاتي وتعدمه في الوجود العام، فيما أن الوجود الإنساني هو دوما وعلى الدوام حال في الوجود العام ومحايث له في شتى أشكال الصيرورة تلك.
مقدمة:
إن الغاية من هذه المقالة البحثية هي الكشف عن الميتافيزيقا الثاوية وراء مفهوم المرض كما عبر عن ذلك الحس العام المشترك للبشرية بعد تفشي فيروس كورونا المستجد. وفي سبيل ذلك، كان لابد من البحث في مضامين الخطاب المتداول حول الظاهرة على عدة مستويات: الشعبي العامي والعلمي والسياسي والإعلامي. وبالمحصلة، فإن المقالة تنطلق من زعم مؤداه أن الخطاب المهيمن حول ظاهرة تفشي فيروس كورونا المستجد هو خطاب معادي للوجود، خطاب يكشف عن مفهوم المرض كصراع بين الموجود الإنساني والوجود العام. وليس لهذا الخطاب ولا لذلك المفهوم من أساس سوى ميتافيزيقا الإنسان الحديث، الإنسان المتموقع خارج الطبيعة، الإنسان المتسيد على كل ما حوله، والذي لا يرى سوى ذاته في هذا الوجود.
على الرغم مما يقوم به رجال العلم والسياسة وكل قطاعات المجتمع الإنساني في سبيل مواجه الفيروس والنتائج المترتبة عنه على الإنسان، صحة واقتصادا، إلا أن كل تلك الجهود تظل عاجزة عن تخليص الإنسانية مما هو أكثر خطرا عليها؛ أي من أزمتها الوجودية في العالم، التي ليس تفشي الفيروس المستجد سوى أحد مؤشراتها. من هنا، تبرز أهمية دور الفلسفة كوعي بهذه الأزمة على مستوى الوعي ذاته. إن الأزمة الفعلية والحقيقية التي تواجه الإنسانية اليوم ليست هي هذا الفيروس أو ذاك، بل هي أزمة وجود ناتجة عن وعي بالذات وبالعالم على أساس التقابل بل والصراع، وعي يفصل الإنسان عن مجاله الحيوي، ليموقعه في مجال متعالي متوهم يشقى به الإنسان الحديث. إن الفلسفة وحدها ما يمكن أن يحررنا من هذه الأزمة الوجودية، بأن تصالح الإنسان مع الوجود، ولن يتأتى ذلك إلا بهدم تلك الميتافيزيقا المتعالية على الوجود وتجاوزها إلى ميتافيزيقا أخرى تتأسس على وعي إنساني محايث للوجود.
1. سؤال الفلسفة وسؤال العلم:
ونحن في خضم أزمة فيروس كورونا المستجد التي أربكت الوجود الإنساني أفرادا وتنظيمات، تتعالى دعوات الاستغاثة والمناشدات للبحث عن حل لتجاوز هذا التهديد الذي يمثل تحدّيا كبيرا للإنسانية اليوم. وإذا كانت مختلف الأنظار تتجه صوب دين الحداثة؛ أي العلم، وبشكل خاص علم البيولوجيا في مختلف تفرعاته الدقيقة (البيولوجيا الحيوية، وعلم الأوبئة، والبيوكيمياء، والمكروبيولوجيا... )، فإن ذلك لا يعني أن الفلسفة مستبعدة من أي نقاش حول الازمة؛ "فالفلسفة واحدة من أكثر الاهتمامات البشرية سموا وضآلة في آن معا. فهي تعمل في أصغر الزوايا المظلمة، وهي تفتح آفاقا واسعة. وهي لا تصنع خبزا، كما يقال، لكنها تمنح أرواحنا الشجاعة... ولا أحد فينا يستطيع الاستمرار والماضي على هذا الدرب دون شعاع ضوئها المنتشر بعيدا ويعم آفاق العالم" (وليم جيمس، 2014، ص17-18). قد يكون العلم اليوم، هو مصدر فهم ومعالجة المرض كظاهرة بيولوجية، أي كخلل عضوي، إلا أن العلم لم ولن يجيبنا عن سؤال المرض كحتمية وجودية بما يطرحه من إشكالات وجودية تسائل وجودنا الإنساني وحدوده وعلاقته بالوجود عامة. وعطفا على ذلك، يتساءل مارتن هايدغر (Martin Heidegger) عن مدى قدرة العلم على أن يطرح السؤال عن اللاشيء، أي عن العدم؟ ومما لا شك فيه، حسب هايدغر، أن العلم يرفض كل سؤال عن العدم. وهنا تبرز حدود العلم والحاجة إلى الفلسفة كشرط لإمكانية الفهم الذي يتعدى الكائن ذاته، "…صحيح أن الإنسان يتعامل أيضا في كل حركاته وسكناته قبل العلم مع الكائن، إلا أن امتياز العلم يتمثل في أنه يعطي الكلمة الأولى والأخيرة على نحو خاص به وبكيفية صريحة للشيء ذاته وللشيء وحده، في هذا الرضوخ للشيء عند السؤال والتحديد والتعليل يحصل خضوع محدود بكيفية خاصة للكائن ذاته" (مارتن هايدغر، 2002، ص18).
إن سؤال المرض كسؤال فلسفي ليس الهدف منه إبراء الأبدان؛ لأن الفلسفة، وكما نشأت في اليونان، كمغامرة فكرية ليس الهدف منها إنقاذ أرواحنا على حد تعبير راسل؛ فالفلسفة لا يمكنها أبدا أن تدعي القدرة على تقديم علاجات أو حلول عملية للمرض خاصة وللواقع عامة، فتلك اليوم، مهمة حقول ومجالات معرفية أخرى. ولئن كان "لا يمكن تطبيقها أو الحكم عليها وفقا لمعيار منفعتها في النمط أو الظرفية نفسها التي نحكم بها على علم الاقتصاد مثلا أو المعارف المهنية الأخرى؛ فإن ما هو عديم الجدوى أو النفع يظل مع ذلك قوة، ربما القوة الوحيدة الحقيقية" (مارتن هايدغر، 2015، ص207). إن مهمة الفلسفة، وهدف الفيلسوف، هو المعنى. المعنى الذي يمكن للفلسفة، على لسان الفيلسوف، تقديمه للحياة ولوجودنا الكوني والفردي (لهذا كانت النظريات الفلسفية كما جسدها الرواقيون تأملا في الكلي، بحثا عن المعنى في الكوسموس وإسقاطه على الوجود الإنساني، ومن ثمة على الوجود الفردي)، وهو وحده ما يمكن أن يموقعنا كموجودات في الوجود الموقع الصحيح. والصحيح هنا ليس بمعنى الحقيقي بقدر ما يقف عند حدود المناسب لنا بما يعزز مكانة الموجود في الوجود، وبما يحقق للوجود ديمومته.
لا شك من أن نظرة الفيلسوف للمرض ليست هي نظرة عالم البيولوجيا والطبيب، فعالم البيولوجي يقف عند حدود التفسير المادي للمرض كخلل عضوي، والطبيب يسعى إلى معالجة هذا الخلل العضوي بناء على التفسير البيولوجي عبر وسائل مادية عضوية. بهذا ليس المرض سوى خلل/عطل/ وظيفي يفقد الموجود العضوي (الكائن الحي) توازن وانتظام الوظائف الحيوية لأجزائه، وهو ما يسميه عالم البيوكيمياء الفرنسي جاك مونو (Jacque Monod) العضوية (L’organisme). معظم تلك الأعطاب والاختلالات تحدث على مستوى الوجود العضوي/الحيوي بفعل أسباب مادية عضوية (البكتيريا والفيروسات)، بعد أن كان المرض خاضعا لتفسيرات بدائية، قبل اكتشاف المكروبات في منتصف القرن التاسع عشر، فكان يعزى المرض للإرادة الإلهية أو اصطفاف الكواكب على خط واحد! (دورثي اتشكرورفورد، 2014، ص14). ومن هنا، يبدو الفكر العلمي فكرا سببيا ماديا يقف عند حدود العلة المادية. لكن إذا كان المرض ظاهرة بيولوجية كما ينزع الى ذلك التفسير العلمي، فإن مختلف الكائنات الحية هي الأخرى تعيش تجربة المرض؟!
2. ما المرض؟ ولماذا نمرض؟
سؤالان وإن بدا أنهما يطرحان حول نفس الموضوع، إلا أنهما يختلفان اختلافا جذريا من حيث المنطق العقلي الذي يطرح كل واحد منهما، ومن حيث الإجابة التي يفترضانها. فأن نسأل ما المرض؟ فهذا ما يمكن للفلسفة ان تطرحه وهي تسائل المرض كتجربة وجودية يعيشها الإنسان، وهو ما لا يمكن للعلم أن يطرحه؛ لأن العلم لا يسأل أسئلة ماهوية تسائل ماهية الشيء والمعنى الذي تنطوي عليه تلك الماهية في علاقته بوجودنا الإنساني (مارتن هايدغر، 2015، ص14-21)، إن العلم وهو يفكر في المرض، فإنما باعتباره تفكيرا سببيا؛ أي إنه يقف عند الشروط المادية لوجود الشيء في إطار العلاقة المنطقية (سبب=نتيجة). لهذا، يطرح العلم سؤال لماذا نمرض؟ أي، ما الأسباب/العلل المادية للمرض كنتيجة/معلول؟
هذان السؤالان المتوازيان اللذان يقطعان نفس الموضوع؛ أي المرض، دون أن يتقاطعا، بل إن تقدم كل واحد منهما يفترض عدم تقاطعهما من حيث الرؤية ومنطق التفكير، يعبران عن التمايز الحاصل بين طبيعة السؤال الفلسفي والسؤال العلمي. هذا الأخير الذي أخذ الشكل التام لطبيعته المتفردة عن الاول منذ بدايات استقلال العلوم الطبيعية عن الفلسفة في القرن 17م، وليس سؤال ما المرض؟ في مقابل سؤال لماذا نمرض؟ سوى نموذج واحد من عدد كبير من النماذج حول قضايا يبرز فيها الاختلاف الجذري بين طبيعة السؤال الفلسفي والسؤال العلمي. ولعل أبرز نموذج لذلك هو الاختلاف ما بين سؤال الفيلسوف حول الحياة وسؤال عالم البيولوجيا، فالفيلسوف لا ينفك عن طرح سؤال ما الحياة؟ وعن التأمل في طبيعة وماهية الحياة ومعناها إن كان لها معنى. فيما يكتفي العالم بالتساؤل عن مظاهر الحياة وشروطها المادية الحيوية. فشتان أن نسأل: ما الحياة؟ وأن نسأل: ما مظاهر الحياة؟ إن طبيعة الفكر/منطق التفكير تلقي بظلالها على طبيعة السؤال، ومن ثمة على طبيعة الجواب كذلك. فحينما سعى أرسطو إلى تجاوز المأزق الذي وضع فيه المتدفقون الفلسفة، وعلى رأسهم هيرقليطس (Heraclitus): "أنت لا تنزل النهر مرتين؛ لأن مياها جديدة تتدفق أبدا"، أسس لفكر ماهوي، من خلال مبدأ الهوية الذي هو العمود الفقري للمنطق الأرسطي. ولكي يتجاوز الادعاء الهيرقليطي من أن كل الأشياء في تغير مستمر، وأن لا شيء ثابت، وهو الأمر الذي يفضي إلى إنكار وجود حقيقة ثابتة للأشياء، عمد أرسطو (Aristote) إلى القول بوجود ماهية؛ أي جوهر ثابت للأشياء في مقابل أعراضها المتغيرة، والتي انخدع بها هيرقليطس وغيره من المتدفقين. هذا المنطق في التفكير، والذي كان أرسطو واعيا به حينما عرف المنطق بأنه آلة الفكر، جعل أرسطو يتساءل تساؤلا ماهويا بخصوص القضايا الفلسفية. إنها الميتافيزيقيا الأرسطية التي طبعت تاريخ الفلسفة ولاتزال رغم كل ما يقال عن تجاوز الميتافيزيقا (مارتن هايدغر، 2015، ص207). وعطفا على هذا الفكر الميتافيزيقي، فإن السؤال الفلسفي الصحيح حول الحياة كان لدى أرسطو هو ما الحياة؟ فكان بذلك أرسطو مؤسس المذهب الإحيائي (Le vitalisme) الذي طغى على الفلسفة عبر تاريخها. هذه الميتافيزيقا الأرسطية التي عبر عنها السؤال الماهوي أنتجت ميتافيزيقا موازية على مستوى الجواب؛ لأن جواب أرسطو وغيره من الإحيائيين (ومنهم الفلاسفة المسلمون كابن سينا في كتاب "النجاة" وابن طفيل في "حي بن يقظان") يعتبرون بأن مبدأ الحياة هو جوهر ما، وليس هذا الجوهر سوى النفس. وعليه، فإن الحياة تنبع من هذا الجوهر اللامرئي، فإن كانت المادة (الهيولى) تفسد، فإن النفس لا تفسد، إنها لا تنتمي إلى عالم الكون والفساد عالم المادة المتحول (أرسطو طاليس، 2014).
3. المرض العضوي والنفسي كميتافيزيقا معادية للوجود:
إن ما يهمنا هنا هو السؤال الفلسفي ما المرض؟ على اعتبار أن ما بيناه سابقا كفيل بإثبات أن سؤال لماذا نمرض هو سؤال العلم، وبخاصة علوم البيولوجيا وعلم النفس والطبين العضوي والنفسي. فما يشكل مجال تفكيرنا هو الميتافيزيقيا التي تتوارى وراء الفهم الذي يتبدى جليا من خلال التصورات التي ينطوي عليها المرض بمعنييه العضوي والنفسي.
إذا كانت الأشياء تعرف بأضدادها، فإن تحديد ماهية المرض يرتبط أساسا بتحديد ماهية مقابله الذي هو الصحة؛ لأن لفظة المرض اللاتينية (Mal Habitus) تحيل على الحالة السيئة؛ أي ما معناه أن المرض انحراف عن الحالة الأصلية التي هي الحالة الجيدة والسوية بالنسبة إلى الشخص؛ أي حالة الصحة. فما الصحة؟ أي ما معنى أن يكون الشخص في حالة صحية جيدة؟ إن الشخص ككيان ذاتي، أي كوعي مستقل نسبيا عن محيطه الطبيعي بما يوحي له بالاستقلالية الوجودية عن الوجود العام، يستشعر التهديد والخطر الذي يتهدد دوما هذه الاستقلالية الوجودية بالاضمحلال في الوجود العام. والألم ليس سوى مؤشر/علامة على إمكانية هذا الانحلال، ومن ثمة فقدان استقلالية الجوهر الذاتي الذي هو الشخص. إن الألم إحساس باختراق الكيان الذاتي من قبل عناصر خارجية عليه تهدد ديمومته. إنه فقدان للتحكم الذاتي في الكيان المادي/الجسد وانفعالاته، فليس المرض سوى فقدان السيطرة الذاتية على هذا الكيان المتلاحم المعبر عنه بالشخص. من هنا نفهم طبيعة الإحساس بالألم العضوي كإحساس دخيل على هذا الكيان، كإحساس مزعج مخيف (مخيف لأنه يستشعر من خلاله التهديد المنظور بالاضمحلال/الموت) ومقلق (المصير غير المنظور المحتمل بفعل الاضمحلال). وبالتالي، فليست الصحة شيئا آخر سوى الخلو من ذلك التهديد من خلال غياب الإحساس بالألم؛ أي غياب انفعالات الجسد الناتجة عن اختراق الكيان الذاتي بما يهدد الوعي في ديمومة استقلاليته النسبية. من كل ما سبق، فإن المرض كتوصيف بشري لحالة وجودية، يعيشها الإنسان كموجود واع بوجوده الذاتي كشخص مستقل نسبيا عن الوجود العام، هو الوعي باحتمالية فناء هذا الكيان الذاتي الذي هو الشخص. ولئن كان بالإمكان فهم المرض العضوي بهذا المعنى، فماذا عن المرض النفسي؟
إذا كان الشخص ككيان ذاتي مستقل نسبيا عن الوجود العام، فإن تموقعه فيه كوجود خاص، يجعله قادرا كوجود ذاتي ضمن وجود موضوعي على أن يؤسس لوعي ثنائي: وعي ذاتي ووعي موضوعي. وما المرض النفسي أو العقلي سوى تعبير عن اختراق لحميمية هذين الوعيين؛ أي فقدان الشخص للقدرة على التموضع في الوجود كوعي مستقل؛ أي كذات مستقلة بأحاسيسها وانفعالاتها وأفكارها عن محيطها الذي يشكل عالما آخر موازيا لعالمها الداخلي، والتي تسعى دوما للمحافظة على مسافة وجودية بينها وبينه، وإن كانت مدركة لحتمية تقلبات تلك المسافة. لذلك، يدرك الشخص من جهة ثانية، أن عدم القدرة على التفاعل مع الوجود الموضوعي؛ أي البيئة الخارجية له المادية والإنسانية يهدد هو الآخر كينونته. من هذا المنطلق، نفهم الطبيعة الثنائية للمرض النفسي، فهو من جهة ناتج عن صعوبات/اختلالات على مستوى الوعي الذاتي (الفصام، فقدان الذاكرة ...)، ومن جهة ثانية ناتج عن صعوبات/اختلالات على مستوى الوعي الموضوعي (التوحد، الرهاب ...)، والرابط بينها؛ أي اختلالات الوعي الذاتي والوعي الموضوعي، هو ما تمثله للشخص من تهديد ككيان ذاتي مستقل نسبيا. لهذا ليس من الغريب أن تؤسس مدرسة التحليل النفسي براديغمها النظري في تفسيرها للمرض النفسي على مفهوم التوازن؛ أي إن الصحة النفسية ماهي إلا تحقيق للتوازن والمحافظة عليه بين مختلف مكونات الجهاز النفسي من جهة، أي المحافظة على تماسك الأنا وحميمية وعيها بذاتها في مواجهة تهديدات (الهو، والأنا الأعلى) التشظي الداخلية، وفي مواجهة ضغوطات الواقع الخارجي التي تمثل هي الأخرى للأنا تهديدا مستمرا قد يفضي بها إلى الانقطاع عن العالم الخارجي من جهة ثانية (سيغموند فرويد، 1982). إن المرض النفسي كالمرض العضوي يمثلان تهديدا للشخص، إنهما مؤشران على اختراق الوجود العام للكيان الذاتي. إنهما نذير باجتياح الأول للثاني، إنه ذوبان للجزء في الكل. المرض بهذا المعنى، حنين الوجود الكلي العام للوحدة، فالكل واحد (طاليس، ابن عربي، سبينوزا...).
4. هل المرض شر؟
إن المعنى الميتافيزيقي الذي نلحقه بالمرض دون أن نعي ذلك يجعلنا نهابه، بل نرى فيه أُسَّ الشر، فهو نذير شؤم بالنسبة إلينا على إمكانية الفناء (فليس من الغريب أن تكون كلمة فيروس مشتقة من كلمة لاتينية تعني السم، باعتباره المسبب الرئيس للأمراض المعدية)، على استحالة الكينونة. فهل تشكل هذه الميتافيزيقيا الوجودية التي تستتر وراء هيبة الكائن البشري من المرض الأساس الميتافيزيقي لوسم المرض بقيمة الشر؟ فهل علينا أن نخاف المرض؟ وهل المرض شر؟
تلك إذن، هي الميتافيزيقا التي تعبر عنها حالة الهلع والخوف من المرض التي تتملك البشرية اليوم بفعل انتشار وباء فيروس كورونا. ونحن نحلل ونفكك هذه الميتافيزيقا، فإنما كي نؤسس لميتافيزيقا أخرى جديدة، ولقد كان كارل مانهايم (Karl Mannheim) الأكثر شجاعة في طرح إمكانية أن يكون كل تحليل أو نقد للإيديولوجيا هو الآخر إيديولوجيا (بول ريكور، ص235-251)، فلا يمكن أن ندعي محاولة هدم وتجاوز ميتافيزيقا دون أن تكون هناك ميتافيزيقا أخرى تحركنا، إلا أنها ميتافيزيقا مفكر فيها، وإن كانت لا تدعي أنها الحقيقة المطلقة، الأرضية الصلبة والأخيرة، الأساس والعمق الذي لا شيء بعده؛ لأنه ليست هناك حقائق بقدر ما هنالك تأويلات، وهي الأسس اللاواعية للميتافيزيقا (فريديريك نيتشه، 2010).
إن الميتافيزيقا التي يتأسس عليها الفهم السيئ للمرض لدى البشرية هي ميتافيزيقا لا يمكنها أن تموقعنا الموقع الصحيح في الوجود. إنها ميتافيزيقا العداء، التي تبث قيم الخوف والقلق والحقد والكراهية والعنف... تجاه الوجود، إنها تصور للوجود كصراع بين الكيان الذاتي والوجود العام. ومن ثمة، نفهم امتدادات هذه الميتافيزيقا الوجودية إلى ميتافيزيقا الأخلاق، والمعبر عنها بمنظومة القيم الثنائية: الخير في مقابل الشر. تصور هذه الميتافيزيقا المرض على أنه شر، وأيما شر، ما دام المرض يشكل تهديدا للكيان الذاتي، بل السبب الرئيس لفنائه في الكيان العام. إنه اختراق لاستقلاليته وحميميته، لذلك لا غرو أن يفهم المرض، في نطاقها العدائي للوجود العام، على أنه يمثل شرّا للكيان الذاتي. فهل علينا أن ننظر للمرض كشر؟ وقبل ذلك، هل على الموجود أن يعادي الوجود؟
5. في الحاجة إلى ميتافيزيقا متصالحة مع الوجود:
لا جدال في أن البشرية اليوم قد راكمت كمّا كبيرا من المعرفة حول الطبيعة والإنسان، بل إن ما تنتجه وما تستهلكه من معرفة في ظل مجتمع المعرفة لا يكاد يقارن بكل ما أنتجته عبر تاريخها. "تخلق تقنيات المعلومات والاتصالات بيئة معلوماتية جديدة سوف تقضي فيها الأجيال القادمة معظم وقتها، وإذا كانت الثورات السابقة التي أحدثت الرخاء، ولا سيما الزراعية والصناعية منها، قد أحدثت تحولات واسعة النطاق وواضحة للعيان في أنساقنا الاجتماعية والسياسية وبيئاتنا المعمارية، وفي كثير من الأحيان من غير تبصّر كافٍ، فكثيراً ما كانت تصاحبها آثار وتداعيات مفاهيمية وأخلاقية عميقة. ليست ثورة المعلومات أقل دراماتيكية، سواء فُهمت على أنها ثورة ثالثة من حيث خلق الرخاء، أو ثورة رابعة من حيث إعادة صياغة مفهومنا عن أنفسنا، وسوف نكون في مأزق خطير، إن لم نأخذ مأخذ الجد حقيقة أننا نخلق البيئات المادية والفكرية الجديدة التي ستستوطنها الأجيال القادمة" (الوتشيانو فلوريدي، 2017، ص34-40-269). لكن، هل يعني ذلك بداهة أن البشرية اليوم أكثر حكمة من أيّ وقت مضى؟ هل امتلاك هذا الكم الضخم من المعرفة التقنية التي مكنت البشرية من التحكم في الطبيعة والإنسان جعلها أكثر حكمة؟
قد يمدنا العلم بالمعرفة التي تمكننا من السيطرة على الطبيعة بمعناها العام، وهو مشروع الحداثة كما عبر عنه النموذج الديكارتي (René Descartes)على مستوى الطبيعة المادية (مشيل فوكو، 1990، ص158)، والنموذج الفيبري (Max Weber) على مستوى الطبيعة البشرية. فالعقلنة باعتبارها سعيا الى توسيع المجالات الاجتماعية التي تخضع لمعايير الحسم العقلاني؛ تجعلنا أكثر تحكما في الإنسان بما يقصي الأهواء والميولات الذاتية للأفراد؛ ومن ثمة الزيادة في المردودية والفعالية في العمل (والتي تمحور نقد هربرت ماروكز (Herbert Marcuse) لها وللمشروع الفيبري في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد، على اعتبار أنها تشييء للإنسان). إن امتلاكنا للمعرفة التقنية؛ أي المعرفة التي تمكننا من تفسير الوجودين المادي والإنساني واستغلالهما أيما استغلال، هو أحد أهم فتوحات العقل التقني، إلا أن هذا العقل التقني/الأداتي الذي أسس للعلم الحديث ومنتجاته التقنية ليس مجرد منطق في التفكير وأداة محايدة، بل هو رؤية للعالم. إنه إيديولوجيا مدمرة للوجود (يورغن هابرماس، 2003).
الإنسانية اليوم أكثر من أيّ وقت مضى في حاجة ماسة إلى الحكمة؛ أي إلى الفلسفة، فهي وحدها النور الذي يمكن أن نرى من خلاله تجليات الإبداع في الوجود، والذي ليس وجودنا الذاتي سوى تجلّيا من تجلياته. كل التحولات التي تطرأ على وجودنا ليست سوى حركة الإبداع تلك الدائمة: الولادة/ الموت، الصحة/ المرض، اللذة/الألم، الفرح/الحزن، الحركة، الزمن... وهي توصيفات بشرية تخفي وراءها تصورات ميتافيزيقية معادية لسيرورة الإبداع الكوني، وهو الأمر الذي سعت العديد من الفلسفات إلى تصويبه من خلال تأسيسها لنظريات تصالح الموجود بالوجود، وفتح أبواب الفهم العميق للوجود ولمختلف صيروراته التي تؤرق الموجود الإنساني وتحمله على معاداته، نظرا للفهم السيئ لها. وتعد الرواقية والأبيقورية من أبهى تجليات هذا المسعى الحكمي للتصالح مع الوجود؛ لهذا، نفهم المنحى التشاؤمي لفلسفة آرتور شوبنهاور (Arthur Schopenhauer) الذي حدد للوجود ثلاث خصائص: كان على رأسها عبثية الوجود، ثم انتفاء غاية للوجود أو الإرادة العمياء، إضافة إلى الألم والملل (آرتور شوبهاور، 2003، ص165-166-167). إن الميتافيزيقيا المفكر فيها المؤسَّسة على الحكمة المتبصرة ترى في كل أشكال الإبداع تلك تجليات لشيء واحد هو الوجود. إنها جمالية الإبداع الكوني الكامنة في الوجود الذي ليس الوجود الإنساني سوى نور من أنوارها. ومن هن، فإن لهذه الميتافيزيقا المتصالحة مع الوجود، والتي ندعو لها، الملامح الكبرى التالية:
- الحكمة كأساس لفهم الوجود والحياة لا العلم؛
- الفهم الغائي للوجود بدل التفسير السببي؛
- النظر للوجود الذاتي كامتداد للوجود العام لا كوجود آخر مفارق له؛
لا شك أنه من الصعب على البشرية المتشبعة بقيم الميتافيزيقيا المعادية للوجود، بما فيها وجودها الذاتي الذي تعاديه هو الآخر دونما وعي منها، أن تتصور إمكانية التصالح مع الوجود بمختلف أشكاله الإبداعية من خلال الميتافيزيقا التي تستلزمها الحكمة. كيف لهذا الموجود أن لا يعادي الحياة من خلال عدم معاداة أشكال الإبداع (المرض، والموت...) التي يتوهم منها العداء والصراع، وهو منغلق على اعتقاد راسخ لا واع بأنها تمثل الشر بفعل الفهم السيئ لعلاقته كموجود بالوجود. لذا، فالحكمة التي يمكن أن تعلمنا إياها الفلسفة هي الفهم الغائي للوجود وتحديد موقعنا وعلاقتنا بهذه الغائية، وهو ما يمكن أن يصحح العلاقة السببية التي هي إحدى ركائز الميتافيزيقيا العدائية للوجود كمجال للصراع من أجل حفظ الكينونة، بما يحقق وعيا أكثر رحابة وعمقا. وعيا يدرك تجليات التناغم والانسجام في الوجود بما فيه وجودنا الذاتي، فليست كينونتنا سوى امتداد للكينونة العامة المحايثة للوجود (باروخ سبينوزا، 2009).
خاتمة
إن المتأمل في الوقائع والسابر لأغوار الأحداث المترافقة مع ظهور كوفيد19، يخلص إلى أن البشرية اليوم تسير في اتجاه تعادي فيه ذاتها بمعاداتها لشروطها الوجودية، والذي ليس الوجود بعمومه سوى شرطها الأنطولوجي؛ أي بمثابة التربة والماء والهواء، الذي تنمو ضمنه وبناء عليه مختلف الشروط الوجودية الأخرى للإنسان (البيولوجية، الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية...). ولئن كان الإنسان اليوم يعادي شروطه الوجودية من خلال عدة مظاهر لهده العداوة الفجة: استنزاف الموارد الطبيعية؛ التغيرات المناخية؛ التعديل الوراثي؛ الاستبداد السياسي؛ الحروب؛ الفقر واللاعدالة الاقتصادية والاجتماعية...فإنه بذلك، يعادي وجوده الخاص الذي لا يستقيم إلا بها، فهي إياه وهو إياها.
وبالمحصلة، فلم يكن العمل على الكشف عن مكامن ومظاهر تلك الميتافيزيقا المعادية للوجود اللاواعية، وهو ما تغييناه من دراستنا هاته بداية، سوى مدخل لتشكيل وبناء ميتافيزيقا واعية تصالح الإنسان كموجود مع الوجود، بالتزامن مع الإشارات القوية على تفاقم أزمة الإنسان المعاصر الوجودية كما أظهرتها تداعيات فيروس كوفيد19. فأي مستقبل للإنسان الحديث إن لم تخرجه مثل هذه الأزمات من سطوة ميتافيزيقاه المعادية للوجود الهدامة؟
المراجع:
- آرتور شوبنهاور (2003)، العالم إرادة وتمثلا، ترجمة وتقديم وشرح سعيد توفيق، مراجعة على النص الألماني فاطمة مسعود، الطبعة الأولى، المركز القومي للترجمة، القاهرة.
- أرسطو طاليس (2014)، الكون والفساد، ترجمة أحمد لطفي السيد، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، جمهورية مصر العربية.
- باروخ سبينوزا (2009)، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، الطبعة الأولى، المنظمة العربية للترجمة، بيروت.
- بول ريكور، محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، لبنان.
- دورثي اتشكروفورد (2014)، الفيروسات، مقدمة قصيرة جدا، ترجمة أسامة فاروق حسن، مراجعة هاني فتحي سليمان، الطبعة الأولى، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة.
- سيغموند فرويد (1982)، الأنا والهو، ترجمة محمد عثمان نجاتي، الطبعة الرابعة، دار الشروق.
- لمزيد من التفاصيل حول الحفر الجينالوجي لمنظومة القيم الاخلاقية أنظر: فريدريك نيتشه (2010)، جينالوجيا الأخلاق، ترجمة فتحي المسكيني، الطبعة الأولى، المركز الوطني للترجمة، تونس.
- مارتن هايدغر (2002)، كتابات أساسية: الجزء الثاني، ترجمة وتحرير إسماعيل المصدق، الطبعة الأولى، المجلس الأعلى للثقافة.
- مارتن هايدغر (2015)، مدخل الى الميتافيزيقا، ترجمة عماد نبيل، الطبعة الأولى، دار الفارابي بيروت، لبنان.
- مارتن هايدغر (2015)، الفلسفة، الهوية وبالذات، ، ترجمة محمد مزيان، مراجعة محمد سبيلا، الطبعة الأولى، منشورات ضفاف.
- مارتن هيدغر (2015)، مدخل إلى الميتافيزيقا، ترجمة عماد نبيل، الطبعة الأولى، دار الفارابي، بيروت، لبنان.
- ميشيل فوكو (1990)، المراقبة والعاقبة، ولادة السجن، ترجمة على مقلد، مراجعة وتقديم مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، بيروت.
- الوتشيانو فلوريدي (سبتمبر2017)، الثورة الرابعة، ترجمة لؤي عبد المجيد السيد، سلسلة عالم المعرفة الكويتية.
- وليم جيمس (2014)، البراغماتية، ترجمة وليد شحادة، الطبعة الأولى، دار الفرقد للطباعة النشر والتوزيع، دمشق.
- يورغن هابرماس (2003)، العلم والتقنية كإيديولوجيا، ترجمة حسن صقر، الطبعة الأولى، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا.