الزواوي بغوره: ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر
فئة : حوارات
نال ميشيل فوكو شهرة كبيرة من خلال الدروس التي ألقاها في الكوليج دي فرانس، حيث شغل منصب أستاذ كرسي تاريخ الأنساق الفكريَّة وهو صغير السن نسبيَّاً. وقد حظيت هذه المحاضرات التي تولّى عمليَّة جمعها وإعدادها مجموعة من ألمع وأشهر تلامذته، وعلى رأسهم فرانسوا أوالد ودانيال دفير، باهتمام كبير من قبل قرَّائه، سواء من أبناء جيله أو من الأجيال التي أتت بعده، ووجدت في مؤلفاته فلسفة من نوع جديد تقوم على اكتشاف مفاهيم وحقول معرفيَّة جديدة لم تطأها أرض الفلسفة بعد، لذا أتى الاهتمام مضاعفاً بكلّ ما قاله أو خطَّه. ونخصُّ بالذكر: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي الصادر سنة 1961، ومولد العيادة الصادر سنة 1963، والكلمات والأشياء الصادر سنة 1966، وأركيولوجيا المعرفة سنة 1969، والمراقبة والمعاقبة سنة 1975، وتاريخ الجنسانيَّة في جزئه الأوَّل تحت عنوان: إرادة المعرفة سنة 1976، وفي جزأيه الثاني والثالث تحت عنوان: استعمال الملذات، والانهمام بالذات سنة 1984.
درس فوكو في الكوليج دو فرانس من كانون الثاني/ يناير 1971 حتى حزيران/ يونيو 1984 تاريخ وفاته، واعتاد أن يلقي دروسه كلَّ أربعاء، وقد شهدت حضوراً كثيفاً من قبل الأساتذة والطلبة والباحثين، وكان الكرسي الذي يشغله يُسمَّى "تاريخ الأنساق الفكريَّة". ومن المعروف أنَّ نظام التعليم بالكوليج يخضع لقاعدة خاصَّة، إذ يجب على الأستاذ المنتخب في هذه الهيئة أن يدرِّس ستاً وعشرين ساعة في السنة، يقدّم فيها بحثاً أصيلاً وجديداً، أمَّا حضور هذه الدروس فكان حرَّاً، كما أنَّ المؤسَّسة لا تمنح شهادات علميَّة، وبلغة هذه المؤسَّسة العلميَّة فقد كان يقال: "إنَّه ليس للأستاذ طلبة، ولكنْ له مستمعون".
من المعروف أنَّ فوكو نفسه قد نفى في أكثر من حوار أو مقال أن يكون فيلسوفاً، أو أنَّه يمتلك نظرة كليَّة لمسألة السلطة، بيد أنَّه لا يخفي أنَّه اهتمَّ اهتماماً بالغاً بدراسة وظيفة السلطة، وكيف تعمل السلطة في أبحاث تاريخيَّة كثيرة، سواء تلك المتعلقة بالمعازل أو الجنون أو الطب أو السجون أو الجنس أو الشرطة. وقد كان يستند في تحليل ظاهرة السلطة تلك على الميراث الأسود للقرن العشرين ألا وهو: الفاشيَّة والستالينيَّة، معتبراً أنَّ النقص في تحليل ظاهرة الفاشيَّة يُعتبر من الأحداث أو الوقائع السياسيَّة بالغة الدلالة في القرن الماضي. يقرُّ فوكو أنَّه حيثما وجدت السلطة توجد المقاومة، فالسلطة ليس لها الهيمنة المطلقة والثابتة، بل إنَّ المقاومة وبأشكالها المختلفة تخترق السلطة، فهي لا تمارس دورها من باب القانون، أو ما يُسمَّى بحقّ المقاومة، بل إنَّ السلطة والمقاومة تتجابهان بتكتيكات متغيّرة متحرّكة ومتعدّدة، في إطار حقل علاقات القوَّة، أي ليست في إطار القانون والسيادة، ولكن في إطار الصراع والاستراتيجيَّة التي يتوجّب تحليلها. وإذا كان فوكو قد أطنب في كشف أنواع السلطة وآليَّاتها في الحقول السياسيَّة والاجتماعيَّة والطبيَّة والنفسيَّة والجنسيَّة وغيرها، فإنَّ ذلك قد عرَّضه لنقد شديد من قبل جان بودريار فيلسوف ما بعد الحداثة الأشهر، الذي رأى أنَّ فوكو قد ساوى بين السلطة والمجتمع، وأنَّه لم تعد هناك أيَّة إمكانيَّة للتغيير وفقاً لذلك، فقد أعدم فوكو كلَّ شيء عندما اعتقد أنَّ كلَّ شيء سلطة، وخاصَّة عندما استبعد مفهوم القمع، وقد اتَهم خطاب فوكو نفسه بأنَّه خطاب سلطة ومرآة للسلطة التي يكتبها أو يحللها. ولكنَّ فوكو لا يعنيه سؤال ما هي السلطة؟ والذي يفترض أن يجيب عنه علماء السياسة، بقدر ما يسعى للإجابة عن السؤال الذي طرحه على نفسه باستمرار وهو: كيف تعمل السلطة؟ أي تحديد الآليات التي تعمل وفقاً للسلطة وتنتهجها، وهو لذلك يرى أنَّ الحقيقة مرافقة دائماً للسلطة، بل إنَّ هنالك مثلثاً يقوم على: السلطة والقانون والحقيقة يعمل بانتظام، وكلّ رأس فيه سينتج بالضرورة وسيستخدم الرأسين المتبقيين. ولذلك عندما تمَّ التأسيس الشرعي لمفهوم القانون، فإنَّه ارتبط ارتباطاً حتميَّاً مع تأسيس قانون القيادة الملكيَّة، وبمجرَّد أن انفلت الصرح القانوني للسلطة الملكيَّة في القرون التالية، وتمَّ تحويله ضدَّ السلطة الملكيَّة، أصبح السؤال عندها متعلقاً بحدود هذه السلطة، وأصبحت المسألة متعلقة بالامتيازات والصلاحيات الخاصَّة بهذه السلطات.
وإذا كان الملك هو أساس السلطة ومبدأ القانون، فإنَّ الفرد وفقاً لذلك لا يتمُّ وضعه في مقابل السلطة، بل إنَّه أحد آثار السلطة، أو نتيجة من نتائجها، على الرّغم من أنَّ ذلك سيحافظ عليها، وهنا مكمن المفارقة، فالسلطة تنتقل بواسطة الأفراد الذين شكَّلتهم وخضعوا لها، أمَّا الحقيقة التي هي بدورها سلطة أيضاً، فلا يمكن البحث عنها إلّا من حيث إنَّها سلاح ضمن علاقات القوَّة. فالحقيقة تعطي القوَّة أو تخلُّ بالتوازنات وتعمّق اللَّاتماثلات، وفي النهاية تمثل الانتصار في هذا الجانب بدلاً من الجانب الآخر. فالحقيقة هي إضافة للقوَّة، ولا تظهر إلّا من خلال علاقات القوَّة، لأنَّ الانتماء الأساسي للحقيقة هو علاقات القوَّة واللَّاتماثل واللَّاتمركز، والمعركة وفقاً لذلك إنَّما هي مسجّلة ومكتوبة في هذا النمط من الخطاب. وأمَّا القانون، الرأس الثالث في مثلث السلطة، فإنَّه يتطابق مع المثال الذي هو القانون الحي، وذلك لأنَّه يسمح بمحاكمة الحاضر وبإخضاعه لقانون أقوى منه. فالمثال هو، بمعنى من المعاني، المجد الذي يصنع القانون، والقانون هو الذي يعمل في انبهار الاسم، إنَّه بالمطابقة أو التسوية بين القانون والاسم المشع والمبهر العظيم، عندها يكون للمثال القوَّة التي تتقوَّى بها السلطة. إنَّ السلطة هي التي أتاحت شرعيَّاً إذاً حضور مفهوم الصراع حولها، وهو ما ولَّد سريعاً ظهور العنصريَّة، إذ عندما استبدل موضوع صراع الأعراق بموضوع نقاوة وطهارة العرق، ولدت العنصريَّة، وعندما تحوَّل التاريخ المضاد، شرعت العنصريَّة البيولوجيَّة في العمل، وفي الوقت الذي تحوَّل فيه خطاب صراع الأعراق إلى خطاب ثوري، فإنَّ العنصريَّة كانت الفكرة والمشروع والنبوءة الثوريَّة، العائدة بمعنى آخر وانطلاقاً من الجذر نفسه، ألا وهو خطاب صراع الأعراق، وهكذا يكثِّف فوكو مقولة المركزيَّة ببراعة: إنَّ العنصريَّة تعني حرفيَّاً الخطاب الثوري بالمقلوب.
خلال السنة الجامعيَّة 1982 ألقى فوكو سلسلة من الدروس حول موضوع: هرمينوطيقا الذات، سبقتها سلسلة أخرى تحت عنوان "الاهتمام بالذات" سنة 1981، وقد شكَّلت هذه الأخيرة الجزء الثالث من كتابه: "تاريخ الجنسانيَّة".
في هذا الدرس المطوَّل "هرمينوطيقا الذات"، وضَّح فوكو التحوَّل الذي عرفته قضيَّة الاهتمام بالنفس/ الذات، أو ما يُسمَّى بثقافة النفس، ومن أجل ذلك قام بتحليل مجموعة من نصوص الفلاسفة اليونان والرُّومان خلال القرنين الأوَّل والثاني بعد الميلاد. وقد كان منطلق هذا الدرس هو محاورة ألقيبياديس لأفلاطون ولعبارتي "اعرف نفسك" و"اهتمّ بنفسك"، ولمتابعة هذه التحوُّلات قام فوكو بقراءة كذلك نصوص المدارس الفلسفيّة اليونانيَّة خاصَّة عند الرواقيين والأبيقوريين والكلبيين.
إنَّ هذا العمل الذي قام به ميشال فوكو يُعدُّ منعطفاً جديداً في فلسفته، فمن خلاله تابع كيفيَّة تشكّل الذات الغربيَّة عبر التاريخ الثقافي والفلسفي لمجتمعات الغرب باعتبارها ذاتاً لا تخضع فقط لعمليَّات السيطرة، وإنَّما أيضاً من تقنيات وفنون الاهتمام بالذات. إنَّ عبارة "اعرف نفسك" كانت مصدراً من مصادر ظهور الفلسفة اليونانيَّة، في حين أنَّ عبارة "اهتمّ بنفسك" ارتبطت بدخول الفلسفة اليونانيَّة إلى المرحلة الهلينستيَّة التي تميَّزت بالانحطاط والتراجع، لكنَّ فوكو بيَّن من خلال هذه الدروس تزامن العبارتين، إلى أن جاءت الفلسفة الحديثة مع اللحظة الديكارتيَّة التي أقصت عبارة "اهتمّ بنفسك" وأسَّست المعرفة على عبارة "اعرف نفسك"، وهذا الإقصاء هو مصدر النقد الذي وجَّهه فوكو للحداثة الغربيَّة التي فصلت كما يقول بين البُعد العلمي والرُّوحي للإنسان. بالإضافة إلى موضوعة الذات التي استغرقت معظم الدروس المذكورة يورد فوكو تصوُّره للفلسفة ووظيفتها باعتبارها شكلاً من الفكر يحاول أن يحدّد شروط وحدود بلوغ الحقيقة من خلال الذات. إنَّ قارئ هذه الدروس يجد نفسه أمام مؤلّف ضخم يعالج قضايا فلسفيَّة بالغة الأهميَّة انطلاقاً من إشكاليَّة الذات، وهذا له دلالة مهمَّة في المشروع الفلسفي لميشيل فوكو، الذي كان يردّد دائماً: إنَّه ليس بفيلسوف، وإنَّما هو مجرَّد مؤرّخ.
أمَّا عن ترجمة هذه المحاضرات إلى العربيَّة، ونخصُّ بالذكر المحاضرات التي تمَّ تجميعها في كتابين صدرا عن دار الطليعة، الأوَّل يحمل عنوان "يجب الدفاع عن المجتمع[1]"، والثاني معنون بـ: "تأويل الذات[2]"، فقد تكفَّل بترجمتهما المختصّ في دراسة فوكو، المفكر والباحث الأكاديمي الجزائري الزواوي بغوره، أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة الكويت، الذي عرف باهتمامه بميشيل فوكو منذ وقت مبكر، بدءاً برسالته للدكتوراه تحت إشراف المفكر فتحي التريكي بعنوان: "الخطاب، بحث في بنيته وعلاقاته عند ميشيل فوكو"[3]، مروراً بكتابه: "ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر"[4]، وصولاً إلى كتابه: "مدخل إلى فلسفة ميشيل فوك.[5]
لقد استقبل الفكر العربي فلسفة ميشيل فوكو باهتمام واحتفاء كبيرين، ما أدَّى إلى انتشارها وتداولها بشكل واسع لدى الأوساط العربيَّة المثقفة، ويظهر ذلك من خلال الترجمات المختلفة لنصوصه، والتي يمكن أن نذكر منها:
* الكلمات والأشياء، ترجمة: مطاع صفدي، سالم يفوت، بدر الدين عرودكي، جورج أبي صالح، كمال أسطفان، مراجعة جورج زيناتي ومطاع صفدي، بيروت، مركز الإنماء القومي 1990.
* حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي 1986.
* نظام الخطاب، ترجمة محمَّد سبيلا، بيروت دار التنوير 1984.
* نظام الخطاب، في جينيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي، وعبد السلام بنعبد العالي، الدار البيضاء، دار توبقال 1988.
* المراقبة والمعاقبة، ترجمة علي مقلد، مراجعة وتقديم مطاع صفدي، بيروت مركز الإنماء القومي 1990.
* استعمال اللذات، ترجمة جورج أبي صالح، مراجعة مطاع صفدي، بيروت، مركز الإنماء القومي 1992.
* تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ترجمة سعيد بن كراد، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي 2006.
* تاريخ الجنسانية، إرادة المعرفة، ترجمة: محمَّد هشام، الدار البيضاء، دار إفريقيا الشرق 2004.
* تاريخ الجنسانية، استعمال المتع، ترجمة محمَّد هشام، الدار البيضاء، دار إفريقيا الشرق 2004.
* تاريخ الجنسانية، الانشغال بالذات، ترجمة محمَّد هشام، الدار البيضاء، دار إفريقيا الشرق2004.
* يجب الدفاع عن المجتمع، ترجمة الزواوي بغوره، دار الطليعة، بيروت 2003.
* تأويل الذات، ترجمة الزواوي بغوره، دار الطليعة، بيروت 2011.
وفي هذا الحوار نحاول الوقوف مع المفكّر والباحث الأكاديمي الجزائري الدكتور الزواوي بغوره، عند أهمّ الإشكالات التي تطرح أمام تلقي الفكر العربي المعاصر لفلسفة ميشيل فوكو.
نص الحوار
المهدي مستقيم: عُرفت بصفتك باحثاً مختصَّاً في فلسفة ميشيل فوكو منذ وقت مبكر، لماذا ميشيل فوكو؟
الزواوي بغوره: الأسباب التي دفعتني إلى البحث في فلسفة ميشيل فوكو، وذلك منذ بداية تسعينيَّات القرن العشرين، يمكن أن ألخّصها في سببين: الأوَّل موضوعي، ويتمثل في حاجة قسم الفلسفة بجامعة قسنطينة إلى مختص في الفلسفة المعاصرة، وكانت أطروحتي للدكتوراه هي أوَّل أطروحة تناقش في هذا القسم بإشراف الأستاذ فتحي التريكي، وكان ذلك في عام 1996. وهنالك سبب ذاتي ما فتئ يتعمَّق ويزداد، وهو أنَّني كنت أميل دائماً إلى قراءة الجديد، ومتابعة الترجمات العربيَّة، وقد عزَّز هذا الميل، الجوّ الثقافي السائد في جامعة قسنطينة في نهاية الثمانينيَّات وبداية التسعينيَّات، والذي كان يغلب عليه النقاش حول البنيويَّة، وبخاصَّة في مجال النقد الأدبي. وأذكر أنَّني شاركت بورقة بحث في مؤتمر: البنيويَّة والنقد الأدبي، نظمَّه قسم اللغة العربيَّة في شهر نوفمبر 1988، وأنا ما أزال طالباً في الدراسات العليا، وكان عنوان ورقتي: مفهوم الفن عند كلود ليفي ستروس، الأسطورة مثالا[6]. وما زاد اهتمامي بفوكو هو أنَّ أحد أساتذتنا في مرحلة الدراسات العليا، ويدعى كلود برنار، وهو أستاذ في علم النفس استعان به قسم الفلسفة ليدرّسنا مقياس الإبيستمولوجيا، قدَّم لنا فيه محاضرات في أعلام المدرسة الفرنسيَّة في الإبستمولوجيا، وهم: باشلار، بلانشي، كونغيلام، ألكسندر كويري، التوسير، فوكو. وكلَّفني بتقديم بحث حول كتاب فوكو: الكلمات والأشياء، ومع أنَّني واجهت صعوبات جمَّة في قراءته وتلخيصه وتقديمه، إلَّا أنَّني فضَّلت الاستمرار والمتابعة في بحث هذا الفيلسوف. وعندما أنجزت أطروحتي كان السؤال الذي لم يفارق ذهني هو: هل إنجاز أطروحة في فلسفة ما، أو في فيلسوف ما، يُعتبر أمراً كافياً، أم أنَّ الأمر يحتاج إلى مزيد من البحث والتقصّي؟ لا أخفي عليك، أنَّني عندما كنت أعدّ أطروحتي في باريس، وقفت مندهشاً عند أبحاث، ونصوص، ومواضيع، وكانت تطرح عليَّ أسئلة كثيرة ما كان من الممكن أن تجيب عنها أطروحتي، وذلك بحكم المعايير التي تتحكَّم في الأطروحات، لذا كان عليَّ إمَّا أن أكتفي بما قدَّمته في أطروحتي والانتقال لدراسة أو ترجمة مواضيع أخرى، أو أن أتعمَّق أكثر في هذه الفلسفة وأن أعمل، في الوقت نفسه، على فتحها على فلسفات أخرى. وكما ترى، فإنَّني آثرت الاختيار الثاني، لأنَّني اقتنعت بأنَّ أطروحة واحدة في فلسفة معينَّة، قد تكفي بالنسبة إلى الموضوع المدروس، ولكنَّها قطعاً لا تكفي لمعرفة مختلف جوانب الفلسفة أو الفيلسوف الذي نرغب في دراسته.
المهدي مستقيم: كيف استقبل الفكر العربي المعاصر فلسفة ميشيل فوكو؟ وكيف تعامل مع مفاهيمها المتميّزة؟
الزواوي بغوره: كان مشروع أطروحتي يتضمَّن أربعة فلاسفة هم: (ألتوسير، فوكو، الجابري، أركون)، ولكن عندما عرضت هذا المشروع على عدد من أساتذة الفلسفة الأجلَّاء في العالم العربي، وهم: (فؤاد زكريا، محمود أمين العالم، طه عبد الرحمن، عادل العوا، هادي العلوي)، كان جوابهم، وذلك رغم اختلافهم في التقييم والملاحظات الجزئيَّة، يتمثل في ضرورة أن أكتفي بدراسة فيلسوف واحد فقط. وقد أخذت بهذه النصيحة، ولكن لم أفرط في ما جمعته من ملاحظات ونصوص، وبخاصَّة بالنسبة إلى الجابري وأركون. لذلك تستطيع القول: إنَّ كتابي "ميشيل فوكو في الفكر العربي" كان، بشكل من الأشكال، مكملاً أو متمّماً لأطروحتي. وفي تقديري، فإنَّه وبعد مرور أزيد من عقد على نشر هذا الكتاب، فإنَّني أستطيع القول: إنَّ الفكر العربي، سواء من حيث الترجمة، أو البحث الأكاديمي، أو التوظيف والتأويل الفكري والسياسي والاجتماعي...إلخ، ما يزال يستقبل فلسفة ميشيل فوكو بكثير من الإيجابيَّة. وبنظرة سريعة إلى ما ينشر هنا وهناك، يتبيَّن أنَّ فلسفة فوكو ما تزال حاضرة، رغم مرور ما يزيد عن ثلاثة عقود منذ بداية الاهتمام بها. هذا إذا اعتبرنا أنَّ البداية كانت مع مشروع مطاع صفدي للينابيع، وبمجلتيه: الفكر العربي المعاصر، والعرب والفكر العالمي، ومنشورات مركز الإنماء القومي، مع العلم أنَّ الاهتمام بفوكو سابق على هذا التاريخ. ولا يماثله في هذا الاستقبال إلا فلاسفة قليلون أمثال ديكارت، وسارتر، وماركس. ولكن إذا كان الفكر العربي قد تعامل مع هؤلاء الفلاسفة بنوع من النمطيَّة، فإنَّ الذي يميّز تعامل الفكر العربي مع ميشيل فوكو هو، بلا أدنى شك، التنوُّع والتعدُّد والاختلاف، ولعلَّ هذا الجانب هو الذي أضفى قدراً من الحيويَّة على الدراسات الفوكويَّة في العالم العربي.
المهدي مستقيم: تركّز مجموعة من الدراسات العربيَّة التي أفردت لميشيل فوكو على حصره ضمن التيَّار البنيوي، وذلك حسب المبرّرات والمعايير المعتمدة عند كلّ باحث. ما تعليقك؟
الزواوي بغوره: حقاً يمكن القول: إنَّ بداية الاهتمام العربي بفلسفة ميشيل فوكو كان ضمن التصوُّر البنيوي، وذلك نسجاً على ما كان متداولاً في ذلك الوقت في الفكر الغربي عموماً والفرنسي على وجه الخصوص. هذا ما نقرأه في عدد من الدراسات العامَّة والأكاديميَّة، ومنها كتاب: مشكلة البنية، لزكريا إبراهيم. وليس من المبالغة في شيء إذا قلنا: إنَّ الصورة الأساسيَّة التي شكَّلها المثقف العربي عن فوكو، منذ بداية السبعينيات تاريخ نشر أوَّل دراسة مترجمة عن البنيويَّة إلى نهاية الثمانينيَّات، هي صورة الفيلسوف البنيوي. وهذه الصورة مبنيَّة على ثلاثة معطيات أساسيَّة هي: موقف فوكو من اللغة، والذات أو الإنسان، والتاريخ، كما عرضها في كتابه: الكلمات والأشياء. وتعكس هذه المعطيات، في الحقيقة وبشكل مباشر، النقد الموجَّه إلى فوكو من قبل الغربيين، وبالتحديد من قبل التيَّارين الأساسيين في الفلسفة المعاصرة، وهما التيَّار الوجودي والتيَّار الماركسي. وقد عزَّز هذا التصوُّر البنيوي، التوظيف الذي أجراه الجابري وأركون لفوكو، وتصنيف هذين المفكّرين في الفكر العربي ضمن التيار البنيوي. ولكن ما يجب التأكيد عليه، هو أنَّ هذا التصوُّر البنيوي هو مجرَّد تصوُّر من بين تصوُّرات أخرى شكَّلها الفكر العربي حول فلسفة ميشيل فوكو.
المهدي مستقيم: ما الذي دفع مجموعة من المفكّرين العرب أمثال محمَّد عابد الجابري، ومحمَّد أركون، وفتحي التريكي، ومطاع صفدي، إلى اتخاذ فلسفة ميشيل فوكو مرجعيَّة أساسيَّة للتفكير في جملة من مسائل وقضايا الفكر العربي المعاصر؟
الزواوي بغوره: هنالك دوافع كثيرة تخصُّ كلَّ واحد من هؤلاء المفكّرين، ولكن يمكن القول إجمالاً إنَّ الدافع الأساسي يتمثل في الاستفادة من طريقة ومفاهيم فوكو في دراسة التراث العربي والإسلامي بالنسبة إلى أركون والجابري، ومناقشة القضايا المعاصرة بالنسبة إلى التريكي وصفدي، علما أنَّ مواضيع التراث والحداثة، أو الأصالة والمعاصرة، أو القديم والجديد مواضيع مترابطة. ولكن ما أودُّ التشديد عليه هو أنَّ قراءة ميشيل فوكو تفرض نفسها على كلّ قارئ، لأنَّ فوكو نفسه لم يكفّ عن الحديث عن الاستعمال والتوظيف، ووصف كتبه ونصوصه ومفاهيمه، كما تعلم، بعلبة الأدوات (boite a outille). ممَّا يعني أنَّ على كلّ قارئ أن يستعمل (المفتاح/ المفهوم) الذي يحتاج إليه، ولكن يجب ألَّا ننسى العلبة أيضاً، أي أنَّ مفاهيم فوكو على الرغم من أنَّها لا تخضع لنسق صارم، ولا تصدر عن جوهر ثابت، أو مبدأ عام، إلَّا أنَّها تتمتَّع بانسجامها العام، وبخاصَّة في ثلاث سمات وهي: التحليل التاريخي، ومحاولة فهم الحاضر، والعمل على تغيير الذات. وتشكّل هذه السمات فلسفته التي اصطلح عليها في أخريات حياته بمصطلح الأنطولوجيا التاريخيَّة. وليست هذه الأنطولوجيا نوعاً من الميتافيزيقا الجديدة، ولكنَّها القدرة على اكتشاف الممكنات، وعلى إنتاج أشكال جديدة من الحياة، وتحويل الذات إلى أثر جمالي وأخلاقي في الوقت نفسه.
المهدي مستقيم: وظّف الجابري مفاهيم فوكو الثلاثة الشهيرة: الخطاب، الإبستيميَّه، السلطة. إذ نجد الأوَّل حاضراً بقوَّة في كتابه: الخطاب العربي المعاصر، والثاني في كتابيه: تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي، والثالث في كتابه: العقل السياسي العربي، محدّداته وتجلياته. هل تمكَّن الجابري بتوظيفه هذه المفاهيم من تجديد الخطاب الفلسفي العربي المعاصر؟
الزواوي بغوره: وظَّف الجابري، كما تفضَّلت، هذه المفاهيم، كما وظّف مفاهيم كثيرة تعود إلى فلاسفة آخرين، وعليه، فإنَّ الجواب عن سؤالك يتطلّب النظر في تلك المفاهيم على اختلافها، وبخاصَّة ما جاء في كتابيه: نحن والتراث، وتكوين العقل العربي. وبما أنَّ موضوعنا يقتصر على مفاهيم فوكو، فإنَّني أريد أن أقف عند نقطتين: الأولى هي أنَّ الجابري على عكس المفكّرين والباحثين العرب الذين اهتمُّوا بفلسفة ميشيل فوكو، قد فرض طريقة معيَّنة في التعامل مع المفاهيم الغربيَّة اصطلح عليها بمصطلح (التبيئة). ويمكنني القول حول هذه النقطة: إنَّ فرض طريقة في القراءة هي تحصيل حاصل. لماذا؟ لأنَّنا عندما نقرأ أو نستقبل أو نتلقَّى فكراً معيَّناً، فإنَّنا بالضرورة نضفي عليه قدراً من تصوُّراتنا وآرائنا وحاجاتنا ومصالحنا، سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه، سواء كان ذلك عن وعي أم عن غير وعي. وقد بيَّنت نظريات القراءة والتلقّي هذا الجانب بالتفصيل. أمَّا النقطة الثانية، فهي خاصَّة بالاستعمال وفقاً لشروط محدَّدة، كان أهمّها الجانب الإجرائي. ولكنَّ الناظر في استعمال الجابري لمفاهيم فوكو، يدرك أنَّه لم يلتزم بتلك الشروط. والدليل على ذلك أنَّ مفهوم السلطة، وهو من المفاهيم المركزيَّة في فلسفة فوكو، وعرف تطوُّرات عديدة، انتقى منه الجابري فكرة (السلطة الرعويَّة)، وهي جزء من مفهوم معقَّد ومتعدّد، ومع ذلك، فإنَّه عندما أشار إليه في مدخل كتابه: العقل السياسي العربي، أهمله في المتن، وبالتالي لا يمكن في تقديري، الحديث عن توظيف لمفهوم السلطة أو السلطة الرعويَّة تحديداً عند الجابري سواء باسم التلقي المشروط أو التلقي الحر. وأمَّا مفهوم الإبستيمة، فكما أشرت سابقاً، فإنَّ الجابري قد ماثله بمفهوم البنية. ومع أنَّ هذه المماثلة ممكنة إلى حدٍّ كبير، إلَّا أنَّه في التوظيف لم يظهر ذلك، وبخاصَّة في كتابه: بنية العقل العربي، لأنَّ الجابري، كما تعلم، ذهب في تصنيف ما يسمّيه (العقل العربي) إلى فصل المجالات البيانيَّة والبرهانيَّة والعرفانيَّة بعضها عن بعض، في حين أنَّ الفهم الأوَّلي للبنية يقتضي دراسة العلاقات المتعديَّة بين هذه المجالات. لذا نستطيع القول: إنَّ تلقّي الجابري لمفاهيم فوكو كان تلقياً مشروطاً، ونتائجه كانت محدودة، ولكن مع ذلك عرفت انتشاراً واسعاً في الثقافة العربيَّة المعاصرة. وفي تقديري، فإنَّ الأمر يتعلّق بالسياق التاريخي الذي عمل فيه الجابري، وحاول جاهداً أن يحرّر الخطاب الفلسفي العربي من الإكراهات الطاغية للإيديولوجيَّات المسيطرة في ذلك الوقت.
المهدي مستقيم: هل يمكن القول إنَّ الثورة التي أحدثها فوكو في أوروبا ضمن تاريخ الأفكار التقليديَّة والمنهجيَّة التقليديَّة هي نفسها التي حاول أركون أن يحدثها في مجال الدراسات الإسلاميَّة والفكر العربي الحديث والمعاصر؟
الزواوي بغوره: يتميز محمَّد أركون بتوظيف عدَّة منهجيَّة متنوّعة ومتعدّدة المشارب والاتجاهات والمجالات، ولا يخلو بحث من بحوثه من إضافة مفهوم جديد. وفي تقديري، فإنَّ ما يربط أركون بفوكو جملة من الأمور؛ أهمُّها محاولة إجراء نوع من البحث التاريخي المماثل للبحث الأركيولوجي، وتوظيف مفهوم المعرفة-السلطة في دراسته لظهور العلمانيَّة/ العلمنة في التاريخ الإسلامي. ولكنَّ المشكلة التي تواجهنا مع أركون هي من نوع آخر، وتتمثل في أنَّنا لا نملك دراسات تاريخيَّة مفصَّلة تكشف عن مدى التوظيف من عدمه. لقد اكتفى أركون، كما تعلم، بالإشارة، وإعطاء أمثلة مقتضبة، ولم يدرس على سبيل المثال الفكر العربي وفقاً لمفهومي الأركيولوجيَّة والمعرفة-السلطة. وفي كتابه: "الفكر العربي الحديث" اكتفى بالعرض العام، مستعملاً بشكل أساسي مفهوم القطيعة كما صاغه باشلار، وليس مفهوم الانفصال الذي نجده عند فوكو، ولكنَّ ذلك لم يمنعه من التشديد على مسألة أجدها في غاية الأهميَّة، وهي ضرورة دراسة التراث العربي وفقاً لمفهوم الإبستميَّة، واقترح لذلك مفهوم الأدب بمعناه العام، ولكن لم يطبّق ذلك، وبالتالي فإنَّنا عندما ننظر في كيفيَّة تلقّي أركون لفلسفة فوكو، نجد أنَّ هذا التلقّي يتميَّز بالانفتاح والاستعمال الحر، أي أنَّ أركون لا يضع شروطاً مسبقة للتوظيف، ولكن في المقابل لم يقدّم دراسات تطبيقيَّة مفصَّلة تمكّننا من اختبار هذا التطبيق وجدواه.
المهدي مستقيم: يرى فتحي التريكي أنَّ أكبر إضافة يمكن أن يقدّمها فوكو للفكر العربي هي بلورته لمفهوم جديد للسلطة يميّز فيه بين الدَّولة والسلطة، وهذا ما عبَّر عنه في قوله: "وهكذا حضور السلطة متنوّع ومتعدّد، إذ إنَّنا لا نجد السلطة داخل مجموع مؤسَّسات وأجهزة تتحكَّم في البنى الاجتماعيَّة فقط، بل نجدها متشابكة داخل النسيج الاجتماعي نفسه، كما يذهب إلى ذلك ميشيل فوكو. يعني أنَّ السلطة ممارسة قبل أن تكون جهازاً أو مؤسسات؛ لهذا فهي تأخذ أساساً شكل الصراع الآني والمتقلّب والمستمر في آنَّيته...والصراع الآني ينتج حتماً أجهزة قمع وعقلنة تحاول السيطرة على هذه الصراعات فتقنّن أشكالها ونمط العمل داخلها. فالدولة نتيجة للسلطة قبل كلّ شيء، أي أنَّ الدولة لا تنتج سلطة، بل تقنّن الصراع الآني، وتحاول احتواءه داخل مؤسَّسات وأجهزة". هل تتّفق مع هذا الموقف؟
الزواوي بغوره: لا شك أنَّ مفهوم السلطة عند ميشيل فوكو من المفاهيم الأساسيَّة، بل نستطيع القول إنَّه يشكّل مجالاً من مجالات فلسفته التي تدور حول المعرفة، والذات، والسلطة. كما أنَّه من المهم أن نعرف أنَّ هذا المفهوم يتميَّز بالتعقيد والتعدُّد في الأشكال. يكفي أن أشير إلى أنَّ فوكو درس مجموعة من أشكال السلطة التي عرفها التاريخ الغربي الحديث، ومنها: السلطة الانضباطيَّة، والسلطة الحيويَّة، وما سمَّاه في أخريات حياته بالحكمانيَّة أو فنون الحكم (gouvernementalité). وإذا كان ميشيل فوكو يميّز، كما أشار إلى ذلك فتحي التريكي، بين السلطة والدَّولة، وهذا بحكم اختلافه عن الطرح الليبرالي والماركسي، فإنَّه في تحليله لفنون الحكم قد أعاد النظر في موضوع الدَّولة. يظهر هذا جليَّاً في دراسته للّيبراليَّة التي ناقشها في درسه بالكوليج دو فرانس في العام الجامعي 1978-1979 بعنوان: مولد السياسة الحيويَّة.
المهدي مستقيم: يعتمد مطاع صفدي في قراءته لفوكو على كلٍّ من نيتشه وهيدغر، على أنَّ أيَّة قراءة لفوكو دون استحضار هذين الفيلسوفين سيتخلّلها الغموض وسوء الفهم. ويتَّضح ذلك من خلال قوله: "هو الذي خرج من تحت وطأة المعاناة شبه الشعريَّة التراجيديَّة عند نيتشه، والفلسفة الكينونيَّة عند هيدغر، إلى مرحلة إنشاء المنهج القادر على إبراز التمفصلات الخطابيَّة وتعدديَّة أشكالها وآليَّاتها في المستويات التاريخيَّة والأنتروبولوجيَّة والإبستيمولوجيَّة. إنَّه منهج الأركيولوجيَّةـالجنيالوجيَّة أو الجنيالوجيا-الأركيولوجيا. وهو المنهج الذي لا يكتفي بالوصف أو التحليل، لكنَّ مهمته هي أن يبرز، أن يكشف التمفصلات الخطابيَّة، لا أن يحكم، ولا أن يؤوّل". هل تتَّفق مع هذا الطرح؟
الزواوي بغوره: إحدى أهمّ مميزات قراءة مطاع صفدي لميشيل فوكو دراسته من خلال علاقته بنيتشه وهيدغر، في الوقت الذي سيطرت فيه النظرة البنيويَّة على فوكو في الفكر العربي المعاصر. ولكن مع ذلك، فإنَّ قراءة مطاع صفدي لفوكو، تقتضي الإشارة إلى النقاط الآتية:
1. ممَّا لا شكَّ فيه، أنَّ مطاع صفدي قد انتصر لمختلف تحليلات فوكو، وبخاصَّة تلك التي يظهر فيها نقده للثقافة الغربيَّة.
2. لا يمكن القول إنَّ ما قدَّمه صفدي يمثّل القراءة العربيَّة كما يذهب إلى ذلك، والسبب في ذلك أنَّ ثمَّة، كما تعلم، قراءات عربيَّة أخرى كقراءة الجابري، أو أركون، أو فتحي التريكي، أو غيرهم. ثمَّ إنَّ ما قدّمه حول فوكو لم يتجاوز خطوتين أساسيتين، ولكنَّهما أصبحتا معروفتين هما: بيان صلة فلسفة فوكو بفلسفة نيتشه وهيدغر، وعرض لأهمّ أفكاره، وبخاصّة فكرة المعرفة والسلطة.
3. ليس من السهل القبول بفكرة أنَّ فوكو قدَّم بديلاً نظريَّاً كما يزعم صفدي، وإنَّما قدَّم نقداً سلبيَّاً للثقافة الغربيَّة، يمكن أن يستشفَّ منه بدائل، لكنَّ فوكو نفسه أحجم عن تقديم كلّ بديل، وبخاصَّة حول ما يتعلق بالإنسان.
4. في الوقت الذي أكَّد فيه صفدي على الاختلاف، فإنَّه لم يتردَّد في تصنيف الثقافة الغربيَّة المتنوّعة والمختلفة مثلها مثل جميع الثقافات الإنسانيَّة في دائرة (العقل الغربي)، وهو ما يعني سيطرة مبدأ الهويَّة والجوهر على هذا التحليل رغم دعوى الاختلاف والمغايرة.
5. لا يمكن القول إنَّ صفدي قدَّم إسهاماً نقديَّاً جديداً للثقافة الغربيَّة، لأنَّه اكتفى بعرض الآراء النقديَّة لبعض الفلاسفة الغربيين، ومنهم فوكو على وجه التحديد.
المهدي مستقيم: هل يمكن لخطاب (أقصد الخطاب الذي يروّجه الفكر العربي المعاصر) تولَّد عن خطاب آخر غريب عنه ومخالف له، أن ينتج مشروعه الخاص أو حداثته الخاصَّة والأصيلة؟
الزواوي بغوره: هذا الأمر يعتمد على فهمنا للخصوصيَّة والأصالة والحداثة، فإذا كنَّا من أنصار الانغلاق والإبداع من عدم، و(الإتيان بما لم تأتِ به الأوائل والأواخر)، فإنَّ الخطاب الذي يولد من خطاب غريب عليه، لن يكون إلا خطاباً هجيناً، ومقلداً، وعامَّاً، ومكرَّراً. ولكنَّنا في المقابل، إذا كنا ننظر إلى الخصوصيَّة والأصالة والحداثة على أنَّها نتاج للعلاقات المتعدّدة بين الذات والآخر، أيَّاً كان هذا الآخر، حتى عندما يتَّصل بتراثنا القديم، فإنَّني أعتقد أنَّ الخطابات الأصيلة والحداثيَّة والخاصَّة، أي الجديدة والمبدعة، تنتج من خلال الحوار النقدي مع الخطابات الأخرى. وشخصيَّاً، لا أعرف خطاباً ظهر من عدم، وكلّ ما أعرفه أنَّ الخطابات تتوالد فيما بينها، ويضيف بعضه على بعض، ويقطع بعضه مع بعض عندما يحقق الإبداع، وذلك من خلال عمليَّات الإثبات والنفي، والتكرار والإضافة، والاستيعاب والنقد، والتقليد والإبداع. هذا ما يؤكّده تاريخ الفلسفة؛ فنحن لا نستطيع فهم أرسطو من دون أفلاطون، ولا ابن رشد من دون أرسطو، ولا ديكارت من دون فلسفة العصور الوسطى، ولا كانط من دون ليبنتز، ولا فوكو من دون نيتشه أو كانط. وإذا كان الانتماء الحضاري والثقافي يفرض نفسه، فإنَّ التاريخ يثبت أنَّه ليس هنالك حضارة أو ثقافة منغلقة، وفكرة الجدران العازلة مجرَّد وهم نابع من الخوف والضعف، ويبيّن تاريخنا القريب أنَّنا تحرَّرنا من الاستعمار عندما تمكَّنَّا من الأدوات والوسائل الحديثة، ومن الفكر الحديث المتمثل في الحركات التحرّريَّة، وليس العكس.
المهدي مستقيم: ما أهمّ نقط التقاطع والالتقاء التي يمكن أن تجمع الفكر العربي بفلسفة ميشيل فوكو؟ وماذا عن الاختلافات والتباينات والفروقات التي يمكنها أن تفصل الفكر العربي عن فلسفة فوكو؟
الزواوي بغوره: مثلما أشرت سابقاً، فلسفة فوكو قدَّمت مجموعة من المفاهيم والتحليلات التي يحاول الفكر العربي المعاصر أن يستفيد منها، مثله في ذلك مثل الفكر العالمي. فهنالك، كما تعلم، اهتمام عالمي بفكر فوكو، يهتمُّ به الإيرانيون والأتراك، والروس، والصينيون، والبرازيليون...إلخ، وكلّ بحسب فهمه، واستيعابه، وحاجاته، وليس المطلوب في تقديري أن نجري نوعاً من المقارنة بين فلسفة فوكو وفلسفات الفكر العربي، وإنَّما الذي يجب الوقوف عنده على الأقل هو أوَّلاً: تأكيد فوكو على فكرة الاختلاف، ولعلَّ هذه الفكرة هي التي تدفع الكثير منَّا لقراءة فوكو، لأنَّه لا يلزمنا، كما تعلم، بمنظور محدَّد، أو مذهب متناسق، أو نظريَّات مغلقة، إنَّه يقدّم تحليلات، يمكننا أن نتَّخذها مؤشّراً أو علامة في دراساتنا وأبحاثنا. ثانياً: يجب ألَّا نغفل أبداً عن مسألة أساسيَّة وهي ضرورة الدراسة النقديَّة لهذه الفلسفة. فمهما كانت قيمة هذه الفلسفة في دراسة قضايانا الفكريَّة، فإنَّه من الضروري أن نقف عند حدود تلك المفاهيم والتحليلات التي قدَّمها، وهذا ما حاولت أن أبيّنه في كتابي: مدخل إلى فلسفة ميشيل فوكو.
[1]. ميشيل فوكو، يجب الدفاع عن المجتمع، ترجمة الزواوي بغوره، دار الطليعة، بيروت 2003.
[2]. ميشيل فوكو، تأويل الذات، ترجمة الزواوي بغوره، دار الطليعة، بيروت 2011.
[3]. الزواوي بغوره، الخطاب، بحث في بنيته وعلاقاته عند ميشيل فوكو، دراسة ومعجم، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت-لبنان 2015.
[4]. الزواوي بغوره، ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر، دار الطليعة، بيروت 2001.
[5]. الزواوي بغوره، مدخل إلى فلسفة ميشيل فوكو، دار الطليعة، بيروت 2013.
[6]. الزواوري بغوره، المنهج البنيوي، بحث في أصوله ومبادئه وتطبيقاته، دار الهدى، عين مليلة، الجزائر، 2001، ص 196-201.