ناجية الوريمي بوعجيلة: كيف نقرأ؟ (الجزء الثاني)
فئة : حوارات
كيف نقرأ؟ (الجزء الثاني)([1])
حوار ناجية الوريمي بوعجيلة
د. نادر الحمامي: نستأنف حوارنا مع الأستاذة ناجية الوريمي، ونجدّد لها شكرنا على قبولها أن تكون ضيفتنا اليوم، وكنّا وصلنا في الجزء الأوّل منه إلى نقطة أساسيّة من خلال ما اطّلعنا عليه من أعمالها، وهي أنّها تنطلق دائماً في قراءة التّراث العربي والإسلامي القديم، ممّا توصّلت إليه نظريّة الخطاب، وهي متشبّثة أشدّ التّشبّث بهذا المنهج الأساسي في التّعامل مع النّصوص، حتى لا تكون النّتائج التي تتوصّل إليها مجرّد إسقاطات على التّراث. وقد تعلّق هذا المنهج بمسألة يكثر تداول الحديث فيها اليوم، وهي مسألة الإصلاح التي انقسم النّظر فيها إلى بعدين؛ ينطلق الأوّل من قراءة النّصوص الثّواني، ويخصّ الإصلاح الفكري بصفة عامّة، وهو يواجه بنوع من القبول ولو بشيء من الحرج لدى البعض، بينما ينطلق البعد الثّاني من قراءة النّصوص التّأسيسية، وهو الأكثر جذريّة، ويكاد يكون مرفوضاً لدى الكثيرين، فهل تَعتبر الأستاذة ناجية نظريّة الخطاب مدخلاً مناسباً لمسألة الإصلاح؟
دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: نعم، أعتقد أن مشكلتنا اليوم هي "كيف نقرأ النّصوص؟"، هذا السّؤال يستتبع أيضاً "كيف نكتب؟" لأنّنا نتعامل مع خطابات مكتوبة، ونقدّم لها تحليلاً وتفكيكاً وإعادة تركيب وننتج فكراً للآخر ونحاول، ولو بشكل بسيط، دفع عجلة البحث فيه. وقد لاحظت انطلاقاً من الإطار الأكاديمي أنّ هناك مشكلة كبيرة تتعلّق بكيفيّة قراءة النّصوص؛ فهناك نوع من الفوضى المنهجيّة التي لا حدّ لها، وهناك نوع من عدم الوضوح حتى في مستوى المختصّين في ما يتعلّق بقيمة المناهج، وأيّ منهج نتّبع وما هو المنهج الصّالح لقراءة نصّ من النّصوص؛ وذلك أساس المعركة التّقليدية التي تكمن في اعتبار كل طرف أنّ هذا المنهج الذي يتّبعه هو الأقدر من غيره على الوصول إلى حقيقة النّص أو على تحقيق ما يسمّى بالقراءة المنتجة، وهذه المعركة التّقليدية لم يعد لها اليوم مبرّر وجود على أساس النّتائج الباهرة التي حقّقها فلاسفة الخطاب في دراسة الظّاهرة الخطابيّة في حدّ ذاتها، ودراسة كيفيّة تشكّل الخطاب في علاقته بمنتجه، وعلاقة المنتج بسياقه التّاريخي والدّلالات التي تكُون لغة الخطاب قادرة على إنتاجها. فالمناهج الحديثة التي نستفيد منها اليوم في العلوم الإنسانية تقدّم لنا خدمة كبرى في مجال قراءة النّصوص، ووفق نظرية تحليل الخطاب، فإن هذه المناهج تنقسم إلى مستويين؛ يتعلّق المستوى الأوّل ببنية النّص أو بالخطاب المكتوب في حدّ ذاته، ويقوم على تفكيك هذه البنية وعلى فهم الاستراتيجيات التي اتّبعها منتج الخطاب لجعله قادرا على تَأْدِيَةِ دلالات بعينها، ويتعلّق المستوى الثّاني بالظّروف الحافّة بإنتاج ذلك النّص، فليس هناك خلاف أو تناقض بين ما يتعلق بمداخل قراءة النّص في حدّ ذاته والمناهج التي تحاول أن توضّح الأُطر الحافّة بإنتاج ذلك النّص. وأكبر مزيّة يحقّقها تحليل الخطاب هي تجنّب القراءات الأيديولوجيّة، وهي قراءات يتحوّل فيها النّص إلى مجرّد مبرّر لصحّة ما تحمله الذّات القارئة؛ فالنّص يُهمَل في خصوصيّته البنيوية وحتى السّياقية التّاريخية، ويصبح مجرّد حمّال دلالة يدافع فيه القارئ على ما يحمله من أفكار مسبقة، فيصبح النّص ناطقاً بلسان قارئه وتُهمَل بنيته الدّلالية والسّياقيّة. فالقراءات الأيديولوجيّة لا تخدم البحث العلمي، ويمكن فقط أن تكون مفيدة في إطارها الأيديولوجي ليس أكثر، ولكنّها تعوق البحث العلمي. وعلى هذا الأساس، أعتبر أنّه لا يمكننا اليوم أن نتقدّم، سواء تعلّق الأمر بقراءة النّصوص التّأسيسيّة أو غير التّأسيسيّة، ما لم ننطلق من مداخل تحليل الخطاب فهي الضّامن الأقدر على تجنيبنا الإسقاطات، وكلّ إسقاط يكاد يكون له طابع إيديولوجي.
د. نادر الحمامي: نظريّات تحليل الخطاب انطلاقا من استنطاق النّصوص واعتبارها المنطلق، حتى لا تكون مجرّد أداة لتبرير الأيديولوجي، هذا نتّفق فيه، ولكن هناك أيضاً نظريّات الخطاب التي ترتبط بنظريّة التقبّل أو التلقّي التي تُعطي للقارئ الدّور الفاعل في فهم النّص أو حتى إنتاج المعنى، أو إضفائه على النّص، كما لو أنّه كان بدون معنى في الأصل، وأذكر في هذا السّياق نظريّة هانز روبرت ياوس (Hans Robert Jauss) (1921-1997) وغيره حول التّلقّي بصفة عامّة. ألا يتصادم ما قلتِه حول نظريّة الخطاب وارتباطها ببنية النص وسياقاته التاريخية مع نظرية التلقّي التي توصلنا مع أمبرتو إيكو (Umberto Eco) (1932-2016) إلى الحديث عن بؤرة المعنى التي ينتجها القارئ، ولا ينتجها النّص في نهاية المطاف؟
دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: صحيح، ففي تحليل الخطاب ليس هناك إهمال لدور المتقّبل، ومزيّة تحليل الخطاب أنّه ينبّه القارئ إلى العوامل التي توجّه دلالة النّص. فلكلّ قارئ خصوصيّة يمكن أن ينتج عنها تأويل خاصّ به، ولكن هناك تأويلان عموماً؛ هناك تأويل ممكن ومبرَّر بقدرة النّص بنيويّاً على التّطور في الاتّجاه التّأويلي الذي يراه قارئه، وهناك تأويلات لا تجد لها ما يبرّرها في بنية النّص، لذلك فالإشكال يمكن في الفارق بين التّأويل الممكن، وبين سوء الفهم (la mécompréhension). لقد قطعت التأويلية اليوم أشواطاً هائلةً في هذا الصّدد، ولكن أيّاً كان الأمر، فلا يمكن أن نخلط بين التّأويل الممكن والمبرر بما بُني عليه النّص وتكوّن به، والتّأويل غير المبرّر ببنية النّص؛ أي ذاك التّأويل الذي يكاد يسقط في سوء الفهم، فيُنطق النّص بأفكار لا يحملها. لذلك، فهناك مرحلة أولى أساسية هي مرحلة التّفسير، وهي التي تجعلني أطمئن إلى أنّ تأويلي لذلك النّص ممكن، لأنّ بنية النّص وتفسيره يسمحان بذلك التّأويل، وربّما نجد في ذلك اختلافات، ولكنّها متقاربة ومقبولة عموماً، لأنّها تقوم على ما يفتتحه النّص ذاته من دلالات، فهذا لا إشكال فيه. ولكن هناك قراءات أخرى ليس لها ما يبرّرها في بنية النّص، فعندما نفكّك النّص نجد تباعداً كبيراً وإسقاطاً واضحاً لأفكارٍ لا يبدو النّص قادراً على أن يؤدّيها.
د. نادر الحمامي: ما تقولين مهمّ، وهو يطرح الكثير من الأسئلة حول ما نقرأه من نظريّات، ويتجاوز نظريّة التّلقّي، ولا يتبنّى في الآن نفسه النّظريّة البنيويّة ولا النّصّانيّة ولا الشّكلانيّة، بل ويتجاوز أيضاً القول بدور القارئ الفعلي المنتج لفهم ما، فكأنّك تحاولين دائماً أن تخرجي ممّا أسميته آنفاً الأيديولوجيّات المنهجيّة لتضعي صيغةً أخرى للقراءة!
دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: لم يعد هناك اليوم تناقض بين المدرسة البنيويّة أو الشكلانيّة، وبين المدارس التي تعطي قيمة للسّياق التّاريخي للنّصوص، وتحليل الخطاب هو الحلقة الجامعة بين الاثنين، وعندما ننظر في التّعريفات التي قُدمت لتحليل الخطاب، سنجد أنّ مدارها عموماً هو الجمع التّأليفي أو الجدلي بين مكوّنات نصّية بنيويّة شكلانيّة من ناحية، وبين مقوّمات لها دخل بتلك البنية، ولكنّها تتعلّق بما يحفّ بالنّص، بما يُعتبر سياقاً تاريخيّاً لإنتاج ذلك النّص أو ذلك الخطاب (facteurs textuels et facteurs périphériques)؛ فالمسألة هنا مسألة تكامل وليس هذا من باب الحلول التّوفيقية، فعندما ننظر في تلك التّعريفات، سنجد أنّ هناك انتباها اليوم لا يتناقض مع ذلك، فيمكن للسّياق الخارجي لإنتاج النّص أن ينير الكثير من الجوانب في بنية النّص في حد ذاتها.
د. نادر الحمامي: هل تكون هذه المحاولة بين النّظر المزدوج إلى العوامل النّصيّة والعوامل الحافّة بالنّص وسياقاته (facteurs textuels et facteurs périphériques)، مخرجاً بالنّسبة إلى قارئ التّراث الإسلامي، وخاصّة تلك النّصوص التي تقوم على تعدّد الرّوايات في الشّأن الواحد، كما نجد مثلاً في السّيرة أو في الحديث وغير ذلك، نصوصاً تحمل الخبر ونقيضه، وقد بحثتِ في الباب الأول من أطروحتك حول أسباب النّزول التي هي جزء من السّيرة بشكل أو بآخر، فهل يمكن أن يجنّبنا الاعتماد على العوامل المحيطة بالنصّ القولَ بالتناقض أو الانتقاء على أسس أيديولوجيّة سابقة؟ هل يمكن أن يكون ذلك مخرجا لقراءة هذه النّصوص؟
دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: طبعا، فبالنسبة إليّ، ليس هناك من مخرج للمأزق الذي نعيشه اليوم في تمثّل التّراث وفهمه إلاّ بالاستعانة بالمناهج الحديثة، التي أعتبر أنّ تحليل الخطاب هو الجامع التّأليفي لها. الإشكال اليوم، هو أنّنا نجد فئات عريضة من القرّاء تتعامل مع نصوص التّراث على أنّها معطى مطلق، وأنّها تحمل الحقيقة مطلقاً، وكلّ منتم إلى مذهب ما يتعامل مع النّصوص المؤسّسة لمذهبه وكأنّها تحمل الحقيقة المطلقة دائماً وأبداً، وكأنّها صيغت في غير زمان وغير مكان ولغير أهداف، فهي في نظره تحمل الحقيقة. وعندما نقرأ نصوص الماضي بهذه السّلبيّة المفرطة وبمعزل عن السّياق الذي صيغت فيه وعن الأهداف التي صيغت من أجلها، فهذا يُحدث إشكالاً كبيراً، هو السّبب الرّئيس اليوم في تنامي الأصوليّات بجميع مذاهبها وأشكالها. لكن عندما نؤمن بتاريخيّة النّصوص وبأنّ كلّ نص يحمل استراتيجية صاغها مُنتجه الذي له انتماءات معيّنة ورهانات خاصّة، ونقرأه في إطار نقديّ ينبّه إلى هذه العوامل التي تُنسّبه، لأنّ كل نص يظلّ نسبيّاً بما يقدّمه من حقائق، فإنّنا نؤسّس بذلك للاعتراف بالاختلاف. إنّ مشكلة الأصوليّات قائمة أساساً على إيمان الذّات القارئة بأنّها تحمل الحقيقة، وأنّ النّصوص التي تقرأها هي التي تجسّد تلك الحقيقة، وأنّ ما خالفها هو خطأ بدرجات متفاوتة، وأنّ ما اقترب من حقيقة ذلك النّص هو الأقلّ خطأ، وما ابتعد عنها هو الأكثر خطأ، وهذا سيوصلنا إلى الصّدام، لأن لغة الحوار ستغيب؛ والحوار في جوهره نوع من الاعتراف بالآخر، فأن تتحاور مع الآخر يعني ذلك أن تنطلق من حقيقتك، وأن تتقبّل حقيقة الآخر؛ فالحوار هو الشّكل الأرقى لحل مشكلة التّعدّدية والاختلاف. وإن نجحنا، باعتبارنا ثقافة عربيّة معاصرة، في أن نعمّم القراءة النّقدية لنصوص التّراث، وأن نعمّم مداخل تحليل الخطاب، فإنّنا سننجح إلى حدّ كبير في تجاوز ظاهرة الأصوليّة والصّدام مع المختلف وعدم الاعتراف بشرعيّة الاختلاف.
د. نادر الحمامي: إذا كان هذا المنهج مقبولاً، بشكل من الأشكال، أن يطبّق على النّصوص التّراثيّة التي نشتغل عليها بصورة عامّة، فهل يكون صالحاً أيضاً للتطبيق على ما يُعتبر نصوصاً قطعيّة الدّلالة وقطعيّة الثّبوت؛ أي هل يمكن اليوم الحديث عن إمكانيّة تطبيق مناهج تحليل الخطاب ونظريّاته على ما يعتبر نصوصاً مقدّسة؟
دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: ربّما من المفيد هنا أن أنطلق من حقيقة طريفة، وهي أنّ قراءة النّصوص المقدّسة في الغرب المسيحي هي التي أسّست التّأويليّة التي تقوم اليوم بدور محوري في ظاهرة الكتابة والقراءة؛ ففي المنطلق لم يكن هناك تناقض بين هذه المداخل التي تساعدنا في تمثّل النّص وفي الكتابة عنه، وبين صفة القداسة والتّقديس، فالذين نظروا في تفسير النّصوص كانوا ينطلقون في إطار دينيّ، ولكن بعد ذلك استُثمرت نتائجهم في القراءة والتأويل على نطاق أوسع، لذلك نجد تقارباً كبيراً بين النّتائج التي تحقّقها التّأويلية اليوم وكل ما يتعلّق بتحليل الخطاب عموماً. أعود إلى مسألة تحليل التّراث العربي الإسلامي والنّص المقدّس؛ فبالنّسبة إليّ هناك نصّ واحد مقدّس هو القرآن، لا نصوص مقدسة، فالسّنّة نص تاريخيّ صيغ في ظروف الصّراع المذهبي والسّياسي والاجتماعي، وتضخّم إلى أن استقام في تلك المدوّنات الكُبرى. ويمكن أن نتعامل مع النص القرآني بآليات تحليل الخطاب، لأنّه يظلّ خطاباً. فمعجزة القرآن، كما قال القُدامى، بيانيّة أي خطابيّة، وقد تطوّرت الدّراسات المتعلّقة بالبيان تطوراً هائلاً خاصّة مع المعتزلة، باعتبار أنّ القرآن يظلّ خطاباً موجّهاً إلى أناس يتمثّلونه، ومعنى هذا أنّه ينبغي فهمه ولا بد له من قرّاء. لاحظ أنّ المسلمين في قراءتهم للنّص القرآني اختلفوا أيّما اختلاف، فكانت أدبيّات كلّ مذهب تتمثّل القرآن وتفسّره بطريقتها. لذلك، أعتقد أن مسألة أسباب النّزول مهمّة جدّاً، خاصّة في ما يتعلّق بآيات الأحكام، لأنّ هناك آيات أخرى لا تثير جدلاً في مستوى فهمها، فهي لا تتعلّق بمسائل تاريخيّة متحوّلة، ولكن آيات الأحكام إن نحن أخذناها باعتبارها مطلقةً لا علاقة لها بالواقع، فإنّنا سنقع في إشكال كبير جدًّا، وهو عدم الانتباه إلى المقاصد منها، فلكلّ حكم مقصد منه، ولكلّ حكم سبب نزول. إنّ مبحث أسباب النّزول، بصرف النّظر عن كيفية توظيفه في الماضي، هو مبحث مهم جدّاً، لأنّه ينبّهنا إلى السّياق التّاريخي الذي نزلت في شأنه تلك الآيات، وإذا ما انتبهنا إلى هذا الحاف بالنّص في علاقته بالنّص في حدّ ذاته يمكن لنا أن نخرج من مأزق التّحوّل التّاريخي المستمر؛ فالقرآن ثابت والتّاريخ متحوّل أبداً، والأحكام التي أدّت أدواراً مهمّة في مرحلة معيّنة من التّاريخ، يمكن أن تؤدي ذات الأدوار في مراحل لاحقة، ولكن بمقاصدها لا بحَرفيّتها. وأعتقد أنّني هنا في غنى عن أن أذكّر أنّ أوّل تجربة سياسيّة اجتماعيّة خاضها المسلمون مع مؤسّس الدّولة في نظري، وهو عمر بن الخطّاب، لم يعمل فيها بحَرفيّة هذه الأحكام، وقد غيّر أحكاماً كثيرةً لأنّه قرأ هذه الآيات قراءة مقاصديّة، لذلك يمكن اعتباره أوّل مؤسّس للفكر المقاصدي، وليس الشّاطبي الذي كان له لاحقاً مفهوم آخر للمقاصد، أعتبر أنّه لا يقدّم بنا كثيراً. ولكن ما قام به عمر بن الخطّاب ومارسه فعلاً يمكن أن يصلح لتأسيس نظريّة مقاصديّة مُجدية ونافعة للجميع؛ للنّص في حدّ ذاته ولتمثّلنا نحن للنّص. ولذلك، فعندما نقول إنّ تحليل الخطاب يأخذ بعين الاعتبار العوامل النّصّية من ناحية والعوامل السّياقية من ناحية أخرى، فهو ينطبق أيضاً على النّصوص المقدّسة.
د. نادر الحمامي: لكن لو أخذنا أسباب النّزول، باعتبارها النّصوص السّياقية التي يوضع فيها النّص القرآني لفهم مقاصده الأولى بغضّ النّظر عن فقه المقاصد مع الشّاطبي وغيره، سنجد أن دراسات كثيرة بحثت في أسباب النّزول، نذكر من بينها دراسات أندرو ريبين (Andrew Rippin) (1950-2016) التي طوّرها في الجامعة التّونسيّة بسّام الجمل في أطروحته، ووصل إلى خلاصات أثّرت في أعماله اللاّحقة حول أسباب النّزول والمتخيّل. وحين نفتح أي كتاب تفسير للقرآن ونجد ثلاثة أو أربعة نصوص في أسباب النّزول حول سورة من السّور، فإلى أيّ منها يمكن أن نطمئنّ، ونعتبر أنّه تاريخيّ فعلاً وليس من وضع المفسّرين القدامى، حتى نؤصّل فيه النص الأصليّ، ألا تعترضنا مشكلة معرفيّة ههنا مع تطوّر المباحث التي تتجاوز النظرة التاريخية لأسباب النزول؟
دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: ما أثرته مهم جدّاً، فقد ذكرت مصطلح أسباب النّزول في أول عمل أكاديمي لي في الأطروحة، ولم أدقّق بعض الإشكاليّات بهذا العلم، وحاولت أن أبحث عن اختلاف طريف بين أسباب النّزول كما جاءت في كتب التّفسير، وأخذت جامع البيان للطّبري (224هـ-310هـ/ 838م-923م) منطلقاً وأسباب النّزول كما جاءت في السّيرة، وطبعاً هناك اختلافات كبيرة في أسباب نزول الآية الواحدة، وقد وجدت انطلاقاً ممّا درست في أسباب الاختلاف أنّ هناك توظيفاً لأسباب النّزول؛ فالمفسّر يضبط المعنى الذي يريده للآية أوّلاً، ثمّ يعود إلى سبب النّزول ويشكّله بالطّريقة التي تخدم ذلك المعنى، وهو ما جعل أسباب النّزول في هذه الحالة تبتعد عن طابعها التّاريخي، وتصبح مجرّد دعامة نصّية لصحّة المعنى الذي ضبطه المفسّر. في مقابل ذلك، نجد أنّ منطلق السّيرة تاريخيّ، فهي تؤرّخ لحياة الرّسول في جميع مراحلها، وعندما تذكر حادثة ما فإنّها تورد سببا من أسباب النزول، ثم بعد ذلك تورد الآية التي نزلت في ذلك السّبب؛ فصاحب السّيرة يضبط السّبب أوّلاً ثمّ يذكر الآية وفق المعنى الأوّلي الذي نزلت فيه، وهو بذلك ينطلق من التّاريخ ثمّ ينزّل الآية في السّياق الذي نزلت فيه. ههنا نجد أنفسنا إزاء اختلاف بين "المصنوع" و"المطبوع" كما يُشار إلى ذلك في النّقد الأدبي؛ أي اختلاف بين المفسّر الذي يصنع أسباب النّزول وصاحب السّيرة (خُصوصاً في مرحلتها الأولى مع ابن إسحاق، ونسبيّا مع ابن هشام) الذي يقدّم سبب النّزول المطبوع الذي يعبّر عن السّياق الأصلي لنزول الآية.
وحين نقارن بين "أسباب نزول" المفسّر و"أسباب نزول" صاحب السّيرة، نجد أنّ الأولى لا تقّدم بنا كثيراً، فالاختيارات التي ذهب فيها المفسّرون جميعاً بقيت هي ذاتها، بينما نجد أنّ صاحب السّيرة قد تعامل مع أسباب النّزول تعاملاً طريفاً من شأنه أن يساعدنا إلى حدّ بعيد على فهم المقاصد الحقيقيّة لآيات القرآن. وأشير ههنا إلى حقيقة لافتة للانتباه، وهي أن السيرة قد أقصيت منذ القديم من العلوم اللاّزمة لتفسير القرآن، رغم ثراء ما تقدّمه من معطيات والتصاقها بحياة النّبي، ويبدو أنّ العلماء انتبهوا إلى ذلك النّشاز بين ما يريدونه من أسباب النّزول، وما هو موجود حقيقةً في البداية، فأقصوا علم السّيرة من العلوم اللاّزمة لتفسير القرآن.
د. نادر الحمامي: من وصفتهم بالعلماء هم من يمثّلون المؤسّسة الدّينية؛ أي أولئك الذين يقدّمون أنفسهم على أنّهم الجهة التي تحتكر فهم الدّين برمّته وفهم النّصوص، ولا يقبلون أي مناهج أخرى غير المناهج السّائدة، وهذا يحيلنا على بنية الخطاب الدّيني السّائد خاصّة اليوم، والذي ربّما لا يختلف كثيراً عن البنية التّقليديّة في تجاهل تامّ لكل ما وصلت إليه العلوم الإنسانيّة الحديثة، لذلك سنحاول أن نتطرّق إلى بنية الخطاب الدّيني السّائد اليوم ورهاناتها، خاصة وأنّكِ أشرتي في هذا السّياق إلى دور المؤسّسة الدّينيّة الغربيّة في نشأة التّأويلات الدّينية الحديثة. بهذا نختتم هذا الجزء الثّاني من حوارنا، لينطلق الجزء الثّالث من كشف بعض ملامح الخطاب الدّيني السّائد اليوم وإشكاليّاته ورهاناته.
[1]- حوار لنادر حمامي مع ناجية الوريمي، نشر في مارس 2018 على قناة مؤمنون بلا حدود على يوتيوب، قام بتفريغ الحوار فيصل شلوف.