نحو استراتيجية للإصلاح الديني
فئة : مقالات
نحو استراتيجية للإصلاح الديني*
ما يأتي حديث عام أو خاص عن أزمات الإرهاب المعاصر، وأزمات تأسيساته وممارساته، إلا وينفجر السؤال الحتمي والطبيعي: "ما الحل؟ ما العمل؟"، يتوجه للسائل والمسؤول معا، الكل يبحث عن الحل والعمل، فلا إجابة..
تكون أقرب الإجابات للطرح هي: دعوة التجديد والإصلاح الديني أو تجديد الخطاب الديني، تجفيفاً لروافد أفكار العنف، ولكن يبقى التشكك في من يقوم به؟ وما تم فيه ونجاعته؟ وغالبا ما ينتهي الأمل لمتاهة أو ما نسميه تيه الإصلاح الديني، وعجزه أن يحدث في مجتمعاتنا ما أحدثه في مجتمعات أخرى.
هكذا، كلما اختال العنف ضاحكا ومكشرا بدماء قتلاه في هذه المنطقة، تذكرنا الإصلاح الديني وتجديد الخطاب الديني، وتتصاعد ضرورته الآن، خاصة في حقبة الميليشيا وصحوة العنف الديني التي تلف دول المنطقة والعالم التي نعيشها الآن..
في تيه مسألة الإصلاح الديني
قبل أن نلج لمناقشة أزمة الإصلاح الديني المعاصر، وحاجته لاستراتيجيات أكثر فعالية وإبداعا، وغير مسبوقة في مواجهة صحوة تطرف غير مسبوقة، يمكننا تحديد عدد من ملامح أزمته، في ما يلي:
أولا: تنظيمية التطرف وشتات الإصلاح الديني
بينما يمكّن للتطرف تنظيماته ونشاطاته ووسائل تجنيده المتوسعة مع الثورة المعلوماتية، تبدو جهود الإصلاح مشتتة وموزعة بين أفراد بلا حصر، ومؤسسات- رسمية وغير رسمية بلا حصر- عديدة وطنية وحكومية وغير حكومية، يعمل كل منها في مجاله بلا تنسق ولا ارتباط في غالب الأحيان.
ثانيا: غياب هوية معرفية للإصلاح
تفتقد جهود الإصلاح الديني لهوية واضحة، فيختلط لدى الكثيرين بين مفاهيم متشابهة ومتقاربة، من قبيل خلطه بفلسفة الدين أو نقد الفكر الديني، أو خلطه بمشاريع الإصلاح الفكري، رغم التقارب في ما بينهما، فما نراه أنه يركز على تجديد الخطاب الديني بالأساس، وتمثل المجالات الأخرى التي ترتبط به رافدا في هذا التجديد، ولكنها ليست هو، ويركز الإصلاح الديني على أنماط التدين، التي تتجلى في سلوكيات التطرف والتعصب والكراهية والقتل، ويستفيد في ذلك من المحاولات النخبوية لتجديد الفكر الديني، وفقه التدين، وراسات الدين والمجال الديني بعموم.
ونلح في هذه المسألة تحديدا، على فارق مهم بين جهود الإصلاح الديني وجهود الإصلاح الفكري أو فلسفة الدين، وهو نخبوية هذه المسألة، بينما المنتظر والمأمول من جهود الإصلاح الديني، فهو الأمة والقواعد الاجتماعية في المقام الأول، أن تخاطب بما يصلحها ويناسبها، وليس بما هو أعمق من ذلك أو أخطر منه، وهو ما ينقلنا للنقطة المهمة التالية، وهي الفضائيات والإثارة الدينية.
الفضائيات والإثارة الدينية
في الواقع الراهن، تعود أهمية مسألة الإصلاح الديني مع صراع محموم بين أدلجة الدين والتدين العام، واستنفاره حاكميا وجهاديا من جهة، ولكن بينما يملك التطرف والدواعش إعلامهم، لا تملك مؤسسات الإصلاح ومنابره وأفراده المعتدلون نفس التأثير الإعلامي.
وسيرا مع العشوائية وعدم الضبط، انخرط البعض من الإعلاميين، في اتجاه الإثارة وعلى أوتار الاستقطاب، في سجال اتهامي غير علمي، لا يرضي المحققين من الباحثين والعلماء، ويستنفر العوام، للدين وبعض ثوابته وأصوله ومقدساته، في لا تاريخية ونصية تشبه لا تاريخية ونصية التطرف في الاتجاه الآخر.
وهو ما يستغله المتطرفون لاستنفار العوام، ويتخذونه ذريعة في تشويه مؤسسات ودعوات الإصلاح بمحاربة الدين والمقدس! فتصعد حواجز الصد وقذائف الهجوم دون أن يحدث المصلح أو مقولة الإصلاح هدفا وغاية كانت ترمي إليها! هذا إذا كان الإصلاح مؤسسا، ولكن غلب على الإصلاح الديني في الإعلام؛ الإثارة والهشاشة العلمية والفقهية، والتركيز على الغرائب والشواذ دون تحقيق، وتثور في مصر قضية كبيرة بين الأزهر وبعض الإعلاميين في هذا الشأن في الآونة الأخيرة.
وأسفا وعجبا أن بعض هؤلاء المتصدرين لنقد بعض ما قد يدخل في دوائر المقدس والثوابت، لم يجهدوا أنفسهم في مسألتين:
1- التعرف على تراث وأدبيات التطرف الذي لا يستهدفونه، فهم غالبا لم يقرؤوا له شيئا بعد ما كتبه سيد قطب أو المودودي.
2- لم يجهدوا أنفسهم كذلك في تحقيق بعض الاتهامات التي يطلقونها، أو التعرف على جهود الإصلاح الفكري التي سبقتهم لتناول نفس القضايا، بل وتجاهلها.
نحو استراتيجية للإصلاح الديني
إن عدم وضوح الهوية واستراتيجيات الإصلاح الديني المشتتة، وعدم التشبيك المطلوب بين مؤسساتها، الرسمية وغير الرسمية، وتحرير مفهومها؛ مما يختلط بها مما قد يضر به، وخاصة ما قد يؤدي لأطروحات عدمية في ذبح التراث وقتل الأب، لا شك أنها لم تعد ممكنة ولا مطلوبة في توجيه قواعد المتدينين، التي تنشط في اتجاه التطرف، ولو نشطت ضده نقلا وعقلا وتجربة، فهي لم ولن تفرط في مقدساتها.
لذا نقترح في هذا السياق بعض الأمور، نحددها في ما يلي:
1- الاتصال لا الانقطاع:
من المهم ابتداء رصد الجهود المختلفة في هذا الاتجاه والتعريف بها والتبسيط لها، في العصور المختلفة، فلم يكن كثير من الاتجاهات الفقهية والكلامية والجهود الفردية في المذاهب المختلفة إلا محاولات تصحيحية لإصلاح الشأن الديني بشكل عام، وهي جهود تمتد من السلف إلى الخلف قرونا وليست عقودا فقط.
2- التشبيك وتجاوز حالة الجزر المنعزلة:
اتسعت مجالات الإصلاح الديني أيضا، لإصلاح المؤسسات الدينية الرسمية نفسها، وكانت في هذا جهود عديدة، قديمة وجديدة، عرفتها مصر الأزهر كما عرفتها تونس الزيتونة ومغرب القرويين، وعرفتها العديد من المؤسسات حتى أكثرها سلفية في الخليج، ولكن لا زال الإصلاح مشتتا وموزعا ومتشرذما يعمل في جزر منعزلة بين مؤسساته الرسمية وغير الرسمية على السواء..
لذا، فإن الدعوة لاستراتيجية جديدة ومسئولة وجادة للإصلاح الديني تستدعي في ما تستدعي تجسير الفجوة بين المؤسسات المعنية بالشأن الديني والروحي العامة والمنظمة وبين جهود المصلحين الأفراد، وتشبيك هذه الجهود ومناقشتها وترشيدها وتنشيط حوارها، بعيدا عن نزعات التعصب والطائفية والانغلاق والاكتفاء النظري.
إن تجسير هذه الفجوة أمر مهم في حل مشكلة نخبوية أطروحات الإصلاح الديني بعموم، وصنع شعبيتها وصياغة عقل المسلمين معها، وتحريره من ماضوية السياسي وتقديس ما ليس مقدساً، وتجاوز سجالاته الاتهامية مع الدولة والمجتمع والآخر الديني أو الحضاري.
3- في الموقف من المقدس:
من المهم التفريق في خطاب الإصلاح الديني بين الإصلاح كفعل معتدل، ومعاداة أواستنفار المقدس كفعل راديكالي، فاستنفار المقدس وجرحه بطريقة غير ملائمة، قد تستنفر العواطف العامية للثورة والرفض، واتخاذ موقف معاد من مقولات الإصلاح ومضامينه، فحين تتناول قضايا الاعتقاد أو قضايا التاريخ التي قدستها القرون والعقود، لا بد في ما هو جهد موجه للعوام، كالبرامج الفضائية من استراتيجية خطابية علمية وموضوعية لا تمارس السجال ولا تكرر النقد في هيجان عاطفي مواز للهيجان التابع لها، بغض النظر عن أيهما صح! فملامسة القرآن أو كتب الحديث تشكيكا فقط ليس إصلاحا، لن يعدل منه سوى القراءة العلمية والموضوعية، التي تعتمد نفس أدوات القراءة التقليدية، وبذا لا يكون الإصلاح انقطاعا ولا استنفارا موازيا في نفس نمط الخطاب وكليته!
من المهم إعادة الاعتبار للواقع والراهن في قضايا الإصلاح الديني دون التعلق في الثيولوجي أو التاريخي، فهذا ما يحتاجه الناس أكثر، وهذا ما يحتاجه الفهم الديني العام بشكل خاص. أما الانقطاع عن الواقع والصراع في عصر الفتنة وغبارها، فيعمي عيون المحاربين جميعا..
ختاماً، إن التركيز على الخطاب المتطرف وتجديد الخطاب الديني العام، ولثم الفجوات بين جهود النخبة ورسائل الجماهير، وعمل المؤسسات، هو الشرط للإصلاح والنجاعة والفعالية التي نحتاجها.
* هذا المقال نشر في مجلة ذوات، العدد 12، سنة 2015.